انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 460/الرجل المنتظر. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 460/الرجل المنتظَر. . .

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 04 - 1942


بهذه الرجفة العظمى تبدد النظام العالمي كله؛ فكأنما اجتمع اللاعبون بأقدار الأفراد ومصاير الأمم وقالوا لهتلر أجرأ العابثين: (بَوِّظ)!!

وهاهم أولاء يتحكمون في قطع اللعب، فيجمعون ثم يفرقون، ويبددون ثم ينسقون، وكل ما ورث الناس أو كسبوا من أديانْ ودساتير وقوانين وأنظمة وسنن قد أصابه الإلغاء أو التعليق. والواقع أن العالم العربي بأجمعه ليس منه في هذه اللعبة العالمية لاعب؛ إنما هو تلك القطع الجامدة التي تُقسّم وتُقدَّم وتُصك ثم تذهب وتجيء بين اللاعبين دواليك حاملة على وجوهها المُلس قِيَمها الكسبية المختلفة من (الدش) إلى (البيضة). فإذا طلبنا أن يكون لنا في الدَّست حساب وليس فينا حاسب، أو يعود علينا من ورائه اكتساب وليس منا كاسب، كان ذلك من خداع النفس بالمجال وتعليلها بالباطل. والمتوقع الذي لا حيله فيه أن نظل كما نحن لعبة تلعب أو نُهبة تُنهب حتى يبعث الله فينا الرجل الذي ننتظر

ولست اعني بالرجل الذي تنتظره الأمة العربية: (المهديَّ) أو (الإمام) أو (المسيح)، فإن ظهور أولئك أحدِهم أو كلهم شرط من أشراط الساعة؛ فانتظار الناس إياهم كانتظار الطامع الممطول راحة الفوت، أو المريض المشفى سكينة الموت؛ وإنما أعني الرجل الذي ينتظره الناس انتظارهم طلعة الشمس، وتنتظره الأرض انتظارها رجعة الربيع! هو كالشمس لأنه يرسل النور والحرارة؛ وهو كالربيع لأنه يبعث الحياة والنضارة. وظهوره كطلوع الشمس ورجوع الربيع سنة من سنن الله في الكون، يجرى بها حكمه كلما شاء للعقول الحائرة أن تهتدي، وللقلوب الشتيتة أن تتحد، وللنفوس العليلة أن تصح

كان هذا الرجل فيما خلا من الدهر يسمى رسولاً؛ فلما خُتمت الرسالة وانقطع الوحي، كان يظهر فترة بعد فترة في صورة ملك أو فاتح أو حاكم أو عالم مفكر، فيبين ما التبس من معاني الحق، ويجدد ما انطمس من معالم الطريق. وكان نجاحه في أو فشله في التجديد والإصلاح أثراً من آثار قوته أو ضعفه؛ فهو بين أصحاب السلطان يكون أسرع نجاحاً وأوسع إصلاحاً منه بين أصحاب الفكر. وقلَّما يأبه الناس لدعاة التجديد بالكلام ما لم ينتشر صداه في الأرض ويتسع مداه في الزمن: لأن أصحاب الكلام إذا ملكوا الرأي لا يملكون التنفيذ، وإذا استطاعوا التشريح فلا يستطيعون الحكم. وقطرة القلم قد يفطن لها الفؤاد اليقظ، ولكن وخزة السيف يثور بها الجسد الغليظ. وما كانت الوثبات الاجتماعية التي خلقت ناساً غير ناس، وأبدلت نظاماً من نظام، وفصلت تاريخاً من تاريخ، إلا نتيجة لدفع المصلحين المسلطين الذين وضعوا الكتاب في يد والسيف في يد، ثم كتبوا دستور الإصلاح بالمداد والدم

ولهذا الرجل الذي تنتظره الأمة العربية آيات تمهد له وتدل عليه: فمن الآيات المهيأة لظهوره انحلال الأخلاق فلا تتماسك في قول ولا فعل، وتتقاطع القلوب ولا تتواصل في وطن ولا دين، واستئثار النفوس فلا تتعفف في صداقة ولا نسب، وجموح الشهوات فلا تنقدع بلين ولا شدة، واستبهام المذاهب فلا تستبين بنجم ولا شمس، وانقطاع الأمة عن ركب الحياة فلا تتحرك قِبلة ولا دِبْرة

ومن آياته المنبئة بوجوده أن يكون لغيره لا لنفسه، ولأمته قبل أسرته، ولإنسانيته بعد وطنيته. وبهذه الصفة الأخيرة يختلف المصلح القومي عن الرسول. ومصداق تلك الآيات أن تموت (أنا) في لسانه وتحيا في ضميره، ويتحد في ذهنه وجود ذاته بوجود شعبه؛ فهو يحس ألمه لأنه مجتمَع شعوره، ويدرك نقصه لأنه مجتلى عقله، ويملك القيادة لأنه مظهر إرادته. وهو في سمو نفسه ونزاهة هواه قد ارتفع عن أوزار الناس وأقذار الأرض؛ فلا يطمع لأن غرضه أبعد من الدنيا، ولا يحقد لأن همه ارفع من العداوة، ولا يحابي لأن فضله أوسع من العصبية، ولا يقول قولاً أو يعمل عملاً إلا إذا وافق الدين الذي يعتقده، والمبدأ الذي يؤيده، والشعب الذي يقوده

ثم هو في ألمعية ذهبه ورصانة لبه وصلابة عوده وبعد همته يعظم على الأحداث، ويعلو على الحوائل، فلا ينضح رأياً إلا أمضاه، ولا يرمي غرضاً إلا أصابه، ولا يروم أمداً إلا أدركه

هذا الرجل الملهم الموهوب هو الذي ترقب ظهوره كل فرقة، وترصد نجمه كل أمة. ولقد ظهر أمثاله في بعض الأمم وهي على شفا الهاوية فأعادوها إلى الحياة وردوها إلى الجادّة. ولا تزال الأمة العربية تحدق النظر العبران في الأفق الغائم ترجو أن تتشقق الحجب عن نوره. فهل آن يا أرحم الراحمين أوانُ ظهوره؟

أن القطعان المهملة تدخل في عهدة الذئب؛ وإن القوى المتفرقة تُجمع في حساب العدو؛ وإن اللآلئ المبددة إذا لم يضمها سلك لا ينتظم منها عِقد؛ وأن الأمة التي لا تملك يوم الجِد والفخار إلا أن تقول: كنت وكنت، لا يزيد قدرها على قدر الرماد البارد الذي يقول: كنت فيما مضى جمرَةً متقدة!

رباه لقد امتد بنا التيه في مجاهل الأرض إلى قرون، وفسد في نفوسنا الإيمان بالحياة حتى تحول إلى ظنون. فمتى نخرج من التيه يا رباه خروج موسى، ونتبوأ من صدر الحياة العاملة مكان محمد؟ اللهم إنا نسألك الراعي الذي يطرد الذئب، والنظام الذي يجمع الحب، والدليل الذي يحمل المصباح، والقائد الذي يرفع العَلم، والأستاذ الذي يعلمنا أن نصنع الإبرة والمدفع، ونشق المنجم والحقل، ونوفق بين الدين والدنيا، ونوحد بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة. وكل أولئك يا رباه يجمعهم رجل واحد هو أشبه الناس بالمهدي المنتظَر والإمام المرتَقب والمسيح الموعود!

أحمد حسن الزيات