مجلة الرسالة/العدد 1003/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 1003/الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ أنور الجندي
الصيف
ليس فصل الصيف - عادة - فصل الأدب والفن، أقصد فن الإنتاج والإخراج، وقد يكون موعد الخلق والإبداع، وموسم تجمع الرؤى والصور، إذ أن هذا الفصل بالنسبة للأدباء والكتاب والمفكرين فصل استجمام وراحة واستجلاء للحياة في مناطق البحر والجبل، على سواحل مصر أو غيرها من البلاد
ولذلك كان موسم الأدب بطيئاً، بحيث يمكن القول أنه بكتب المدارس وتعد منها ما يكفي للعام الجديد الذي أصبح وشيك الظهور
وقلما تحمل الصحف في باب (محاضرات اليوم) هذه الأيام شيئاً ذا قيمة أو أهمية يكون من شأنه أن يوجه الأدب أو يؤرخه، فما زال بيننا وبين الموسم الجديد وقت غير قصير
وما تزال حركة الانقلاب الجديدة، بعيدة الأثر في الصحافة والأدب، فقد انطلقت أقلام الكتاب والشعراء والقصصيين، وتحررت، وأخذت تعبر عن مشاعر الأمة، بالوضع الجديد، وتصور فرصتها بإنهاء عهد مظلم طال أمده
غير أن هذا اللون الجديد من الأدب ما زال قاصراً على صورة واحدة مكررة، هي تهنئة الجيش، وتصوير طغيان الملك السابق
وحفلت الصحف، ومازالت، بقصص عن الحياة الآثمة التي كان يحياها فاروق، والتي تمثل في الصور الجنسية والتصرفات المجنونة، والأساليب الخادعة، التي كانت تتكون منها شخصيته
وهي (موجة) عاتية لابد أن تمر بها الصحافة بعد الانقلاب، ولكن الأدب مازال حتى الآن، لا يجد مكانه في النهضة الجديدة
فلا زلنا نرجو أن ينشأ جيل جديد من كتاب النهضة جيل فيه إيمان وحرارة وثقة، وفيه جرأة
جيل لم يتلوث بآثام العهد الماضي ولا شروره، تكون له القدرة على أن يحلل على أضواء علم النفس والتاريخ والتطوير (بزوغ) ذلك الفجر الجديد. إن فريقا من كتابنا الكبار ق وضع أساس هذا العهد الجديد، أولئك الذين صوروا آلام الأمة وأثاتها، والحجب المظلمة التي كانت تعيش فيها، أولئك الذين طالما ترقبوا مطلع النور الجديد، ورسموا صورة الزعيم المنتظر، فهؤلاء هم الذين أرضعوا النفوس لبان الثورة، وهم من حركتنا بمنزلة روسووفولتير في الثورة الفرنسية، ولكن مهمة جديدة الآن توشك أن تلزم شباب الكتاب، وهي (إبداع) اللون الجديد الذي يمثل العهد الجديد
عودة الغريب
كان الدكتور زكي أبو شادي صاحب مدرسة جديدة في الشعر، وكانت مجلة (أبو لو) من المجلات الفريدة، التي حملت لواء الدعوة إلى المذهب الابتداعي، وقامت بجهد ليس بالقليل، وأبرزت طائفة من الشعراء الشبان الذين لمعوا بعد ذلك في أكثر من مجال من مجالات الأدب والفن والصحافة والإذاعة
ثم بدا للدكتور أبو شادي أن يقيم في الإسكندرية فنقل مطابعه وصحفه إلى هناك، وأخذ يوالي عمله الأدبي هناك، غير أنه أحس أخيراً أن فترة من الحرج تمر به، وقيل أنه وقع في محنة (تقوى الإحسان)! وإن بعض خصومه الذين حمل عليهم بعنف، حمل على اتجاهاتهم الأدبية، استطاعوا في ظرف ما أن يضايقوه ويزعجوه، وأحس أنه لا سبيل مع ذلك إلى البقاء في مصر، وكانت طريقته في معاملة مريديه وأتباعه تقوم على أساس من الأخوة والوفاء والتضحية مما كان له أثره في حالته المالية
وأخيراً استقر رأى الدكتور أبو شادي إلى السفر إلى أمريكا؛ ولكنه فوجئ قبل أن يركب (الباخرة) بوفاة زوجته، فكانت نكبة أخرى ضاعفت متاعبه وآلامه
وقد نشرت (الرسالة) إذ ذاك هذه القصيدة العصماء التي ضمنها الدكتور ديوانه (نحو السماء) الذي طبعه في أمريكا ووزعه في العام الماضي
وسافر الدكتور أبو شادي إلى أمريكا واستقر في (نيويورك) وستقبل هناك استقبالا حافلا، وكان موضع تقدير البيئات الأدبية هناك
ومضت سنوات. . .
وأحس (أبو شادي) بالحنين إلى مصر، الحنين الجارف، وكانت لهب هذا الحنين تتبدى في قصائده وكتاباته، وبدأ يتصل بمصر مرة أخرى، وأحس أحباؤه وأصدقاؤه هنا بأنه يجب أن يعود
كتبت مجلة (الأهداف) التي تصدرها السيدة جميلة العلايلي، وكتب صاحب هذه السطور في (الزمان) في هذا المعنى، وقد وجهت خطاباً إلى الدكتور طه حسين وكان إذ ذاك وزير المعارف؛ وتحدثت معه في هذا الشأن في مقابلة خاصة. . .
ويبدو أن الدكتور زكي أبو شادي علم هذا، فأرسل إلى بعض خاصته يقول أنه لا يريد العودة إلى مصر، وإن مكانه في نيويورك لا يدانيه أي مكان يمكن أن يصل إليه في القاهرة
غير أننا كنا نعرف سلفاً، أن الدكتور أبو شادي ثائر على الأوضاع في مصر، وأنه ساخط على كل شيء
أما الآن - وقد أثيرت مسألة إعادته من جديد - فنعتقد أنه سيكون غاية في الرضا بالأوبة إلى وطنه بعد أن تحرر، وأخذ يستقبل فجراً جديداً
(في موعد الذكرى)
كان الأسبوع المنقضي، موعد ذكرى لعرابي ولدوفيح وفرويدج. . ومن قبله كان موعد ذكرى السباعي وفيلكس فارس
وقد مرت هذه المناسبات - في الشرق - وغيرها يمر كل يوم، دون أن يذكرها ذاكر، أو تكون موضع اهتمام الدوائر الأدبية وتقديرها
فنحن لا زلنا لا نحتفل إلا بطائفة قليلة من الأسماء التي لمعت في غفلة من الزمن، والتي فرضتها مناورات السياسة، أو مجاملات التملق!
كنا نحتفل بسعد وفؤاد وإسماعيل وهؤلاء وغيرهم، أناس رفعت أسماءهم الصدف، ولا يدخلون في عداد الأبطال حين يفصل تاريخهم على وجه صحيح!
أما الرجال الذين جاهدوا حقا، وحفروا أسماءهم في ضمير الحياة الوطنية أو الفكرية في الشرق، فقد كانوا إلى عهد قريب - قبل وثبة الجيش المباركة - مبعدين عن محيط الحياة، كان لا يستطيع إنسان أن يذكرهم أو يفصل تاريخهم
كان عمر مكرم وجمال الدين والجبرتي، وأحمد عرابي، وحسن البناء، من الأسماء البغيضة إلى الجهات التي تتحكم في كتابة التاريخ، وكانت أوامر في صورة نصائح توجه إلى بعض الصحف بأن لا تنشر عنهم شيئاً
وكان محمد فريد ومصطفى كامل، لا يلقيان ما يلقي سعد زغول أو غيره، من الحفاوة والتكريم والتقدير!
ولا يزال محمد فريد حتى الآن، لا يجد من مصر ما هو جدير به من تكريم بعد أن ضحى أغلى تضحية بذلها زعيم في سبيل بلاده!
وإننا لنرجو - وقد خلعنا ذلك الثوب القديم المهلهل، وجردنا الأدب والفكر والفن منه - أن نستقبل (موعد الذكرى) لأبطالنا والرجال الذين جاهدوا فينا على وجه كريم يليق بذكراهم وكفاحهم، وعلينا على الأقل أن نقيم تمثالاً لأمثال عرابي ومحمد فريد وجمال الدين وحسن البنا
والحق أنه ما من جريدة أو مجلة أوربية تفتحها عفوا، في أي موعد من مواعيد الذكرى، لبطل أو كاتب أو موسيقي أو فنان، إلا وتجدها حافلة بآثار هذا البطل أو الكاتب، على صورة مجددة، مشرقة
ذكرياته الصغيرة، أحاديثه العامة، فكآهاته، قصاصاته، خطاباته الغرامية، كل شيء حتى الأشياء الصغيرة التي لا يعيرها الناس التفاتاً
والأديب في هذا الميدان لا يقل عن الزعيم، كلاهما بطل، كلاهما جاهد وأدى واجبه، وبذل عصارة دمه وأعصابه وأفكاره في سبيل وطنه، في سبيل الحق والحرية والجمال
لماذا - كما يقول الأستاذ توفيق الحكيم - لا نضع لوحة تذكارية صغيرة على المنزل رقم 232 ونكتب عليها، هنا كان يسكن (ألما زني)
وكرر هذا على المنازل التي سكنها سيد درويش، وكامل الخلعي، والرافعي، وفخري أبو السعود، وغيرهم!
إن هذه اللوحة الصغيرة لن تكلفنا شيئاً، ولكنها ستكون بعيدة الأثر في إحياء ذكرى الكاتب أو الفنان بعد مائة عام!
إننا في عهد البعث، عهد الإحياء، هذا العهد الجديد الذي جب كل ما كان قبله، العهد الذي يقوم على السواعد الشابة الفتية والنفوس المؤمنة الصادقة، التي ظلت تجاهد وتعمل حتى طلع الفجر من وراء الليل الأسود الطويل، وفي هذا العهد يجب أن نصنع كل شيء في سبيل المجد، مجد مصر. . والأبطال الحقيقيون، الخالصون، الذين رفعوا صوتهم في الأيام السود، والذين جاهدوا في وقت كان الظلام يعم فيه كل شيء، وكانت كلمة الحق أقسى على الظالمين من أصوات المدفع، وكان كل حر معرض لأن يذهب إلى غير رجعة، هؤلاء الذين وقفوا وقفة الأسد في وجه الطغيان، يجب أن ننحني لهم اليوم!
أنور الجندي