أعلام المهندسين في الإسلام (الطبعة الأولى)/مقدمة العلامة أحمد «تيمور باشا»
اقتصرنا هنا على من وصلتنا أخبارهم من المهندســـين في العصر الإسلاميّ أي بعد تكوين العرب لمدنيتهم واستبحارهم في العلوم بعد الفتح. ولم تتعرض لمن كان منهم في حضارتهم الأولى اليمنية لما أحاط بتلك الحضارة من الغموض بطول العهـد، ولا لمهندسي تصورهم وآطامهم1 في الجاهلية لاضطراب الأخبار عن عصورهم، ولما كانوا فيه من بداوة يعسر الحكم معها على مبلغ نهوضهم بمثل هذه الأعمال. وتمييز الأصيل منهم فيها والدخيل.
على أن من ذكرناهم من المهندســـــــين الإسلامييِّن وإن لم تحط عصورهم بمثل ما تقدَّم فقد ناب منا به فيهم ضياع ما ألّف عنهم، فلم يكن عثورنا عليهم عفواً، وإنما قادتنا إليهم المصادفات أثناء المطالعات فالتقطناهم من هنا وهناك، وجمعنا شتاتهم في هذا الفصل، قصد أن يكون نواة لغيرنا من الباحثين ومثيراً لهممهم في التنقيب عن سواهم، حتى يصح بعد ذلك أن تجمع من هذه الأبحاث طبقات لمهندسينا تقوم مقام المفقود من طبقاتهم وهو في نظري أقل ما نكافىء به فئةً رفعت رؤوسنا بما رفعته من قواعد العمران.
ولا بد لنا قبــــــــل الشروع فيما قصدناه من الإشارة إلى ما يزعمه بعض قاصري الاطلاع أو من أعمت الشعوبية بصائرهم من قصور العرب في غير الشرعيات واللسانيات من العلوم، واستدلالهم على قصورهم في الهندسة باستعانة الوليد بن عبد الملك في أبنيته بصناع من الروم وذلك لبيان أنه زعم لا نصيب له من الصحة واستدلال مبني على استقراء ناقص، لأن العرب في صدر دولتهم كانوا قوماً متبدّين، شغلهم الفتح عن الالتفات إلى وسائل التحضر، وصرفهم جملة إلى الضرب في البلاد، ثم إلى النظر في تمكين ملكهم الجديد وتوطيده. فما يروى من استعانتهم حينئذ بمعاصر بهم في بعض الفنيات لم يكن إلا من تلك الحالة الملازمة بالضرورة لكل قوم حديثي الانتقال من البداوة، لم ينفضوا أيديهم بعد من الفتوح. ولكنهم لما ألقوا عصا التسيار، واطمأنت بهم الدار، لم يلبثوا أن نشطوا للفتح الثاني وهو الفتح العلمي، فأتوا في الفتحين على قصر المدة بما لم يسبق له مثيل في الأمم السالفة. وكان من ذلك أنهم ملكوا ناصية العلم كما ملكوا ناصية العالم2 وأحدثوا لهم مدنية خاصة صبغوها بصبغتهم ووســـــــوها بميسهم في كل مظهر من مظاهرها. وأبقوا لهم الأثر البين فيما نقلوه من علوم الأوائل إما بالتنقيح والتهذيب أو الزيادة والاختراع فكان للهندسة من هذا الأثر تجليها في فريع البناء بذلك الطراز العربي البديع الأخذ بالأنظار المشاهد فيا خلَّفوه من الآثار. وحدث في هذا الفرع من التفنن ما لم يكن معروفاً، كالبناء الحيري الذي أحدثه المتوكل العباسي في قصوره، فجمـــل تخطيطها على مثال تعبئة الجيوش، تشتمل على رواق فيه الصدر وهو مجلس الملك، وبها الكمان وهما الميمنة والميسرة لخواصه وخزائنه، فاشتهر واتبعه الناس فيه ولم يكونوا يعرفونه من قبل.3 وكآيات الصناعة المدهشة الباقية إلى اليوم في قصر الحمراء بغرناطة، وهو الذي شهد الإفرنج أنفسهم بأنه في هندسته ونقوشه مبتدع على غير مثال سابق وقد حفظت لنا التواريخ الكثير الطيب من وصف قصورهم الفخمة وصروحهم الشاهقة4 وما كان لهم فيها من إحكام الوضع وتشديد البنيان وتنميق الزخرف، كما حفظت لنـا طائفة صالحة من أعمالهم في غير هذا الفرع - كشق الأنهار وعقـد القناطر وإجراء الماء إلى المدن من المسافات الشاسعة، واتخاذهم له المصانع العجيبة5 وكإجرائه في أنابيب بالطرق لتوزيعه وإصعاده إلى أعالي الدور كما فعلوه بحلب وحمص وطرابلس6 وغير ذلك مما سطره الخبر وشهد به الأثر. بل حسبهم فضلاً أن أهل مقاطعة بلنسية بالأندلس مازال معولهم إلى اليوم في أنهارهم على ما وضعه العرب من النظام المحكم لتوزيع الماء، حتى قال بعض منصفيهم: «لولا ما أقامه لنا العرب من القناطر والجسور لمتنا وماتت أراضينا ظمأ».
فهذه أمثلة يسيرة نكتفي بإيرادها في دفع تلك الفرية، ولو شئنا تعداد سائر أعمالهم الهندسية لجرنا القول إلى مالا يتسع المجال لاستقصائه.
أما الذين يستدلون على ذلك القصور المزعوم بإهمال المؤرخين لتراجم ذوي الفنون كالمهندسين وأضرابهم مع عنايتهم بتراجم غيرهم من العلماء فلا نكلفهم فيه عناء النظر في أخبار المصنفين وما صنفوه بعد أن كفانا السخاويّ المؤونة بعقده فصلاً في «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ» خصه بأنواع ما ألف في أخبار الناس وطبقاتهم من فنيين وغيرهم، فسرد منها أربعين نوعاً، يتفرع من كل نوع أنواع7 وإنما ضاعت علينا ثمار هذه الجهود بالزهد فيها والرغبة عنها بعد تقهقر العلم بالمشرق، وقصر الاشتغال على فروع معلومة منه، حتى بلغ الأمر ببعض منتحليه إلى القول بكراهة النظر في كتب التاريخ، لأنها في رأيه أحاديث ملفقة وأكاذيب منسقة. فما الذي كان ينتظر بعد هذا سوى أن تحول هذه النفائس إلى مسارح للعث في الخزائن، أو لفائف للحلوى في الأسواق. بل ليس لنا أن نقول: ألفوا ولم يؤلفوا بعـد ما رزئت خزائن الشرق والغرب عن جعلها طعمة للماء والنار، وفيها جمهرة ما أنتجته العقول في العصور الإسلامية
و بعد، فلنشرع في ذكر من ظفرنا بهم من المهندسين، مرتبين على العصور بحسب الإمكان، وسنرى بينهم من كان يقرن بالهندسة علوماً أخرى، ولا سيما الحكمية لأن الهندسة فرع منها.
- ↑ الآطام بالمد: قصور عالية محصنة كانت للعرب - واحدها أطم بضم فسكون أو بضمتين، وهي من النوع المعروف عند الأفرنج باسم شاتوفورد Chateaufort وكانت كثيرة يعرف كل أطم منها باسم كالمستظل والضحيان وفارع الخ.
- ↑ رأى الرشيد سحابة كان الناس يرجون أمطارها قلم تمطر فنظر إليها وقال: «أمطري حيث شئت والخراج لي) وهو عين ما نعبر عنه اليوم بقولنا: الشمس لا تغيب عن أملاك بعض الدول.
- ↑ انظر تفصيل ذلك في خلافة المتوكل من مروج الذهب للمسعودي.
- ↑ ذكر المقريزي في خططه: أن مساكن الفسطاط كانت على خمس طبقات وست وسبع. أما وصف القصور المشهورة لفرق بين هذه الخطط و«نفح الطيب»، و«معجم البلدان»، لياقوت وغيرها.
- ↑ عن الدرر الكامنة وغيره
- ↑ عن إرشاد الأريب لياقوت والدر المنتخب. وفيهما تفصيل ذلك.
- ↑ من هذه الأنواع طبقات المهندسين خاصة وقد ذكر المؤلف من طبقات غيرهم من الفنيين وذوي الصنائع والأعمال مالم يكن يظن أنهم عنوا به وأفردوه بالتأليف.