مجلة الرسالة/العدد 244/القصص
مجلة الرسالة/العدد 244/القَصَصُ
أقصوصة من بول هيس
جنون. . .
للأستاذ دريني خشبة
كان الصبح يتنفس عليلاً في الأفق الشرقي، وكان الفيزوف ينفث دخانه سحاباً طويلاً داكناً فوق نابولي والقرى المجاورة، وكان البحر النائم ملقياً رأسه الجبار على أَوَاذيّ سورّنتو، حيث انتشر الصيادون فوق الشاطئ وفي الماء وفوق الزوارق يعملون ويدأبون، لا فرق بين شيبهم وشبابهم، وكانت النساء يرفرفن فوق الأسطح القريبة كالأعلام المُنَشرة يؤدين أعمال الصباح. . . وكان الكل مبتهجاً سعيداً ولا سيما الفتى البحار أنطونيو الذي وقف في زورقه يملأ ناظريه من جمال الطبيعة المتبرجة فوق الشاطئ الإيطالي الفتان
لقد كان أنطونيو سعيداً هذا الصباح، لأن كثيرين من أهل سورّنتو يذهبون في مثل ذلك اليوم من كل أسبوع إلى قرية كابري ليبيعوا في سوقها ويشتروا. . . ولم يكن سعيداً لكثرة زبائنه فقط، بل كان سعيداً لشيء آخر. . . شيء عزيز. . . شيء هو حلم القلوب، وغذاء النفوس، ومسبح الخيال، ومستراد الحلم. .
وأقبل قسُّ من سورّنتو، فجعل يدلف حتى وقف على السّيف أمام أنطونيو. . . ثم قفز فكان في الزورق، والفتى مع ذاك في شغل عنه. . . وعن الدنيا جميعاً
- أنطونيو يا بني!! ماذا يمنعك أن تبحر قبل أن تشتد الشمس؟
- لا شيء أيها الأب. . . سنبحر حالاً!
ولكن أنطونيو كان لا يني يبحث في الشاطئ بعينيه، يرسلهما وراء أيكة. . . وكان القس القلق يرى في نظراته الحائرة طيف حبيب تائه. . . في عالم مجهول. . .!! فيعذره!!
ثم بدت فتاة جعلت تخطر بين دَوْح السنديان وتُلوح بمنديلها فوق الشاطئ، فهفا قلب أنطونيو، وطفح وجهه بالبشر المفاجئ وارتجفت يده، وشاع فيه مرح عجيب، فسأله القس!
- وبعد يا أنطونيو؟! ألا تبحر بنا يا بني؟
- سنبحر. . . سنبحر أيها الأب. . .
وكانت الفتاة تتواثب فوق النؤى خفيفة رشيقة، فلما اقتربت هبّ الملاحون الخبثاء يغمزون ويلمزون، وإن فرض عليهم وجود القس احتشاماً كان يغيظهم ويحنقهم. . . ثم ركبت في فلك أنطونيو، ووقفت قريباً من القس الذي حياها قائلاً:
- لوريّللا!! عِمي صباحاً يا صغيرتي! أتصحبيننا إلى كابري؟
- أجل يا أبانا
- أحسب أن ليس معك نقود من أنطونيو؟! أَوْه! إن أنطونيو شاب طيب. . . وهو بلا ريب لا ينظر من أمثالك أجراً. . . بل بالعكس، لقد فرش لك قميصه، ولم يفعل ذلك من أجلي. . . ولكن أين عشرة قسيسين مثلي، في فتاة ريانة مثلك، في نظر هؤلاء الشباب!! وماذا تحملين إلى كابري يا لوريللا؟) وقبل أن تجيبه الفتاة مدت يدها إلى قميص أنطونيو فنحّته، ثم جلست وقالت تجيب الأب:
- ثوب، وحرير، ورغيف أيها الأب. . . الثوب لامرأة تصنع الأشرطة في أنا كابري! والحرير لامرأة أخرى. . . والرغيف لي. . . أتبلغ به. . .
- والحرير من غزلك أنت؟
- أجل أيها السيد
- أذكر أنك كنت تصنعين الأشرطة بيديك؟ أليس كذلك؟
- بلى أيها الأب، ولكن أمي قد تقدمت بها السن، ثم هي مريضة، بل شبه مقعدة، ونحن فقراء. . . فمن لنا بنول نشتريه وليس معنا من ثمنه شيء؟
- أمك؟! وا أسفاه! لقد أذكر أنني رأيتها في عيد الفصح الماضي!
- أجل. . . ولكنها مريضة اليوم. . . وهي تقاسي من زوابع الربيع ما لا تقاسيه في فصل غيره. . . أضف إلى ذلك زلازل الفيزوف ورجفاته. . .
- صلي من أجلها يا فتاتي، واضرعي إلى العذراء أن تكلأها. . . ولكن. . . خبريني يا لوريللا. . . لقد سمعت الملاحين الخبثاء يلمزونك وأنت مقبلة، فيقولون لك (هلمي أيتها العربية. . .) وهو نداء لا يليق بمسيحيه تقية مثلك، فما سبب هذا؟
- إنهم طالما يدعونني كذلك، مستهزئين بي، لأنني لا أشركهم في رقصهم وغنائهم وسائر عربداتهم. . . وهذا بالرغم من مسالمتي لهم دائماً. . .
وأغضت الفتاة، وجعلت تبحث في خضرة المياه بعينيها المحزونتين، كأنما راعها ما عرف القس من أمرها وأمر هؤلاء الملاحين. . .
وساد الصمت، وكان أنطونيو قد دفع الفلك في البحر فاحتواها الماء، وصارت سورّنتو تبتعد وتبتعد، وتسطع منازلها البيضاء في خضرة حدائق البرتقال، وفوهة الفيزوف تقذف بمثل ما في صدور لوريللا من حميم. . . ثم سألها القس:
- ألم تعودي تعلمين من أمر المصور شيئاً يا لوريللا؟ لقد سمعت أنه ذهب إليك مرة ليعمل لك صورة، وأنك رفضت فِلمَه؟
- ولم يريد أن يصورني أنا من دون بنات سورنتو؟ إن منهن من هي أروع مني جمالاً وأكثر فتنة! فلم يصورني أنا؟ لقد ذكرت أمي أنه ربما تصباني بها، أو أتلف بها روحي، ومن يدري فربما أضمر بها قتلي؟ من يدري؟!
- يا صغيرتي لا تصدقي هذه الخزعبلات! ألا تؤمنين بالله؟ ألا تثقين أنك دائماً في حفظه؟ وأن شعرة واحدة منك لن يصيبها أذى إلا بإذنه؟ فماذا يصنع واحد من بني الموتى بصورة في يده إن أراد بك سوءاً؟. . . على أنني أعرف أنه كان مغرماً بك، مشغوفاً بجمالك. . . وأنه لذلك أراد الزواج منك، لكنك أبيت! ولست أدري لماذا. . . إن الناس كلهم يمدحونه ويطرون أخلاقه. . . ولقد كان في وسعه أن ينتشلكم مما تقاسون من ضيق وشظف، ويريحكم من عناء ما تنسجون من أجل الحياة. . .
- تاالله يا أبانا لقد كان فقرنا سبب إحجامنا. . . إذ كيف يطيق ما نحن فيه من عوز، وما تقاسي أمي من مرض؟ لقد كنا نصبر كلاًّ عليه. . . هذا. . . وأنا؟! كيف أعيش في كنفه ذليلة بفقري وبيئتي؟ هل أنا سينوره؟! ماذا يقول لرفاقه حين يغشون داره؟ إنه يهرب مني حينذاك. . . أو. . . يذوب حياء
- كيف تقولين هذا يا لوريللا؟! إن الرجل الذي يحب لا يبالي ما تقولين. . . على أنه كان يستطيع أن يهاجر إلى بلد بعيد فيعيش في جنة بفنه، ويسعد بك إلى الأبد. . . أوه!. . . لقد كان رسولا من السماء بعثته لإنقاذكم فطردتموه!
- لا علينا من ذلك أيها الأب! إنني من جهتي. . . لا أرغب في الزواج مطلقاً. . .
- تعنين أنك نذرت أن تكوني راهبة؟ -. . .؟. . .
- عنيدة ما أحسبك تزيدين أمك إلا مرضاً يا لوريللا؟ بأي حق ترفضين هذه اليد الكريمة التي بسطتها لك السماء لتخلصك ولتنقذ حياة والدتك؟
- آه! إن لدي سبباً. . . بيد أنني لا أبتغي أن أبوح به لأحد!
- حتى ولا لي؟! ولا لي أنا. . . موضع اعتراف العذارى جميعاً؟! أنا يا لوريللا الذي طالما كنت صديقك ومفزّع الأحزان عن فؤادك؟
-. . .؟. . .
- لا، لا يا صغيرتي! إنك لا تعرفين من هذه الحياة إلا قليلاً، فأزيحي عن فؤادك ما ينوء به. . . ثم إني أعدك أن أكون أول مؤيد لك إن كنت على حق. . .
وقبل أن تجيبه لوريللا، أرسلت عينيها ناحية الملاح الشاب الذي كان موزع الفكر بين الحبيبة وبين الشراع وبين البحر. . . والذي كان يحجب عينيه بطرف من وفاء رأسه وهو مع ذاك مصغ لحديث القس
ثم تكلمت لوريللا فذكرت للحبر الجليل ما يفزعها من الزواج، لأنها تحتفظ بذكريات مشجية مما كان يحدث بين أبويها من نضال وشقاق. . . (حتى لقد كان لا يتورع أبي من مد يده إلى أمي بالضرب المبرح الذي كان سبب ما تقاسيه اليوم من الأمراض. . . أبداً لا أنسى هذه الوحشية أيها الأب، تلك الوحشية التي أسميها وحشية الزواج، والتي من أجلها أوثر أن أظل عانساً إلى الأبد. . . ثم أنا لا أعرف قيمة هذه العلاقة التي تنشئونها بين رجل وامرأة، فيظل الرجل قويَّا وتظل المرأة ضعيفة، يقبلها إذا أراد، ويتجهم لها إن شاء، ويلعب بها كما تلعب الرياح بالريشة التي لا حول لها. . . أوه! أقسم لك أيها الأب، لو أنني كنت في مقام والدتي لعرفت كيف أذود وحشية زوجي وأدفع أذاه!! تالله لأسقينه ضعف ما كان يحاول أن يسقيني! مسكينة يا أمي! لقد كنت ضعيفة فلم تحاولي أن تدافعي عن نفسك، وسميت ضرب أبي إياك محبة، والسكوت عن هذا الضرب طاعة. . .)
ويحاول القس أن يخفف من نقمتها على حياة الزوجية، ولكن محاولاته تذهب مع الريح؛ ويذكر لها أن الأزواج ليسوا سواسية، وأنهم ليسوا جميعاً قساة القلوب غلاظ الأكباد كما تظن، وأن الشاب المصور الذي أحبها كان له قلب رءوف رحيم بحكم فنه وميوله الروحية العالية. . . ولكن لوريللا تدفع عظاته في ثورة جامحة ونقمة على الرجال لا تعرف التسليم
ويسمع أنطونيو هذا كله. . . فيقف من الفتاة على مثل فوهة فيزوف!
ومتع النهار، وألقت الفلك مراسيها عند كابري، ونزل أنطونيو في الماء ليحمل القس إلى الشاطئ، ثم عاد ليحمل لوريللا. . .
- لا. . . لن يحملني رجل ما حييت!
ثم حسرت عن ساقيها. . . الساقين الجميلتين المرمريتين. . . ونزلت إلى الماء السعيد! حاملة حزمتها. . . وتبعها أنطونيو. . . وفوق كتفه سلة من البرتقال سيبيعها في سوق كابري
ورجاها القس أن تذكره عند أمها، وأن تذكر لها أنه ربما زارها غداة غد. . . ثم أخذ طريقه إلى كابري. . . وأخذت طريقها إلى أنا كابري. . .
وكانت في نفسها أشياء. . . وكانت في نفس أنطونيو أشياء. . . فلما بعد القس التفتت فجأة لترى إلى أنطونيو في الفلك. . فما كان أشد حياءها حين رأته خلفها، وعيناه مسمرتان في عينيها!
وباع أنطونيو برتقاله. . . وعاد في ساعة إلى الفلك. . . وجلس فيه على أحر من الجمر ينتظر عودة لوريللا!
وما هي إلا ساعة أو نحوها حتى أقبلت الفتاة تتهادى كالقطاة وقد نهد ثدياها واهتزا، ولعبت فوقهما شياطين البحر الأبيض. . فلما رآها أنطونيو وثب في الفلك، ونشر الشراع، ورفع المرساة واستعد للإقلاع بصاحبته من فوره
وجلست لوريللا في طرف المركب، وولت ظهرها للملاح الشاب، بحيث لم يكن يستطيع أن يرى إلا صورة جانبية (بروفيل) من وجهها الجميل، مطبوعة في السماء الصافية مرة، وفي الماء الساكن مرة أخرى
لقد كان نصف فمها الجميل الخمري الأحمر، وخدها الأسيل الوردي، ووجنتها الناصعة ذات الزغب، وعنقها الطويل الشفشاف، لقد كان ذلك يثير في قلب أنطونيو صنوفاً من العذاب الخائف، والألم المذعور. . . لا عهد له بمثلها أبداً. . .
ولم يقلع أنطونيو. . . وأخرجت الفتاة رغيفها وأخذت تتغدى. . .
وأخرج الملاح برتقالات فقدمها لها وقال: (لا تحسبي أنني ادخرتها لك. . . بل. . . لقد سقطت من غير قصد من السلة قبل أن ننزل إلى البر، فان شئت فكليها. . .
- بل كلها أنت. . . فالخبز القفار يكفيني!
- إنهن خير ما يؤكل في هذا الحر القائظ، لا سيما وقد مشيت كثيراً!
- لقد شربت في الطريق، وهذا حسبي!
- إذن. . . خذيها لوالدتك!
- عندنا برتقال كثير، وسنشتري غيره إن نفد!
- وماذا لو أخذت هذه البرتقالات، وقدمتها إليها مع تسليماتي؟!
- وكيف، وهي لا تعرفك؟
- خبريها عني!
- أخبرها عنك وأنا لا أعرفك؟
لقد كذبت لوريللا في هذه الدعوى. . . فلقد كانت تعرف أنطونيو، وكان أول هذه المعرفة في يوم كان يبثها حبيبها المصور هواه عند شاطئ البحر
ياله من يوم هائل ذلك اليوم! لقد لمح نفر من الملاحين الحبيبين الصغيرين يتناجيان فتغامزوا بهما، ثم أنشئوا يحذفونهما بحصوات. . . لكن أنطونيو الشجاع، لم يرضه ذلك المسلك المعيب الشائن من رفاقه، فانبرى لهم، ودفع عن الحبيبين أذاهم. . . فكيف مع ذاك لا تعرفه لوريللا!؟
ثم جلسا صامتين. . .
وبدا للملاح العاشق أن يبحر من فوره قبل أن يصل أحد فيتلف عليه تدبيره الذي خطر له في مثل البرق
وتعمد أنطونيو أن يدخل بالفلك في صميم البحر. . . ليكون بعيداً من الشاطئ ما استطاع. . . فلما حصل ثمة. . . أنزل الشراع فجأة، وترك الفلك تتقاذفها الأمواج. . . ثم توجه نحوها وهتف بها يقول:
- أنت لا تعرفيني؟ إذن يجب أن أضع حدَّا لعبثك بي! وينبغي أن أطلقك على ما أترع به قلبي بسببك. . . إنني لا أطيق أن أصبر على طول صدك يا لوريللا. . .! - ماذا تعني؟ أي صد وأي عبث؟ أتعني أنك تحبني؟ إذن فاعلم أنني لن أحبك، ولن اقبل أن أتخذك بعلاً؛ لا أنت ولا أحد غيرك، أسمعت؟
- كلام ترسلينه في الهواء! غرور وخيلاء! أليس لك قلب؟ لم جئت إلى هذه الدنيا إذن؟ إنك أنثى، أليس كذلك؟ فلم خلقت أنثى؟ إنك لا بد متزوجة يوماً ما. . . ولو برغمك!
- من يدري؟ هل اطلعت الغيب؟ ثم ما أنت وهذا؟
- ما أنا وهذا؟ ألم تدركي بعد؟ إني أخشى أن تكوني من نصيب غيري! إن هذا يخرج بي عن صوابي! إنه يصيبني بالجنون
- وإذا أصبت بالجنون، فما أنا وذاك؟ هل وعدتك بشيء فأنت تجن إذا أخلفتك موعدي؟ أي حق لك عليّ؟!
- أي حق؟ حق عظيم يا لوريللا. . . حق ليس صكا على ورق، بل هو هنا. . . في صفحة قلبي. . . حق يجعلك لي من دون العالمين. . . لن أطيق أن أراك ذاهبة إلى قداس مع سواي؟! الموت دون ذاك. . .!
- أنت حر تقول ما تريد. . . ولن تخيفني تهديداتك. . . ثم أنا حرة كذلك. . .
- وينبغي ألا تتمادى في هذا الغي. . . إني لن أسمح لفتاة شموس عنيدة مثلك أن تعذبني هذا العذاب الطويل. . . هذا غير محتمل. . . أنت هنا في قبضتي. . . ويجب أن تنفذي مشيئتي!!
- إذا استطعت أن تفعل شيئاً فدونك!. . . أتريد أن تقتلني. . . إن. . . خالفتك؟
- أنا لا أحب أن أصنع شيئاً فآتي على نصفه، واترك النصف الآخر. . . إن هذا البحر الزاخر اللجي يسعنا جميعاً، ولن يضيق بي وبك. . . يجب أن نقر في أعماقه معاً. . . أنا. . . وأنت
ثم انقبض عليها وأمسك بذراعها، وحاول أن يحملها ليهبط معها إلى البحر. . . بيد أنه صرخ فجأة. . . لأن لوريللا كانت في هذه اللحظة كاللبؤة المغضبة. . . فقد فتحت فمها الجميل الفاتن ثم أهوت على يمين أنطونيو، فقضمت أنامله، وانبجس الدم الحار الثائر متفجراً كأنه يتدفق من ينبوع. . .
- ها. . . أرأيت؟ ها قد امتثلت لأوامرك كما ادعيت. . . والآن. . . ربما ما تزال تحسب أنني في قبضتك. . . أنظر!!
ثم قفزت في البحر الهائج الجياش. . . وغاصت في الماء. . .
وصرخ أنطونيو. . . وأرسل عينيه المفزوعتين تبحثان في اللج، وتضربان في ثنايا الموج. . . لكنه لم ير شيئاً. . . ولما التفت إلى الخلف، وجد الفتاة تسبح نحو الشاطئ، وهي تكافح العباب المتلاطم، وتركب بجسمها الأهيف الجميل فوق أعراف الموج المضطرب
- لوريللا. . . لوريللا. . . قفي. . . عودي إلى الفلك. . . إن المسافة طويلة. . . نحن من الشاطئ على ثلاثة فراسخ يا أختاه. . .
لكن الفتاة أصمت أذنيها. . . وانطلقت تسبح. . .
وفي سرعة البرق، نشر أنطونيو شراعه، ولوى عنان الزورق الكبير، وذهب في إثرها. . . وجعل يرجوها ويتوسل إليها. . . لكنها مضت في سبيلها في البحر سَرَبا. . .
- لوريللا. . . وماذا تصنعين إذا بلغت الشاطئ؟ إننا على مسيرة ساعات من سرونتو. . . عشرون ميلا يا أختاه!!
ولم تعره لوريللا التفاتاً. . . بل ذهبت تذرع البحر في غير مبالاة. . . فلما كانت على سَبحة أو سبحتين من الشاطئ، لوت رأسها نحو الفلك، وقالت لأنطونيو مستهزئة: (أما وقد وصلت فسأركب. . . وحسبي أن أريتك أنني لست في قبضتك!!) وتعلقت في حبال السفينة، ووثبت كالغزالة، وراحت تعصر الماء من ملابسها، فانهمر من تضاعيفها غزيراً ثجاجاً
ونظرت إلى يديه، فوجدت الدم ما يزال يتدفق من يده، فنزعت منديل رأسها، وألقته إليه قائلة: (خذ. . . أربط بهذا جرحك) لكن أنطونيو لم يفعل، بل ظل يرنو إليها بعينين جائعتين ظامئتين معجبتين. . . فتقدمت هي، وربطت يده، ثم جلست بجانبه، وتناولت أحد المجذافين، وراحت تعمل به في الماء، لأن الريح كان قد تغير هبوباً. . . وحدجته لوريللا وقالت له: (وسترى أيضاً أنني أعرف منك بصناعتك. . . هلم فاعمل كما أعمل إن استطعت. . .
وكانت أم الملاح الشاب تنتظره عند المرفأ، فلما رأت ما به سألته ماذا أصابه. . لكنه تضاحك، وقال إن مسماراً خدشه. .
ونزلت لوريللا. . . وهتفت بالملاح أنها ستعوده، وستأتيه بحشائش وأعشاب لها نفع عظيم في مثل جرحه
ولم ينم أنطونيو برغم ضعفه الشديد وإعيائه المضني، ولم يخف ألمه برغم الماء الساخن الذي أعدته له أمه، والذي نضحه على الجرح مراراً. . بل ظل الدم يتدفق. . وظل الفتى يتقلب. . وظل مع ذاك يفكر في لوريللا
وكان ينظر إلى منديلها كأنه قُنية غالية، أو نفحة من السماء أو تذكار عزيز لهذه المعركة التي انهزم فيها في عرض البحر. . . وفي. . . معمعان الحب!
وفي الوقت الذي قطع أنطونيو فيه كل أمل من لقاء لوريللا. . . وفي هدأة الغسق الساكن. . . دخلت لوريللا الجميلة الهيفاء. . . لوريللا. . . الحلم الجميل الساحر. . . تحمل الأعشاب التي وعدت أن تأتي بها لمعالجة الجرح، فقال لها أنطونيو:
- آه. . . منديلك، لقد أتيت تفتقدين منديلك
لكنها لم تجب. . . بل بحثت عن وعاء، وتناولت يد أنطونيو ففكت الرباط عن الجرح، وكان قد تورم قليلا، فغسلته بماء عصرت فيه من أعشابها، ثم وضعت من الأعشاب عليه ما لا يؤذيه، وربطت اليد المحمومة الساخنة برباط نظيف تبلى أحضرته معها. . . فما هي إلا لحظة حتى زال ألم أنطونيو. . . فافتر باسماً وهو يقول:
- أشكرك يا لوريللا. . . وإذا كان لي أن أطلب شيئاً، فهو أن تغفري لي!
- بل أنا الذي أطلب الصفح يا أنطونيو. . . ففي الحق. . . لقد غاليت معك في هذه الوسائل العنيفة. . . والآن. . . ما بال هذه العضّة؟!
- لقد صنعت ما صنعت دفاعاً عن نفسك. . . وأنا ما أزال أشكرك!
- وشيء آخر يا أنطونيو! ألا تدري أنك قد فقدت (جاكتتك) في البحر وفيها نقودك. . . أجور المسافرين. . . وثمن. . . البرتقال!
- هذا لا يهم يا لوريللا!
- بل. . . لقد كنت أوثر أن أعوضك عنها لو استطعت. . . على أنني لا أملك إلا هذا الصليب الفضي. . . خذه. . . لقد تركه لي المصور يوم أن جاء يخطبني - وما أنا وهدية من خطيبك؟ إنني لن أمسه أبداً
- لا تحسب أنني أقدمه هدية بدوري. . . لا. . . بل خذه فإنه ينفعك!
- بل خذيه وانصرفي مشكورة
وأخذت المنديل والصليب، ثم وضعتهما في السلة الصغيرة التي حملت فيها الأعشاب. . . وحينما أن تنهض من جانب أنطونيو. . . نظرت إليه. . . وإذا عبرات حرار تتحدر فوق خديها فجأة. . . وينظر إليها الملاح النائم. . . فينهض كالظليم. . . ويأخذها في ذراعيه. . . ويطبع على فمها الصغير المرتجف قبلة. . . ليس مثلها قط قبلة. . . ثم ينحط في فراشه فيبكي. . . ويستخرط في البكاء. . .
- لوريللا. . . أليس الأفضل أن نتزوج؟!
- وهل في الدنيا أفضل من ذلك يا أنطونيو. . .؟
دريني خشبة