انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 230/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 230/الكُتبُ

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 11 - 1937



سيرة السيد عمر مكرم

صفحة مجيدة من جهاد الشعب المصري في الدفاع عن أرضه

وحرياته وحقوقه

للدكتور رياض شمس

في حلكة ذلك الجزء المظلم من تاريخ مصر الذي يبدأ قبيل الحملة الفرنسية، وينتهي في أوائل حكم محمد علي باشا، تألق نجم رجل امتاز بخلقه المتين، ووطنيته الصادقة، واستحق التفاف الشعب حوله؛ فكان لا يأتمر إلا بإشارته، ولا يخضع لغير رأيه، ولا يفزع في الملمات إلا إلى شخصه العظيم. وقد استطاع هذا الرجل أن يحرز لمواطنيه بقدوته السامية، وبفضل إيمانه بقوة الشعب، انتصارات باهرة على أعداء البلاد من فرنسيين وأتراك ومماليك، وكانت نتيجة انتصارات الشعب على يديه تغيير اتجاه تاريخ مصر الحديث

وهأنذا أحاول أن ألقي نظرة خاطفة على بعض مواقف ذلك الزعيم الشعبي، لأن سيرته في الواقع هي سجل ممتاز لفترة هامة من تاريخ مصر السياسي الحديث، ولأني أجد هذه الفترة وثيقة الاتصال بتاريخنا الحاضر، وأجد فيها من العظات السياسية والاجتماعية ما ينبغي أن يظل ماثلا أمام عيني الشعب المصري، مستقراً في صميم قلوب الشباب في فاتحة عهدنا الجديد

وقد كنت أجهل قدر هذا الرجل لأني مع الأسف الشديد كغيري من غير المتخصصين، تكاد تنحصر معلوماتنا عن تاريخ العصور المصرية الماضية، ولاسيما العصر الذي عاش فيه ذلك الزعيم فيما درسناه موجزاً في المدارس الثانوية، ونسيناه عاجلاً بعد تخرجنا فيها

ولكن مؤرخاً معاصراً تربطه بذلك الزعيم صفات مشتركة من متانة الخلق، وصدق الوطنية، والإيمان الراسخ بقوة الشعب، استطاع بعد سنين طويلة من البحث والتحقيق أن يستخلص لنا من ظلمات الماضي القريب ضياء وضاحاً حجبه عن أبصارنا كر الغداة ومر العشي مدي قرن من الزمان اقتحم الغزاة الفرنسيون بلادنا فرأى مواطننا العظيم أن أمراء المماليك لا يعنون بغير إخفاء أموالهم ثم الذهاب إلى الحرب ليبادروا بالهروب لدى الصدمة الأولى، فأهاب بالشعب أن يشمر للذود عن حياضه. وهنا أترك الكلمة للمؤرخ الجليل الأستاذ محمد فريد أبو حديد مؤلف (سيرة عمر مكرم). قال في الصفحة الحادية والخمسين:

(وكان جواب الشعب باهراً نبيلاً، إذ لبى جميعه نداء الواجب فخرج كل من في القاهرة وضواحيها من الرجال والشبان حتى لم يبق أحد إلا الضعفاء والنساء، وجاد كل منهم بما عنده من مال قليل دراهم اقتطعها الفقراء من أقواتهم وأقوات عيالهم وجادوا بها ليشتروا سلاحاً وخياماً وذخيرة. . .)

فلما هزمت المماليك في موقعة امبابة، وقرر شيوخ القاهرة أن يعلنوا التسليم للقائد الفرنسي، أنف السيد عمر مكرم أن يعود إلى القاهرة إلا إذا كانت عودته على جهاد، رغم أنه يعلم أن اسمه في طليعة الأسماء التي اختار القائد أصحابها ليحكموا البلاد بجانب الفرنسيين. وأنت تقرأ تعليق المؤلف على هذا الموقف الكريم على الصفحة 56 وما بعدها:

(ولو كان نظره إلى نفسه ومصلحتها لآثر العودة كما عاد السادات والشرقاوي، على أن يكون أحد زعماء العهد الجديد، فلا يتحمل التشريد والنفي والحرمان والفقر ومعاناة الأهوال والشدائد؛ ولكنه لم يكن ينظر إلى نفسه وما تتجشمه من الأخطار وما تتكبده من المشقة، بل كان ينظر إلى بلاد شهد أول تحركها نحو التحرر، وذكر حقها في الحياة الحرة المستقلة فلم يجد له وسيلة إلا أن يضحي بنفسه راضياً في سبيل الجهاد، مهما يكلفه ذلك من عناء. . .

(مع أن مراداً وإبراهيم ومن معهما من الأمراء لو استطاعوا أن يعودوا إلى الحكم بالاتفاق مع الفرنسيين لما ترددوا في ذلك لحظة، فلم تكن بأحدهم رغبة في الجهاد لنجاة البلاد من حكم الأجنبي، أو للمحافظة على حياتها وحريتها، بل كان كل ما يرمون إليه أن يسترجعوا السيادة، ويعودوا إلى سيرة طغيانهم وعسفهم؛ ولو وجدوا من الفرنسيين ميلاً إلى الاتفاق على أن يعودوا إلى الحكم تحت علمهم وحمايتهم لما ترددوا في ذلك. .)

ولاشك أن تأنق المؤلف في عرض موقف المماليك وبراعته في المقارنة بين الوطنية الحقيقية والمنفعة الشخصية، قد أعاد إلى ذاكرة القارئ عشرات المواقف في تاريخنا السياسي الحديث، منذ سنة 1919 إلى الآن، حيث كان قادة الأمة الأمناء يضربون عن الاشتراك في الحكم بكل صور الإضراب، ويتحملون ألوان المصادرة والنفي والسجن والتشريد، بينما يتهالك غيرهم على التقاط الفتات المتساقط من مائدة الغاصب على حساب الوطن وحرية البلاد

ثم اسمع المؤلف يروي لك في الصفحة 72 قصة ثورة مارس سنة 1800 قال:

(سارع (السيد عمر مكرم) إلى الخروج من عزلته إذ رأى الواجب يناديه إلى العمل. . واجتمع في قلوب الشعب عامة عوامل تدفعه وتذكي حماسته من غضب الكريم لكرامته، وخوف الشريف على شرفه، واشتعلت العاطفة الوطنية في الصدور، تثيرها ذكريات المجد التالد من ماضي القرون، فلم يكن إلا أن صاح السيد عمر صيحته. . . حتى هبت الثورة المصرية الكبرى التي دامت تضطرب في القاهرة سبعة وثلاثين يوماً، ودخلت في أثنائها قلوب المصريين عامة في بوتقة الانصهار ليكون منها شعب جديد يتقارب فيه الأمير من العامي، ويمتزج فيه الكبير بالصغير، وتنبغ من غمرات ذلك أمة حديثة، يحس فيها الفرد بأنه للمجموع، ويحس فيها المجموع بأنه من الأفراد)

. . . ص81 (كان السيد عمر قد عاد إلى مصر مضطراً، ثم حاول أن يقاوم الأجنبي عندما لاحت له الفرصة فلم تواته الظروف وعجز، ولكنه كان لا يزال يأمل أن يبقى على جهاده حتى تحين فرصة أخرى، فلم يرض أن يقيم على أرض مصر مادامت أقدام الأجنبي تطؤها، فآثر العودة إلى الهجرة والبعد عن وطنه، وأن يتكبد المشقة والفقر ولوعة الفرقة من أحبائه وأشياعه على أن يقيم في بلاده لا يستطيع أن يتنفس فيها حراً)

ص87 (. . . وأصبح السيد عمر بعد رجوعه من الجيش المنتصر رجل مصر وزعيمها. اجتمعت فيه الزعامة والجهاد والتضحية، وقد علاه عند ذلك تاج الانتصار والانخراط في سلك رجال الدولة الجديدة. ودخل القاهرة فكان دخوله يوماً من الأيام المشهودة، إذ خرج الناس للقائه والترحيب به)

أنشأت أطالع الصفحة الأولى من (سيرة السيد عمر مكرم) فلم أكد أبدأ الكتاب حتى وجدتني عاجزاً عن تركه لحظة؛ ومازلت به حتى وصلت إلى الصفحة 219

ولما فرغت من دراسته ضممته إلى أحب مراجعي إلي، وألفيتني على ظمأ إلى نهلة أخرى من مورد تاريخنا الحديث. ذلك المورد العذب الذي طالما حالت ظروف مصر السياسية دون تصويره للطلبة المصريين تصويراً صحيحاً يغذي الروح القومية ويذكي في الشباب المتعلم نعرة الاعتزاز بالماضي المشرف، ويبعث في نفسه حمية التطلع إلى أن يكون لبنة قوية في بناء صرح بلاده، ويزيده حرصاً على الاضطلاع بمسئولياته كمواطن شريف في بلد لم يقصر مواطنوه في الماضي قريبه والبعيد عن أداء واجبهم الوطني بكل ما لديهم من وسائل

إن الأسلوب الذي ابتدعه الأستاذ الكبير فريد أبو حديد في كتابة (سيرة عمر مكرم) ليعد بحق فتحاً جديداً، بل فتحاً مجيداً، في تاريخ المؤلفات التاريخية المصرية

فقد استطاع هذا الكاتب الموهوب أن يلقي ضياء وضاء على تاريخ القومية المصرية، وأن يستخرج من الحقائق التاريخية المدعمة بالأسانيد، ذخيرة صالحة وغذاء شهياً للشباب المصري الذي كان إلى عهد قريب لا يجسر على تقليب صفحات الماضي خشية ألا يجد فيها ما يشرف

وقد كان لنا بعض العذر، فقد عودنا المؤلفون الأجانب والمترجمون المصريون أن نقرأ صفحات الماضي في ظلال التحامل على القومية المصرية، والانتقاص من قدر أمتنا النبيلة المجاهدة

وإن كان ما نتمناه أن يتاح لطلبة مدارس مصر الثانوية أن يطالعوا سيرة عمر مكرم، وأن يحرص كل مصري يحترم نفسه ويعتبر بماضيه على دراسة هذا السفر النفيس

أما المؤلف فأنا لا نستطيع أن نشكره لأنه قد دعانا إلى مائدته فقدم لنا لوناً من طعام فاخر لا عهد لنا به، فلما استوعبناه تفتحت شهيتنا إلى المزيد. وهانحن أولاء نغشى موائد الثقافة فلا نجد هذا الطراز من المؤلفات التاريخية التي نحن أشد ما نكون حاجة إلى تذوقها بعد ما تذوقنا من لذة سيرة السيد عمر مكرم

لذلك نطالب مؤرخنا النابغة أن يخرج لنا سلسلة من الكتب تكشف عن أمجاد ماضينا القريب تكون حافلة بالعظات البالغة، العظات السياسية والخلقية والاجتماعية على نحو ما ألفناه في كتاب عمر مكرم

فإذا اضطلع بهذا الواجب، وهو على مثله من النابغين فرض حتم، كان لنا أن نسميه بحق: (منصف تاريخ القومية المصرية في الأزمنة الحديثة) رياض شمس

تصويب

ورد في فاتحة مقال (قصة الموسوعة الجامعة) الذي نشر في عدد الرسالة الماضي (ص1885) ما يأتي: (سجل العلم الحديث فتحاً جديداً خطير الشأن بصدور الموسوعة الإيطالية التي بدأ صدورها منذ أعوام ثلاثة فقط) والصواب (منذ أعوام قلائل فقط)