انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 390/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 390/القَصَصُ

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 12 - 1940



عبء السلطة

للروائي اليوغسلافي ميلان بوجلج

ولد (ميلان بوجلج) سنة 1883 في مدينة ستيريا على الحدود

بين سويسرا وبين الجانب الجنوبي الغربي من النمسا، وكان

أبوه مدرساً في قرية. وبدأ (ميلان) ينظم الشعر وهو طالب.

ثم اشتهرت كتاباته النثرية حتى أصبح من كتاب لغته

المعدودين. وهو من أنصار المذهب الواقعي وفيه فكاهة قوية،

وله مجموعات قصصية كثيرة. وقد تولى إدارة المسرح

الملكي في يوغسلافيا في وقت ما.

كان كاتب العمدة جالساً إلى مكتبه وهو شاب طويل القامة نحيل، وكان على أذنه قلم وفي يده قلم آخر يكتب به في سكون على ورقة أميرية

وكان يجلس في ركن الحجرة رجل من السوقة تبدو عليه علائم التشرد والشر وهو غريب عن القرية، وكان قد دخلها بغير مبرر ظاهر منكراً اسمه ومسقط رأسه

دخل العمدة وظل واقفاً عند الباب حتى تنبه الكاتب إلى وجوده فحياه، فاقترب العمدة من المكتب ونظر إلى الورقة وقال ويداه في جيبه: ما الذي تكتبه في هذا الصباح؟

قال الكاتب: لقد استدعيت هذا المتشرد وأجلسته بجانب الموقد وبدأت أكتب تقريراً عن صفاته الجثمانية لأرسله إلى المركز

ثم لمس الكاتب جبينه واستأنف الكتابة، ومشى العمدة نحو المتشرد البائس فتأمل ثيابه الخلقة وقدميه الحافيتين وعينيه الرماديتين الدائمتي الاختلاج وصاح به: (ما الذي جاء بك إلى هنا أيها المتشرد؟ هل سقطت علينا من السماء؟ قل الحق من أين جئت وإلى أين تريد الذهاب؟) فهز الرجل كتفيه وقال: (لا أعرف! لا أعرف)

واستمر العمدة يسأل واستمر المتشرد يجيبه نفس الجواب ولما كاد صبر العمدة أن ينفذ طرق الباب طارق، ودخل طحان القرية وهو قصير هزيل ورفع قبعته في احترام وتنحنح قليلاً، ثم قال: (على شاطئ النهر بقرب الطاحون وجدت غريقين أظنهما انتحرا. . . إن شكلهما غريب وقد وجدت كلاً منهما مستلقياً على ظهره فوق الحشائش، ويد كل منهما في يد الآخر - يده اليمنى مشتبكة في يدها اليسرى. إنني لم أشهد بغير الحق).

بدت علائم الدهشة على العمدة ومد ذراعيه ونظر إلى كاتبه الذي نهض سريعاً، ورفع القلم الذي في أذنه واستعد لكتابة ما شهد به الطحان

وهنا صاح المتشرد بشكل يدل على الاهتمام: (هل هما ميتان؟) فضرب الطحان بيديه على ركبتيه وهو يضحك: (نعم ميتان بالطبع)

وأمر المعمدة المتشرد بلزوم مكانه ولزوم الصمت، وقال الطحان للعمدة: (لقد جئت لأخبرك لكي تأمر بنقل الجثتين من مزرعتي)

فقال العمدة وهو يلمس بأصابع يديه جانبي رأسه: (حسن! حسن! اذهب وسأتبعك لأعاين الجثتين)

ومشى الطحان وظل يعبث بأظافره في شعر رأسه ثم التفت إلى المتشرد وقال: (أنظر أيها الوغد الذي لا يصلح لشيء. هذه هي أعمال أصحابك المتشردين، إنهم يذهبون مع الشيطان في كل طريق ونحن الذين لا ذنب لنا نعاني نتائج شروركم)

ثم التفت إلى الكاتب وقال: (ما الذي تفعل؟ عندنا الآن متشرد حي ومتشردان ميتان، فما الذي نفعله بهم؟ لعنة الله على هؤلاء المتشردين)

فهز الكاتب رأسه وقال: (إن حياتهم معصية لله وخزي للناس، وهم حتى بعد الموت يضايقون خلق الله)

قال العمدة: (ولكن علينا عملا نعمله قبل كل شيء).

فقال الكاتب: (نعم يجب علينا أن نبلغ السلطات ثم ندفن الميتين على نفقة البلدية)

قال العمدة بلهجة التوكيد مناقضاً كاتبه ومستشاره: (كلا فإن أموال القرية لا تنفق على هؤلاء المتشردين الأفاقين. يجب أن نعرف من أين أتوا، ثم. . . ثم. . .) فقال الكاتب وهر أكثر تجربة من العمدة: (إن هذا لا يصلح، وإن النهر يحمل الجثث من أماكن بعيدة، وأنا أتذكر أنه حمل إلينا مرة جثة من مدينة تبعد أربعة عشر ميلاً، وقد بقيت تلك الجثة أربعة أيام قبل الدفن، فكتبنا إلى جهات متعددة، فلم نهتد إلا بعد ثلاثة أعوام إلى المكان الذي غرقت فيه)

قال العمدة: (إذن فلماذا نكتب إلى السلطات؟ - ثلاثة أعوام!) فقال الكاتب: (نحن في هذه الأيام مضطرون إلى إبلاغ السلطات ولو كان القتيل هرة)

قال العمدة: إذن فاكتب إلى السلطات في الحال. فقال الكاتب وهو يحاول صياغة جملته في الصيغة الرسمية: ولكن يا حضرة العمدة أنا الآن مشغول جداً بكتابة التقرير عن هذا المتشرد وذهني مركز في هذه القضية فقط ولا أستطيع تركها للاشتغال بقضية أخرى. . . أسمع يا حضرة العمدة. . . ثم رفع عن المكتب ورقة وأخذ يقرأ:

حضرة صاحب العزة مأمور المركز. . .

بالنظر إلى مرور أحد المتشردين في زمام هذه القرية، وبالنظر إلى أن هذا المتشرد ينكر اسمه واسم بلده فقد حررنا هذا التقرير بتشبيهه:

(متشرد غير معلوم موطنه، مجهول الاسم، حافي القدمين، نحيل، إصبع قدمه الكبرى معوجة، في ذقنه شعر قليل مثل شعر الثعلب، أنفه محدودب رفيع مائل قليلاً إلى الجانب الأيسر وعندما يتكلم تهتز لحيته مثل الأرنب، ومشيته كمشية الثور. أي أن خطوته قصيرة، وركبته بطيئة الحركة، وإذا شده إنسان من أذنه اليمنى تهدلت شفته السفلى وأغمض عينه اليسرى)

وكف الكاتب عن القراءة وبدا عليه الزهو وشعور الثقة بالنفس وقال: (من المحال أن أقف عند هذا الحد من التقرير، فإن أفكاري مركزة وقد حرصت على الدقة)

ظن العمدة أنه قد فهم وقال: (هذا حسن فاقتصر أنت على نظر قضية المتشرد وسأنظر القضية الجديدة. هات ورقاً وقلماً جديداً وسأفكر وأكتب تقريراً للمركز)

وبعد دقيقة كان العمدة يبدأ في كتابة الخطاب. وبعد ساعة فرغ منه

استدعى العمدة كاتبه القدير وقال: (اسمع وقل لي رأيك؟

حضرة صاحب العزة مأمور مركز. . .

إن النهر ألقى على زمام القرية غريقين وجدا عند الطاحون. . . وجاء الطاحون وقال لي: يا عمدة أبعدهما عن أرضي. . . فأنا العمدة أرجو من عزتكم بإخباري بما أفعل. . . إن الناس يشيرون بدفنهما، ومن رأيي ذلك، فأرجو صدور التعليمات اللازمة)

هز الكاتب رأسه وقال: (من المستحيل إرسال هذا الخطاب فإن لهجته غير رسمية)

قال العمدة في نفسه: (غير رسمية؟ وماذا يكون الخطاب الرسمي إذن؟)

تناول الكاتب الخطاب وقال: إن في المركز موظفين محترمين ولن يعجبهم خط هذا الخطاب

قال العمدة: ولماذا لا تكتبه أنت؟ أليس وجودك هنا من أجل هذا الغرض؟

فقال الكاتب: نعم، عفواً يا حضرة العمدة، الأفضل ترك هذا التقرير مؤقتاً

ثم قام الكاتب فجلس أمام العمدة ووضع القلم في سنَّا جديداً وبدأ يكتب. ووقف العمدة في وسط الغرفة يتأمل في خط كاتبه والمتشرد متبلد في مكانه يراقب هذين الموظفين، وكان وجه الكاتب مخضباً بالاحمرار لزهوه وتحمسه وثقته بأهمية نفسه

وانتهى من كتابة الخطاب فوقف وأخذ يتلو خطابه مرتلاً كما لو كان يقرأ قصيدة من الشعر، وكان العمدة يصغي وهو معجب بهذا الأثر الرسمي البديع، ثم قال وهو يعبث بأظافره في شعر رأسه: يجب أن تذهب الآن إلى الطحان

وأدخلا المتشرد في سجن (الدوار) وذهبا فقادهما الطحان إلى مكان الغريقين عند حافة الماء، فلم يريا على وجهي الجثتين ما يدل على أثر جريمة، بل كانا يظهران كما يظهر وجها نائمين يحلمان ببعض أحلام الحب، وبدأ الكاتب يهز رأسه الضيق الجبين وقال: يظهر لي أنها جريمته هو

فقال العمدة: بل هي جريمة الشيطان

وقال الطحان: اسمح لي يا حضرة العمدة أن أقول إنه لا يمكن أن نعرف جريمة من هذه

وانتهت المحادثة والتحقيق عند هذا الحد، وعاد العمدة والكاتب إلى القرية، وقال الأول: ألا يستطيع الإنسان أن ينعم بيوم راحة؟ عندنا الآن متشرد حي ومتشردان ميتان، فكيف ننتهي من أمرهم؟

فقال الكاتب: لقد كانت الأمور كلها تسير سيراً حسناً لولا اضطرارنا إلى مخابرة السلطات، فإن الصعوبة كلها ناشئة من تحرير المكاتبات

وأعقب هاتين الملاحظتين مسير نصف ميل في صمت. ثم ضحك العمدة فجأة ضحكة عالية وقال وقد بدا له أنه سيدهش الكاتب بفكرة موفقة: لقد عرفت الحل فلا تكتب شيئاً إلى السلطات

كاد الكاتب أن يغمى عليه، واستمر العمدة يضحك وكانت ضحكاته تزداد ارتفاعاً وقال: (لقد عرفت الحل وسأختصر الطريق؛ لكن عليك أن تسكت، وأن تخبر الطحان بلزوم الصمت).

وفي المساء ذهب العمدة إلى المتشرد وقال: (أخبرني ألم تعمل في حياتك أي عمل نافع؟)

فحملق المجرم في وجهه ولم يجب

قال العمدة: (ألا تعرف الطريق إلى الطاحون؟ إنها بجانب النهر) فقال المتشرد: (نعم قد عرفتها)

قال العمدة: (بجانب الطاحون عند المزرعة ستجد جثتي رجل وامرأة. هل سمعت؟ اذهب وألق الجثتين في النهر حتى يحملهما الماء. هل سمعت؟)

هز المتشرد رأسه علامة على الموافقة وافترقا، وبعد قليل كانت جثتا العاشقين طافيتين على الماء

وفي الصباح التالي كان الكاتب ماراً بجوار الطاحون وكان وراءه على مسافة قريبة حفار القرية يجر عربتيه الصغيرة وكان عليها إذ ذاك غطاء أسود، فلما وصلا إلى شاطئ النهر نظر الكاتب إلى الماء فلم ير فيه أثراً لميت أو لحي، وقال الكاتب: (بالأمس وصل بلاغ إلى (الدوار) بأن غريقين وجدا هنا على الشاطئ). وقال الحفار: (هكذا سمعت ولكن يظهر أن البلاغ كاذب)

فقال الكاتب: لعله (كذلك)

وقال الحفار: (ربما عاد الماء فحملهما كما أتى بهما)

فهز الكاتب رأسه وقال: (ربما كان ذلك)

ثم مشى كل منهما في طريقه.

(ع. ا)