انتقل إلى المحتوى

أبا الفضل طال الليل أم خانني صبري

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

أبا الفضل طال الليل أم خانني صبري

​أبا الفضل طال الليل أم خانني صبري​ المؤلف علي بن محمد التهامي


أبا الفضل طال الليل أم خانني صبري
فخيّل لي أنّ الكواكب لا تسري
أرى الرملةَ البيضاء بعدك أظلمت
فدهري ليلٌ ليس يُفضي إلى فجر
وما ذاك إلا أنّ فيها وديعة
أبي ربُّها أن تسترد إلى الحشر
رزئت بملء العينِ يُحسب كوكباً
توّلد بين الشمس والقمر البدر
بأبلج لو يخفى لنمَّ ضياؤه
عليه كما نمَّ النسيم على الزهر
بنفسي هلالٌ كنتُ أرجو تمامه
فعاجلهُ المقدار في غرّة الشهر
وشبل رجونا أن يكون غضنفرا
فماتَ ولم يجرح بناب ولا ظفر
أتاه قضاءُ الله في دار غُربةٍ
بنفسي غريب الأصل والقبر والقدر
أحمله ثقلَ التراب وإنني
لأخشى عليه الثقل من موطئ الذر
وأودعهُ غبراء غير أمينةٍ
عليه ولكن قادَ شرٌّ إلى شرّ
فوالله لو أسطيع قاسمتهُ الرّدى
فمتنا جميعاً أو لقاسمني عمري
ولكنما أرواحنا ملكُ غيرنا
فما لي في نفسي ولا فيه من أمر
وما اقتضت الأيامُ إلا هباتها
فهلا اقتضتها قبل أن ملأت صدري
ومن قبل أن يجري هواه وإلفه
بقلبي جريَ الماء في الغصن النضر
ولا حزنَ إلا يوم واريتُ شخصه
ورحتُ ببعض النفس والبعض في القبر
وأعلمُ أنَّ الحادثات بمرصدٍ
لتأخذ كلي مثلَ ما أخذت شطري
أحين نضا ثوبَ الطفولة ناسلاً
كما ينسلُ الريش اللؤام عن النسر
وخلّى رضاعَ الثدي مستبدلاً به
أفاويق من درّ البلاغة والشعر
وألقى تميمات الصبى وتباشرت
حمائلُ أغماد المهنّدة البُتر
وبان عليهِ الفضلُ قبل اثّغاره
ويبدو وإن لم يثَّغر كرمُ المُهر
وقامت عليه للعلاء شواهدٌ
كما استشهد العضبُ السريجيُّ بالأثر
وخبرنا عن طيبه ماءُ وجههِ
كتخبير ماء الظلم عن طيبة الثغر
وجادت به الأيام وهي بخيلةٌ
وقد ينبعُ الماءُ الزلال من الصخر
طواه الرّدى طيَّ الرّداء فأصبحت
مغانيه ما فيهنّ منهُ سوى الذكر
فجادَ على قسر بباقي دمائه
وقد كان ممن لا يجودُ على القسر
فإن أبكِ فالقربى القريبة تقتضي
بكائي وإن أصبر فبقيا على الأجر
فبي منهُ ما يوهي القُوى غير أنني
بُنيت كما يُبنى الكريمُ على الصبر
وما صبرُ محزونٍ جناحُ فؤاده
يرفرف ما بين الترائب والنّحر
يقلّب عيناً ما تنام كأنها
بلا هُدُب يُثني عليها ولا شفر
غطا دمعها انسانها فكأنه
غريقٌ تسامى فوقهُ لججُ البحر
ينغص نومي كلَّ يوم ويقظتي
خيالٌ لهُ يسري وذكرٌ لهُ يجري
ويوسع صدري بالحديث ادِّكاره
على أنّ ذاك الوسع أضيق للصدر
وقالوا سيسليه التأسي بغيره
فقلت لهم هل يطفأ الجمرُ بالجمر
ايندمل الجرحُ الرغيبُ بمثلهِ
ألا لا ولكن يستطير ويستشري
وليتَ التأسي بالمصيبةِ كان لي
كفافاً فلا يسلي هناك ولا يغري
فلا تسألوني عنهُ صبراً فإنني
دفنتُ به قلبي وفي طيّه صبري
فإلا تكن قلبي فإنك شطرهُ
قددت كما قدّ الهلالُ من البدرِ
أيا نعمةً جلّت وولّت ولم أكن
نهضت بما لله فيها من الشّكر
وضاعف وجدي أن قضيت ولم تقم
مقام الشجا المعروض في ثغرة الثغر
ولم تلقَ صفّاً من عداك بمثلهِ
كما أسند الكتّابُ سطراً إلى سطر
وما خضتَ جيشاً بالدماءِ مضمخاَ
يُرى بيضهم مثل الحباب على الخمر
ولم تختصم حوليك ألسنةُ القنا
فتحكم في الهيجاء بالعرف والنكر
بضربٍ يطير البيض من حرِّ وقعه
شعاعاً كم طار الشرار عن الجمر
ترى زردَ الماذي منه مفكّكا
يطيحُ كما طاح القُلام عن الظّفر
ولما تضف في نصرة الله طعنةً
إلى ضربه كالتبن فوق شفا نهر
ولما تقم لله بالقسط موقفاً
سأقضي ولما أقضِ من مثله نذري
ولم تمش في ظلِّ اللواء كما مشى
إلى الصّيد فهدٌ تحت رفرفة الصقر
ولم تخفق النيرانُ حولك للقرى
كما خفقت أطرافُ ألوية حُمر
ولم تقفُ أبكار المعاني وعُونها
فترغبَ فيها عن عوان وعن بكر
ولما تُبارِ النجم ضوءاً ورفعةً
وصيتاً وأنوار وهدياً إذا يسري
ولم تخجل الروضَ الأنيق بروضة
مفوَّفة الأرجاء بالنظم النثر
ولما تقم في مشهدٍ بعد مشهدٍ
تُصدِّقُ أخبارَ المخايل بالخبر
وما قلت إلا ما ذكاؤك ضامنٌ
له كضماناتِ السحّائب للقطر
عليك سلامُ الله ربّك إن تكن
عبرت إلى الأخرى فنحن على الجسر
وما نحنُ إلا مثل أفراس حلبةٍ
تقدَّمنا شيء ونحنُ على الأثر
ولما تجارينا وغايةُ سبقنا
إلى الموت كان السبق للجذع الغمر
محاك الرّدى من رأي عيني وما محا
خيالك من قلبي وذكرك من فكري
فما أنسَ من شيء وإن جلّ قدرُه
فإنك مني ماحييتُ على ذكر
وإنيَ من دهر أصابك صرفُهُ
وأخطأني من أن يُصيب على حذر
رحلتَ وخلَّفتَ الذين تركتهم
وراءك بالأحزان والهمِّ والفكر
فلو لفظتك الأرضُ قلت تشابهت
مناظر من في البطن منها وفي الظهر
ولا فرق فيما بيننا غير أننا
بمس الأذى ندري وأنك لا تدري
رجوتك للدنيا وللدين قبلها
ورحتُ بكف من رجائهما صفر
أزورك إكراماً وبراً وفي البلى
لمثلك شغل عن وفائي وعن بري
ولما أتى بعد المشيب عدلتهُ
بعصر الشباب الغض بورك من عصر
وقلتُ شباب ابني شبابي وإنما
ينقّل معنى الشَّطر مني إلى الشطر
فولّى كما ولى الشبابُ كلاهما
حميدٌ فقيدٌ طيّب العهد والبشر
وكان كمثل العنبر الجون لبثهُ
فبان وأبقى في يدي عبق العطر
نقضتُ عهودَ الوُدّ إن ذقت بعده
سلوّاً ألا إن السلوَّ أخو الغَدر
وما أنا بالوافي وقد عشتُ بعدهُ
وربّ اعترافٍ كان أبلغَ من عذر
كفى حزناً أني دعوتُ فلم يُجب
ولم يكُ صمتاً عن وقار ولا وقر
ولم يكُ عن بعد المسافة صمتهُ
فما بيننا إلا ذراعان في القدر
ننافس في الدنيا غُروراً وإنما
قُصارى غناها أن يؤول إلى الفقر
وإنا لفي الدنيا كركب سفينةٍ
نظنُّ وقوفاً والزمان بنا يجري
وأفنيت أياماً فنيتُ بمرّها
وغاية ما يفنى ويُفني إلى قدر
إلى الله أشكو ما أجنّ وإنني
فقدتك فقد الماء في البلد القفر
على حينَ جزتُ الأربعين مصوباً
ولاحت نجوم الشيب في ظلم الشعر
إذا ما تولّى ابني وولّت شبيبتي
وولّى عزائي فالسلامُ على الدهر