المغني - كتاب المساقاة والمزارعة
المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي
(الجزء العشرون – كتاب المساقاة والمزارعة) • كتاب المساقاة o مسألة: جواز المساقاة في جميع الشجر المثمر فصل: مساقاة ما لا ثمر له من الشجر فصل: المساقاه على ثمرة موجودة فصل: قول الخرقي: بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر فصل: إذا تعددت أجناس الشجر في البستان فصل: إن كان بستان لاثنين فساقيا عاملا واحدا فصل: ولو ساقاه ثلاث سنين على أن له في سنة قدر معين مختلف عن قدر السنة التي قبلها فصل: لو دفع إلى رجل بستانا فقال: ما زرعت فيه من حنطة فلى ربعه فصل: وإن ساقاه على أنه إن سقى سيحا فله الثلث فصل: إن ساقى أحد الشريكين شريكه وجعل له من الثمر أكثر من نصيبه فصل: المساقاة على البعل من الشجر فصل: لا تصح المساقاة إلا على شجر معلوم بالرؤية فصل: المساقاة بلفظ المساقاة وما يؤدي معناها من الألفاظ فصل: يلزم العامل بإطلاق عقد المساقاة ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها فصل: الجذاذ والحصاد واللقاط على العامل فصل: إن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال فصل: إن شرط العامل أن أجر الأجراء الذين يحتاجهم من الثمرة وقدر الأجرة فصل: المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة فصل: لا يثبت في المساقاة خيار الشرط فصل: المساقاة لا تفتقر إلى ضرب مدة على القول بجوازها فصل: هرب العامل فصل: العامل أمين والقول قوله فيما يدعيه من هلاك فصل: إن اختلفا في الجزء المشروط للعامل فصل: يملك العامل حصته من الثمرة بظهورها فصل: إن ساقاه على أرض خراجية o مسألة: اشتراط دراهم معلومة مع جزء من الثمرة فصل: إذا ساقى رجلا أو زارعه فعامل العامل غيره على الأرض فصل: إذا ساقاه على ودي النخل أو صغار الشجر إلى مدة فصل: إن ساقاه على شجر يغرسه ويعمل فيه حتى يحمل فصل: إذا ساقاه على شجر فبان مستحقا بعد العمل أخذه ربه وثمرته • باب المزارعة o مسألة: المزارعة والمخابرة ومعناهما فصل: جواز المزارعة على أرض فيها شجر ساقاه عليه فصل: المزارعة على أرض فيها شجرات يسيرة فصل: وإن آجره بياض أرض وساقاه على الشجر الذي فيها o مسألة: إذا كان البذر من رب الأرض فصل: إن كان البذر منهما نصفين وشرطا أن الزرع بينهما نصفان فصل: قال صاحب الأرض: أجرتك نصف أرضي هذه بنصف بذرك o مسألة: الشروط التي تمنع في المزارعة فصل: إن زارعه على أن لرب الأرض زرعا بعينه وللعامل زرعا بعينه فصل: الشروط الفاسدة في المساقاة والمزارعة فصل: إن دفع رجل بذره إلى صاحب الأرض ، ليزرعه في أرضه فصل: إن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر فصل: حكم الحب الساقط إذا نبت في الأرض عاما آخر فصل: في إجارة الأرض
كتاب المساقاة المساقاة أن يدفع الرجل شجره إلى آخر, ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره وإنما سميت مساقاة لأنها مفاعلة من السقي لأن أهل الحجاز أكثر حاجة شجرهم إلى السقي, لأنهم يستقون من الآبار فسميت بذلك والأصل في جوازها السنة والإجماع أما السنة فما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (عامل رسول الله -ﷺ- أهل خيبر بشطر ما يخرج منها, من ثمر أو زرع حديث صحيح) متفق عليه وأما الإجماع فقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن آبائه: (عامل رسول الله -ﷺ- أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي, ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع وهذا عمل به الخلفاء الراشدون في مدة خلافتهم) واشتهر ذلك فلم ينكره منكر فكان إجماعا فإن قيل: لا نسلم أنه لم ينكره منكر, فإن عبد الله بن عمر راوى حديث معاملة أهل خيبر قد رجع عنه وقال: كنا نخابر أربعين سنة, حتى حدثنا رافع بن خديج أن رسول الله -ﷺ- نهى عن المخابرة وهذا يمنع انعقاد الإجماع ويدل على نسخ حديث ابن عمر لرجوعه عن العمل به إلى حديث رافع بن خديج قلنا: لا يجوز حمل حديث رافع على ما يخالف الإجماع, ولا حديث ابن عمر لأن النبي -ﷺ- لم يزل يعامل أهل خيبر حتى مات ثم عمل به الخلفاء بعده ثم من بعدهم, فكيف يتصور نهي النبي -ﷺ- عن شيء يخالفه؟ أم كيف يعمل بذلك في عصر الخلفاء ولم يخبرهم من سمع النهي عن النبي -ﷺ- وهو حاضر معهم وعالم بفعلهم فلم يخبرهم, فلو صح خبر رافع لوجب حمله على ما يوافق السنة والإجماع على أنه قد روى في تفسير خبر رافع عنه ما يدل على صحة قولنا فروى البخاري بإسناده قال: كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض, فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا, فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ وروي تفسيره أيضا بشيء غير هذا من أنواع الفساد وهو مضطرب جدا قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث رافع بن خديج نهى رسول الله -ﷺ- عن المزارعة فقال: رافع روي عنه في هذا ضروب كأنه يريد أن اختلاف الروايات عنه يوهن حديثه وقال طاوس: إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني, أن النبي -ﷺ- لم ينه عنه ولكن قال: (لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجا معلوما) رواه البخاري ومسلم وأنكر زيد بن ثابت حديث رافع عليه فكيف يجوز نسخ أمر فعله النبي -ﷺ- حتى مات وهو يفعله ثم أجمع عليه خلفاؤه وأصحابه بعده, بخبر لا يجوز العمل به ولو لم يخالفه غيره ورجوع ابن عمر إليه يحتمل أنه رجع عن شيء من المعاملات الفاسدة التي فسرها رافع في حديثه وأما غير ابن عمر فقد أنكر على رافع, ولم يقبل حديثه وحمله على أنه غلط في روايته والمعنى يدل على ذلك فإن كثيرا من أهل النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه ولا يمكنهم الاستئجار عليه, وكثير من الناس لا شجر لهم ويحتاجون إلى الثمر ففي تجويز المساقاة دفع للحاجتين, وتحصيل لمصلحة الفئتين فجاز ذلك كالمضاربة بالأثمان. مسألة قال أبو القاسم: [وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم بجزء معلوم, يجعل للعامل من الثمر] وجملة ذلك أن المساقاة جائزة في جميع الشجر المثمر هذا قول الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب وسالم ومالك, والثوري والأوزاعي وأبو يوسف, ومحمد وإسحاق وأبو ثور وقال داود: لا يجوز إلا في النخيل لأن الخبر إنما ورد بها فيه وقال الشافعي لا يجوز إلا في النخيل والكرم لأن الزكاة تجب في ثمرتهما, وفي سائر الشجر قولان: أحدهما لا يجوز فيه لأن الزكاة لا تجب في نمائه فأشبه ما لا ثمرة له وقال أبو حنيفة وزفر: لا تجوز بحال لأنها إجارة بثمرة لم تخلق, أو إجارة بثمرة مجهولة أشبه إجارة نفسه بثمرة غير الشجر الذي يسقيه ولنا السنة والإجماع ولا يجوز التعويل على ما خالفهما وقولهم: إنها إجارة غير صحيح, إنما هو عقد على العمل في المال ببعض نمائه فهي كالمضاربة وينكسر ما ذكروه بالمضاربة فإنه يعمل في المال بنمائه, وهو معدوم مجهول وقد جاز بالإجماع وهذا في معناه ثم قد جوز الشارع العقد في الإجارة على المنافع المعدومة للحاجة, فلم لا يجوز على الثمرة المعدومة للحاجة مع أن القياس إنما يكون في إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه أو المجمع عليه, فأما في إبطال نص وخرق إجماع بقياس نص آخر فلا سبيل إليه وأما تخصيص ذلك بالنخيل, أو به وبالكرم فيخالف عموم قوله: (عامل رسول الله -ﷺ- أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر) وهذا عام في كل ثمر ولا تكاد بلدة ذات أشجار تخلو من شجر غير النخيل, وقد جاء في لفظ بعض الأخبار أن النبي -ﷺ- (عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من النخل والشجر) ولأنه شجر يثمر كل حول فأشبه النخيل والكرم, ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة عليه كالنخل وأكثر لكثرته فجازت المساقاة عليه كالنخل, ووجوب الزكاة ليس من العلة المجوزة للمساقاة ولا أثر له فيها وإنما العلة في ما ذكرناه. فصل وأما ما لا ثمر له من الشجر, كالصفصاف والجوز ونحوهما أو له ثمر غير مقصود كالصنوبر والأرز, فلا تجوز المساقاة عليه وبه قال مالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص, , ولأن المساقاة إنما تكون بجزء من الثمرة وهذا لا ثمرة له إلا أن يكون مما يقصد ورقه أو زهره كالتوت والورد, فالقياس يقتضي جواز المساقاة عليه لأنه في معنى الثمر لأنه نماء يتكرر كل عام ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه, فيثبت له مثل حكمه. فصل وإن ساقاه على ثمرة موجودة فذكر أبو الخطاب فيها روايتين إحداهما تجوز وهو اختيار أبى بكر, وقول مالك وأبى يوسف ومحمد, وأبى ثور وأحد قولي الشافعي لأنها إذا جازت في المعدومة مع كثرة الغرر فيها فمع وجودها وقلة الغرر فيها أولى وإنما تصح إذا بقي من العمل ما يستزاد به الثمرة, كالتأبير والسقى وإصلاح الثمرة فإن بقي ما لا تزيد به الثمرة, كالجذاذ ونحوه لم يجز بغير خلاف والثانية لا تجوز وهو القول الثاني للشافعي لأنه ليس بمنصوص عليه, ولا في معنى المنصوص فإن النبي -ﷺ- عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر أو زرع ولأن هذا يفضي إلى أن يستحق بالعقد عوضا موجودا ينتقل الملك فيه عن رب المال إلى المساقي فلم يصح, كما لو بدا صلاح الثمرة ولأنه عقد على العمل في المال ببعض نمائه فلم يجز بعد ظهور النماء, كالمضاربة ولأن هذا يجعل العقد إجارة بمعلوم ومجهول فلم يصح, كما لو استأجره على العمل بذلك وقولهم: إنه أقل غررا قلنا: قلة الغرر ليست من المقتضى للجواز ولا كثرته الموجودة في محل النص مانعة فلا تؤثر قلته شيئا, والشرع ورد به على وجه لا يستحق العامل فيه عوضا موجودا ولا ينتقل إليه من ملك رب المال شيء وإنما يحدث النماء الموجود على ملكهما على ما شرطاه فلم تجز مخالفة هذا الموضوع, ولا إثبات عقد ليس في معناه إلحاقا به كما لو بدا صلاح الثمرة كالمضاربة بعد ظهور الربح. فصل فأما قول الخرقي: [بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر] فيدل على شيئين: أحدهما أن المساقاة لا تصح إلا على جزء معلوم من الثمرة مشاع, كالنصف والثلث لحديث ابن عمر: عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها وسواء قل الجزء أو كثر, فلو شرط للعامل جزءا من مائة جزء وجعل جزءا منها لنفسه والباقي للعامل جاز ما لم يفعل ذلك حيلة, وكذلك إن عقده على أجزاء معلومة كالخمسين وثلاثة أثمان أو سدس ونصف سبع, ونحو ذلك جاز وإن عقد على جزء مبهم كالسهم والجزء والنصيب والحظ ونحوه لم تجز لأنه إذا لم يكن معلوما لم تمكن القسمة بينهما ولو ساقاه على آصع معلومة أو جعل مع الجزء المعلوم آصعا, لم تجز لأنه ربما لم يحصل ذلك أو لم يحصل غيره فيستضر رب الشجر أو ربما كثر الحاصل فيستضر العامل وإن شرط له ثمر نخلات بعينها, لم يجز لأنها قد لا تحمل فتكون الثمرة كلها لرب المال وقد لا تحمل غيرها, فتكون الثمرة كلها للعامل ولهذه العلة (نهى النبي -ﷺ- عن المزارعة التي يجعل فيها لرب الأرض مكانا معينا وللعامل مكانا معينا) (قال رافع: كنا نكري الأرض, على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك, فأما الذهب والورق فلم ينهنا) متفق عليه فمتى شرط شيئا من هذه الشروط الفاسدة فسدت المساقاة والثمرة كلها لرب المال لأنها نماء ملكه وللعامل أجر مثله, كالمضاربة الفاسدة الثاني أن الشرط للعامل لأنه إنما يأخذ بالشرط فالشرط يراد لأجله ورب المال يأخذ بماله لا بالشرط, فإذا قال: ساقيتك على أن لك ثلث الثمرة صح وكان الباقي لرب المال وإن قال: على أن لي ثلث الثمرة فقال ابن حامد: يصح, والباقي للعامل وقيل: لا يصح وقد ذكرنا تعليل ذلك في المضاربة وإن اختلفا في الجزء المشروط لمن هو منهما فهو للعامل لأن الشرط يراد لأجله كما ذكرنا. فصل وإذا كان في البستان شجر من أجناس, كالتين والزيتون والكرم, والرمان فشرط للعامل من كل جنس قدرا كنصف ثمر التين, وثلث الزيتون وربع الكرم وخمس الرمان, أو كان فيه أنواع من جنس فشرط من كل نوع قدرا وهما يعلمان قدر كل نوع, صح لأن ذلك كأربعة بساتين ساقاه على كل بستان بقدر مخالف للقدر المشروط من الآخر وإن لم يعلما قدره أو لم يعلم أحدهما, لم يجز لأنه قد يكون أكثر ما في البستان من النوع الذي شرط فيه القليل أو أكثره مما شرط فيه الكثير ولو قال ساقيتك على هذين البستانين بالنصف من هذا والثلث من هذا صح لأنها صفقة واحدة جمعت عوضين, فصار كأنه قال: بعتك دارى هاتين هذه بألف وهذه بمائة وإن قال: بالنصف من أحدهما, والثلث من الآخر لم يصح لأنه مجهول لا يدرى أيهما الذي يستحق نصفه ولا الذي يستحق ثلثه ولو ساقاه على بستان واحد, نصفه هذا بالنصف ونصفه هذا بالثلث وهما متميزان صح لأنهما كبستانين. فصل وإن كان البستان لاثنين فساقيا عاملا واحدا, على أن له نصف نصيب أحدهما وثلث نصيب الآخر والعامل عالم بنصيب كل واحد منهما, جاز لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان ولو أفرد كل واحد منهما بعقد كان له أن يشرط ما اتفقا عليه وإن جهل نصيب كل واحد منهما لم يجز لأنه غرر فإنه قد يقل نصيب من شرط النصف, فيقل حظه وقد يكثر فيتوفر حظه فأما إن شرطا قدرا واحدا من مالهما جاز, وإن لم يعلم قدر ما لكل واحد منهما لأنها جهالة لا غرر فيها ولا ضرر فصار كما لو قالا: بعناك دارنا هذه بألف ولم يعلم نصيب كل واحد منهما جاز لأنه أي نصيب كان فقد علم عوضه, وعلم جملة المبيع فصح كذلك ها هنا ولو ساقى واحد اثنين جاز, ويجوز أن يشرط لهما التساوى في النصيب ويجوز أن يشرط لأحدهما أكثر من الآخر. فصل ولو ساقاه ثلاث سنين على أن له في الأولى النصف, وفي الثانية الثلث وفي الثالثة الربع جاز لأن قدر ما له في كل سنة معلوم فصح, كما لو شرط له من كل نوع قدرا. فصل ولو دفع إلى رجل بستانا فقال: ما زرعت فيه من حنطة فلى ربعه وما زرعت من شعير فلى ثلثه وما زرعت من باقلا فلى نصفه لم يصح لأن ما يزرعه من كل واحد من هذه الأصناف مجهول القدر, فجرى مجرى ما لو شرط له في المساقاة ثلث هذا النوع ونصف هذا النوع الآخر وهو جاهل بما فيه منهما وإن قال: إن زرعتها حنطة فلى ربعها, وإن زرعتها شعيرا فلى ثلثه وإن زرعتها باقلا فلى نصفه لم يصح أيضا لأنه لا يدرى ما يزرعه فأشبه ما لو قال: بعتك بعشرة صحاح, أو أحد عشرة مكسرة وفيه وجه آخر أنه يصح بناء على قوله في الإجارة: إن خطته روميا فلك درهم, وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فإنه يصح في المنصوص عنه فيخرج ها هنا مثله وإن قال: ما زرعتها من شيء فلى نصفه صح (لأن النبي -ﷺ- ساقى أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) ولو جعل له في المزارعة ثلث الحنطة, ونصف الشعير وثلثى الباقلا وبينا قدر ما يزرع من كل واحد من هذه الأنواع, إما بتقدير البذر وإما بتقدير المكان وتعيينه أو بمساحته, مثل أن قال: تزرع هذا المكان حنطة وهذا شعيرا أو تزرع مدين حنطة, ومدين شعيرا أو تزرع قفيزا حنطة وقفيزين شعيرا جاز لأن كل واحد من هذه طريق إلى العلم فاكتفى به. فصل وإن ساقاه على أنه إن سقى سيحا فله الثلث, وإن سقى بكلفة فله النصف لم يصح لأن العمل مجهول والنصيب مجهول, وهو في معنى بيعتين في بيعة ويتخرج أن يصح قياسا على مسألة الإجارة ولو قال: لك الخمسان إن كانت عليك خسارة, وإن لم يكن عليك خسارة فلك الربع لم يصح نص عليه أحمد وقال: هذا شرطان في شرط وكرهه وهذا في معنى المسألة التي قبلها ويخرج فيها مثل ما خرج فيها ولو ساقاه في هذا الحائط بالثلث, على أن يساقيه في الحائط الآخر بجزء معلوم لم يصح لأنه شرط عقدا في عقد فصار في معنى بيعتين في بيعة, كقوله: بعتك ثوبى على أن تبيعنى ثوبك وإنما فسد لمعنيين: أحدهما أنه شرط في العقد عقدا آخر والنفع الحاصل بذلك مجهول, فكأنه شرط العوض في مقابلة معلوم ومجهول الثاني أن العقد الآخر لا يلزمه بالشرط فيسقط الشرط وإذا سقط وجب رد الجزء الذي تركه من العوض لأجله, وذلك مجهول فيصير الكل مجهولا. فصل وإن ساقى أحد الشريكين شريكه وجعل له من الثمر أكثر من نصيبه, مثل أن يكون الأصل بينهما نصفين فجعل له الثلثين من الثمرة صح, وكان السدس حصته من المساقاة فصار كأنه قال: ساقيتك على نصيبى بالثلث وإن ساقاه على أن تكون الثمرة بينهما نصفين أو على أن يكون للعامل الثلث, فهي مساقاة فاسدة لأن العامل يستحق نصفها بملكه فلم يجعل له في مقابلة عمله شيئا وإذا شرط له الثلث فقد شرط أن غير العامل يأخذ من نصيب العامل ثلثه, ويستعمله بلا عوض فلا يصح فإذا عمل في الشجر بناء على هذا كانت الثمرة بينهما نصفين بحكم الملك, ولا يستحق العامل بعمله شيئا لأنه تبرع به برضاه بالعمل بغير عوض فأشبه ما لو قال له: أنا أعمل فيه بغير شيء وذكر أصحابنا وجها آخر أنه يستحق أجر مثله لأن المساقاة تقتضى عوضا, فلا تسقط برضاه بإسقاطه كالنكاح ولم يسلم له العوض, فيكون له أجر مثله ولنا أنه عمل في مال غيره متبرعا فلم يستحق عوضا كما لو لم يعقد المساقاة ويفارق النكاح لوجهين: أحدهما أن عقد النكاح صحيح فوجب به العوض لصحته, وهذا فاسد لا يوجب شيئا والثاني أن الأبضاع لا تستباح بالبذل والإباحة والعمل ها هنا يستباح بذلك, ولأن المهر في النكاح لا يخلو من أن يكون واجبا بالعقد أو بالإصابة أو بهما, فإن وجب بالعقد لم يصح قياس هذا عليه لوجهين: أحدهما أن النكاح صحيح, وهذا فاسد والثاني أن العقد ها هنا لا يوجب ولو أوجب لأوجب قبل العمل ولا خلاف أن هذا لا يوجب قبل العمل شيئا وإن أوجب بالإصابة, لم يصح القياس عليها لوجهين: أحدهما أن الإصابة لا تستباح بالإباحة والبذل بخلاف العمل والثاني أن الإصابة لو خلت عن العقد لأوجبت, وهذا بخلافه وإن وجب بهما امتنع القياس لهذه الوجوه كلها فأما إن ساقى أحدهما شريكه على أن يعملا معا فالمساقاة فاسدة والثمرة بينهما على قدر ملكيهما, ويتقاصان العمل إن تساويا فيه وإن كان لأحدهما فضل نظرت فإن كان قد شرط له فضل ما في مقابلة عمله استحق ما فضل له من أجر المثل, وإن لم يشرط له شيء فلا شيء له إلا على الوجه الذي ذكره أصحابنا وتكلمنا عليه. فصل وتصح المساقاة على البعل من الشجر كما تجوز فيما يحتاج إلى سقي وبهذا قال مالك ولا نعلم فيه خلافا عند من يجوز المساقاة لأن الحاجة تدعوا إلى المعاملة في ذلك كدعائها إلى المعاملة في غيره فيقاس عليه وكذلك الحكم في المزارعة فصل ولا تصح المساقاة إلا على شجر معلوم بالرؤية, أو بالصفة التي لا يختلف معها كالبيع فإن ساقاه على بستان بغير رؤية ولا صفة لم يصح لأنه عقد على مجهول فلم يصح, كالبيع وإن ساقاه على أحد هذين الحائطين لم يصح لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان فلم يجز على غير معين, كالبيع. فصل وتصح المساقاة بلفظ المساقاة وما يؤدي معناها من الألفاظ نحو: عاملتك, وفالحتك واعمل في بستاني هذا حتى تكمل ثمرته وما أشبه هذا لأن القصد المعنى, فإذا أتى به بأي لفظ دل عليه صح كالبيع وإن قال: استأجرتك لتعمل لي في هذا الحائط حتى تكمل ثمرته, بنصف ثمرته ففيه وجهان: أحدهما لا يصح ذكره أبو الخطاب لأن الإجارة يشترط لها كون العوض معلوما والعمل معلوما وتكون لازمة, والمساقاة بخلافه والثاني يصح وهو أقيس لأنه مؤد للمعنى فصح به العقد كسائر الألفاظ المتفق عليها وقد ذكر أبو الخطاب أن معنى قول أحمد: تجوز إجارة الأرض ببعض الخارج منها المزارعة, على أن البذر والعمل من العامل وما ذكر من شروط الإجارة إنما يعتبر في الإجارة الحقيقية أما إذا أريد بالإجارة المزارعة, فلا يشترط لها غير شرط المزارعة. فصل ويلزم العامل بإطلاق عقد المساقاة ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها مثل حرث الأرض تحت الشجر والبقر التي تحرث, وآلة الحرث وسقى الشجر واستقاء الماء, وإصلاح طرق الماء وتنقيتها وقطع الحشيش المضر والشوك وقطع الشجر اليابس, وزبار الكرم وقطع ما يحتاج إلى قطعه وتسوية الثمرة, وإصلاح الأجاجين وهي الحفر التي يجتمع فيها الماء على أصول النخل وإدارة الدولاب, والحفظ للثمر في الشجر وبعده حتى يقسم وإن كان مما يشمس فعليه تشميسه وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل, كسد الحيطان وإنشاء الأنهار وعمل الدولاب, وحفر بئره وشراء ما يلقح به وعبر بعض أهل العلم عن هذا بعبارة أخرى فقال: كل ما يتكرر كل عام فهو على العامل, وما لا يتكرر فهو على رب المال وهذا صحيح في العمل فأما شراء ما يلقح به فهو على رب المال وإن تكرر لأن هذا ليس من العمل فأما البقرة التي تدير الدولاب فقال أصحابنا: هي على رب المال لأنها ليست من العمل, فأشبهت ما يلقح به والأولى أنها على العامل لأنها تراد للعمل فأشبهت بقر الحرث ولأن استقاء الماء على العامل إذا لم يحتج إلى بهيمة فكان عليه, وإن احتاج إلى بهيمة كغيره من الأعمال وقال بعض أصحاب الشافعي: ما يتعلق بصلاح الأصول والثمرة معا كالكسح للنهر والثور هو على من شرط عليه منهما, وإن أهمل شرط ذلك على أحدهما لم تصح المساقاة وقد ذكرنا ما يدل على أنه على العامل فأما تسميد الأرض بالزبل إن احتاجت إليه فشراء ذلك على رب المال لأنه ليس من العمل, فجرى مجرى ما يلقح به وتفريق ذلك في الأرض على العامل كالتلقيح وإن أطلقا العقد, ولم يبينا ما على كل واحد منهما فعلى كل واحد منهما ما ذكرنا أنه عليه وإن شرطا ذلك كان تأكيدا وإن شرطا على أحدهما شيئا مما يلزم الآخر, فقال القاضي وأبو الخطاب: لا يجوز ذلك فعلى هذا تفسد المساقاة وهو مذهب الشافعي لأنه شرط يخالف مقتضى العقد فأفسده, كالمضاربة إذا شرط العمل فيها على رب المال وقد روى عن أحمد ما يدل على صحة ذلك فإنه ذكر أن الجذاذ عليهما فإن شرطه على العامل جاز وهذا مقتضى كلام الخرقي في المضاربة لأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد, ولا مفسدة فيه فصح كتأجيل الثمن في المبيع, وشرط الرهن والضمين والخيار فيه لكن يشترط أن يكون ما يلزم كل واحد من العمل معلوما لئلا يفضي إلى التنازع والتواكل, فيختل العمل وأن لا يكون ما على رب المال أكثر العمل لأن العامل يستحق بعمله فإذا لم يعمل أكثر العمل, كان وجود عمله كعدمه فلا يستحق شيئا. فصل فأما الجذاذ والحصاد واللقاط فهو على العامل نص أحمد عليه في الحصاد, وهو مذهب الشافعي لأنه من العمل فكان على العامل كالتشميس وروى عن أحمد في الجذاذ أنه إذا شرط على العامل فجائز لأن العمل عليه, وإن لم يشرطه فعلى رب المال بحصته ما يصير إليه فظاهر هذا أنه جعل الجذاذ عليهما وأجاز اشتراطه على العامل وهو قول بعض الشافعية وقال محمد بن الحسن: تفسد المساقاة بشرطه على العامل لأنه شرط ينافى مقتضى العقد واحتج من جعله عليهما بأنه يكون بعد تكامل الثمرة, وانقضاء المعاملة فأشبه نقله إلى منزله ولنا أن النبي -ﷺ- دفع خيبر إلى يهود على أن يعملوها من أموالهم, ولأن هذا من العمل فيكون عليه كالتشميس, وما ذكروه يبطل بالتشميس ويفارق النقل إلى المنزل فإنه يكون بعد القسمة, وزوال العقد فأشبه المخزن. فصل وإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال فهو كشرط عمل رب المال لأن عملهم كعمله, فإن يد الغلام كيد مولاه وقال أبو الخطاب: فيه وجهان: أحدهما كما ذكرنا والثاني يجوز لأن غلمانه ماله فجاز أن تعمل تبعا لماله كثور الدولاب, وكما يجوز في القراض أن يدفع إلى العامل بهيمة يحمل عليها وأما رب المال لا يجوز جعله تبعا وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن فإذا شرط غلمانا يعملون معه, فنفقتهم على ما يشترطان عليه فإن أطلقا ولم يذكرا نفقتهم فهي على رب المال وبهذا قال الشافعي وقال مالك: نفقتهم على المساقي, ولا ينبغي أن يشرطها على رب المال لأن العمل على المساقي فمؤنة من يعمله عليه كمؤنة غلمانه ولنا أنه مملوك رب المال, فكانت نفقته عليه عند الإطلاق كما لو أجره فإن شرطها على العامل جاز, ولا يشترط تقديرها وبه قال الشافعي وقال محمد بن الحسن: يشترط تقديرها لأنه اشترط عليه ما لا يلزمه فوجب أن يكون معلوما كسائر الشروط ولنا أنه لو وجب تقديرها لوجب ذكر صفاتها, ولا يجب ذكر صفاتها فلم يجب تقديرها ولا بد من معرفة الغلمان المشترط عملهم برؤية أو صفة تحصل بها معرفتهم كما في عقد الإجارة. فصل وإن شرط العامل أن أجر الأجراء الذين يحتاج إلى الاستعانة بهم من الثمرة وقدر الأجرة, لم يصح لأن العمل عليه فإذا شرط أجره من المال لم يصح, كما لو شرط لنفسه أجر عمله وإن لم يقدره فسد لذلك ولأنه مجهول ويفارق هذا ما إذا شرط المضارب أجر ما يحتاج إليهم من الحمالين ونحوهم لأن ذلك لا يلزم العامل فكان على المال ولو شرط أجر ما يلزمه عمله بنفسه, لم يصح كمسألتنا. فصل ظاهر كلام أحمد أن المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة أومأ إليه في رواية الأثرم, وسئل عن الأكار يخرج نفسه من غير أن يخرجه صاحب الضيعة فلم يمنعه من ذلك ذكره الشيخ أبو عبد الله بن حامد وهو قول بعض أصحاب الحديث وقال بعض أصحابنا: هو عقد لازم وهو قول أكثر الفقهاء لأنه عقد معاوضة, فكان لازما كالإجارة ولأنه لو كان جائزا, جاز لرب المال فسخه إذا أدركت الثمرة فيسقط حق العامل فيستضر ولنا ما روى مسلم بإسناده عن ابن عمر (أن اليهود سألوا رسول الله -ﷺ- أن يقرهم بخيبر, على أن يعملوها ويكون لرسول الله -ﷺ- شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع فقال رسول الله -ﷺ-: نقركم على ذلك ما شئنا) ولو كان لازما لم يجز بغير تقدير مدة, ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم ولأن النبي -ﷺ- لم ينقل عنه أنه قدر لهم ذلك بمدة ولو قدر لم يترك نقله, لأن هذا مما يحتاج إليه فلا يجوز الإخلال بنقله وعمر رضي الله عنه أجلاهم من الأرض وأخرجهم من خيبر, ولو كانت لهم مدة مقدرة لم يجز إخراجهم منها ولأنه عقد على جزء من نماء المال فكان جائزا, كالمضاربة أو عقد على المال بجزء من نمائه أشبه المضاربة, وفارق الإجارة لأنها بيع فكانت لازمة كبيع الأعيان, ولأن عوضها مقدر معلوم فأشبهت البيع وقياسهم ينتقض بالمضاربة وهي أشبه بالمساقاة من الإجارة, فقياسها عليها أولى وقولهم: إنه يفضي إلى أن رب المال يفسخ بعد إدراك الثمرة قلنا: إذا ظهرت الثمرة فهي تظهر على ملكهما فلا يسقط حق العامل منها بفسخ ولا غيره, كما لو فسخ المضاربة بعد ظهور الربح فعلى هذا لا يفتقر إلى ضرب مدة ولذلك لم يضرب النبي -ﷺ- ولا خلفاؤه رضي الله عنهم لأهل خيبر مدة معلومة حين عاملوهم ولأنه عقد جائز, فلم يفتقر إلى ضرب مدة كالمضاربة وسائر العقود الجائزة ومتى فسخ أحدهما بعد ظهور الثمرة فهي بينهما على ما شرطاه, وعلى العامل تمام العمل كما يلزم المضارب بيع العروض إذا فسخت المضاربة بعد ظهور الربح وإن فسخ العامل قبل ذلك فلا شيء له لأنه رضي بإسقاط حقه, فصار كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح وعامل الجعالة إذا فسخ قبل إتمام عمله وإن فسخ رب المال قبل ظهور الثمرة فعليه أجر المثل للعامل لأنه منعه إتمام عمله الذي يستحق به العوض, فأشبه ما لو فسخ الجاعل قبل إتمام عمل الجعالة وفارق رب المال في المضاربة إذا فسخها قبل ظهور الربح لأن عمل هذا مفض إلى ظهور الثمرة غالبا فلولا الفسخ لظهرت الثمرة فملك نصيبه منها, وقد قطع ذلك بفسخه فأشبه فسخ الجعالة بخلاف المضاربة, فإنه لا يعلم إفضاؤها إلى الربح ولأن الثمرة إذا ظهرت في الشجر كان العمل عليها في الابتداء من أسباب ظهورها, والربح إذا ظهر في المضاربة قد لا يكون للعمل الأول فيه أثر أصلا فأما إن قلنا: إنه عقد لازم فلا يصح إلا على مدة معلومة وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور: تصح من غير ذكر مدة ويقع على سنة واحدة وأجازه بعض أهل الكوفة استحسانا لأنه لما شرط له جزءا من الثمرة كان ذلك دليلا على أنه أراد مدة تحصل الثمرة فيها ولنا أنه عقد لازم, فوجب تقديره بمدة كالإجارة ولأن المساقاة أشبه بالإجارة, لأنها تقتضى العمل على العين مع بقائها ولأنها إذا وقعت مطلقة لم يمكن حملها على إطلاقها مع لزومها لأنه يفضي إلى أن العامل يستبد بالشجر كل مدته, فيصير كالمالك ولا يمكن تقديره بالسنة لأنه تحكم وقد تكمل الثمرة في أقل من السنة, فعلى هذا لا تتقدر أكثر المدة بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها وإن طالت وقد قيل: لا يجوز أكثر من ثلاثين سنة وهذا تحكم وتوقيت لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع فأما أقل المدة, فيتقدر بمدة تكمل الثمرة فيها فلا يجوز على أقل منها لأن المقصود أن يشتركا في الثمرة ولا يوجد في أقل من هذه المدة. فإن ساقاه على مدة لا تكمل فيها الثمرة, فالمساقاة فاسدة فإذا عمل فيها فظهرت الثمرة ولم تكمل فله أجر مثله, في أحد الوجهين وفي الآخر لا شيء له لأنه رضي بالعمل بغير عوض, فهو كالمتبرع والأول أصح لأن هذا لم يرض إلا بعوض وهو جزء من الثمرة وذلك الجزء موجود, غير أنه لا يمكن تسليمه إليه فلما تعذر دفع العوض الذي اتفقا عليه إليه كان له أجر مثله, كما في الإجارة الفاسدة وفارق المتبرع فإنه رضي بغير شيء وإن لم تظهر الثمرة فلا شيء له في أصح الوجهين لأنه رضي بالعمل بغير عوض وإن ساقاه إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالبا فلم يحمل تلك السنة, فلا شيء للعامل لأنه عقد صحيح لم يظهر فيه النماء الذي اشترط جزؤه فأشبه المضاربة إذا لم يربح فيها وإن ظهرت الثمرة, ولم تكمل فله نصيبه منها وعليه إتمام العمل فيها, كما لو انفسخت قبل كمالها وإن ساقاه إلى مدة يحتمل أن يكون للشجر ثمرة ويحتمل أن لا يكون ففي صحة المساقاة وجهان: أحدهما تصح لأن الشجر يحتمل أن يحمل ويحتمل أن لا يحمل, والمساقاة جائزة فيه والثاني لا يصح لأنه عقد على معدوم ليس الغالب وجوده فلم تصح, كالسلم في مثل ذلك ولأن ذلك غرر أمكن التحرز عنه فلم يجز العقد معه, كما لو شرط ثمر نخلة بعينها وفارق ما إذا شرط مدة تكمل فيها الثمرة فإن الغالب أن الشجر يحمل واحتمال أن لا يحمل نادر, لم يمكن التحرز عنه فإن قلنا: العقد صحيح فله حصته من الثمر فإن لم يحمل فلا شيء له وإن قلنا: هو فاسد استحق أجر المثل سواء حمل أو لم يحمل لأنه لم يرض بغير عوض, ولم يسلم له العوض فكان له العوض وجها واحدا, بخلاف ما لو جعل الأجل إلى مدة لا يحمل في مثلها غالبا ومتى خرجت الثمرة قبل انقضاء الأجل فله حقه منها إذا قلنا بصحة العقد وإن خرجت بعده, فلا حق له فيها ومذهب الشافعي في هذا قريب مما ذكرنا. فصل ولا يثبت في المساقاة خيار الشرط لأنها إن كانت جائزة فالجائز مستغن بنفسه عن الخيار فيه وإن كانت لازمة فإذا فسخ لم يمكن رد المعقود عليه, وهو العمل فيها وأما خيار المجلس فلا يثبت إن كانت جائزة لما تقدم وإن كانت لازمة فعلى وجهين أحدهما لا يثبت لأنها عقد لا يشترط فيه قبض العوض ولا يثبت فيه خيار الشرط, فلا يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح والثاني يثبت لأنه عقد لازم يقصد به المال أشبه البيع. فصل ومتى قلنا بجوازها, لم يفتقر إلى ضرب مدة لأن إبقاءها إليهما وفسخها جائز لكل واحد منهما متى شاء فلم تحتج إلى مدة, كالمضاربة وإن قدرها بمدة جاز لأنه لا ضرر في التقدير وقد بينا جواز ذلك في المضاربة والمساقاة مثلها وتنفسخ بموت كل واحد منهما وجنونه والحجر عليه لسفه, كقولنا في المضاربة فإذا مات العامل أو رب المال انفسخت المساقاة فكان الحكم فيها كما لو فسخها أحدهما على ما أسلفناه وإن قلنا بلزومها, لم ينفسخ العقد ويقوم الوارث مقام الميت منهما لأنه عقد لازم فأشبه الإجارة ولكن إن كان الميت العامل, فأبى وارثه القيام مقامه لم يجبر لأن الوارث لا يلزمه من الحقوق التي على موروثه إلا ما أمكن دفعه من تركته والعمل ليس مما يمكن ذلك فيه فعلى هذا يستأجر الحاكم من التركة من يعمل العمل, فإن لم تكن له تركة أو تعذر الاستئجار منها فلرب المال الفسخ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه, فيثبت الفسخ كما لو تعذر ثمن المبيع قبل قبضه ثم إن كانت الثمرة قد ظهرت, بيع من نصيب العامل ما يحتاج إليه لأجر ما بقي من العمل واستؤجر من يعمل ذلك وإن احتيج إلى بيع الجميع بيع ثم لا يخلو إما أن تكون الثمرة قد بدا صلاحها أو لم يبد, فإن كانت قد بدا صلاحها خير المالك بين البيع والشراء فإن اشترى نصيب العامل جاز, وإن اختار بيع نصيبه أيضا باعه وباع الحاكم نصيب العامل وإن أبى البيع والشراء, باع الحاكم نصيب العامل وحده وما بقي على العامل من العمل يكترى عليه من يعمله وما فضل لورثته, وإن كان لم يبد صلاحها خير المالك أيضا فإن بيع لأجنبى لم يجز إلا بشرط القطع ولا يجوز بيع نصيب العامل وحده, لأنه لا يمكنه قطعه إلا بقطع نصيب المالك فيقف إمكان قطعه على قطع ملك غيره وهل يجوز شراء المالك لها؟ على وجهين وهكذا الحكم إذا انفسخت المساقاة بموت العامل, لقولنا بجوازها وأبى الوارث العمل وإن اختار رب المال البقاء على المساقاة لم تنفسخ إذا قلنا بلزومها ويستأذن الحاكم في الإنفاق على الثمرة, ويرجع بما أنفق فإن عجز عن استئذان الحاكم فأنفق محتسبا بالرجوع, وأشهد على الإنفاق بشرط الرجوع رجع بما أنفق وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه مضطر وإن أمكنه استئذان الحاكم فأنفق بنية الرجوع من غير استئذانه, فهل يرجع بذلك؟ على وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه وإن تبرع بالإنفاق لم يرجع بشيء, كما لو تبرع بالصدقة والحكم فيما إذا أنفق على الثمرة بعد فسخ العقد إذا تعذر بيعها كالحكم ها هنا سواء. فصل وإن هرب العامل فلرب المال الفسخ لأنه عقد جائز وإن قلنا بلزومه فحكمه حكم ما لو مات وأبى وارثه أن يقوم مقامه, إلا أنه إن لم يجد الحاكم له مالا وأمكنه الاقتراض عليه من بيت المال أو غيره فعل وإن لم يمكنه, ووجد من يعمل بأجرة مؤجلة إلى وقت إدراك الثمرة فعل فإن لم يجد, فلرب المال الفسخ أما الميت فلا يقترض عليه لأنه لا ذمة له. فصل والعامل أمين والقول قوله فيما يدعيه من هلاك وما يدعى عليه من خيانة لأن رب المال ائتمنه بدفع ماله إليه, فهو كالمضارب فإن اتهم حلف فإن ثبتت خيانته بإقرار أو ببينة أو نكوله, ضم إليه من يشرف عليه فإن لم يمكن حفظه استؤجر من ماله من يعمل عمله وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب مالك: لا يقام غيره مقامه, بل يحفظ منه لأن فسقه لا يمنع استيفاء المنافع المقصودة منه فأشبه ما لو فسق بغير الخيانة ولنا أنه تعذر استيفاء المنافع المقصودة منه فاستوفيت بغيره, كما لو هرب ولا نسلم إمكان استيفاء المنافع منه لأنه لا يؤمن منه تركها ولا يوثق منه بفعلها ولا نقول إن له فسخ المساقاة, وإنما لم يمكن حفظها من خيانتك أقم غيرك يعمل ذلك وارفع يدك عنها لأن الأمانة قد تعذرت في حقك, فلا يلزم رب المال ائتمانك وفارق فسخه بغير الخيانة فإنه لا ضرر على رب المال وها هنا يفوت ماله. فصل وإن اختلفا في الجزء المشروط للعامل فالقول قول رب المال ذكره ابن حامد وقال مالك: القول قول العامل, إذا ادعى ما يشبه لأنه أقوى سببا لتسلمه للحائط والعمل وقال الشافعي: يتحالفان وكذلك إن اختلفا فيما تناولته المساقاة من الشجر ولنا أن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل, فيكون القول قوله لقوله عليه السلام: (البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه) فإن كان مع أحدهما بينة حكم بها, وإن كان مع كل واحد منهما بينة ففي أيهما تقدم بينته؟ وجهان بناء على بينة الداخل والخارج فإن كان الشجر لاثنين, فصدق أحدهما العامل وكذبه الآخر أخذ نصيبه من مال المصدق فإن شهد على المنكر, قبلت شهادته إذا كان عدلا لأنه لا يجر إلى نفسه نفعا ولا يدفع ضررا ويحلف مع شاهده, وإن لم يكن عدلا كانت شهادته كعدمها ولو كان العامل اثنين ورب المال واحدا, فشهد أحدهما على صاحبه قبلت شهادته أيضا لما ذكرنا. فصل ويملك العامل حصته من الثمرة بظهورها فلو تلفت كلها إلا واحدة, كانت بينهما وهذا أحد قولي الشافعي والثاني يملكه بالمقاسمة كالقراض ولنا أن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه, كسائر الشروط الصحيحة ومقتضاه كون الثمرة بينهما على كل حال لأنه لو لم يملكها قبل القسمة لما وجبت القسمة, ولا ملكها كالأصول وأما القراض فإنه يملك الربح فيه بالظهور كمسألتنا, ثم الفرق بينهما أن الربح وقاية لرأس المال فلم يملك حتى يسلم رأس المال لربه وهذا ليس بوقاية لشيء, ولذلك لو تلفت الأصول كلها كانت الثمرة بينهما فإذ ثبت هذا فإنه يلزم كل واحد منهما زكاة نصيبه إذا بلغت حصته نصابا نص عليه أحمد في المزارعة وإن لم تبلغ النصاب إلا بجمعهما, لم تجب لأن الخلطة لا تؤثر في غير المواشى في الصحيح وعنه أنها تؤثر فتؤثر ها هنا فيبدأ بإخراج الزكاة ثم يقسمان ما بقي وإن كانت حصة أحدهما تبلغ نصابا دون الآخر, فعلى من بلغت حصته نصابا الزكاة دون الآخر يخرجها بعد المقاسمة إلا أن يكون لمن لم تبلغ حصته نصابا ما يتم به النصاب من مواضع أخر, فتجب عليهما جميعا الزكاة وكذلك إن كان لأحدهما ثمر من جنس حصته يبلغان بمجموعهما نصابا فعليه الزكاة في حصته وإن كان أحد الشريكين ممن لا زكاة عليه, كالمكاتب والذمى فعلى الآخر زكاة حصته إن بلغت نصابا وبهذا كله قال مالك, والشافعي وقال الليث: إن كان شريكه نصرانيا أعلمه أن الزكاة مؤداة في الحائط ثم يقاسمه بعد الزكاة ما بقي ولنا أن النصرانى لا زكاة عليه, فلا يخرج من حصته شيء كما لو انفرد بها وقد روى أبو داود, في " السنن " عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله -ﷺ- يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب, قبل أن يؤكل منه ثم يخير يهود خيبر أيأخذونه بذلك الخرص, أم يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكى تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق قال جابر: خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق وزعم أن اليهود لما خيرهم ابن رواحة أخذوا التمر وعليهم عشرون ألف وسق). فصل وإن ساقاه على أرض خراجية, فالخراج على رب المال لأنه يجب على الرقبة بدليل أنه يجب سواء أثمرت الشجرة أو لم تثمر ولأن الخراج يجب أجرة للأرض فكان على رب الأرض, كما لو استأجر أرضا وزارع غيره فيها وبهذا قال الشافعي وقد نقل عن أحمد في الذي يتقبل الأرض البيضاء ليعمل عليها وهي من أرض السواد يتقبلها من السلطان, فعلى من يقبلها أن يؤدى وظيفة عمر رضي الله عنه ويؤدى العشر بعد وظيفة عمر وهذا معناه والله أعلم إذا دفع السلطان أرض الخراج إلى رجل يعملها ويؤدى خراجها فإنه يبدأ فيؤدى خراجها ثم يزكى ما بقي كما ذكره الخرقي في باب الزكاة ولا تنافى بين ذلك وبين ما ذكرنا ها هنا, -إن شاء الله تعالى-. مسألة قال: [ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم] يعني إذا شرط جزءا معلوما من الثمرة ودراهم معلومة كعشرة ونحوها, لم يجز بغير خلاف لأنه ربما لم يحدث من النماء ما يساوى تلك الدراهم فيتضرر رب المال ولذلك منعنا من اشتراط أقفزة معلومة ولو شرط له دراهم منفردة عن الجزء, لم يجز لذلك ولو جعل له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه فيها أو ثمر شجر غير الشجر الذي ساقاه عليه أو شرط عليه عملا في غير الشجر الذي ساقاه عليه, أو عملا في غير السنة فسد العقد سواء جعل ذلك كل حقه أو بعضه أو جميع العمل, أو بعضه لأنه يخالف موضوع المساقاة إذ موضوعها أن يعمل في شجر معين بجزء مشاع من ثمرته في ذلك الوقت الذي يستحق عليه فيه العمل.
فصل
وإذا ساقى رجلا, أو زارعه فعامل العامل غيره على الأرض والشجر لم يجز ذلك وبهذا قال أبو يوسف, وأبو ثور وأجازه مالك إذا جاء برجل أمين ولنا أنه عامل في المال بجزء من نمائه فلم يجز أن يعامل غيره فيه, كالمضارب ولأنه إنما أذن له في العمل فيه فلم يجز أن يأذن لغيره, كالوكيل فأما إن استأجر أرضا فله أن يزارع غيره فيها لأنها صارت منافعها مستحقة له فملك المزارعة فيها, كالمالك والأجرة على المستأجر دون المزارع كما ذكرنا في الخراج وكذلك يجوز لمن في يده أرض خراجية أن يزارع فيها لأنه بمنزلة المستأجر لها وللموقوف عليه أن يزارع في الوقف, ويساقى على شجره لأنه إما مالك لرقبة ذلك أو بمنزلة المالك ولا نعلم في هذا خلافا عند من أجاز المساقاة والمزارعة والله أعلم.
فصل
وإذا ساقاه على ودى النخل أو صغار الشجر, إلى مدة يحمل فيها غالبا ويكون له فيها جزء من الثمرة معلوم صح لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر, ونصيبه يقل وهذا لا يمنع صحتها كما لو جعل له سهما من ألف سهم وفيه الأقسام التي ذكرنا في كبار النخل والشجر, وهي أننا إن قلنا: المساقاة عقد جائز لم نحتج إلى ذكر مدة وإن قلنا: هو لازم ففيه ثلاثة أقسام: أحدها أن يجعل المدة زمنا يحمل فيه غالبا فيصح فإن حمل فيها فله ما شرط له, وإن لم يحمل فيها فلا شيء له والثاني أن يجعلها إلى زمن لا يحمل فيه غالبا فلا يصح وإن عمل فيها فهل يستحق الأجر؟ على وجهين وإن حمل في المدة, لم يستحق ما جعل له لأن العقد وقع فاسدا فلم يستحق ما شرط فيه والثالث أن يجعل المدة زمنا يحتمل أن يحمل فيها ويحتمل أن لا يحمل فهل يصح؟ على وجهين فإن قلنا: لا يصح استحق الأجر وإن قلنا: يصح فحمل في المدة, استحق ما شرط له وإن لم يحمل فيها لم يستحق شيئا وإن شرط نصف الثمرة ونصف الأصل, لم يصح لأن موضوع المساقاة أن يشتركا في النماء والفائدة فإذا شرط اشتراكهما في الأصل لم يجز, كما لو شرط في المضاربة اشتراكهما في رأس المال فعلى هذا يكون له أجر مثله وكذلك لو جعل له جزءا من ثمرتها مدة بقائها لم يجز وإن جعل له ثمرة عام بعد مدة المساقاة, لم يجز لأنه يخالف موضوع المساقاة.
فصل
وإن ساقاه على شجر يغرسه ويعمل فيه حتى يحمل ويكون له جزء من الثمرة معلوم, صح أيضا والحكم فيه كما لو ساقاه على صغار الشجر على ما بيناه وقد قال أحمد في رواية المروذي, في رجل قال لرجل: اغرس في أرضى هذه شجرا أو نخلا فما كان من غلة فلك بعمل كذا وكذا سهما من كذا وكذا فأجازه واحتج بحديث خيبر في الزرع والنخيل, لكن بشرط أن يكون الغرس من رب الأرض كما يشترط في المزارعة كون البذر من رب الأرض فإن كان من العامل, خرج على الروايتين فيما إذا اشترط البذر في المزارعة من العامل وقال القاضي: المعاملة باطلة وصاحب الأرض بالخيار بين تكليفه قلعها, ويضمن له أرش نقصها وبين إقرارها في أرضه ويدفع إليه قيمتها, كالمشترى إذا غرس في الأرض التي اشتراها ثم جاء الشفيع فأخذها وإن اختار العامل قلع شجره فله ذلك, سواء بذل له القيمة أو لم يبذلها لأنه ملكه فلم يمنع تحويله وإن اتفقا على إبقاء الغراس ودفع أجر الأرض, جاز ولو دفع أرضه إلى رجل يغرسها على أن الشجر بينهما لم يجز, على ما سبق ويحتمل الجواز بناء على المزارعة فإن المزارع يبذر في الأرض, فيكون الزرع بينه وبين صاحب الأرض وهذا نظيره وإن دفعها على أن الأرض والشجر بينهما فالمعاملة فاسدة, وجها واحدا وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف, ومحمد ولا نعلم فيه مخالفا لأنه شرط اشتراكهما في الأصل ففسد كما لو دفع إليه الشجر والنخيل ليكون الأصل والثمرة بينهما, أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما.
فصل
وإذا ساقاه على شجر فبان مستحقا بعد العمل أخذه ربه وثمرته لأنه عين ماله, ولا حق للعامل في ثمرته لأنه عمل فيها بغير إذن مالكها ولا أجر له عليه لذلك وله أجر مثله على الغاصب لأنه غره واستعمله, فلزمه الأجر كما لو غصب نقرة فاستأجر من ضربها دراهم وإن شمس الثمرة فلم تنقص أخذها ربها, وإن نقصت فلربها أرش نقصها ويرجع به على من شاء منهما, ويستقر ذلك على الغاصب وإن استحقت بعد أن اقتسماها وأكلاها فلربها تضمين من شاء منهما, فإن ضمن الغاصب فله تضمينه الكل وله تضمينه قدر نصيبه, ويضمن العامل قدر نصيبه لأن الغاصب سبب يد العامل فلزمه ضمان الجميع فإن ضمنه الكل رجع على العامل بقدر نصيبه لأن التلف وجد في يده, فاستقر الضمان عليه ويرجع العامل على الغاصب بأجر مثله ويحتمل أن لا يرجع الغاصب على العامل بشيء لأنه غره فلم يرجع عليه, كما لو أطعم إنسانا شيئا وقال له: كله فإنه طعامى ثم تبين أنه مغصوب وإن ضمن العامل, احتمل أنه لا يضمنه إلا نصيبه خاصة لأنه ما قبض الثمرة كلها وإنما كان مراعيا لها وحافظا فلا يلزمه ضمانها ما لم يقبضها ويحتمل أن يضمنه الكل لأن يده ثبتت على الكل مشاهدة بغير حق فإن ضمنه الكل, رجع العامل على الغاصب ببدل نصيبه منها وأجر مثله وإن ضمن كل واحد منهما ما صار إليه رجع العامل على الغاصب بأجر مثله لا غير وإن تلفت الثمرة في شجرها, أو بعد الجذاذ قبل القسمة فمن جعل العامل قابضا لها بثبوت يده على حائطها قال: يلزمه ضمانها ومن لا يكون قابضا إلا بأخذ نصيبه منها قال: لا يلزمه الضمان ويكون على الغاصب. باب المزارعة
مسألة
قال: [وتجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض] معنى المزارعة: دفع الأرض إلى من يزرعها ويعمل عليها, والزرع بينهما وهي جائزة في قول كثير من أهل العلم قال البخاري: قال أبو جعفر: ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع وزارع على وسعد, وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم, وعروة وآل أبى بكر وآل علي, وابن سيرين وممن رأى ذلك سعيد بن المسيب وطاوس وعبد الرحمن بن الأسود, وموسى بن طلحة والزهري وعبد الرحمن بن أبي ليلى, وابنه وأبو يوسف ومحمد وروى ذلك عن معاذ, والحسن وعبد الرحمن بن يزيد قال البخاري: وعامل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر, وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وكرهها عكرمة ومجاهد, والنخعي وأبو حنيفة وروى عن ابن عباس الأمران جميعا وأجازها الشافعي في الأرض بين النخيل إذا كان بياض الأرض أقل, فإن كان أكثر فعلى وجهين ومنعها في الأرض البيضاء لما روى (رافع بن خديج قال: كنا نخابر على عهد رسول الله -ﷺ- فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله -ﷺ- عن أمر كان لنا نافعا وطواعية رسول الله -ﷺ- أنفع قال قلنا: ما ذاك؟ قال: قال رسول الله -ﷺ-: من كانت له أرض فليزرعها, ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى) وعن ابن عمر قال: (ما كنا نرى بالمزارعة بأسا حتى سمعت رافع بن خديج يقول: نهى رسول الله -ﷺ- عنها) وقال جابر: (نهى رسول الله -ﷺ- عن المخابرة) وهذه كلها أحاديث صحاح, متفق عليها والمخابرة: المزارعة واشتقاقها من الخبار وهي الأرض اللينة والخبير: الأكار وقيل: المخابرة معاملة أهل خيبر وقد جاء حديث جابر مفسرا, فروى البخاري عن جابر قال: كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف, فقال النبي -ﷺ-: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإن لم يفعل فليمسك أرضه) وروي تفسيرها عن زيد بن ثابت فروى أبو داود بإسناده عن زيد قال: (نهى رسول الله -ﷺ- عن المخابرة قلت: وما المخابرة؟ قال: أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع) ولنا ما روى ابن عمر, قال: (إن رسول الله -ﷺ- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر) متفق عليه وقد روى ذلك ابن عباس وجابر بن عبد الله -ﷺ- وقال أبو جعفر: (عامل رسول الله -ﷺ- أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر, ثم عمر وعثمان وعلي, ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع) وهذا أمر صحيح مشهور عمل به رسول الله -ﷺ- حتى مات ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا ثم أهلوهم من بعدهم, ولم يبق بالمدينة أهل بيت إلا وعمل به وعمل به أزواج رسول الله -ﷺ- من بعده فروى البخاري عن ابن عمر, أن النبي -ﷺ- (عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر فكان يعطى أزواجه مائة وسق, ثمانون وسقا تمرا وعشرون وسقا شعيرا فقسم عمر خيبر, فخير أزواج النبي -ﷺ- أن يقطع لهن من الأرض والماء أو يمضى لهن الأوسق فمنهن من اختار الأرض, ومنهن من اختار الأوسق فكانت عائشة اختارت الأرض) ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأن النسخ إنما يكون في حياة رسول الله -ﷺ- فأما شيء عمل به إلى أن مات ثم عمل به خلفاؤه بعده, وأجمعت الصحابة رضوان الله عليهم عليه وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد, فكيف يجوز نسخه ومتى كان نسخه؟ فإن كان نسخ في حياة رسول الله -ﷺ- فكيف عمل به بعد نسخه وكيف خفي نسخه, فلم يبلغ خلفاءه مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها؟ فأين كان راوى النسخ, حتى لم يذكره ولم يخبرهم به؟ فأما ما احتجوا به فالجواب عن حديث رافع من أربعة أوجه: أحدها أنه قد فسر المنهي عنه في حديثه بما لا يختلف في فساده, فإنه قال: كنا من أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه, فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما بالذهب والورق, فلم ينهنا متفق عليه وفي لفظ: فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس وهذا خارج عن محل الخلاف, فلا دليل فيه عليه ولا تعارض بين الحديثين الثاني أن خبره ورد في الكراء بثلث أو ربع والنزاع في المزارعة, ولم يدل حديثه عليها أصلا وحديثه الذي فيه المزارعة يحمل على الكراء أيضا لأن القصة واحدة رويت بألفاظ مختلفة, فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر الثالث أن أحاديث رافع مضطربة جدا مختلفة اختلافا كثيرا يوجب ترك العمل بها لو انفردت فكيف يقدم على مثل حديثنا؟ قال الإمام أحمد: حديث رافع ألوان وقال أيضا: حديث رافع ضروب وقال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لذلك, منها الذي ذكرناه ومنها خمس أخرى وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة زيد بن ثابت وابن عباس قال زيد بن ثابت: أنا أعلم بذلك منه, وإنما سمع النبي -ﷺ- رجلين قد اقتتلا فقال: " إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع " رواه أبو داود والأثرم وروى البخاري, عن عمرو بن دينار قال: قلت لطاوس: لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي -ﷺ- نهى عنها قال: إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرنى أن النبي -ﷺ- لم ينه عنها, ولكن قال: " أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجا معلوما " ثم إن أحاديث رافع منها ما يخالف الإجماع وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق ومنها ما لا يختلف في فساده, كما قد بينا وتارة يحدث عن بعض عمومته وتارة عن سماعه, وتارة عن ظهير بن رافع وإذا كانت أخبار رافع هكذا وجب إخراجها واستعمال الأخبار الواردة في شأن خيبر, الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها وبها عمل الخلفاء الراشدون وغيرهم, فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث الواهية الجواب الرابع أنه لو قدر صحة خبر رافع وامتنع تأويله وتعذر الجمع, لوجب حمله على أنه منسوخ لأنه لا بد من نسخ أحد الخبرين ويستحيل القول بنسخ حديث خيبر لكونه معمولا به من جهة النبي -ﷺ- إلى حين موته ثم من بعده إلى عصر التابعين, فمتى كان نسخه؟ وأما حديث جابر في النهي عن المخابرة فيجب حمله على أحد الوجوه التي حمل عليها خبر رافع فإنه قد روى حديث خيبر أيضا فيجب الجمع بين حديثيه, مهما أمكن ثم لو حمل على المزارعة لكان منسوخا بقصة خيبر لاستحالة نسخها كما ذكرنا, وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت فإن قال أصحاب الشافعي: تحمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل وأحاديث النهي عن الأرض البيضاء جمعا بينهما قلنا: هذا بعيد لوجوه خمسة: أحدها أنه يبعد أن تكون بلدة كبيرة يأتى منها أربعون ألف وسق ليس فيها أرض بيضاء, ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض فينقل الرواة كلهم القصة على العموم من غير تفصيل مع الحاجة إليه الثاني أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه, وما ذكرناه دلت عليه بعض الروايات وفسره الراوى له بما ذكرناه وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث, والجمع بينهما بحمل بعضها على ما فسره رواية به أولى من التحكم بما لا دليل عليه الثالث أن قولهم يفضي إلى تقييد كل واحد من الحديثين وما ذكرناه حمل لأحدهما وحده الرابع أن فيما ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين وأهليهم, وفقهاء الصحابة وهم أعلم بحديث رسول الله -ﷺ- وسنته ومعانيها وهو أولى من قول من خالفهم الخامس, أن ما ذهبنا إليه مجمع عليه فإن أبا جعفر روى ذلك عن كل أهل بيت بالمدينة وعن الخلفاء الأربعة وأهليهم, وفقهاء الصحابة واستمرار ذلك وهذا مما لا يجوز خفاؤه ولم ينكره من الصحابة منكر, فكان إجماعا وما روى في مخالفته فقد بينا فساده فيكون هذا إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم, لا يسوغ لأحد خلافه والقياس يقتضيه فإن الأرض عين تنمى بالعمل فيها فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها, كالأثمان في المضاربة والنخل في المساقاة أو نقول: أرض, فجازت المزارعة عليها كالأرض بين النخيل ولأن الحاجة داعية إلى المزارعة لأن أصحاب الأرض قد لا يقدرون على زرعها والعمل عليها, والأكرة يحتاجون إلى الزرع ولا أرض لهم فاقتضت حكمة الشرع جواز المزارعة كما قلنا في المضاربة والمساقاة بل الحاجة ها هنا آكد لأن الحاجة إلى الزرع آكد منها إلى غيره, لكونه مقتاتا ولكون الأرض لا ينتفع بها إلا بالعمل عليها بخلاف المال, ويدل على ذلك قول راوى حديثهم: نهانا رسول الله -ﷺ- عن أمر كان لنا نافعا والشارع لا ينهى عن المنافع وإنما ينهى عن المضار والمفاسد فيدل ذلك على غلط الراوى في النهي عنه, وحصول المنفعة فيما ظنه منهيا عنه إذا ثبت هذا فإن حكم المزارعة حكم المساقاة في أنها إنما تجوز بجزء للعامل من الزرع, وفي جوازها ولزومها وما يلزم العامل ورب الأرض, وغير ذلك من أحكامها.
فصل
وإذا كان في الأرض شجر وبينه بياض أرض فساقاه على الشجر, وزارعه الأرض التي بين الشجر جاز سواء قل بياض الأرض أو كثر نص عليه أحمد, وقال: قد دفع النبي -ﷺ- خيبر على هذا وبهذا قال كل من أجاز المزارعة في الأرض المفردة فإذا قال: ساقيتك على الشجر وزارعتك على الأرض بالنصف جاز وإن قال: عاملتك على الأرض والشجر على النصف جاز لأن المعاملة تشملهما وإن قال: زارعتك: الأرض بالنصف, وساقيتك على الشجر بالربع جاز كما يجوز أن يساقيه على أنواع من الشجر ويجعل له في كل نوع قدرا وإن قال: ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف جاز لأن المزارعة مساقاة من حيث إنها تحتاج إلى السقي فيها لحاجة الشجر إليه وقال أصحاب الشافعي: لا يصح لأن المساقاة لا تتناول الأرض, وتصح في النخل وحده وقيل: ينبنى على تفريق الصفقة ولنا أنه عبر عن عقد بلفظ عقد يشاركه في المعنى المشهور به في الاشتقاق فصح كما لو عبر بلفظ البيع في السلم, ولأن المقصود المعنى وقد علم بقرائن أحواله وهكذا إن قال في الأرض البيضاء: ساقيتك على هذه الأرض بنصف ما يزرع فيها فأما إن قال: ساقيتك على الشجر بالنصف ولم يذكر الأرض لم تدخل في العقد, وليس للعامل أن يزرع وبهذا قال الشافعي وقال مالك وأبو يوسف: للداخل زرع البياض فإن تشارطا أن ذلك بينهما, فهو جائز وإن اشترط صاحب الأرض أنه يزرع البياض لم يصح لأن الداخل يسقى لرب الأرض, فتلك زيادة ازدادها عليه ولنا أن هذا لم يتناوله العقد فلم يدخل فيه كما لو كانت أرضا منفردة.
فصل
وإن زارعه أرضا فيها شجرات يسيرة لم يجز أن يشترط العامل ثمرتها, وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وأجازه مالك إذا كان الشجر بقدر الثلث أو أقل لأنه يسير, فيدخل تبعا ولنا أنه اشترط الثمرة كلها فلم يجز كما لو كان الشجر أكثر من الثلث.
فصل
وإن آجره بياض أرض, وساقاه على الشجر الذي فيها جاز لأنهما عقدان يجوز إفراد كل واحد منهما فجاز الجمع بينهما كالبيع, والإجارة ويحتمل أن لا يجوز بناء على الوجه الذي لا يجوز الجمع بينهما في الأصل والأول أولى إلا أن يفعلا ذلك حيلة على شراء الثمرة قبل وجودها, أو قبل بدو صلاحها فلا يجوز سواء جمعا بين العقدين, أو عقدا أحدهما بعد الآخر لما ذكرنا في إبطال الحيل.
مسألة
قال [إذا كان البذر من رب الأرض] ظاهر المذهب أن المزارعة إنما تصح إذا كان البذر من رب الأرض والعمل من العامل نص عليه أحمد في رواية جماعة واختار عامة الأصحاب وهو مذهب ابن سيرين والشافعي واسحاق لأنه عقد يشترك العامل ورب المال في نمائه فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما كالمساقاة والمضاربة. وقد روي عن أحمد ما يدل على أن البذر يجوز أن يكون من العامل فإنه قال في رواية مهنا في الرجل يكون له الأرض فيها نخل وشجر يدفعها إلى قوم يزرعون الأرض ويقومون على الشجر على أن له النصف فلا بأس بذلك، وقد دفع النبي ﷺ خيبر على هذا، فأجاز دفع الأرض لزرعها عنه وهو قول أبي يوسف وطائفة من اهل الحديث وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وروي عن سعد وابن مسعود وابن عمر أن البذر من العامل ولعلهم أرادوا أنه يجوز أن يكون من العامل فيكون كقول عمر ولا يكون قولا ثالثا. والدليل على صحة ما ذكرنا قول ابن عمر دفع رسول الله ﷺ إلى يهود خيبر نخل خيبر وارضها على أن يعملوها من اموالهم ولرسول الله ﷺ شطر ثمرتها. وفي لفظ على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها. أخرجهما البخاري فجعل عملها من أموالهم وزرعها عليهم ولم يذكر شيئا آخر، وظاهره أن البذر من أهل خيبر، والأصل المعول عليه في المزارعة قصة خيبر ولم يذكر النبي ﷺ أن البذر على المسلمين ولو كان شرطا لما أخل بذكره ولو فعله النبي ﷺ وأصحابه لنقل ولم يجز الاخلال بنقله، ولأن عمر رضي الله عنه فعل الأمرين جميعا فإن البخاري روى عنه أنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا فظاهر هذا أن ذلك اشتهر فلم ينكر فكان إجماعا، فإن قيل هذا بمنزلة بيعتين في بيعة فكيف يفعله عمر رضي الله عنه؟ قلنا يحتمل أنه قال ذلك ليخبرهم في أي العقدين شاءوا فمن اختار عقدا عقده معينا كما لو قال في البيع إن شئت بعتكه بعشرة صحاح، وإن شئت بأحد عشر مكسورة فاختار أحدهما فعقد البيع معه عليه معينا، ويجوز أن يكون مجيئه بالبذر أو شروعه في العمل بغير بذر مع إقرار عمر له على ذلك وعلمه به جرى مجرى العقد ولهذا روي عن أحمد رحمه الله صحة الإجارة فيما إذا قال إن خطته روميا فلك درهم وإ ن خطته فارسيا فلك نصف درهم، وما ذكره أصحابنا من القياس يخالف ظاهر النص والإجماع الذين ذكرناهما فكيف يعمل به؛ ثم هو منتقض بما إذا اشترك مالان وبدن صاحب أحدهما.
فصل
فإن كان البذر منهما نصفين وشرطا أن الزرع بينهما نصفان فهو بينهما, سواء قلنا بصحة المزارعة أو فسادها لأنها إن كانت صحيحة فالزرع بينهما على ما شرطاه وإن كانت فاسدة فلكل واحد منهما بقدر بذره, لكن إن حكمنا بصحتها لم يرجع أحدهما على صاحبه بشيء وإن قلنا: من شرط صحتها إخراج رب المال البذر فهي فاسدة فعلى العامل نصف أجر الأرض, وله على رب الأرض نصف أجر عمله فيتقاصان بقدر الأقل منهما ويرجع أحدهما على صاحبه بالفضل وإن شرطا التفاضل في الزرع, وقلنا بصحتها فالزرع بينهما على ما شرطاه ولا تراجع بينهما وإن قلنا بفسادها, فالزرع بينهما على قدر بذرهما ويتراجعان كما ذكرنا وكذلك إن تفاضلا في البذر, وشرطا التساوى في الزرع أو شرطا لأحدهما أكثر من قدر بذره أو أقل.
فصل
فإن قال صاحب الأرض: أجرتك نصف أرضى هذه بنصف بذرك ونصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرج المزارع البذر كله, لم يصح لأن المنفعة غير معلومة وكذلك لو جعلها أجرة لأرض أخرى أو دار لم يجز, ويكون الزرع كله للمزارع وعليه أجر مثل الأرض وإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا تختلف معه ومعرفة البذر, جاز وكان الزرع بينهما ويحتمل أن لا يصح لأن البذر عوض فيشترط قبضه, كما لو كان مبيعا وما حصل فيه قبض وإن قال: أجرتك نصف أرضى بنصف منفعتك, ومنفعة بقرك وآلتك وأخرجا البذر, فهي كالتى قبلها إلا أن الزرع يكون بينهما على كل حال.
مسألة
قال: [فإن اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي, لم يجز] وكانت للمزارع أجرة مثله وكذلك يبطل إن أخرج المزارع البذر ويصير الزرع للمزارع وعليه أجرة الأرض أما إذا اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره, فلا يصح لأنه كأنه اشترط لنفسه قفزانا معلومة وذلك شرط فاسد تفسد به المزارعة, لأن الأرض ربما لا يخرج منها إلا تلك القفزان فيختص رب المال بها وربما لا تخرجها الأرض وأما إذا أخرج المزارع البذر, فهو مبنى على الروايتين في صحة هذا الشرط وقد ذكر الخرقي أنه فاسد فإذا أخرج المزارع البذر فسدت كما لو أخرج العامل في المضاربة رأس المال من عنده ومتى فسدت المزارعة, فالزرع لصاحب البذر لأنه عين ما له ينقلب من حال إلى حال وينمو, فصار كصغار الشجر إذا غرس فطال والبيضة إذا حضنت فصارت فرخا والبذر ها هنا من المزارع, فكان الزرع له وعليه أجر الأرض لأن ربها إنما بذلها له بعوض لم يسلم له فرجع إلى عوض منافعها النابتة بزرعها على صاحب الزرع ولو فسدت, والبذر من رب الأرض كان الزرع له وعليه أجر مثل العامل لذلك, وإن كان البذر منهما فالزرع بينهما ويتراجعان بما يفضل لأحدهما على صاحبه من أجر مثل الأرض التي فيها نصيب العامل, وأجر العامل بقدر عمله في نصيب صاحب الأرض.
فصل
وإن زارعه على أن لرب الأرض زرعا بعينه وللعامل زرعا بعينه مثل أن يشترط لأحدهما زرع ناحية, وللآخر زرع أخرى أو يشترط أحدهما ما على السواقى والجداول إما منفردا, أو مع نصيبه فهو فاسد بإجماع العلماء لأن الخبر صحيح في النهي عنه غير معارض ولا منسوخ, ولأنه يؤدى إلى تلف ما عين لأحدهما دون الآخر فينفرد أحدهما بالغلة دون صاحبه.
فصل
والشروط الفاسدة في المساقاة والمزارعة تنقسم قسمين أحدهما ما يعود بجهالة نصيب كل واحد منهما مثل ما ذكرنا ها هنا, أو أن يشترط أحدهما نصيبا مجهولا أو دراهم معلومة أو أقفزة معينة, أو أنه إن سقى سيحا فله كذا وإن سقى بكلفة فله كذا فهذا يفسدها لأنه يعود إلى جهالة المعقود عليه فأشبه البيع بثمن مجهول, والمضاربة مع جهالة نصيب أحدهما وإن شرط البذر من العامل فالمنصوص عن أحمد فساد العقد لأن الشرط إذا فسد لزم كون الزرع لرب البذر, لكونه نماء ماله فلا يحصل لرب الأرض شيء منه ويستحق الأجر, وهذا معنى الفساد فأما إن شرط ما لا يفضي إلى جهالة الربح كعمل رب المال معه أو عمل العامل في شيء آخر, فهل تفسد المساقاة والمزارعة؟ يخرج على روايتين بناء على الشرط الفاسد في البيع والمضاربة.
فصل
وإن دفع رجل بذره إلى صاحب الأرض ، ليزرعه في أرضه ، ويكون ما يخرج بينهما ، فهو فاسد أيضا ؛ لأن البذر ليس من رب الأرض ، ولا من العامل ، ويكون الزرع لصاحب البذر ، وعليه أجر الأرض والعمل . وإن قال صاحب الأرض لرجل : أنا أزرع الأرض ببذري وعواملي ، ويكون سقيها من مائك ، والزرع بيننا . ففيها روايتان : إحداهما لا يصح . اختارها القاضي ؛ لأن موضوع المزارعة على أن يكون من أحدهما الأرض ، ومن الآخر العمل ، وليس من صاحب الماء أرض ولا عمل ولا بذر ، لأن الماء لا يباع ولا يستأجر ، فكيف تصح المزارعة به ؟ والثانية ، يصح اختارها أبو بكر ، ونقلها عن أحمد يعقوب بن بختان ، وحرب ؛ لأن الماء أحد ما يحتاج إليه في الزرع ، فجاز أن يكون من أحدهما ، كالأرض والعمل . والأول أصح ؛ لأن هذا ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص ؛ لما ذكرناه
فصل
وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض, ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر والعمل على أن ما رزق الله بينهم فعملوا, فهذا عقد فاسد نص عليه في رواية أبى داود ومهنا, وأحمد بن القاسم وذكر حديث مجاهد (, في أربعة اشتركوا في زرع على عهد رسول الله -ﷺ- فقال أحدهم: على الفدان وقال الآخر: قبلي الأرض وقال الآخر: قبلي البذر وقال الآخر: قبلي العمل فجعل النبي -ﷺ- الزرع لصاحب البذر وألغى صاحب الأرض, وجعل لصاحب العمل كل يوم درهما ولصاحب الفدان شيئا معلوما) فقال أحمد: لا يصح والعمل على غيره وذكر هذا الحديث سعيد بن منصور, عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي وعن واصل بن أبي جميل, عن مجاهد وقال في آخره: فحدثت به مكحولا فقال: ما يسرنى بهذا الحديث وصيفا وحكم هذه المسألة حكم المسألة التي ذكرناها في صدر الفصل, وهما فاسدان لأن موضوع المزارعة على أن البذر من رب الأرض أو من العامل وليس هو ها هنا من واحد منهما وليست شركة لأن الشركة تكون بالأثمان, وإن كانت بالعروض اعتبر كونها معلومة ولم يوجد شيء من ذلك ها هنا وليست إجارة لأن الإجارة تفتقر إلى مدة معلومة, وعوض معلوم وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله, ولصاحبيه عليه أجر مثلهما لأنهما دخلا على أن يسلم لهما المسمى فإذا لم يسلم عاد إلى بدله وبهذا قال الشافعي, وأبو ثور وقال أصحاب الرأي: يتصدق بالفضل والصحيح أن النماء لصاحب البذر ولا تلزمه الصدقة به كسائر ماله ولو كانت الأرض لثلاثة, فاشتركوا على أن يزرعوها ببذرهم ودوابهم وأعوانهم على أن ما أخرج الله بينهم على قدر مالهم فهو جائز وبهذا قال مالك, والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا لأن أحدهم لا يفضل صاحبيه بشيء.
فصل
وإذا زارع رجلا, وآجره أرضه فزرعها وسقط من الحب شيء فنبت في تلك الأرض عاما آخر, فهو لصاحب الأرض نص عليه أحمد في رواية أبى داود ومحمد بن الحارث وقال الشافعي: هو لصاحب الحب لأنه عين ما له, فهو كما لو بذره قصدا ولنا أن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف وزال ملكه عنه لأن العادة ترك ذلك لمن يأخذه ولهذا أبيح التقاطه ورعيه ولا نعلم خلافا في إباحة التقاط ما خلفه الحصادون من سنبل وحب وغيرهما, فجرى ذلك مجرى نبذه على سبيل الترك له وصار كالشيء التافه يسقط منه كالثمرة واللقمة ونحوهما والنوى لو التقطه إنسان, فغرسه كان له دون من سقط منه كذا ها هنا.
فصل
في إجارة الأرض, تجوز إجارتها بالورق والذهب وسائر العروض, سوى المطعوم في قول أكثر العلم قال أحمد: فلما اختلفوا في الذهب والورق وقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن اكتراء الأرض وقتا معلوما جائز بالذهب والفضة روينا هذا القول عن سعد ورافع بن خديج, وابن عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة, والقاسم وسالم وعبد الله بن الحارث, ومالك والليث والشافعي, وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وروى عن طاوس, والحسن كراهة ذلك لما روى رافع أن النبي -ﷺ- (نهى عن كراء المزارع) متفق عليه ولنا (أن رافعا قال: أما بالذهب والورق فلم ينهنا) يعني النبي -ﷺ- متفق عليه ولمسلم (أما بشيء معلوم مضمون فلا بأس) وعن حنظلة بن قيس أنه (سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال: نهى رسول الله -ﷺ- عن كراء الأرض قال فقلت: بالذهب والفضة؟ قال: إنما نهى عنها ببعض ما يخرج منها أما بالذهب والفضة فلا بأس) متفق عليه, وعن سعد قال: (كنا نكري الأرض بما على السواقى وما صعد بالماء منها فنهانا رسول الله -ﷺ- عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة) رواه أبو داود, ولأنها عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها فجازت إجارتها بالأثمان ونحوها كالدور والحكم في العروض كالحكم في الأثمان وأما حديثهم, فقد فسره الراوى بما ذكرناه عنه فلا يجوز الاحتجاج به على غيره وحديثنا مفسر لحديثهم فإن راويهما واحد, وقد رواه عاما وخاصا فيحمل العام على الخاص مع موافقة الخاص لسائر الأحاديث والقياس وقول أكثر أهل العلم. فأما إجارتها بطعام, فتنقسم ثلاثة أقسام أحدها أن يؤجرها بمطعوم غير الخارج منها معلوم فيجوز نص عليه أحمد, في رواية الحسن بن ثواب وهو قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي, والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ومنع منه مالك, حتى منع إجارتها باللبن والعسل وقد روى عن أحمد أنه قال: ربما تهيبته قال القاضي: هذا من أحمد على سبيل الورع ومذهبه الجواز والحجة لمالك, ما روى رافع بن خديج عن بعض عمومته قال: قال رسول الله -ﷺ-: (من كانت له أرض فلا يكريها بطعام مسمى) رواه أبو داود وابن ماجه وروى ظهير بن رافع قال: (دعاني رسول الله -ﷺ- فقال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال: لا تفعلوا ازرعوها أو أمسكوها) متفق عليه وروى أبو سعيد قال: (نهى رسول الله -ﷺ- عن المحاقلة) والمحاقلة: استكراء الأرض بالحنطة ولنا قول رافع: فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس به ولأنه عوض معلوم مضمون, لا يتخذ وسيلة إلى الربا فجازت إجارتها به كالأثمان وحديث ظهير بن رافع قد سبق الكلام عليه في المزارعة, على أنه يحتمل النهي عن إجارتها بذلك إذا كان خارجا منها ويحتمل النهي عنه إذا آجرها بالربع والأوسق وحديث أبى سعيد يحتمل المنع من كرائها بالحنطة إذا اكتراها لزرع الحنطة. القسم الثاني, إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها كإجارتها بقفزان حنطة لزرعها, فقال أبو الخطاب: فيها روايتان إحداهما المنع وهي التي ذكرها القاضي مذهبا وهي قول مالك لما تقدم من الأحاديث ولأنها ذريعة إلى المزارعة عليها بشيء معلوم من الخارج منها, لأنه يجعل مكان قوله زارعتك آجرتك فتصير مزارعة بلفظ الإجارة, والذرائع معتبرة والثانية جواز ذلك اختارها أبو الخطاب وهو قول أبى حنيفة والشافعي لما ذكرنا في القسم الأول ولأن ما جازت إجارته بغير المطعوم, جازت به كالدور. القسم الثالث إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها, كنصف وثلث وربع, فالمنصوص عن أحمد جوازه وهو قول أكثر الأصحاب واختار أبو الخطاب أنها لا تصح وهو قول أبى حنيفة والشافعي وهو الصحيح إن شاء الله لما تقدم من الأحاديث في النهي, من غير معارض لها ولأنها إجارة بعوض مجهول فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى, ولأنها إجارة لعين ببعض نمائها فلم تجز كسائر الأعيان, ولأنه لا نص في جوازها ولا يمكن قياسها على المنصوص فإن النصوص إنما وردت بالنهى عن إجارتها بذلك ولا نعلم في تجويزها نصا, والمنصوص على جوازه إجارتها بذهب أو فضة أو شيء مضمون معلوم وليست هذه كذلك فأما نص أحمد في الجواز, فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة فيكون حكمها حكم المزارعة في جوازها ولزومها, وفيما يلزم العامل ورب الأرض وسائر أحكامها والله أعلم.