آثار البلاد وأخبار العباد/المقدمة الأولى
في الحاجة الداعية إلى احداث المدن والقرى، اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده كسائر الحيوانات بل يضطرّ إلى الاجتماع بغيره حتى يحصل الهيئة الاجتماعيّة التي يتوقف عليها المطعم والملبس فإنّهما موقوفان على مقدّمات كثيرة لا يمكن لكلّ واحد القيام بجميعها وحده. فإن الشخص الواحد كيف يتولّى الحراثة فإنّها موقوفة على آلاتها، وآلاتها تحتاج إلى النجّار، والنجّار يحتاج إلى الحداد، وكيف يقوم بأمر الملبوس، وهو موقوف على الحراثة والحلج والندف والغزل والنسج وتهيئة آلاتها، فاقتضت الحكمة الإلهيّة الهيئة الاجتماعيّة وألهم كلّ واحد منهم القيام بأمر من تلك المقدّمات حتى ينتفع بعضهم ببعض فترى الخبّاز يخبز الخبز، والعجّان يعجنه، والطحّان يطحنه، والحرّاث يحرثه، والنجّار يصلح آلات الحرّاث، والحدّاد يصلح آلات النجّار، وهكذا الصناعات بعضها موقوفة على البعض.
وعند حصول
</noinclude> كلّها يتمّ الهيئة الاجتماعيّة ومتى فقد شيء من ذلك فقد اختلّت الهيئة الاجتماعيّة كالبدن إذا فقد بعض أعضائه فيتوقف نظام معيشة الإنسان.
ثمّ عند حصول الهيئة الاجتماعيّة لو اجتمعوا في صحراء لتأذّوا بالحرّ والبرد والمطر والريح ولو تستروا بالخيام والخرقاهات لم يأمنوا مكر اللصوص والعدوّ ولو اقتصروا على الحيطان والأبواب كما ترى في القرى التي لا سور لها لم يأمنوا صولة ذي البأس فألهمهم الله تعالى اتّخاذ السور والخندق والفصيل فحدثت المدن والأمصار والقرى والديار.
ثمّ إن الملوك الماضية لمّا أرادوا بناء المدن أخذوا آراء الحكماء في ذلك فالحكماء اختاروا أفضل ناحية في البلاد وأفضل مكان في الناحية وأعلى منزل في المكان من السواحل والجبال ومهبّ الشمال لأنّها تفيد صحّة أبدان أهلها وحسن أمزجتها واحترزوا من الآجام والجزائر وأعماق الأرض فإنّها تورث كربًا وهرمًا.
واتّخذوا للمدن سورا حصينًا مانعًا وللسور أبوابًا عدّة حتى لا يتزاحم الناس بالدخول والخروج بل يدخل ويخرج من أقرب باب إليه.
واتّخذوا لها قهندزا لمكان ملك المدينة والنادي لاجتماع الناس فيه وفي البلاد الإسلامية المساجد والجوامع والأسواق والخانات والحمّامات ومراكض الخيل ومعاطن الإبل ومرابض الغنم وتركوا بقيّة مساكنها لدور السكان فأكثر ما بناها الملوك العظماء على هذه الهيئة فترى أهلها موصوفين بالأمزجة الصحيحة والصور الحسنة والأخلاق الطيّبة وأصحاب الآراء الصالحة والعقول الوافرة واعتبر ذلك بمن مسكنه لا يكون كذلك مثل الديالم والجيل والأكراد والتركمان وسكان البحر في تشويش طباعهم وركاكة عقولهم واختلاف صورهم.
ثمّ اختصّت كلّ مدينة لاختلاف تربتها وهوائها بخاصيّة عجيبة وأوجد الحكماء فيها طلسمات غريبة ونشأ بها صنف من المعادن والنبات والحيوان لم يوجد في غيرها وأحدث بها أهلها عمارات عجيبة ونشأ بها أناس فاقوا أمثالهم في العلوم والأخلاق والصناعات فلنذكر ما وصل إلينا من خاصيّة بقعة بقعة إن شاء الله تعالى.