مجلة الرسالة/العدد 155/القصص
مجلة الرسالة/العدد 155/القصَص
قصة المفاتيح
للقصصي الروسي مكسيم جوركى
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وكان زيومكا أثناء ذلك، وهو الملحد الحقيقي، يتثاءب عالياً، فنظر إليه صديقه نظرة احتقار ثم اطرق برأسه؛ وحدقت العجوز بنظرها في زيومكا دون أن تمسك عن القراءة، فخجل من ذلك ومسح أنفه وأدار عينيه ليرى نتيجة تثاؤبه فلم تكن إلا تأوهاً خاشعاً.
ومضت دقائق هادئة إذ كان لصوت القارئة المرتل أثر في الطمأنينة:
(إن غضب الرب ينزل من السماء على كل غير رباني. . و. .) وصرخت القارئة فجأة في وجه زيومكا: (أتريد. . .؟)
فأجاب في استكانة: (أنا. . . أنا. . . لاشيء! تابعي القراءة؛ إنني أستمع)
فسألته العجوز غضبى: (لماذا تلمس القفل بيديك القذرتين؟)
- (إنه ليهمني. . . إن صنعه جميل جداً. . . إنني أفهمه، كنت قبلاً صانع مفاتيح، وأردت أن أجسه. . .)
وقالت العجوز: (انتبهوا، ماذا قرأت لكم؟)
وقال زيومكا: (إنني أستطيع أن أعيده. . . إنني أفهم)
وقالت العجوز: والآن؟
- (لقد كنت ترتلين تعاليم الدين، وتذكرين عدم الإيمان بالرب. المسألة في غاية البساطة، فكل شيء من ذلك حقيقي. لقد كان ذلك يحز في قلبي.)
ونظرت العجوز إلينا وهزت رأسها وقالت:
(إنكم مفقودون. . . كالحجارة. . . ارجعوا ثانية إلى عملكم)
وقال ميشكا وعلى فمه ابتسامة المعترف بذنبه: (يظهر إنها غضبى)
وحك زيومكا رأسه وتثاءب والتفت إلى العجوز دون أن يراها وسار في طريقه وأطرق مفكراً: (إن قفل الكتاب من الفضة) وسرت في وجهه قشعريرة وقضينا الليل في الحديقة إلى جانب أنقاض الحمام الذي هدمناه عن آخره في ذلك اليوم. وفي ظهر اليوم التالي أتممنا تنظيف النافورة، وقد ازدادت قذارتنا وتبللنا بالماء، وانتظرنا أمام باب المنزل في انتظار أجرنا، وكنا نتحدث عن غذاء وعشاء دسمين نتناولهما قريباً؛ ولم يكن لواحد منا أي رغبة في الحديث عن شيء غير ذلك.
وفرغ صبر زيومكا وقال بصوت أجش: والآن أين استقرت يا ترى هذه الغول الشمطاء؟ لقد هلكت!
وقال ميشكا وقد هز رأسه معاتباً صديقه:
(لقد بدأ يسب من جديد. ولماذا يسب يا ترى؟ هذه العجوز امرأة طيبة تخاف الله، وهو يسبها - هذا هو خلق الرجال!)
وابتسم زيومكا وقال له إنه شديد الحساسية نحو ذلك الطائر الشارد، تلك العجوز. . . هذه. . .
وقضى ظهور العجوز على هذا الحديث الطريف. وتقدمت إلينا وأخرجت النقود وقالت في احتقار: (هاهي ذي نقودكم فخذوها وارحلوا من هنا. كنت أريد أن أعطيكم أخشاب الحمام فتقطعوها قطعا صغيرة، ولكنكم لستم أهلا لذلك)
وأخذنا نقودنا صامتين وذهبنا ولم نحظ بشرف تقطيع أخشاب الحمام إلى قطع صغيرة للوقود
وقال زيومكا وقد خرجنا من باب الحديقة: أيها البشع العتيق أنظر إلى هذه! ألا أستحقها يا قبيح الوجه؟ الآن يمكنك أن تسبح باسم ذلك الكتاب.
وأدخل يمينه في جيبه وأخرجها بقطعتين من المعدن اللامع وأرانا إياهما كمن كتب له النصر
وجمد ميشكا في موقفه، واشرأب عنقه ليرى ما في يدي زيومكا. وسأله حائراً: (هل خلعت القفل؟)
- (هذا ما فعلته! إنه من الفضة الجيدة. ويمكن لأي إنسان أن يحتاج إليها. وهى تساوى على الأقل روبلا)
- (هيه، وما دمت قد فعلت ذلك فارمها بعيداً عني! يا للخجل!) - (سأفعل ذلك)
وتابعنا السير في صمت. وقال ميشكا مفكراً في الأمر. تمت بمهارة، انتزعها ببساطة. ثم قال: (نعم لقد كان كتابا جميلا وستحقد العجوز علينا)
وقال زيومكا هازئاً: (إنها لن تسترجعنا مرة أخرى لتقدم لنا ثناءها)
- (وبكم تبيعها؟)
- (بتسعة أعشار الروبل - هذا أقل ثمن، لا أقل من ذلك فلسا. إنني أخسر فيها. أنظر لقد انقصف لي ظفر)
وقال ميشكا في خجل: (بعني إياها)
- (أإياك أبيعها؟ أتريد أن تجعل منها أزراراً لقميصك؟ أنظر! إنها تكفي لعمل زوج جميل من الأزرار - وهى تليق بك على ثيابك الخلقة)
ثم أخذ ميشكا يستعطفه: (كلا إنني جاد غير هازل. بعني إياها
- (اشترها، كم تدفع؟)
- (خذ ما تشاء، ما هو القدر الذي أحصل عليه من شركتي في العمل؟)
- (روبل واحد وعشرون كوبكا)
- (وكم تريد أن تأخذ فيها؟)
- (يا مغفل! ماذا تريد أن تفعل بها؟)
- (بعن إياها. أرجو ذلك)
وانتهت عملية البيع في النهاية، وأصبح القفل ملكا لميشكا بعد أن دفع تسعين كوبكا
ووقف ميشكا في مكانه وقلب القطعتين في يده وحدق فيهما. ونصحه زيومكا هازئاً بأن قال: (علقهما في انفك؟)
وأجاب ميشكا جادا: (ولم ذلك؟ إنني لا أريدهما. سأرجعهما إلى العجوز وأقول لها: هاك يا سيدتي العزيزة المحترمة. لقد أخذناهما سهوا معنا، فأرجعيهما إلى ما كانا عليه
- ولكنك انتزعتهما فكيف إصلاحهما؟)
وسأله زيومكا وقد فتح فاه: (أتريد حقاً أن تحملهما إليها يا شيطان؟)
- (نعم ولم لا؟ أنظر إن مثل هذا الكتاب يجب أن يبقى كما هو. ولا يجوز للإنسان أن ينزع منه قطعة. وسوف تغضب العجوز وتحزن. . . وسوف تموت عما قريب. هذا ما أردت. فانتظر لحظة يا أخي فسأعود سريعاً)
وقبل أن نتمكن من إيقافه اختفي وانعطف بخطوات سريعة وقال زيومكا في غضب وهو يفكر في أثر هذه الواقعة ونتائجها المحتملة: (ما أضعف هذا الرجل وما أكثر تغفيله؟)
ثم أخذ يؤكد لي في كل جملة خطأه
ولكن الآن انتهى كل شئ. لقد أوقعنا في الشرك. ولعله الآن جالس متكئ أمام العجوز. وقد لا يغيب عنها أن تستنجد بالشرطة)
(هذا مثل مما يتوقعه الإنسان من مصاحبة هذا الوغد. إنه حقا يدخل الشخص إلى السجن من أجل شئ تافه. هذا الكلب! هل رأيت رجلاً له مثل هذه النفس الدنيئة، ينبغي أن يُلقي بأصدقائه إلى التهلكة، يا إلهي! أهذا هو جيل اليوم؟ هيا بنا، لم هذا الانتظار؟ أتريد أن تبقى هنا؟ انتظر إن شئت، ليخطفك عفريت من الجن أنت وكل الأوغاد من أمثالك. ذلك الوغد! ألا تريد أن تذهب معى؟ هيا)
ووكزني زيومكا في جانبي وسبني ومضى لسبيله
وكنت أريد أن أعرف ماذا جرى لميشكا عند صاحبة آخر عمل قمنا به. فذهب ثانية إلى ذلك المنزل، وكنت أعتقد أن لا خطر في ذلك، وأن السوء لا يمسني من جراء هذا. ولم يخب ظني، ووصلت المنزل وأخذت أنظر من خلال الحواجز وقد رأيت وسمعت ما يلي:
كانت العجوز جالسة على سلم المنزل ممسكة بقطعتي القفل الفضي بيدها وهى تنظر إلى ميشكا من خلال منظارها بدقة كما لو كانت تريد أن تتغلغل في صميمه. وكان لعينيها الحادتين بريق قوى. وقد ارتسمت على طرف فمها ابتسامة خفيفة رخوة تحاول إخفاءها: هي ابتسامة المغفرة.
وتبين من خلف العجوز ثلاثة رؤوس: امرأتان إحداهما شديدة حمرة الوجه وعلى رأسها منديل زاهي الألوان، والثانية عوراء، وقد وقفت خلف رجل عريض المنكبين وإمارات وجهه تدل على أنه يريد أن يقول:
(أسرع من هنا يا صديقي! أسرع بقدر ما يمكن)
وكان ميشكا يتحدث في ارتباك: (لقد كان كتاباً عظيما!! إنهما نذلان! أما أنا فقد كنت أذكر ربى. هذا هو الحق. وهذا ما يجب قوله. إننا تعساء ورجال سوء أنذال - ثم كنت أعود فأفكر في المرأة العجوز الطاعنة في السن. ولربما كان سرورها الوحيد في كتابها هذا - ذلك ما ظننته. وأردت أن أهيء للعجوز المتدينة سروراً وأن أرد إليها أشياءها: وقد اكتسبنا بحمد الله شيئاً نقتات به. فالوداع يا أخوتي. إنني أريد الذهاب الآن)
واستوقفته العجوز وقالت له: (انتظر! هل عرفت ما قرأته لك البارحة؟)
(أنا؟ أَنَّى لي ذلك؟ إنني استمعت إليك ولكن أي استماع؟ فهل لآذاننا قدرة على استماع كلام الرب؟ إننا لا نفهم مثل ذلك.)
وقالت العجوز: (أهكذا؟ ألا تنتظر لحظة أخرى؟) وتململ ميشكا وأخذ كالدب يضرب الأرض برجليه. فان مثل هذا الحديث لا طاقة له به.
- (هل لي أن أقرأ لك شيئاً قليلاً؟)
- (. . . . . ولكن صديقَّي ينتظران.)
- (دعهما ينتظران، إنك رجل طيب. دعهما يسيران حيث شاءا.) وقال ميشكا بصوت خافت: (حسناً.)
- (إنك لن تسير معهما بعد الآن؟ أليس كذلك؟)
- (لا.)
- (هذا هو الصواب. إنك طفل كبير على رغم مالك من لحية تنزل إلى وسطك! هل أنت متزوج)
- (بل أعزب. إن زوجتي توفيت.)
- (ولم تشرب الخمر؟ أنك تشرب طبعاً؟)
- (نعم.)
- (ولماذا؟)
قال ميشكا متضجراً: (ولماذا أشرب الخمر؟ لتغفيلي. إنني مغفل ولهذا أشرب. ولو كان للإنسان عقل لم جرؤ على تحطيم نفسه بيده.)
- (إنك على حق.) فاعمل على أن تكون عاقلاً. حسن من سيرتك وأصلح من أمورك.
اذهب إلى الكنيسة واستمع إلى كلام الرب ففيه كل الحكمة.)
وتأوه ميشكا وقال: (سأفعل)
- (هل لي أن أقرأ لك شيئاً؟)
- (نعم، تفضلي)
وأتت العجوز بالإنجيل، وقلبت صفحاته، وبدأ صوتها يدوي، ورمى ميشكا برأسه إلى الوراء، وحك بيده ذراعه اليسرى (وهل تظن أيها الإنسان أن في وسعك التهرب من حكم الرب؟)
وقاطعها ميشكا وكأنه يجهش بالبكاء: (سيدتي المحترمة، دعيني أذهب، أرجو ذلك محبة في الله، سآتي مرة أخرى عن طيب خاطر واستمع. أما الآن فأني جائع جدا. إننا لم نتبلغ منذ أمس.
ودقت العجوز صدرها، وقالت: (أذهب! ابتعد!) ورن صوتها المزعج في الفضاء، واندفع ميشكا مسرعا نحو الباب بعد أن قال لها:
(أشكرك شكرا جزيلاً أيضا)
وتمتمت العجوز تقول: أرواح مغلقة! قلوب غلف كالحجارة!
وبعد نصف ساعة جلسنا في المطعم، وشربنا الشاي وأكلنا الخبز الأبيض، وقال ميشكا وهو يبتسم إليّ بعينه التي تشبه عيون الأطفال سذاجة وفرحا: (كنت أشعر كأن حمى قد انسابت في جسمي، وقد وقفت هنالك وفكرت في القول: أي ربى لم جئت إلى هنا؟ إنه العذاب! وبدأت هي الحديث: هل هؤلاء آدميون! إننا نريد أن نكون شرفاء معهم ونهيئ لهم ما توحي به ضمائرنا، إلا أنهم يفكرون في غير ذلك: يفكرون في متاعهم. فقلت لها: يا سيدتي المحترمة، هذا هو قفلك أرده إليك ولا تغضبي. . . ولكنها قالت: انتظر، ابق هنا، أذكر لي أولاً لم أحضرته؟ وبدأت تخزني بكلماتها، ولقد سئمت كثرة أسئلتها. . . هذه هي الحقيقة)
وتابع الابتسام الهادئ المريح
واهتاج زيومكا وقال له جادا:
(أولى لك يا صديقي أن تموت! وإلا التهمك في الغد الذباب من فرط سخف أفكارك)
- (إنك تتحدث بغباء دائماً. تعال، نريد أن نشرب كأساً على المسألة الستار). وشربنا كأساً على نهاية هذه الحادثة العجيبة.
عن الألمانية ا. ا. ي