انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 99/نداء الحب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 99/نِدَاءُ الحُبّ

مجلة الرسالة - العدد 99
نِدَاءُ الحُبّ
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 05 - 1935



وقلبي أنشودة حلوة=تغنى بها قافلات الهوى

لشاعر الشباب السوري أنور العطار

تعالَ أيا حُبُّ نولِ الوُجودَ ... أناشيدَ يملكُها مَنْ روَى

تعال نُغَنِّ السُّهولَ الفساحَ ... ونُصبِ الهضابَ ونُغْرِ الرُّبا

تعال نَهمْ هَيَمانَ العُطورِ ... ونَهْتزَّ مثلَ شُعاعِ الضُّحَى

تعال نُطوِّفْ رِحَابَ الفضاءِ ... ونسْرِ إلى غامضِ المُنْتَأَى

تعالَ نَغُصْ في عُبَابِ السَّماءِ ... ونُفْنِ الزمانَ ونطْوِ الدُّنا

ولا ندَّحرْ فَرْحَةً للجنَان ... ولا نُبقِ للرُّوح من مشَتَهى

ونَحْىَ مِنَ الحُبّ في عالمٍ ... نضير الأزاهيرِ حُلوِ الجنى

تُؤلِّفنا الطَّيْرُ أُغرودةً ... وتَمزُجُنا بنُفاحِ الشّذا

نعيشُ نجيّيْن في سكرةٍ ... كما عاشَ في الزهرِ خَمْرُ الندى

فما العُمرُ إلا سَناً راجفٌ ... تَلألآ بارقةُ وأمَّحَى

فأيامُهُ ضُيَّعٌ كالسَّرابِ ... وأحْلامُه ذاهباتٌ سُدى

نطيرُ إلى ربواتِ النّعيمِ ... ونلكُ أنفاسَ ريح الصَّبا

لنا في النَّسائمِ أُرْجوحةٌ ... تَطُوفُ بنا في فجاج السَّما

تُهدْهِدُنا بالنشيدِ الحبيبِ ... وتغمُرنا بالسّنَا المرتجى

ننامُ وفي الأُذنِ أُغنيةٌ ... وفي العين حُلْمٌ رقيقٌ سَرَى

وأرواحُنا انطلقتْ في العَلاءِ ... تَغلغلُ في سدرةِ المنتهى

فيا لكِ غيبوبةً لذَّةً ... تراءى الخَفَاءُ بها وانجلى

ويا لكِ أُمْنَّيةً تُستَطابُ ... ولحْناً على الدَّهْرِ لا يُجتوى

ويا لكِ دُنيا قَلَتْهَا الهمومُ ... وماتَ الرَّياءُ بها وانطوى

فلا الشَّرُّ يأوي إلى ساحها ... ولا البُغْضُ يَسْكُنها والقلى

تَنَقّتْ من العابِ أعطافُها ... ورَفَّ النعيمُ بها وازدهى

يَسودُ حِماها هوىً خالدٌ ... وحُبٌّ تسامى وعيشٌ صف ويهفو إليها الشعاع الرقيقُ ... ويألفها الأملُ المُبتغى

وتَنْفُثُ فيها الثُّغُورُ الحِسانُ ... أحاديثَ يلتذُّها منْ وعى

فما يَبْهَجُ الرُّوح بَادٍ هُناكَ ... لَمَنْ يَشْتَهيهِ وخافٍ هُنا

تعال لقد بُحُ صوتي الشّجيُّ ... وعاجلني منْ صُراخي الونى

تعال فإني مُستوْحشٌ ... يُريني طولُ الضّنى ما اختفى

أُحسُّ يداً مٌلئتْ بالحنانِ ... تُنهنهُ دمعي إذا ما همى

وألمسُ في وحدتي خافقاً ... يذوبُ على ما أُعاني أسى

وألمح في وحدتي طيفاً يلوحُ الهُزالُ ... على وجههِ ويبينُ الضَّنى

يُغمغْمُ في سرِّهِ دائباً ... ويرعى خُطاي ويحمي الحِمى

ويُؤنُسني إن عَراني الملالُ ... ويحَمْلُ عني وقْدَ الجَوى

ويَنْفَحُني بأريجِ الخلودِ ... ويَغْمُرني بشهيِّ المُنى

كأني أبصرْتُ شِهْاً لهُ ... تعلَّقْتهُ في غُصونِ الصِّبَا

يُذكِّرُني وجُههُ بالحبيبِ ... وإنْ غَيَّرتْهُ عوادي النوَّى

من الزائري في إسارِ الشُّجونِ ... يُزحْزِحُ عَنّى خطباً عرا

يُقاسمُني غَمراتِ الحياةِ ... وما رَوَّعَ القَلْبَ أو ما دهى

ويُنقذنُي من وجومي الرّهيبِ ... ومن ليليَ الجْهمِ إما غشا

ومنْ هاجسٍ ضجَّ منهُ الجَنَانُ ... ومِنْ خاطرٍ فرَّ منه النهى

غَنيتُ بهذا الخيال العجيبِ ... وشئَّتَ لُبِّي هذا الغنى

ذهِلتُ ولم أدْرِ مِنْ حيرتي ... ألِلْغَيً مَسْرَاي أمْ للُهدى

فلا العَيْنُ تعرِفُ سجو المنامِ ... ولا الليل يُسعدُها إن سجا

يُريني اكتئابي طُيوفاً تموجُ ... وقافلةً لا تقلُّ السُّرى

ترامتْ بها نائياتُ القِفِارِ ... فضاعتْ معالمُها والصُّوى

وجنَّا تألقُ مثلَ اللَّهيبِ ... وجنَّا تأجَّجُ مثلَ اللَّظى

وأرْضناً تَفَجَّرُ منها الدَماءُ ... وفيها تغُوصُ أُلوفُ المُدى

وجرحى يثنُّون خلفَ الزِّحام ... وصرعى يغيبون تحت القَنا وأُفقْاً تدوِّي بهِ السَّافياتُ ... وتملأُ جَنْبيهِ نارُ الوَغى

فمنْ أسهمٍ لَمعتْ كالوميضِ ... ومِنْ أسْيُفٍ إثْرَها تُنتضى

ومنْ أجنُحٍ دوَّمتْ في الفَضَاءِ ... ومدتْ على الكوْنِ ظلاَّ ضفَا

ومن خائف قد عصاه الصياحُ ... فخارتْ عزائمه والقُوى

ومنْ نهمٍ أكلَ الكائناتِ ... وَعَبَّ خِضَمَّاتها واحتسى

وغالَ منَ النَّجْمِ مالا يُعَدُّ ... ومالا يُرَامُ ولا يُحتوى

يُقهْقهُ قهْقهة كالرُّعودِ ... ويمتدُّ كالبرق إما بَدا

وينَفُثُ حتى إدخال السَّحابَ ... تدفَّقَ من جانبيهِ الحيا

وعيني إلى مَلكٍ نائم ... يُجمْجِمُ في الحُلْمِ أحلى اللُّغى

أُناديه مِنْ طول شوقي المِلحّ ... فيبسم والقلبُ منه هَفا

سريرك حوَّمَ بينَ الغُيوم ... وأغفى على شُرُفاتِ السُّها

وفي القلْبِ عُشُّقكَ لكّنهُ ... عفاهُ ومِنْ طيْرهِ قد خلا

وأنت أيا طيفُ ظلَّلْتني ... بِعَطْفِكَ حتى ازدَهاني الرِضا

أُفدِّيكَ من مُشفِقٍ لاهِفٍ ... ويا ليتَ يُرضيك أنيِّ الفدا

تكلمْ عَلاَمَ تُطيلُ السكوتَ ... وفي شَفَتَيْكَ كلامٌ يُرى

تعالَ فها ذاكَ ركْبُ الحياةِ ... تَسَربلَ صحراءها وارتدى

ولم يَبْقَ مِنهْ سِوَى ومضةٍ ... كخطِّ الأصيلِ بأقصى الفلاَ

تعال فإنْ يحتجبْ نورُهُ ... يَعُمَّ الشقاءُ ويطْغَ الأذَى

تعال فإني أُحسُّ المَاَء ... يَحُطُّ على شامخاتِ الذُّرى

وينشُرُ أجنحَهُ الضافيات ... ويُرسِلُها في رحابِ الفَضا

محفّتُهُ حَيِليَتهْا العُيونُ ... وإنْ غامَ لآلأؤُها أو دَجَا

تعالَ فِلِليلِ حُزنٌ يَطولُ ... وهولٌ إذا ما تناهى ابتدا

تعالَ فإنْ أدركتْنا خُطاهُ ... فليسَ يُتَاحُ لنا المُلتقى

حياتي طائفةٌ كالخيالِ ... وصوتيَ ليسَ لهُ منْ صَدَى

ونفسيَ تحملُ همَّ أثنينِ ... وهَمِّي جاز بنفسي المدَى كأنيَ قَبرٌ ترامَى العفاءُ ... على جانبيهِ وعَجّ البِلَى

وقلبي أُنشودةٌ حلْوةٌ ... تغنى بها قافلاتُ الهوى

مررتُ بصحراءِ هذي الحياةِ ... كما مرَّ الغُمْضِ طيفُ الكَرَى

على منكبيَّ بياضُ النَّهار ... وفي مُقلتيَّ سواد الدُّجى

لئنْ نَقَمَ القلبُ أشجانهُ ... لما كربتْهُ صُروفُ الرَّدى

وإن أنكرتهْ الأماني العذابُ ... فما حَفَلَ الدهرَ مُرَّ الشَّجا

تصبَّرتُ حتى فقدْتُ المعِينَ ... وأجملْتُ حتى مَلِلْتُ الأُسا

فيا قلْبُ حَبْسٌ عليكَ العذَابُ ... ويا عينُ وقفٌ عليكِ البُكا

أُحسُّ كأنيَ قمرْيَّةٌ ... تنُوحُ على حُلُمٍ قد نَأَى

تُودِّعُ آمالهَا الضحكاتِ ... وما ضَمَّ عالمُها منْ دُمى

وتمشي إلى شَجَنٍ قاتمٍ ... رهيبِ الكونِ سحيقِ الهُوى

عييتُ بحبِّيَ لَمَّا استفاضَ ... وذُقْتُ لذاذَتهُ مذْ مضى

وعشتُ بفرحتهِ حالما ... أَطوفُ بأوهامهِ والرُّؤَى

فيالكَ من جَدوِلٍ هانئٍ ... إذا شَربَ القلّبُ منه ارتوى

فواردُهُ لا يُحسُّ الشقآَء ... وراشفُهُ لا يذوق الصَّدى

ويا رُبَّ واهٍ براهُ الهزال ... ترشَّف أمواههُ فاشتفى

وسكران من كأسِ هذا الزَّمان ... تنشَّقَ نافحه فانتشى

تموجُ الغُيوبُ بأعطافه ... ويطفحُ في حافتهِ الجَدَا

خلاَ منْ منا كدِ هذي الحياةِ ... ومن رتقِ جرعتها والقذى

يُعنِّى فيهتزُّ هذا الوجودُ ... ويشدو فيطربُ هذا الوَرَى

أُحِبُّ السماَء ولكنما ... يدافعني عنْ هواي الثرى

هي الأرض مهدى أَتى شردْ ... ت وحنّقْت في الكائنات العلى

ولكنَّ روحي مِلْكُ الخلودِ ... ورهن البقاءِ وخذن السَّنا

أنور العطار