أصول الإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين .
باب معرفة الله والإيمان به
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "قال الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" رواه مسلم. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله ﷺ بخمس كلمات. فقال: إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور أو النار . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" رواه مسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه. والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض" . أخرجاه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله ﷺ شاتين تنتطحان فقال أتدري فيم تنتطحان يا أبا هريرة؟ قلت: لا. قال: لكن الله يدري، وسيحكم بينهما" رواه أحمد.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ويضع إبهاميه على أذنيه، والتي تليها على عينيه" رواه أبو داود وابن حبان وابن أبي حاتم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله تبارك وتعالى" رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته. فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها فقال من شدة الفرح، اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح" أخرجاه.
وعن أبي موسى رضي الله عنه. أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" رواه مسلم.
ولهما عن عمر رضي الله عنه قال: "قدم على رسول الله ﷺ بسبي هوازن فإذا امرأة من السبي تسعى، إذ وجدت صبيا في السبي، فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته. فقال النبي صلى الله عليه: وسلم أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله. فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي" رواه البخاري. ولهما عنه أن رسول الله ﷺ قال: "جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا. فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه". ولمسلم معناه من حديث سلمان، وفيه: "كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فإذا كان يوم القيامة كملها بهذه الرحمة" .
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته" رواه مسلم.
وله عنه مرفوعا: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها" .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ "أطت السماء، وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى. ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى" رواه الترمذي. وقال: حديث حسن.
(قوله): "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" في الصحيحين من حديث أنس. ولمسلم عن جندب مرفوعا: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله (: من ذا الذي يتألى علّي أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك" .
وله عن أبي هريرة مرفوعا: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد. ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد ". وللبخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك" .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر، قد دلع لسانه من العطش. فنَزعت له موقها، فسقته فغفر لها به" . وقال: "دخلت النار امرأة في هرة لها حبستها، لا هي أطعمتها، ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض". قال الزهري: لئلا يتكل أحد ولا ييأس. أخرجاه.
وعنه مرفوعا: "عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل" رواه أحمد والبخاري. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم" رواه البخاري.
وله عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا نادى جبرائيل: إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبرائيل. ثم ينادي جبرائيل في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء. ويوضع له القبول في الأرض ".
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: قال: "كنا جلوسا عند النبي ﷺ إذ نظر إلى القمر ليلة البدر. قال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}". رواه الجماعة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله تبارك وتعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته" . رواه البخاري.
وعنه أن رسول الله ﷺ قال: "ينْزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟" متفق عليه.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" رواه البخاري باب قول الله تعالى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني رجال من أصحاب النبي ﷺ: "بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله ﷺ إذ رمي بنجم فاستنار. فقال: ما كنتم تقولون إذا رمي بمثل هذا؟ قالوا: كنا نقول: ولد الليلة عظيم، أو مات عظيم. فقال: إنها لم ترم لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا ( إذا قضى أمرا سبحت حملة العرش حتى يسبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا. فيقول الذين يلون حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال. فيستخبر أهل السموات بعضهم بعضا، حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا، فتخطف الجن السمع فيلقونه إلى أوليائهم فما جاؤوا به على وجهه فهو الحق، ولكنهم يقذفون ويزيدون" رواه مسلم والترمذي والنسائي.
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة، أو قال رعدة شديدة خوفا من الله (. فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا، أو قال: خروا لله سجدا. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله من وحيه بما أراد. ثم يمر جبرائيل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل. فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله )" رواه ابن جرير وابن خزيمة والطبراني وابن أبي حاتم واللفظ له. باب قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ويقول: أنا الملك. أين ملوك الأرض؟" رواه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماوات بيمينه. ثم يقول: أنا الملك". وفي رواية عنه: "أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. ورسول الله ﷺ يقول هكذا بيده ويحركها، ويقبل بها ويدبر، يمجد الرب نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، أنا الكريم. فرجف برسول الله صلى الله وروى مسلم عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كيف يحكي عن رسول الله ﷺ قال: "يأخذ الله سمواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الملك. ويقبض أصابعه ويبسطها. فيقول: أنا الملك. حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى أني لأقول أساقط هو برسول الله ﷺ" . وفي الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "اقبلوا البشرى يا بني تميم. قالوا: قد بشرتنا فأعطنا. قال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن. قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر. قال: كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء. قال: فأتاني آت فقال: يا عمران انحلت ناقتك من عقالها. قال: فخرجت في أثرها فلا أدري ما كان بعدي" . وعن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال "جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس، وضاعت العيال، وهلكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق لنا الله؛ فإنا نستشفع بك على الله وبالله عليك. فقال رسول الله ﷺ: ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه. شأن الله أعظم من ذلك. ويحك أتدري ما الله؟! إن عرشه على سماواته هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب". رواه أحمد وأبو داود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته. وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: "وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، وسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا". رواه البخاري. ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار" .
باب الإيمان بالقدر
( وقول الله تعالى ): {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}. وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً}. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء". وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} " متفق عليه.
وعن مسلم بن يسار الجهني قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله ﷺ سئل عنها فقال: "إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية. فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل به الجنة. وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخل به النار" رواه مالك والحاكم، وقال: على شرط مسلم.
ورواه أبو داود من وجه آخر. عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة عن عمرو قال إسحق بن راهويه: حدثنا بقية فقال: أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد عن راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن أبي قتادة عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام: "أن رجلا قال: يا رسول الله أتبتدأ الأعمال أم قد قضى القضاء؟ فقال: إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه. فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة، مثل ذلك ثم يكون مضغه مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح. فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" متفق عليه.
وعن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ﷺ قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول: يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتبان، فيقول: يا رب أذكر أو أنثى، فيكتبان. ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه. ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها ولا ينقص" رواه مسلم. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت "دعي رسول الله ﷺ إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال: أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم" .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" رواه مسلم. وعن قتادة رضي الله عنه في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}. قال: "يقضي فيها ما يكون في السنة إلى مثلها" رواه عبد الرزاق وابن جرير. وقد روى معنى ذلك عن ابن عباس والحسن وأبي عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير ومقاتل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن مما خلق الله لوحا محفوظا من درة بيضاء، دفتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، ففي كل نظرة منها يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء؛ فذلك قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} " رواه عبد الرزاق وابن المنذر والطبراني والحاكم .
قال ابن القيم رحمه الله لما ذكر هذه الأحاديث وما في معناها قال: فهذا تقدير يومي، والذي قبله تقدير حولي، والذي قبله تقدير عمري عند تعلق النفس به، والذي قبله كذلك عند أول تخليقه وكونه مضغة، والذي قبله تقدير سابق على وجوده لكن بعد خلق السموات والأرض، والذي قبله تقدير سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق. وفي ذلك دليل على كمال علم الرب وقدرته وحكمته وزيادة تعريفه الملائكة وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه. ثم قال: فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد؛ ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال: ما كنت بأشد اجتهادا مني الآن. وقال أبو عثمان النهدي لسلمان: لأنا بأول الأمر أشد فرحا مني بآخره، وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها، كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها. وعن الوليد بن عبادة قال: "دخلت على أبي وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي. فقال: أجلسوني. فلما أجلسوه قال: بني، إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك. وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: أول ما خلق الله القلم قال: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار". رواه أحمد.
وعن أبي خزامة عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله! أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئ؟ قال: لا هي من قدر الله" رواه أحمد والترمذي وحسنه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان" رواه مسلم.
باب ذكر الملائكة عليهم السلام والإيمان بهم
وقول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. وقوله تعالى {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}. وقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ(١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}. وقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: "خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم". رواه مسلم. وثبت في بعض أحاديث المعراج: "أنه ﷺ رفع له البيت المعمور الذي هو في السماء السابعة وقيل في السادسة بمنْزلة الكعبة في الأرض، وهو بحيال الكعبة، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم" .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: "ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو ملك قائم، فذلك قول الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} " رواه محمد بن نصر وابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ. وروى الطبراني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع. فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لا نشرك بك شيئا".
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" رواه أبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات، والضياء في المختارة. فمن سادتهم جبرائيل عليه السلام قد وصفه الله تعالى بالأمانة وحسن الخلق والقوة فقال تعالى: {علَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} ومن شدة قوته رفع مدائن قوم لوط عليه السلام، وكن سبعا، بمن فيهن من الأمم وكانوا قريبا من أربعمائة ألف وما معهم من الدواب والحيوانات وما لتلك المدائن من الأراضي والعمارات على طرف جناحه حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فهذا هو شديد القوى وقوله ذو مرة أي ذو خلق حسن وبهاء وسناء وقوة شديدة قال معناه ابن عباس رضي الله عنهما وقال غيره ذو مرة أي ذو قوة وقال تعالى في صفته: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}. أي له قوة وبأس شديد وله مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند ذي العرش المجيد، { مُطَاعٍ ثَمَّ} أي مطاع في الملإ الأعلى { أَمِينٍ} أي ذي أمانة عظيمة ولهذا كان السفير بين الله وبين رسله وقد كان يأتي إلى رسول الله ﷺ في صفات متعددة وقد رآه على صفته التي خلقه الله عليها مرتين وله ستمائة جناح ، روى ذلك البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله ﷺ جبريل عليه السلام في صورته، له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم". إسناده قوي.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله ﷺ جبريل في حلة خضراء، وقد ملأ ما بين السماء والأرض". رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: "رأيت جبريل منهبطا، قد ملأ ما بين الخافقين، عليه ثياب من سندس معلق بها اللؤلؤ والياقوت" رواه أبو الشيخ. ولابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جبرائيل عبد الله، وميكائيل عبيد الله. وكل اسم فيه ( إيل ) فهو معبد لله ". وله عن علي بن الحسين مثله، وزاد: "وإسرافيل عبد الرحمن".
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "ألا أخبركم بأفضل الملائكة؟ جبرائيل عليه السلام".
وعن عمران الجوني "أنه بلغه أن جبرائيل أتى النبي ﷺ وهو يبكي، فقال له رسول الله ﷺ: ما يبكيك؟ قال: وما لي لا أبكي؟ فوالله ما جفت لي عين منذ خلق الله النار، مخافة أن أعصيه فيقذفني فيها". رواه الإمام أحمد في الزهد. وللبخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "قال رسول الله ﷺ لجبرائيل: ألا تزورنا أكثر مما تزورنا فنَزلت { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } ".
ومن ساداتهم: ميكائيل عليه السلام، وهو موكل بالقطر والنبات.
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه: "أن رسول الله ﷺ قال لجبرائيل: ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا قط؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار".
ومن ساداتهم: إسرافيل، وهو أحد حملة العرش، وهو الذي ينفخ في الصور.
وروى الترمذي وحسنه والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "كيف أنعم، وصاحب الصور قد التقم القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر فينفخ. قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا" .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: "إن ملكا من حملة العرش يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله، قد مرقت قدماه في الأرض السابعة السفلى، ومرق رأسه من السماء السابعة العليا" رواه أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية وروى أبو الشيخ عن الأوزاعي قال: "ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل، فإذا أخذ في التسبيح قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم".
ومن ساداتهم: ملك الموت، ولم يجيء مصرحا باسمه في القرآن، ولا في الأحاديث الصحيحة. وقد جاء في بعض الآثار تسميته بعزرائيل. والله أعلم. قاله الحافظ ابن كثير وقال: إنهم بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام: فمنهم حملة العرش، ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش، وهم مع حملة العرش أشرف الملائكة؛ وهم المقربون كما قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} . ومنهم سكان السماوات السبع يعمرونها عبادة دائمة ليلا ونهارا. كما قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}. ومنهم الذين يتعاقبون إلى البيت المعمور. قلت: الظاهر أن الذين يتعاقبون إلى البيت المعمور سكان السموات، ومنهم موكلون بالجنان مراقبون بيان عداد الكرامات لأهلها، وتهيئة الضيافة لساكنيها، من ملابس ومآكل ومشارب ومصاغ ومساكن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومنهم الموكلون بالنار أعاذنا الله منها، وهم الزبانية؛ ومقدموهم تسعة عشر، وخازنها مالك. وهو مقدم على الخزنة وهم المذكورون في قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ}. وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} . وقال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .
وقال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً } إلى قوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} .
ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}. قال ابن عباس: "ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء أمر الله خلوا عنه". وقال مجاهد: "ما من عبد إلا وملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له: وراءك! إلا شيء يأذن الله تعالى فيه فيصيبه".
ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد كما قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} .
وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَيَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} . روى البزار عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند ثلاث: الغائط والجنابة والغسل. فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجذم حائط أو بغيره" قال الحافظ ابن كثير: ومعنى إكرامهم أن يستحي منهم، فلا يملي عليهم الأعمال القبيحة التي يكتبونها؛ فإن الله خلقهم كراما في خلقهم وأخلاقهم. ثم قال ما معناه: إن من كرمهم أنهم لا يدخلون بيتا فيه كلب ولا صورة ولا جنب ولا تمثال، ولا يصحبون رفقة معهم كلب أو جرس.
وروى مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر. ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون". وفي رواية أن أبا هريرة قال :اقرأوا أن شئتم : {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودآ} سورة الإسراء الآية . وروى الإمام أحمد ومسلم حديث: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه". وفي المسند والسنن حديث: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع" والأحاديث في ذكرهم عليهم السلام كثيرة جدا .
باب الوصية بكتاب الله عز وجل وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ خطب، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: "أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: وأهل بيتي". وفي لفظ: "كتاب الله هو حبل الله المتين، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة" رواه مسلم.
وله في حديث جابر الطويل أنه ﷺ قال في خطبة يوم عرفة: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله. وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. قال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس. اللهم اشهد ثلاث مرات" .
وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنها ستكون فتنة. قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال كتاب الله. فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبار قصمه الله. ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله. هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}. مَن قال به صدق، ومَن عمل به أُجِر، ومَن حكم به عدل، ومن دعى إليه هدى، إلى صراط مستقيم" رواه الترمذي وقال غريب.
وعن أبي الدرداء مرفوعا قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} ". رواه اليزار وابن أبي حاتم والطبراني.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول استقيموا على الصراط ولا تعوجوا. وفوق ذلك داع يدعو، كلما هم عبد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. ثم فسره فأخبر أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة محارم الله، وأن الستور المرخاة حدود الله، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن" رواه رزين ورواه أحمد والترمذي عن النواس بن سمعان بنحوه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله ﷺ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} . فقرأ إلى قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ}. قالت: قال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم" متفق عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "خط لنا رسول الله ﷺ خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ". رواه أحمد والدارمي والنسائي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان ناس من أصحاب النبي ﷺ يكتبون من التوراة فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: "إن أحمق الحمق وأضل الضلالة قوم رغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى نبي غير نبيهم وإلى أمة غير أمتهم. ثم أنزل الله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ". رواه الإسماعيلي في معجمه وابن مردويه. وعن عبد الله بن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: "دخل عمرعلى النبي ﷺ بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال: هذه أصبتها من رجل من أهل الكتاب، أعرضها عليك. فتغير وجه رسول الله ﷺ تغيرا شديدا لم أر مثله قط. فقال عبد الله بن الحارث لعمر رضي الله عنهما:أما ترى وجه النبي ﷺ؟ فقال عمر رضي الله عنه:رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا. فسرّي عن رسول الله ﷺ وقال: لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم. أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم" رواه عبد الرزاق وابن سعد والحاكم في الكني .
باب حقوق النبي ﷺ وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}. وقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. وقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " رواه مسلم ولهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". ولهما عنه مرفوعا: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالديه والناس أجمعين" .
وعن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإن ما حرم رسول الله ﷺ مثل ما حرم الله" رواه الترمذي وابن ماجه.
باب تحريضه ﷺ على لزوم السنة والترغيب في ذلك، وترك البدع والتفرق والاختلاف والتحذير من ذلك وقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: "وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال: قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فما تعهده إلينا؟ فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" رواه أبو داود والترمذي وصححه. وابن ماجه وفي رواية له: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك. من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا" ثم ذكره بمعناه. ولمسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "أما بعد، فخير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ "كل أمتي يدخلون الجنة إلا مَن أَبَى. قيل: ومن أبى؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبَى". ولهما عن أنس رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة النبي ﷺ. فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي ﷺ؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أ،بدا وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبدا ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء النبي ﷺ إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" رواه البغوي في شرح السنة وصححه النووي. وعنه أيضا قال: قال رسول الله ﷺ: "ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال ما أنا عليه وأصحابي" . رواه التّرمذي. ولمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا". وله عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي ﷺ قال: إنه أبدع بي فاحملني. فقال: ما عندي. فقال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله. فقال رسول الله ﷺ: مَن دل على خير فله مثل أجر فاعله" . وعن عمرو بن عوف رضي الله عنه مرفوعا: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها، لا ينقص من أجور الناس شيئا. ومن ابتدع بدعة لا يرضي بها الله ورسوله فإن عليه أثم من عمل بها من الناس، لا ينقص من آثام الناس شيئا". رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه وهذا لفظه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، وتؤخذ سنة يجري الناس عليها فإذا غير منها شيء قيل غيرت السنة: قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال إذا كثر قراؤكم، وقل فقهاؤكم، وكثرت أموالكم، وقل أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين" رواه الدارمي.
وعن زياد بن حُدَيْر قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين" رواه الدارمي. وعن حذيفة قال: "كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول الله ﷺ فلا تعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالا. فاتقوا الله يا معشر القراء، وخذوا ممن كان قبلكم" رواه أبو داود.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ﷺ كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا. اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ، ولإقامة دينه. فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" رواه رزين.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "سمع النبي ﷺ قوما يتدارؤون في القرآن. فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض. وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض؛ فما علمتم منه فقولوه، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه" رواه أحمد وابن ماجه.
باب التحريض على طلب العلم، وكيفية الطلب فيه
فيه حديث الصحيحين في فتنة القبر أن المنعَّم يقول: "جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعا وأجبنا - وأن المنافق. يقول: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته". وفيهما عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين". وفيهما عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" . ولهما عن عائشة مرفوعا: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم" .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن: ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" رواه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال: "يا رسول الله إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ ! لقد جئتكم بها بيضاء نقية. ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي" رواه أحمد .
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه مرفوعا: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوه،ا وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "نضر الله عبدا سمع مقالتي وحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من وراءهم" رواه الشافعي والبيهقي في المدخل، ورواه أحمد وابن ماجه والدارمي عن زيد بن ثابت.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "العلم ثلاث" آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة. وما كان سوى ذلك فهو فضل" رواه الدارمي وأبو داود.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" رواه الترمذي . وفي رواية: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" رواه الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "من أُفْتِيَ بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه" رواه أبو داود.
وعن معاوية رضي الله عنه أن النبي ﷺ نهى عن الأغلوطات. رواه أبو داود أيضا.
وعن كثير بن قيس قال: كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال: يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول لحديث بلغني عنك أنك تحدثه عن رسول الله ﷺ، ما جئتك لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من سلك طريقا يطلب فيه علما، سلك الله به طريقا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم. وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء؛ وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر" رواه أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وعن أبي هريرة مرفوعا: "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها" رواه الترمذي وقال: غريب وابن ماجه.
وعن علي رضي الله عنه قال: "الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله،
ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره؛ إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فهم فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها".
وعن الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة" رواهما الدارمي. باب قبض العلم
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله ﷺ فشخص ببصره إلى السماء. ثم قال: هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس: حتى لا يقدروا منه على شيء" رواه الترمذي.
وعن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: "ذكر النبي ﷺ شيئا فقال: ذلك عند أوان ذهاب العلم. قلت: يا رسول الله كيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة. أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟" رواه أحمد وابن ماجه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "عليكم بالعلم قبل أن يقبض. وقبضه ذهاب أهله. عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه أو يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم. عليكم بالعلم، وإياكم والبدع، والتنطع والتعمق. وعليكم بالعتيق" رواه الدارمي بنحوه. وفي الصحيحين عن ابن عمرو مرفوعا: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" .
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه. مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود." رواه البيهقي في شعب الإيمان.
باب التشديد في طلب العلم للمراء والجدال
عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار" رواه الترمذي.
عن أبي أمامة مرفوعا: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ". رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" متفق عليه.
وعن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: "من طلب العلم لأربع دخل النار - أو نحو هذه الكلمة -: ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أو ليأخذ به من الأمراء" رواه الدارمي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لقوم سمعهم يتمارون في الدين: "أما علمتم أن لله عبادا أسكتتهم خشية الله من غير صمم ولا بكم؟ وإنهم لهم العلماء والفصحاء، والطلقاء والنبلاء. العلماء بأيام الله، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله طاشت عقولهم، وانكسرت قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية؛ يعدون أنفسهم مع المفرطين وإنهم لأكياس أقوياء، ومع الضالين والخطائين وإنهم لأبرار برآء، لأنهم لا يستكثرون له الكثير، ولا يرضون له بالقليل، ولا يدلون عليه بأعمالهم، حيث ما لقيتهم مهتمون مشفقون، وجلون خائفون" رواه أبو نعيم قال الحسن - وسمع قوما يتجادلون: "هؤلاء قوم ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم فتكلموا".
باب التجوز في القول، وترك التكلف والتنطع
عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا: "الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق" رواه الترمذي.
وعن أبي ثعلبة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "إن أحبكم إلي وأقربكم مني يوم القيامة أحسنكم أخلاقا. وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مساوئكم أخلاقا: الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون" رواه البيهقي في شعب الإيمان، وللترمذي نحوه عن جابر رضي الله عنه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها" رواه أبو داود والترمذي.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا: "إن الله يبغض البليغ من الرجال؛ الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة بلسانها" رواه الترمذي وأبو داود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "من تعلم صرف الكلام ليثني به قلوب الرجال أو الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" رواه أبو داود.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله ﷺ فصلا، يفهمه كل من يسمعه. وقالت: كان يحدثنا حديثا لو عده العاد لأحصاه وقالت: إنه لم يكن يسرد الحديث كسردكم" . روى أبو داود بعضه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "إذا رأيتم العبد يُعْطَى زهدًا في الدنيا وقلة منطق، فاقتربوا منه فإنه يُلَقَّى الحكمة" رواه البيهقي في شعب الإيمان.
وعن بريدة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن من البيان سحرا وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيالا ".
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال يوما، وقال رجل فأكثر القول، فقال عمرو: لو قصد في قوله لكان خيرا له، سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لقد رأيت أو أمرت أن أتجوز في القول؛ فإن الجواز هو خير" رواهما أبو داود. تمت.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.