إيثار الحق على الخلق
► ويكي مصدر:إسلام | ◄ |
الحمد لله رب العالمين أكمل الحمد على جميع هداياته ومعارفه وعطاياه وعوارفه وأفضل وتحياته الطيبات المباركات وإكرامه على رسوله وحبيبه وصفوته محمد الأمين خاتم النبيين والمرسلين الذي جعل الله الذلة والصغار على من خالف أمره كما ورد به الحديث المتين والقرآن المبين حيث قال رب العالمين في بعض المخالفين له في الدين سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين و وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين ورضي الله عن الصحابة أجمعين الصادقين السابقين والذين جاؤا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد فإني نظرت إلى شدة الخلاف واختلاف العقلاء والأذكياء وأهل الرياضات العظيمة من الرهبان وسائر أجناس أهل الأديان ثم إلى ما وقع من ذلك بين أهل الإسلام من أهل القوانين العلمية البرهانية وأهل القوانين الرياضية الرهبانية وأهل التفاسير والتآويل للآيات القرآنية وأهل الآثار والأنظار في الفروع الظنية فرأيت اختلافا كبيرا وتعاديا نكيرا وتباعدا كثيرا سبق إلى ظن الناظر فيه أنه لا طريق له مع سعة ذلك إلى تمييز المحق من المبطل والمصيب من المخطئ بالدليل الصحيح لأن التمييز الصحيح لذلك لا يحصل إلا بعد بلوغ الغاية القصوى في طرق جميع هذه الطوائف حتى يعترف له بالإمامة في كل فن من تلك الفنون كل أمام بها وعارف ويتقن علم كل فرقة مثل اتقان كل من أئمتهم لدعواهم وحقائقهم مميزا لمعارفهم ومزالقهم والعمر أقصر من أن يتسع لذلك مع تفريغه عن الشواغل المزاحمة لذلك تم الطلب الشديد له فكيف يتيسر علم جميع ذلك في أول أوقات التكليف مع الشواغل الجمة والتقصير الكثير من الأكابر المتصدرين للتعليم كيف للمتعلمين المقصرين على تلقن مذاهب أسلافهم من غير الثقات إلى الإهتمام بتحقيق أدلتهم التي تخصهم دع عنك الإهتمام بأدلة خصومهم وتحقيقها مع شدة الإشكالات ودقتها ومعارضة الأذكياء والرهبان بعضهم لبعض في كل ملة وكل فرقة ومع استمرار من ظاهره الفهم والإنصاف من أهل الإسلام على ذلك الإختلاف فعظمت هذه الفكرة عندي واهتم لها قلبي لولا ما عارضها من العلم اليقين بل الضروري بما للأكثرين من العقائد الباطلة ومعارضة الحق الواضح بالشبه الساقطة وتعرف ذلك بمطالعة كتب الملل والنحل والأهواء والتجاهل فنظرت في كيفية النجاة مع ذلك مستمدا من الله تعالى داعيا طالبا راغبا راهبا وان الله تعالى وله الحمد والشكر والثناء وفقني حينئذ إلى أوضح الطرق في علمي وأبعدها من الشبه والشكوك إلى معرفة ما تمس الضرورة إلى معرفته من الحق الذي تخاف المضرة بجهله وهو الذي جاء الإسلام بوجوب معرفته أو أمر بها أو ندب إليها من الكتاب والسنة دون معرفة ما لم يدل عقل ولا سمع على وجوب معرفته ولا ثبت في الشريعة استحبابها وبترك هذا القسم يسهل الأمر ويهون الخطب فإن الذي وسع دائرة المراء والضلال هو البحث عما لا يعلم والسعي فيما لا يدرك وطول السير والسعي في الطريق التي لا توصل إلى المطلوب والإقتداء بمن يظن فيه الإصابة وهو مخطئ والإشتغال بالبحث عن الدقائق التي لا طريق إلى معرفتها ولا يوصل البحث عنها إلى اليقين ولا إلى الوفاق ولا ظهرت للخوض فيها مع طوله ثمرة نافعة لا باليقين صادعة ولا للإفتراق جامعة ولا روي عن أحد من الأنبياء عليهم السلام ولا صح عن أحد من السلف الكرام
وربما انقطع هذا العمر القصير في تلك الطرق البعيدة قبل البلوغ إلى المقصود بها وهو معرفة الحق الواجب من الباطل المهلك ومعرفة المحق من المبطل وليس الطلب لكل علم بمحمود ولا كل مطلوب بموجود أما الثانية فوفاقية وأما الأولى فعقلا وسمعا أما العقل فإنه لا يحسن قطع الأوقات في وزن الحجارة وكيل التراب ونحو ذلك مما لا يفيد والعلة أنه عبث ولعب لا يضر ولا ينفع فكيف بما يضر أو لا يؤمن أنه يضر وقد ذكر نحو ذلك القاضي جعفر رحمه الله تعالى وأما السمع فقد قال تعالى في متعلمي السحر أنهم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وقال تعالى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم والآية تقتضي ذم علمهم وذمهم به
وفي الحديث أن من العلم جهلا قال ابن الأثير في النهاية قيل في تفسيره وهو أن يتعلم ما لايحتاج إليه كالنجوم وعلوم الأوائل ويدع ما هو محتاج اليه في دينه من علم القرآن والسنة وقال تعالى ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون وعلم آدم الاسماء دون الملائكة وآتانا من العلم قليلا مع قدرته على أن يؤتينا كثيرا فقال في ذلك وما أوتيتم من العلم إلا قليلا يوضحه قول الخضر لموسى عليهما السلام ما علمي وعلمك وعلم جميع الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من هذا البحر وقال لموسى أنا على علم من علم الله لا ينبغي لك أن تعلمه وأنت على علم من علم الله لا ينبغي لي أن أعمله فدل ذلك كله على أنه لا ينبغي لعاقل أن يتعرض لعلم ما لم يعلمنا الله ورسوله ويتضح معقوله ومنقوله لقول الملائكة عليهم السلام لا علم لنا إلا ما علمتنا وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي وهذه الآية دالة على أن كتب الله لا تخلو من البراهين المحتاج اليها في أمر الدين كما سيأتي في هذا المختصر مستوعبا إن شاء الله تعالى
وفي قول الملائكة لا علم لنا إلا ما علمتنا إشارة إلى ذلك بل دلالة واضحة لأنهم حين قطعوا على فساد آدم مع اخبار الله تعالى لهم أنه مستخلفه في الأرض إنما أتوا من خوضهم فيما لم يعلمهم الله تعالى إذ لو كان من تعليم الله ما أخطأوا فيه فلما تبين لهم خطأهم نظروا من أين جاءهم الخطأ على علو منزلتهم فعرفوا أنهم أخطأوا لما تعرضوا لعلم ما لم يعلمهم الله سبحانه فقالوا حينئذ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فهذا وهم أحق الخلق بالعلم والكشف للغائبات فإنهم أنوار وعقول بلا شهوات حاجبة ولا أهواء غالبة ولذلك ذم الله الذين في قلوبهم زيغ بابتغاء تأويل المتشابه ومدح الراسخين بالإعتراف بالعجز كما هو معروف عن علي عليه السلام في أمالي السيد الامام أبي طالب عليه السلام وفي نهج البلاغة على ما سيأتي تقريره والحجة عليه وذم اليهود على تعاطي ما لم يعلموا فقال تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم
ومن ذلك أن الله تعالى أرى رسوله والمسلمين يوم بدر الكثير من المشركين قليلا في المنام ثم في اليقظة للمصلحة واختلف لمن الضمير في قوله تعالى يرونهم مثليهم رأي العين وقال سبحانه في الساعة أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى أي أخفي علمها الجملي وأما تعيين وقتها فقد أخفاه من الخلق كما قال ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة وكفى بذلك حجة صادعة على أن المصلحة للخلق قد تعلق بجهل بعض العلوم ومما يوضح ذلك قول عيسى عليه السلام ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه كما ذكر في الكشاف ولأن حكمة الله وحكمه الذي لا يغالب قد يقتضي ذلك عموما كما اقتضت كتم الآجال على الاكثرين
وجاء في الحديث الصحيح أن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أول رؤيا عند رسول الله فقال له أصبت بعضا وأخطأت بعضا فسأله بيان ما أصاب فيه وما أخطأ فأبى عليه فقال أقسمت عليك الا ما أخبرتني فقال لا تقسم فهذا مع اكرامه له وانه على خلق عظيم كما قال الله تعالى فلولا أن الجهل ببعض الأمور قد يكون راجحا أو واجبا لما تخلف
عن اخباره بعد هذا الالحاح الكثير من هذا الصاحب الكبير فدل على أنه ليس في كل علم صلاح العباد وأن قدرنا أنه يحصل من غير خطأ ولا تعب ولا خطر فكيف مع خوف الفوت والخطر العظيم والتعب الشديد بل هو مع تحقق ذلك في حق الأكثرين بالتجارب الضرورية
ومن ذلك قول رسول الله حين رفع علم ليلة القدر وسئل عنها وعسى أن يكون خيرا لكم رواه البخاري وقوله في حديث معاذ دعهم يعملوا متفق على صحته وشواهده جمة كثيرة صحيحة ومن ذلك وهو أعظمه وأشهره قصة الخضر وموسى عليهما السلام وهي شافية كافية وهي صريحة في اختلاف المصالح في العلوم ومنه قوله تعالى بعد حكاية الإختلاف بين داود وسليمان عليهما السلام وكلا آتينا حكما وعلما
وذكر الشيخ أبو القاسم البلخي في مقالاته المشهورة العامة فقال هنيئا لهم السلامة مرتين أو ثلاثا وفي شعر العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي وقد حكى كثرة بحثه في علم الكلام حتى قال
وأسائل الملل التي اختلفت ... في الدين حتى عابد الوثن
وحسبت أني بالغ أملي ... فيما طلبت ومبريء شجني
فاذا الذي استكثرت منه هو ... الجاني على عظائم المحن
فضللت في تيه بلا علم ... وغرقت في يم بلا سفن
وقال الفخر الرازي في ذلك
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم
وقال صاحب نهاية الاقدام
قد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
فهذا كلام سلاطين أئمة المعارف العقلية من فريقي الملة الإسلامية وسيأتي هذا مبسوطا في موضعه
فأما بعض الطلبة من أتباع أهل الكلام الذين قلدوا في تلك القواعد وهم يحسبون أنهم من المحققين فهم أبلد وأبعد من أن يعرفوا ما أوجب اعتراف هؤلاء الأئمة بالجهل والعجز وإنما هم بمنزلة من سمع أخبار الحروب والشجعان وهؤلاء الأئمة بمنزلة من مارس مقارعة الأبطال ومنازلة الأقران ولا يلزم من التزهيد في طلب ما لا يحصل والاشتغال بما يضر من علوم الفلاسفة والمبتدعة التزهيد في العلم النافع وسيأتي اشباع القول في عظم فضله والحث عليه بعد تقرير صحته والرد الشافي على من نفاه
ومن ها هنا أمر رسول الله وآله وسلم بالإقتصاد في الأمور وقال إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وهو الذي اختاره الله تعالى معلما للأميين ورحمة للعالمين وعلم بالضرورة لا بأخبار الآحاد إن ذلك كان خلقه ودينه عند العلماء النقاد فتعين حينئذ طلب الطريق القريبة الممكنة التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها كما نص على ذلك في كتابه الكريم وسنة رسوله عليه أفضل ولولا ما وقع فيها من التغيير لما احتاجت إلى طلب ولكنه قد وقع فيها التغيير كما أخبر بذلك رسول الله في الحديث المتفق على صحته عند أهل النقل وفيه تفسير الفطرة وتقريرها من المبلغ المبين لما أنزل عليه من الهدى والنور حيث قال كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في ممادح ربه سبحانه وتعالى التي أودعها خطبه في محافل المسلمين وأما العارفين وعلمها من حضره من خيار المؤمنين حيث قال في محامد رب العالمين لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته فهو الذي يشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود وقد جود في شرحه ونصرته العلامة ابن أبي الحديد وعزاه إلى قاضي القضاة وفرق بينه وبين قول الجاحظ فقال أنا ما ادعينا في هذا المقام إلا أن العلم بإثبات الصانع هو الضروري والجاحظ ادعى في جميع المعارف أنها ضرورية وأين أحد القولين من الآخر انتهى كلام الشيخ ويدل عليه قوله تعالى الم ذلك الكتاب لا ريب فيه وقوله الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه وقوله تعالى قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض ولذلك كان المختار في حقيقة النظر إنه تجريد القلب عن الغفلات لا ترتيب المقدمات كما ذكره الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى فتأمل ذلك
قلت وبيان هذه الجملة في أمرين أحدهما بيان المحتاج إليه من المعارف الإسلامية في الأصول وهي سبعة أمور كلها فطرية جلية كما يأتي وعليها مدار خلاف العالمين أجمعين وإنما تدرك بالفطرة قبل التغيير أو مع الشعور بذلك التغيير فإن مداواته بعد الشعور به سهلة وذلك لأن البصيرة في المعلومات كالبصر في المحسوسات كلاهما مخلوقان في الأصل على الكمال ما لم يغيرا فمتى وقع فيهما التغيير ولم يشعر به صاحبه فحش جهله وخطأه ومتى شعر بذلك سهل علاجه واستداركه والحكم عليه بحكم العميان والله المستعان الأمر الثاني بيان أن خوض جميع المتكلمين في عقائدهم الخلافية بين الفرق الإسلامية يتوقف دائما أو غالبا على الخوض في مقدمات لتلك العقائد وجميع تلك المقدمات مختلف فيها أشد الاختلاف بين أذكياء العالم وفحول علم المعقولات من علماء الإسلام دع عنك غيرهم ومن شرط المقدمات أن تكون أجلى وأن لا تكون بالشك والإختلاف أولى فلينظر بإنصاف من كان من أهل النظر من علماء الكلام في تلك القواعد الدقيقة والمباحث العميقة والمعارضات الشديدة والمناقشات اللطيفة في أحكام القدم ومتى يصح من الله تعالى إيجاد الحوادث وما لزم كل خائض في ذلك حتى التزم بعض شيوخ الكلام نفي القدرة على تقديم الخلق عن وقته وبعضهم أن الحوادث لا نهاية لها في الابتداء كما لا نهاية لها في الإنتهاء وقال جمهورهم أنه قادر في القدم ولا يصح منه الفعل فيه مع قدرته وكذلك اختلافهم فيما تعلق به العلم في القدم وفي أحكام الوجود والموجود وهل هما شيء واحد على التحقيق أو بينهما فرق دقيق وفي دعوى أبي هاشم وأصحابه أن الثبوت غير الوجود حتى جمعوا بين الثبوت والعدم دون الوجود والعدم وقضوا بأن الله تعالى لا يدخل في قدرته سبحانه أن يكون هو المثبت للأشياء الثابتة في العدم مع قضائهم بثبوت جميع الأشياء في العدم بغير مؤثر وإنما تفسير خلق الله للأشياء عندهم أن يكسبها بعد ثبوتها صفة الوجود مع مخالفة جمهور العقلاء لهم في ذلك
وفي أدلتهم عليه كما أوضحه صاحبهم أبو الحسين وأصحابه وأوضحوا أيضا مخالفتهم في اثبات الأكوان والإستدلال بها إلى أمثال لذلك كثيرة مما اشتملت عليه التذكرة لابن متويه والملخص للرازي وشرحه والصحائف الإلهية لبعض الحنفية ونحوها من جوامع هذا الفن فعلى قدر ما في تلك القواعد من الشكوك والإحتمالات تعرف ضعف ما تفرع عنها
ولعل كثيرا من النظار المتأخرين يعترف بأنها محارات ومجاهل لا هداية للعقول فيها إلى اليقين ثم يعتقد أن عقائده المبنية عليها صحيحة قطعية وهذه غفلة عظيمة فإن الفرع لا يكون أقوى من الأصل لا في علوم السمع ولا في علوم العقل ثم أن المتكلمين كثيرا ما يقفون المعارف الجليلة الواضحة على أدلة دقيقة خفية فيتولد من ذلك مفاسد منها إيجاب ما لا يجب من الإستدلال وتكلفه وتكليفه المسلمين ومنها تكفير من لا يعرف ذلك أو تأثيمه ومعاداته ومع ذلك تحريمه يؤدي إلى حرام آخر وهو التفرق الذي نص القرآن الكريم على النهي عنه ومنها تمكين أعداء الإسلام من التشكيك على المسلمين فيه وفي أمثاله ومنها الإبتداع وتوسيع دائرته وما أحسن قول أمير المؤمنين علي عليه السلام في مثل ذلك العلم نكتة يسيرة كثرها أهل الجهل
ولنذكر شيئا من ذلك نخرج به عن التهمة بدعوى ما لم يكن منهم فنقول انا لا نحتاج إلى دليل على وجوب الله تعالى بعد علمنا بالضرورة الفطرية أنه الذي أوجد الموجودات وخلق العوالم ودبرها واستحق المحامد جميعها والأسماء الحسنى كلها وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم خبير وهذا هو قول الشيخ أبي الحسين وأصحابه وأكثر العقلاء وجماهير الأمة وذهب الشيخ أبو هاشم الجبائي وأتباعه إلى أنا بعد علمنا بذلك كله نشك هل هو سبحانه موجود أو معدوم بعد علمنا بأنه موجد
الموجودات ومدبرها القيوم بها وأنا بعد العلم بذلك ومعه نحتاج إلى النظر الدقيق في دليل يدل على أن خالقنا الكامل الأسماء والنعوت غير معدوم ولا يكفينا العلم بأنه خالقنا ومدبرنا دليلا على وجوده قط وغفلوا عن كون وجود الخالق القيوم بخلقه أقوى في التعريف بوجوده من الدليل الذي يتكلفونه على ذلك في فطر العقلاء وأنه إن أمكن الشك في هذه الفطرة أمكن الشك في دليلهم عليها إذ لا يمكن أن يكون أقوى منها بل هو أخفى بغير شك كما يعلم ذلك من وقف على أدلتهم في ذلك وقد كنت أوردتها هنا وبيان ما فيها من الشكوك ثم صنت ديباجة هذا المختصر من ذلك ونحوه من علم الجدل ورأيت أن أورد ذلك في فصل مفرد في آخر هذا المختصر إن شاء الله تعالى وإلا فهي في العواصم مجموعة وفي كتب الكلام مفرقة وإنما فعلت ذلك معا ليسلم أولا من كدورته أهل الاثر ثم ينتفع ثانيا بالنظر في الشكوك الواردة عليه أهل الكلام والنظر إن شاء الله تعالى وإنما اضطر أبو هاشم وأتباعه إلى ذلك لأنهم جوزوا للمعدوم تحققا في الخارج لا في الذهن على ما حققه الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى في الفصل الرابع في صفات الله تعالى
واعلم أن كثرة التعنت في النظر تؤدي إلى طلب تحصيل الحاصل والتشكيك فيه وقد جربنا ذلك وتأثيره في الموسوسين في الطهارة وفي النية وأمثالهما من الأمور الضرورية فإذا صح مرض العقول في الضروريات بسبب التعنت والغلو في تحصيل الحاصل فكيف إذا وقع هذا السبب في محارات العقول ودقائق الكلام وتوهم المبتلي بالوسوسة أنه لا طريق له إلى معرفة الله تعالى إلا تلك الدقائق الخفية والقواعد المختلف فيها بين أذكياء البرية ومن أمارة عدم اليقين فيها استمرار الخلاف بعد طول البحث من الأذكياء من أهل الإنصاف ومن علماء أهل الإسلام ولا تحسبن أن العلة في ذلك وقتها بل العلة عدم الطريق إلى معرفتها يوضح هذان علم الحساب والفلك وتسيير الشمس والقمر ومعرفة أوقات الكسوفيين من أدق العلوم ومع دقته فإن غالبه صحيح متفق عليه بين العارفين له وما كان منه خفيا ظنيا فهو معروف بذلك بين أهله وعكس ذلك علم أحكام النجوم
في حدوث الحوادث فإن غالبه باطل لأنها لم تصح منه المقدمات فدل الضعف والإختلاف على ضعف القواعد لا على دقتها ولذلك لا يختلف أهل الحساب الدقيق في الفرائض وقسمة المواريث في المناسخات ونحوها مع دقته ولذلك لا تختلف علماء العربية والمعاني والبيان في كل دقيق بل يتفقون حيث تكون المقدمات صحيحة وإن دقت ولا يختلفون إلا حيث تكون المقدمات ظنية بل المتكلمون في الحقيقة كذلك لكنهم إنما يتفقون في أمور يستغنى في معرفتها عن علم الكلام وعن معرفتها في علم الكلام ثم يختصون من بين أهل العلوم بدعوى القطع في مواضع الظنون وتركيب التعادي والتأثيم والتكفير على تلك الدعاوى إلا أفرادا من أئمتهم وأذكيائهم توغلوا حتى فهموا أنهم انتهوا إلى محارات منتهى العقول فيها الميل إلى إمارات ظنية فرجعوا إلى التسليم وترك التكفير كما سيأتي بيان ذلك عنهم ونصوصهم فيه
ومن العبر الجلية في هذا للمتأملين أن أهل الدنيا الموصوفة بأنها لعب ولهو ومتاع قد اتقنوا موازين معرفة الحق من الباطل فيما بينهم وتمييز يسير الحيف في ذلك حتى لا يستطيع أحد تدليس الباطل مع وزنهم وتمييزهم لذلك بتلك الموازين الموصلة إلى العلم اليقين القاطع لا مكان اللجاج والخلاف من المخالفين فلو استطاع أهل الكلام أن يضعوا في أمور الدين المهمة موازين حق تميز الحق من الباطل على وجه واضح يقطع الخلاف ويشفي الصدور مثل موازين أهل الدنيا ما كرهوا ذلك وهم لا يتهمون بالتقصير في ذلك وإنما أتوا من أنهم تركوا الإعتماد على تعلم الحق من الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي أنزله من أنزل الميزان ليتعرف به الحق بعد دلالة الإعجاز على صدقه كما يعرف الحق في الأموال بالميزان بعد دلالة العقل على صحته ولذلك جمعهما الله تعالى في قوله الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان أنزل الكتاب لتعريف الحق الديني والميزان لتعريف الحق الدنيوي فترك الأكثرون الإعتماد عليه لما سنذكره من الأسباب التي ظهرت في أعذار
المخالفين وان كان السبب الأكبر الذي أخبر عنه علام الغيوب حيث يقول لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون وتعرضوا لما لا يمكن من ايضاح المحارات التي لا تتضح والسير في الطرق التي لا توصل والوزن بالموازين التي لم ينزلها الله تعالى ولا علمتها رسله ولا اجتمعت عليها عقول العقلاء وفطن الأذكياء وما خرج عن ذلك كله فمن أين له الوضوح حتى يكون له ميزان يميز به الحق من الباطل عند الدقة والخفاء والإختلاف الشديد فتأمل ذلك بإنصاف
وأعجب من كل عجيب تكفير بعضهم لبعض بسبب الإختلاف في هذه المحارات الخالية من ذلك كله وقد قال الله تعالى بعد الأمر بوفاء الكيل والوزن لا نكلف نفسا إلا وسعها مع وضوح الوفاء فيهما وامكان الإحتياط فكيف حيث يدق ويتعذر فيه الإحتياط لكن قد يمكن أن لا يسامحوا في ذلك من جهة أن الضرورة بل الحاجة لم تدع إليه كالوزن هذا مع ما في التكفير للمخطئ في هذه الدقائق من المفسدة وذلك عدم جسرة الناظر على المخالفة لأنها صارت مثل الردة من الدين ولولا ذلك لاتضح كثير من الدقائق فإن أوائل أهل علم الكلام لابد أن يقصروا كما هو العادة الدائمة في كل من ابتدأ ما لم يسبق إليه فلما كفروا المخالف كتم بعضهم المخالفة وتكلف بعضهم الموافقة بالتأويل البعيد وفسد الاكثرون وقد ذكر نحو هذا في دلائل اعجاز القرآن أنه أسلوب مبتدأ جاء على الكمال فحرق العادات بذلك على أن في علم الكلام من الخطر ما لا يتعرض له حازم بعد معرفته وذلك ما ذكره السيد المؤيد بالله فانه ذكر في أواخر كتابه ما ذكره في الزيادات ما لفظه
فصل فيما يجب على العامي والمستفتي
قال والأولى عندي ترك الخوض فيما لا تمس الحاجة إلى معرفته من علم الكلام لأن الصحيح من المذهب أن الجهل قبيح ويجوز أن يصيره إلى حالة يستحق صاحبها الخلود في النار وهذا غير مأمون لو نظر في مسألة من الكلام
وأخطأ ولو لم يشتغل بها وترك النظر فيها أمن ذلك ولو أصاب كان ما يستحق من الثواب على الإصابة يسيرا والعاقل إذا اختار الحزم اختار الاعراض عنها دون النظر فيها إلى آخر كلامه في ذلك وأراد بالجهل القبيح الجهل الاصطلاحي عند أهل الكلام وهو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه لا الجهل اللغوي الذي هو التوقف في موضعه فهو الذي أمر به وحكم بنجاة صاحبه ومن عيوب علم الكلام تعرضهم لما لا نفع في الخوض فيه مع عدم الامان من المضرة فيه كالخوض في الروح والنفس وانهما شيء واحد أو شيئان مختلفان فان أدلتهم في ذلك كله ضعيفة ظنية وأحسن ما يستدلون به في ذلك هو التلازم وليس من الأدلة القاطعة وقد اختار ابن متويه والحاكم منهم وغيرهما أن الروح هو النفس الجاري بفتح الفاء لأجل التلازم فوهموا وهما فاحشا فان الجنين في بطن أمه لا يتنفس بعد حياته ونفخ الروح فيه بالنص والحس بل حيوان الماء لا يتنفس فيه ولو سلم لهم جواز دوام التلازم لم يكن حجة قاطعة على اتحاد النفس والروح فليحذر الخوض في أمثال ذلك لقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ولما تقدم من كلام المؤيد بالله في ذلك وقد وافق المؤيد بالله على ذلك خلائق من أئمة العترة والامة كما ذكره صاحب الجامع الكافي عن محمد بن منصور في كتاب الجملة والالفة وحكى الحاكم المعتزلي في مختصر له جلي في معرفة الله أن جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب من أئمة الكلام رجعا عن الخوض في دقيقه وقد بالغ الغزالي في احياء علوم الدين ولا حاجة إلى التطويل بذكر ذلك وهو معروف في مواضعه
وإني لما رأيت طريق النجاة من علم الكلام مما لا يجتمع عليها أهل الكلام دع غيرهم ورأيتها ان كانت طريقا صحيحة فانها متوقفة ولا بد على التحقيق فيه والبحث العميق عن الطائفة وخوافيه المودعة في علم اللطيف الذي تذكره ابن متويه من مختصراته وجلياته وملخص الرازي من موجزاته ومتوسطاته وأئمة أهله أعي علم الكلام في غاية المباعدة
والمنافاة حتى أن الشيخ أبا الحسين ذكر أنه يكفي في معرفة بطلان مذاهب أصحابه البهاشمة من المعتزلة مجرد معرفة مقاصدهم مع أنهم الجميع من أئمة الاعتزال هذا مع وقوع كثير من أئمة الكلام في الشك والحيرة
فلما عرفت ذلك كله علمت من غير شك صعوبة معرفة طريق النجاة من هذا الفن على الاكثرين
وقد ألهم الله تعالى وله الحمد والشكر والثناء إلى أسهل طريق وأخصره في علمي إلى اليقين والنجاة ونصرة طريق الصحابة والسلف التي علم تقريرهم عليها بالضرورة من الدين وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها وإنما عنيت في توضيحها وتجديدها بعد درسها ومداواة ما قد وقع من تغيير المغيرين لها كما أشار إليه الحديث في قوله فأبواه يهودانه وينصرانه كما تقدم
وبيان ذلك أني تأملت جميع الاختلاف الواقع بين الناس من الملل الكفرية والفرق الاسلامية فإذا هو على كثرته وتشعبه يرجع في الجملة إلى سبعة أشياء مدركها بالفطرة قريب بعون الله تعالى بل هي فطرة الله التي فطر الناس عليها
أولها اثبات العلوم الضرورية التي يبتني الاسلام على ثبوتها وثانيها ثبوت الرب تعالى وثالثها توحيده سبحانه وتعالى ورابعها كماله بأسمائه الحسنى وخامسها ثبوت النبوات وصحتها في الجملة وسادسها الايمان بجميعهم وعدم التفريق بينهم وسابعها ترك الابتداع في دينهم بالزيادة على ما جاؤا به والنقص منه فاذا تأملت هذه الأمور السبعة بالفطرة الأولى السليمة من التغيير بالعادات والطوارئ المغيرات لم تشك أن الخطر المخوف من عقاب الآخرة مأمون في جميعها وأما الستة الأولى فمجموعها هو دين الاسلام الذي فطر الله عباده على معرفته والخلاف في كل واحد منها كفر يجمع عليه والأدلة عليها جلية وفاقية بين المسلمين ولا يمكن وجود أحوط منها ولا أولى وأحرى كما قال تعالى فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما السابع وهو عدم الزيادة والنقص في الدين فهو
العصمة من البدع المفرقة بين المسلمين وهو لاحق بما قبله في ثبوته في الفطرة مع اضطرار كاره البدعة اليه لكن لا يثبت فيه التكفير غالبا كما ياتي شرحه في موضعه
وسر هذا الكلام أن العذاب الأكبر مخوف في المخالفة لأحد هذه القواعد السبعة الجليلة والعقل والسمع مجتمعان على حسن السعي في دفع المضار المخوفة المجوزة التجويز لمستوى الطرفين ووجوب السعي في دفع المضار المطلوبة ووجوب السعي في الاحتياط في ذلك وهذا معلوم في فطر العقلاء ومع كونه معقولا فقد ذكره الله تعالى في كتابه المبين وذكر العقلاء به إن كانوا عنه غافلين فقال في ذلك رب العالمين قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد وقال تعالى في آية أخرى قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال سبحانه حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ومنه ما حكاه الله تعالى عن مؤمن آل فرعون من قوله أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم وفي معناه قوله تعالى أيضا ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار الآيات وهو بين في هذا المعنى لأن السلامة متحققة في الايمان والخطر مأمون فيه والمهالك مخوفة في مخالفته وقد أحسن كل الاحسان في دعاء قومه ولذلك حكى الله تعالى حسن احتجاجه عليهم فينبغي تأمله والانتفاع به ولذلك أتبع الله البرهان بالتخويف بالموت الضروري
والمعاد إليه النظري في قوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون فان الكفر مع مجموع هذه الأمور أنكر الكفر وأفحشه فان البراهين تكفي العارفين والمخاوف توقظ نيام الغافلين وتلين قساوة العاتين الماردين ومع ذلك تقوى دواعي العارفين وتقاوم وساوس الشياطين ومن ذلك قوله تعالى وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وهذا القدر أعني الدخول في الاسلام على جهة الاحتياط من غير علم بصحته بالأدلة يحصل أدنى مراتب الاسلام عند كثير من علماء الاسلام كمن لا يكفر المقلدين لأهل الحق ومن يقول المعارف ضرورية وغيرهم وحجتهم على ذلك أمور منها تقرير النبي للعامة وقبول الشهادة منهم ومنها قوله تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم وآخر الآية حجة حسنة على ذلك ومنها ما صح واشتهر وتواتر في أحاديث الشفاعة من تقرير إيمان المشفوع لهم بمثاقيل الذر وأدنى أدنى أدنى من ذلك ألا ترى أنك تخاف العذاب على المخالفة في كل واحد من هذه السبعة الأمور ولا تخاف العذاب بالقول بواحد منها ولا تجد أحوط منها ولا أنجى فحينئذ علمت بالفطرة علما قريبا جليا تطمئن به القلوب وتؤمن معه من المخوف الأعظم إنه لا يمكن أن يوجد أصح ولا أنجى من المخاوف من دين الاسلام ومتابعة محمد أفضل الصلاة والسلام
فلاحظت في هذا المختصر هذه الأمور السبعة وأشبعت الكلام فيها ونصرتها بجهدي وغاية ما في قدرتي من العبارات الواضحة وضرب الأمثال البينة ثم الآيات والآثار وإن تكلمت في نصرتها من عندي متميزة بأنفسها غير ملتبسة بكلامي فما أخطأت فيه من كلامي وخالفها فعلى كل مسلم رده واجتنابه ومتابعتها دونه فانما قصدي نصرتها لا مخالفتها
فما أصبت فيه فمن الله سبحانه وله فيه المنة والحمد والشكر والثناء وما أخطأت فيه فالذنب مني وعلي فيه البراءة منه والتوبة والاستغفار والتحذير وأشد الكراهة لا فرق بين كراهة ما صدر مني من البدع وما صدر من غيري بل يجب أن أكون أشد كراهية لما صدر مني لأن الصادر مني ذنبي يضرني وأآخذ بسببه والله تعالى يسلمني من البدع والذنوب ويغفر لي ما أخطأت فيه إنه واسع المغفرة والرحمة وهو حسبي ونعم الوكيل لكن المحامي عن السنة الذاب عن حماها كالمجاهد في سبيل الله تعالى يعد للجهاد ما استطاع من الآلات والعدة والقوة كما قال الله سبحانه وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة
وقد ثبت في الصحيح أن جبريل عليه السلام كان مع حسان بن ثابت يؤيده ما نافح عن رسول الله في أشعاره فكذلك من ذب عن دينه وسنته من بعده إيمانا به وحبا ونصحا له ورجاء أن يكون من الخلف الصالح الذين قال فيهم رسول الله يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين والجهاد باللسان أحد أنواع الجهاد وسبله في الحديث أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وقد أحسن من قال في هذا المعنى شعرا
جاهدت فيك بقولي يوم يختصم الأبطال ... أذفات سيفي يوم يمتصع
إن اللسان لوصال إلى طرق ... في الحق لا تهتديها الذبل السرع
وقد ذكر الغزالي في المنقذ من الضلال أن الطالبين لليقين ثلاث طوائف منهم أهل الرياضة للقلوب بتصفيتها بالاقبال على الله تعالى وترك ما عداه والتخلق بالأخلاق المجمع على حسنها من الزهد والصبر والتوكل والرضا والعفو ووضع النفس قلت إلى سائر ما ذكروه من أخلاقهم وأحوالهم ومقاماتهم في عوارف المعارف وغيره وهذا لا يمكن اكتسابه بالتصنيف إنما هو بالعمل فمن عمل على موافقة السنة واجتناب البدعة
كان هذا المختصر وأمثاله من بداياته التي تعينه على مقصده وتوصله إلى مراده لأنهم أجمعوا على أن الشريعة لمعارفهم كاللبن للزبد ومن لا لبن له لا زبد له وهذه المقدمة للشريعة وتصفية القلوب المشبهين باللبن والزبد بمنزلة الروح الذي لولاها لما كان الحيوان ولا الزبد ولا اللبن ولكنها حاصلة في الابتداء بالفطرة من الله سبحانه وله الحمد فمن كملت فيه وسلمت من التغيير لم يحتج إلى شيء من هذا وان نظر فيه قوي ما هو عليه من الفطرة بمنزلة السقي لما يشرب بعروقه من البحر فانه لا يحتاج السقي فان سقي زاده قوة وريا والطائفة الثانية ممن ذكر الغزالي أهل التعليم من الامامية وغيرهم فانهم زعموا أن العقول لا تفي بالمعرفة من غير تعليم الامام المعصوم ولذلك تجد طالبي المعارف النظرية العقلية يتعلمون ذلك من شيوخهم ولا يمكن بالتجارب أن يستقل أحدهم بنظره وعقله من غير شيخ ثم يأتي بتلك القوانين المتقنة مجودة سالمة من المطاعن وعندهم أن هذا من التجريبات الضروريات وقد جود الغزالي الرد عليهم في المنقذ من الضلال وكفى وشفى ثم قال وعلى تسليم ما ذكروه فنحن نلتزمه ولا يضرنا لكن امامنا المعصوم هو رسول الله وموته لا يضرنا كما أن غيبة امامهم لا تضر عندهم بل حالنا أولى فان امامنا المعصوم مات بعد كمال التعليم وامامهم غاب عنهم قبل ذلك وفي هذا المختصر من التعليم النبوي الصحيح المتواتر والصحيح المشهور ما لا يوجد في أمثاله والطائفة الثالثة أهل النظر وقد جمعت في هذا المختصر صفوة أنظارهم وخلاصة أدلتهم ونقاوتها وقصدت تقويتها ورسوخ اليقين فيها بجمع شواهدها وبراهينها الجلية القريبة الغاسلة لأدران الشكوك والريبة النازلة من أهل الايمان بمنزلة الماء القراح من العطشان المشهورة بين أهل البيت الطيبين والصحابة والتابعين وسائر السلف الصالحين التي لا يجر الخوض فيها إلى شيء من البدعة ولا المخاطرة في الدين ولا يمكن أن يكون فيها شيء غيره أحوط منه في علمي والله المستعان والمستغاث والهادي سبحانه لا إله إلا هو وهو حسبي ونعم الوكيل
واعلم أني بنيت هذا المختصر على بيان الحق وتقريره في هذه الأمور السبعة لا سواها وما زاد على ذلك من مواهب الله وعوارفه ومعارفه
وبدائع لطائفه فليس بمقصود لي الكلام عليه ولا أعتب على من خالفني في شيء منه ولا يعاب التقصير فيه فان التطويل في الأمور العارضة يخرج عن المقصود كما ذلك معروف
وإنما قصرت الاهتمام على هذه الامور السبعة لأنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها كما تطابق عليه القرآن والسنة وفي ذلك دلالة على أنها تكفي العامي كما ذهب إليه أهل المعارف ما لم تعرض له شبهة قادحة فيتمكن من حلها على طريق السلف القريبة الجلية كما نذكره في هذا المختصر مع الدعاء واللجأ إلى الله تعالى وما أقرب نفع هذا مع خلق الله القلوب على الفطرة وكثرة مواد هدايته كما ذكره في آية النور وقال الله تعالى إن علينا للهدى فأكد ذلك بمؤكدين اثنين كما تقول أن زيدا لقائم وقال وعلى الله قصد السبيل هذا للخلق عموما وللمؤمنين خصوصا ومن يؤمن بالله يهد قلبه إلى غير ذلك وإنما يؤتى أكثر الخلق من كفرهم بآيات الله البينة وبطلبهم غيرها كما قال تعالى سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فان الله شديد العقاب فليحذر ذلك كل الحذر من عدم القنوع بما قنع به السلف من حجج الله تعالى وياله من تخويف شديد ووعيد عظيم
ثم اعلم أن هذا المختصر لا يصلح إلا لمن وضع له كما أن الدواء الخاص بألم خاص لا يصلح لكل ألم ولا لكل أليم فمن كان يحتاج البسط إلا الحوافل الكبار من مصنفات المصنفين من أذكياء النظار وقد يكون في هذا المختصر الاشارة إلى تلك الكتب الحافلة والتنبيه عليها لمن يحتاج إلى ذلك والدال على الخير كفاعله ولكن لكل مقام مقال ولكل مجال رجال والكتب البسيطة في علم اللطيف لا تصلح لمن يخاف عليه من السبه كما أن السباحة في لجج البحار لا تصلح إلا لأهل الرياضة التامة في ذلك بعد طول
التجارب وأرجو إن شاء الله تعالى أن لا يخلو هذا المختصر من أحد المعاني الثمانية التي تصنف لها العلماء بل من كل واحد منها وهي اختراع معدوم أو جمع مفترق أو تكميل ناقص أو تفصيل مجمل أو تهذيب مطول أو ترتيب مخلط أو تعيين مبهم أو تبيين خطأ كذا عدها أبو حيان وتمكن الزيادة فيها
وإنما جمعت هذا المختصر المبارك إن شاء الله تعالى لمن صنفت لهم التصانيف وعنيت بهدايتهم العلماء وهم من جمع خمسة أوصاف معظمها الاخلاص والفهم والانصاف ورابعها وهو أقلها وجودا في هذه الاعصار الحرص على معرفة الحق من أقوال المختلفين وشدة الداعي إلى ذلك الحامل على الصبر والطلب كثيرا وبذل الجهد في النظر على الانصاف ومفارقة العوائد وطلب الاوابد فان الحق في مثل هذه الاعصار قلما يعرفه إلا واحدا بعد واحد وإذا عظم المطلوب قل المساعد فان البدع قد كثرت وكثرت الدعاة اليها والتعويل عليها وطالب الحق اليوم شبيه بطلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما رحمهما الله تعالى فانهم قدوة الطالب للحق وفيهم له أعظم أسوة فانهم لما حرصوا على الحق وبذلوا الجهد في طلبه بلغهم الله إليه وأوقفهم عليه وفازوا من بين العوالم الجمة فكم أدرك الحق طالبه في زمن الفترة وكم عمي عنه المطلوب له في زمن النبوة فاعتبر بذلك واقتد بأولئك فان الحق ما زال مصونا عزيزا نفيسا كريما لا ينال مع الاضراب عن طلبه وعدم التشوف والتشوق إلى سببه ولا يهجم على المبطلين المعرضين ولا يفاجئ أشباه الانعام الغافلين ولو كان كذلك ما كان على وجه الأرض مبطل ولا جاهل ولا بطال ولا غافل وقد أخبر الله تعالى أن ذرء جهنم هم الغافلون فانا لله وإنا إليه راجعون ما أعظم المصاب بالغفلة والمغتر بطول المهلة
ومن أعجب العجائب دعوى المقلدين للمعارف ودعوى المتعصبين للانصاف وأمارة ذلك أنك تجد العوالم الكثيرة في لطائف المعارف المختلف فيها على رأي رجل واحد من القدماء في الامصار العديدة والاعصار المديدة
فلو كانوا في ترك التقليد كالأوائل لاشتد اختلافهم في الدقائق ولم يتفقوا على كثرتهم وطول أزمانهم وتباعد بلدانهم واختلاف فطنهم كما قضت بذلك العوائد العقلية الدائمة ولو كان الجامع لفرقتهم مع كثرتهم هو الوقوف على الحقائق في تلك الدقائق لكانوا أكثر من مشايخهم الاقدمين علما وتحقيقا وانصافا وتجويدا لكن المعلوم خلاف ذلك فاياك أن تسلك هذه المسالك فان نشأة الانسان على ما عليه أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صنيع أسقط الناس همة وأدناهم مرتبة فلم يعجز عن ذلك صبيان النصارى واليهود ولا ربات القدود والنهود المستغرقات في تمهيد المهود وهذه هذه فأعطها حقها وانظر لنفسك وانج بها وطالع قصة سلمان الفارسي وأضرابه وانظر كيف كان صبرهم واعرف قدر ما أنت طالب فانك طالب لأعلى المراتب قال الله تعالى وما قدروا الله حق قدره وقال في الأخرى وسعى لها سعيها وقال خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه وليس في الوجود بأسره أعز ولا أفضل من الإيمان بالله وكتبه ورسله ومتابعتهم ومعرفة ما جاؤا به فلا تطلب ذلك أهون الطلب فإني أرى الأكثرين لا يرضون بالغبن والنقص في بيع بعض السلع وأرى طالب الأرباح الدنيوية يطلبها أشد الطلب من أبعد الأقطار بأشق الأسفار وأما طالب الكيمياء والسيمياء فإنه يبذل في طلبهما ما دون الروح بل يرتكب بعض الأخطار والمتالف الكبار مع أدنى تجويز للسلامة بل عدم التجويز أيضا عند ملكة هواه له وغلبة ظنه بأنه يدرك ما أراد ويبلغ ما قصده ويصل إلى ما إليه سعى ولكم من منفق غضارة عمره ونضارة شبابه وأبان أيامه في ذلك
وإنما طولت القول في هذا لأني علمت بالتجربة الضرورية في نفسي وغيري أن أكثر جهل الحقائق إنما سببه عدم الاهتمام بتعرفها على الإنصاف لا عدم الفهم فإن الله وله الحمد قد أكمل الحجة بالتمكين من الفهم وإنما أتى الأكثر من التقصير في الإهتمام ألا ترى أن المهتمين بمقاصد المنطقيين
والمتكلمين يفهمونها وإن دقت مع الصبر وطول الطلب فكيف لا يفهم طالب الحق مقاصد الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين مع الاهتمام بذلك وبذل الجهد في طلبه وحسن القصد ولطف أرحم الراحمين لمن هو كذلك بالنصوص والاتفاق ولا ينبغي أن يصغي إلى من يصده عن كتب الله وما أنزل فيها من الهدى والنور رحمة للمؤمنين ونعمة على الشاكرين
وليحذر كل الحذر من زخرفتهم للعبارات في ذلك وترغيبهم بأنواع المرغبات في تلك المسالك وليعتبر في ذلك بقوله تعالى لرسوله المعصوم وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحيوة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ويالها من موعظة موقظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد كما قال سبحانه وتعالى ولتعرف أهل الزيغ بذلك وأهل الحق بحلافه فإنهم كما وصفهم ربهم تعالى في قوله ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ولا ينبغي أن يستوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين له كما لا يستوحش الزاهد من كثرة الراغبين ولا المتقي من كثرة العاصين ولا الذاكر من كثر الغافلين بل ينبغي منه أن يستعظم المنة باختصاصه بذلك مع كثرة الجاهلين له الغافلين عنه وليوطن نفسه على ذلك فقد صح عن رسول الله أنه قال إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء رواه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال هذا حديث حسن صحيح ورواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد من حديث أنس وروى البخاري نحوه بغير لفظه من حديث ابن عمر وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام عن رسول الله أنه قال طلب الحق غربة رواه الحافظ الأنصاري في أول كتابه منازل السائرين إلى الله من حديث جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده وقال هذا حديث
غريب لم أكتبه عاليا إلا من رواية علان ولذلك شواهد قوية عن تسعة من الصحابة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد فنسأل الله أن يرحم غربتنا في الحق ويهدي ضالنا ولا يردنا من أبواب رجائه ودعائه وطلبه محرومين إنه مجيب الداعين وهادي المهتدين وأرحم الراحمين
فإن قيل قد دل السمع كتابا وسنة على أن دين الاسلام هو الفطرة المخلوقة وطلب ذلك هو تحصيل الحاصل فما هذا التهويل
قلت لأنه قد اشتد تغييرها وصلاحها بعد شدة التغيير عسير فهي كالعافية والتغيير كالأمراض التي اخترنا أسبابها فاشتدت وتمكنت حتى عسر علاجها وهذا المختصر وأمثاله كأدوية تنفع من لم يستحكم عليه التغيير دون من استحكم عليه ولا يحتاجها المعافى ويدل على ذلك حديث حزام بن حكيم ابن حزام عن أبيه وعمه أن العبادة في صدر الاسلام أفضل من العلم وأن العلم في آخر الأمر أفضل من العبادة كما سيأتي قوة اسنادها وموافقتها في المعنى للنظر العقلي ياتيان في بيان فضل العلم النافع وخامسها وهو اصعبها المشاركة في العلم أو في التمييز والفهم لأهل الطبقة الوسطى ومن يقاربهم في المنزلة حتى يتمكن بذلك من معرفته مقدار ما يقف في هذا المختصر من الفوائد من غير تقليد فيرغب فيه أو يزهد حين يقيس على ما يألف ويعهد لأنه لا يعرف مقدار الشيء إلا ذو بصيرة يعرف أن له أجناسا كثيرة فيقيسها إليه أو يقيسه إليها فيفضلها عليه ويفضله عليها وذكي القلب يتمكن من ذلك وإن لم يسلك تلك المسالك لكن بكثرة المسألة لأهل المعارف والمقايسة بين المصنفات لعارف عارف وإلا كان الواقف عليه مثل من لا يعرف الجواهر الثمينة والفصوص النفيسة يجد فصا عظيم المقدار فيضيعه أو يبيعه بثمن نزر فقد بيع يوسف الصديق بذلك حين لم يوقف له على قدر فإن عرضت لطالب الحق محنة لم يتطير بطلب الحق فيكون من الذين يعبدون الله على حرف وليثق بقرب الفرج ويتوكل على الله كما قال تعالى فتوكل على الله إنك على الحق المبين وعلم وأيقن أن الله مع الصابرين ومع الصادقين
وأن الله ناصر من ينصره وذاكر من يذكره وأن سر رسول الله في هذه الأمور عائد على متبعيه ونصره شامل لناصريه ولم أقصد بهذا المختصر هداية أهل اليقين التام من الأولياء الكرام أهل الكمال في المعارف من العلماء الاعلام ولا هداية أئمة الكفر المعاندين لأهل الاسلام أما أهل الكمال في العلم الذين بلغوا مرتبة الامامة الكبرى في علمي المعقول والمنقول وأهل اليقين التام من الأولياء الكرام نفع الله بهم فإن مهدي هذا المختصر إلى معارفهم كمهدي الحشف إلى هجرأ ونجران بل كمهدي الحضيض إلى أهل الدر والعقيان وإن كان قد ينزل عند بعضهم منزلة فاكهة البادية الطرية البرية التي هي من العلاجات الحضرية بريه فإنها قد تعجب أهل الحاضرة وإن كانت عما لديهم في النفاسة قاصرة وأما أئمة الكفر والسفه والتعلق بمذاهب الفلسفة فهم كمن استحكم الداء عليه فلا تنفعه الأدوية النافعة فالداعي لهم إلى حق حقائق الإيمان وإن جاء بأعظم برهان في اليأس منهم وعدم الطمع فيهم كالداعي للعميان إلى النور وللأموات إلى الخروج من القبور وكيف الطمع في هداية قوم قد أقام ربهم عليهم الحجة مرارا أولها بخلقهم على الفطرة وثانيها بطول المهلة وثالثها ببعثه الرسل بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة إلى غير ذلك من تجديد الدلائل بخلق المخلوقات المشاهد حدوثها من الغمام والأمطار والحيوان والأشجار فجحدوا الجميع وكفروا الكفر الفظيع مع إيمانهم بأبطل البواطل التي لا يتصور الإيمان بمثلها من عاقل حتى قال الله تعالى فيهم ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وقال تعالى فيهم قتل الإنسان ما أكفره الآيات وقال تعالى فبأي حديث بعده يؤمنون ثم أخبر عنهم علام الغيوب أنهم يجادلون في القيامة بعد بعثهم وعلمهم الضروري بصحة الربوبية فيجحدون الحق حتى تشهد عليهم جلودهم ثم يقولون بعد ذلك لم شهدتم علينا ولذلك لم نؤمر
بإقامة الحجة عليهم لأن الله قد أقامها وإنما أمرنا بجهادهم ودعائهم قبل قبل الجهاد على خلاف في الدعاء قبل الجهاد موضعه كتب الفقه الفرعية ولا قصدت بهذا المختصر تفهيم من ليس يفهم فأكون كمستولد العقيم أو مقوم ظل ما ليس بمستقيم وكيف يقوم الظل والعود أعوج وإنما قصدت نفع الأوساط وامتثال أمر الله تعالى فقد أمر الله تعالى بالمعاونة على البر والتقوى وصح الترغيب في الدعاء إلى الحق والخير وإن الداعي إلى ذلك يؤتى مثل أجور من اتبعه ومن أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا وإن من أمر بالصلاح ابتغاء مرضات الله وإن لم يطع فسوف يؤتيه الله أجرا عظيما وفي حديث أنس عنه ما من رجل ينعش بلسانه حقا يعمل به إلا جرى عليه أجره إلى يوم القيامة ثم وفاه الله ثوابه يوم القيامة رواه أحمد وسنده جيد وهو 387 من مسند أنس من جامع المسانيد بل قد أنزل الله سبحانه وتعالى سورة العصر وقصر السلامة من الخسر على الذين آمنوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ثم إني غير مدع للعصمة من الخطأ والمناقضة ولا أدعي ذلك من هو أجل مني وأكمل وأعلم وأفهم من جميع العلماء بل العقلاء وقد قال تعالى في القرآن الكريم ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فدل على لزوم ذلك لما كان من عند غير الله فمن وجد خطأ فلينبه عليه مأجورا والقصد المعاونة على الخير وفق الله الجميع على ما يحب ويرضى
واعلم أني رأيت المصنفين في علم العقيدة الدينية قد سلكوا مسلك سبيل مصنفي كتب المذاهب التي ينتصر فيها المصنف لمذهب واحد في القوي والضعيف والدقيق والجلي ولم يسلك أحد منهم مسلك مصنفي كتب الإسلام التي تذكر فيها مذاهب أهل الملة الإسلامية ويقوي فيها ما قوته الدلائل البرهانية سواء كان لقريب أو بعيد أو صديق أو بغيض وكتب العقائد أحق بسلوك هذا المسلك من كتب الفروع فأما كون الحق فيها
مع واحد فصحيح ولكن لا يستلزم أن يكون الصواب في جميع المواضع المتفرقة قد اجتمع لبعض الفرق إلا ما حصل فيه أحد الاجماعات القاطعة من الأئمة والعترة فيجب الترجيح له والنصرة فاستخرت الله تعالى وقصدت احياء هذه السنة الميتة التي هي ترك العصبية
ولذلك سميته إيثار الحق على الخلق جعله الله اسما موافقا لمسماه ولفظا مطابقا لمعناه وجدير أن يكون فيه ما يستدرك علي فإن كل أسلوب ابتدئ لا يكمل إلا بمعاونة جماعة وتتابعهم عليه وتكميل المتأخر لما أهمل المتقدم ولذلك كانت أوائل كل علم وأسلوب قليلة أو ناقصة فليبسط العذر الواقف على ما يستدرك فيه لما كان أسلوبا غريبا بالنسبة إلى هذه الازمنة المتأخرة
واعلم أنه ليس بصرف الاكثرين عن هذه الطريقة إلا أحد أمور أولها عدم الحرص وقوة الداعي إلى هذا كما تقدم مبسوطا قريبا في الوصف الرابع من صفات من تصنف لهم التصانيف وثانيها الخوف من شر الأشرار مع الترخيص في التقية باجماع الأمة فقد أثنى الله على مؤمن آل فرعون مع كتم إيمانه وسميت به سورة المؤمن وصح أمر عمار بن ياسر بذلك وتقريره عليه ونزلت فيه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وقد قيل من عرف الخلق جدير أن يتحامى ولكن من عرف الحق فعسير أن يتعامى والذين آمنوا أشد حبا لله وثالثها خوف الشذوذ من الجماهير والإنفراد من المشاهير وهذا يحتاج إلى نظر فإن كان جمهور السلف القدماء مع القول الشاذ المتأخر فلا يبالى بذلك الشذوذ فقد شهدت الأخبار الجمة الصحيحة بأن الدين سيعود غريبا كما بدأ وكذلك كان الحق في أواخر أهل الكتاب في شذوذ من الصالحين كما شهد بذلك حديث سلمان الفارسي حتى قالت طائفة إن إجماع المتأخرين ليس بحجة وإنما الحجة إجماع الصحابة لما ورد في الأحاديث من ذم أهل المتأخر حكاه ابن جرير الطبري وإن كانت الشهرة للقول في المتأخرين وهو لا يعرف عن أحد من السلف أو يذكر شذوذ عن بعضهم فهده عن البدع وإياها
فصل
ينبغي من كل مكلف أن يطرح العصبية ويصحح النية ويستعمل النظر بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ولا يقدم عليها ما لقنه أهل مذهبه فإنه إذا نظر كذلك في كل أمرين متضادين فيما يحتاج إليه يجد ترجيح الحق منهما على الباطل بينا لا يدفع مكشوفا لا يتقنع فاقسم الأمور أولا إلى قسمين قسم لا يحتاج إلى معرفته في الدين الذي تسئل عنه في الآخرة كعلم الفلك ودقائقه وعلم الطبائع وعلم الطب وعلم الفراسة الدالة على الأخلاق الباطنة وعلم النجوم وعلم السحر وعلم الطلسمات وعلم السيمياء وعلم الكيمياء وعلم الرياضة وعلم الفلاحة وعلم الهندسة وعلم المرايا المحرقة وعلم المساحة وعلم الهيئة وعلم الارصاد وعلم الحساب وعلم الشعر وعلم العروض وعلم تجويد الكتابة وقوانينها وعلم اللطيف وعلم الزيجات من الفلك والتقاويم إلى سائر ما ذكر من علوم الأذكياء وأهل الرياضات وقد صنفت كتب في ذكر أعداد العلوم وأسمائها فبلغت مبلغا كثيرا ومن أحسن من صنف في ذلك الشيخ محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري فانه صنف في ذلك كتابا مفيدا سماه ارشاد القاصد إلى أسنى المقاصد وذكر من هذه الفنون التي لم يرد الشرع بوجوب معرفتها ولا ندب إليها قدر أربعين فنا أو تزيد من هذه العلوم وإنما أشرت إليها ونبهتك عليها لتعرف سهولة ما بقي عليك بعد تركها وتيقن صدق قول الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وتحمد الحمد تعالى على ذلك وأنفعها علم الطب وعلم اللطيف أما علم الطب فنفعه بين لكن التوكل أفضل منه بالنص المتفق على صحته والأجر في الألم
لمن صبر عظيم وأعظم مصائب الدنيا الموت والطب لا يمنع منه وهو مهون لما دونه كما قيل في ذلك المعنى شعرا
سلي عن العيش أنا لا ندوم له ... وهون الموت ما نلقى من العلل
لكن الصبر قليل فنسأل الله العافية ولا بأس بتعلم الجلي من الطب
وأما علم اللطيف فهو أساس علم الكلام وتحقيق بعض فوائده يكشف عوار كثير من البدع كما تأتي إليه الإشارة
والقسم الثاني من العلم ما يحتاج إليه في الدين وهو قسمان قسم لم يختلف في حسنه مثل النصوص في الحديث والإجماع من تفسير الإسلام والإيمان الواجب على الجميع دون ما عداه وعلم الزهد بما اشتملت عليه كتبه مما أجمع عليه دون ما اختلف فيه ومن أنفس كتبه رياض الصالحين للنووي لاقتصاره على الحديث القوي وأنفس منه الترهيب والترغيب للمنذري ونحوهما من الكتب الخالية من البدع فهذا القسم الأول لا نتعرض لذكره في هذا المختصر لعدم الاشكال فيه وإنما نتعرض لإيضاح ما فيه اشكال بأقرب الطرق أو أبعدها من الشبه ومن هذا القسم كتب الفروع التي كل مجتهد فيها مصيب أو مأجور وكتب العربية ونحو ذلك إذ لا يمكن رفع الإختلاف فيما اختلف في مثله موسى والخضر وسليمان وداود واختصم في مثله الملأ الأعلى لأنه مراد الله بالإجماع والقسم الثاني المختلف فيه اختلافا تخاف مضرته في الآخرة فما كان لا يجب شرعا
الخوض فيه مع عظم الخطر في الخوض فيه فاضرب عنه وطالب من دعاك إليه بالدليل الواضح على الوجوب وأعرض ما أورد عليك فيه من الأدلة على النصحاء والأذكياء من العلماء حتى تعرف الوجوب يقينا من غير تقليد ثم حرر النية الصحيحة بعد ذلك في معرفة الحق وما أوجب الله معرفته طاعة لله لا لمباهاة ولا مراآة ولا مماراة ثم استعن بالله واستغث به وانظر في الخلوات خالطا للنظر بالدعاء والتضرع والاستعاذة من الفتن فإنك ترى بذلك من العون والسهولة ما وعد الله به الداعين له الراجعين إليه فإن الله تعالى إذا أوجب أمرا أعان عليه من أراد الأدلة بنية صحيحة كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإنه قال لو صبروا عليها لطوقوها فلما نقص من تكليفهم نقص من صبرهم رواه البخاري وله شواهد والعقل يشهد لذلك أيضا ومنه كلام معاذ رضي الله عنه حين احتضر رواه الحاكم في الفتن عن يزيد بن عميرة عنه وسيأتي ولا تستعن في ذلك إلا بمن يوثق بورعه ونصحه وتقواه وما أقلهم ولكن أستعن بالنظر في تآليف العلماء الحافلة الجامعة لأدلة الفرق فإن لم تجد كتابا كافلا جامعا لأدلة الفرق طالعت المسألة في كتب الفرق ورأيت حجة كل فرقة في كتبهم لا في كتب خصومهم الذين يسمون أدلة من خالفهم شبها ويوردونها غير مستوفاة ويجيبون عنها بأجوبة محتملة للنقض ولا يذكرون ما يرد على أجوبتهم وهذا عند الإضطرار إلى ذلك ومن القواعد المقربة لك إلى النجاة أن تنظر كل قولين مختلفين يخاف الكفر والعذاب الأخروي في أحدهما دون الآخر فابعد عنه واحذره ألا تراك تخاف الكفر في جحد العلوم لا في ثبوتها وفي جحد الرب لا في الإيمان وفي جحد النبوات لا في إثباتها وفي التفريق بين الرسل كما فعلت اليهود والنصارى لا في الإيمان بجميعهم وفي عدم الإيمان بما جاء به القرآن والسنة لأن خلاف السمع المعلوم كفر اجماعا لا في خلاف العقل المعلوم لأنه ليس كفرا بالإجماع فاعرف هذه القاعدة
واعلم أن الفطرة التي خلق الله لك تدرك القوي من الضعيف في تلك
المباحث وإن كثرت إلا ما دق وغمض جدا كما أن عينك المبصرة تدرك جميع المبصرات وإن كثرت فما دق على فطرتك في العلوم تركته لا سيما مع دقته الشبه المعارضة له ولم تكلف فيه ما لم تعلم مثل ما إن دق على بصرك من المرئيات تركته كبعض الأهلة في أوائل الشهور سيما مع القتر والغيم الباب الأول إثبات العلوم
فأول شيء اختلف الخلق فيه اثبات العلوم في الجملة عقلا مع اجتماع الشرائع على ثبوتها فانظر هل يخفي عليك الصواب في ذلك فإن طوائف من الفلاسفة والاتحادية من الصوفية أنكروا صحة العلوم أما الفلاسفة فرأوا البصر الصحيح يخطئ لعوارض نادرة في مواضع كرؤية النجم ساكنا وهو يتحرك قطعا بدليل انتقاله وكذلك رؤية الظل ساكنا ورؤية المستقيم في الماء أعوج ورؤية الأحول الواحد اثنين ورؤية القائم فوق الماء منكوسا في الماء ورؤية السحر والنوم والكشف والمرض وإن كان في رؤية النوم والكشف صحيح وباطل والصحيح منهما قد يحتاج التأويل ولا يكون على ظاهره بكل حال ومن ذلك قوله تعالى ولكن شبه لهم فالذين قصدوا قتل عيسى عليه السلام رأوا مثله فاعتقدوا أنه هو وكذلك قوله تعالى وإذا يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا
والجواب أنا نعلم بالضرورة أن هذه الأشياء كانت لعوارض تختص بهذه المواضع ونحوها ولا يقدح ذلك في جملة الرؤية وجميعها ولا يمكن أن نشك لذلك في وجودنا ووجود العالم وشروق النيرات وإنها تجري فوقنا وتضيئنا وإن الأعمى فاقد لهذه النعمة والأليم مخالف للمعافى ولا يمكن دفع شبههم إلا بوجدان هذا العلم المخلوق فينا نعمة علينا من الله لا بتحرير دليل لأن الدليل إنما يصبح بعد تسليم العلوم الضرورية بل نقول
ليس الجنون أكثر من اصغائنا إلى ذلك فلو قال أحد ما يؤمني أن يقظتي هذه نوم أو سحر أو كشف أو أن والدي وداري وأرضي شبهت لي وأن طعامي وشرابي سموم قتالة لكان إلى أن يكوى ويقيد أحوج منه إلى أن يناظر ويجادل
فإذا عرفت هذا بالفطرة مع اعتضادها بالقرآن والسنة والإجماع فاعلم أن هؤلاء إنما أتوا من شدة النظر والتدقيق فيما لا تعرفه العقول لأن دوام الفكرة في المحاورات يضعف الفهم ويمرض صحيحه ومن أمثلة ذلك المجربة بالضرورة كثرة الشك في النية والطهارة فإنه قد أورث الوسواس الفاحش مع جماعة من أكابر العلماء الفضلاء كالشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد ممن بلغ المرتبة الكبرى في العلوم وقد رأينا من أدركنا من كبار أهل العلم والصلاح من لا ينتفع بذلك بالمشاهدة وشك في الضرورة وذلك مستمر في العقلاء وهو عبرة للنظار فإن الوسواس إذا بلغ هذا المبلغ عند الإصغاء إليه فيما لا شك فيه فكيف بمن أصغى إليه فيما يشك في مثله وما أحسن قول القاسم عليه السلام في مثل هذا دواء الشك المرور عليه ولذلك ورد في الحديث المتفق على صحته الأمر بالإستعاذة من الشيطان عند حضور الوسواس أو سماعه سماعا من بعض الناس وهذا الحديث مناسب لقول الرسل صلوات الله عليهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض فيما حكاه الله عنهم في كتابه الكريم
وأما الاتحادية المدعون للتصوف وليس هم منه في شيء فهم الذين قالوا إن المكاشفة قد دلت على صحة المحال وهذا غاية التغقيل والضلال إن صح عن أحد فانه يقال لهم إن كان كذب المكاشفة محالا فقد دلت على صحته فيصح أن تكون كاذبة وإذا صح كذبها لم يوثق بها وإن كان كذبها ممكنا لم يوثق بها ولم يصح لها اسم الدلالة فثبت أنه لولا امتناع
المحال ما صح سمع ولا عقل ولا كشف ولا نظر ولا علم شيء ألبتة وكأن هؤلاء القوم لم يفرقوا بين المحارة والمحال فأما من عرف ما هو المحال وجوزه لم يصح منه بعد ذلك دعوى أنه محق وأن خصمه مبطل أبدا لأنه لا يمنع من كون المحق مبطلا والمبطل محقا والتوحيد شركا والشرك توحيدا إلا كون ذلك محالا والمحال لا يقع ألبتة فمن فتح باب تجويز المحال لم يمتنع شيء من ذلك وانسد باب الانكار على كل كافر وجاحد ولم يبق فرق بين أعرف العارفين وأجن المجانين فيا عجبا كيف يدعي مثل هؤلاء مراتب العارفين ولا تغني عنهم دعوى دقة التفرقة بين العلم والظن فإن الفرق بينهما في الضروريات ضروري بل من الضرورة انقسام جميع ما يمكن الخبر عنه والاعتقاد له إلى ما جمع الجزم والمطابقة والثبات عند التشكيك وإلى ما لم يجمعها فالجامع لها هو العلم وإن اختل الثبات فاعتقاد مقلد المحق أو المطابقة فالاعتقاد الفاسد أو الجزم فمع الاستواء الشك ومع الرجحان الراجح الظن والمرجوح الوهم فعلمت كلها بالضرورة وإن اختلفت العبارات عنها فإن اختلاف اللغات والعبارات لا يحيل المعاني
خاتمة المقدمة
واعلم أن منكري العلوم لم ينازعوا في حسن العمل بها بل ولا في وجوبه فإنهم انتفعوا بالابصار وتوقوا بسببها الوقوع في الماء والنار وسائر المهلكات والأخطار
ومن عجائب ما يروى عنهم أن بعضهم صنف كتابا في نفي العلوم ومات له ولد قد قارب الحلم فقال إنه إنما أسف لموت ولده قبل أن يقرأ كتابه في نفي العلوم فقيل له وما يدريك أنه كان لك ولد وأنه مات وأنه لم يقرأ وإنك موجود وإنك صنفت كتابا فلم يدر ما يقول
ومن سخف هؤلاء لم يذكر الله سبحانه الرد عليهم في كتابه ولا رسله صلوات الله عليهم وإنما قدمت ذكرهم عبرة لك حتى لا تحتفل بوجود المخالفين للحق الجلي وتظن أنه لو كان حقا جليا لم يمكن أن يكون فيه مخالف عاقل بل مدع لمرتبة الكمال في الاسلام كنفاة جميع العلوم
والأدلة عقلا وسمعا إلا من طريق الكشف ونفاة وجوب الرب والخلق إلا الوجود المطلق الذي هو ذات الأحد والحضرة الأحدية عندهم وما عداه من مراتب وجود الله وأسمائه الحسنى كلها وهي الحضرة الواحدية عندهم ووجود خلقه ملائكتهم ورسلهم وكتبهم وجنهم وانسهم والدنيا والآخرة كل ذلك خيال لا حقيقة له أبدا ما عدا الوجود المطلق الذي هو الأحد والحضرة الأحدية عندهم هو عدم محض لا وجود له إلا في اللفظ والذهن عند سائر المحققين من العقلاء فهو الموجود على الحقيقة عندهم وكل موجود عندهم ما عداه خيال منه كطيف الاحلام لكن أحب أن يرى نفسه فيه ونسبة كل شيء إليه نسبة صورة دحية إلى جبريل فهو هو من وجه وما هو هو من وجه فكذلك فليكن الضلال المبين وكفى في بيان ضلالهم فرقهم بين الاحد والواحد وبين الأحد وبين الله ولزوم قولهم لإلهين اثنين أحد حقيقي وواحد خيالي ولم يذكر هؤلاء الغزالي في الرد على الاتحادية في المقصد الاسنى لتأخر حدوث ضلالهم الفاحش نعوذ بالله من الغرور
فإذا تقرر أن اثبات العلوم هو الحق والاحوط وهو الذي عليه الشرائع والفطر وعمل الخلق وان الاضطرار إليه وإلى العمل به حاصل وإنه لا خطر في العمل بهذه العلوم عند جاحدها أيضا ثبت أن العمل بها نهج السلامة بغير شك ولا خلاف فهذا أولى خلاف تخلصت منه بطيبة نفس وأول حق واجب ظفرت بمعرفته لأن مخالف الحق هنا يكفر بانكار جميع المعارف الدينية المتعلقة بالقطع باثبات الربوبية والنبوات والشرائع الواجبات وهذا أيضا أول كفر نجوت برحمة الله منه والحمد لله رب العالمين وبعد ثبوت العلم نذكر شيئا من صحيح فضائله والترغيب فيه
فصل من فضائل العلم النافع وأهله
فمن العقل أصل النجاة والسعادة إذ هو الداعي إلى أسباب الخير الصارف عن أسباب الشر ومن خصائصه اجماع العقلاء والملل والنحل على فضله وإنه تمدح به الخالق سبحانه وأنه سبحانه مدح عباده بما وهب لهم منه وفضل آدم عليه السلام بعلم الاسماء على الملائكة واختار تفضيله به على تفضيله بالعمل بكشف الشبهة عن ملائكته وإيضاح الحجة عليهم ولم يزهد فيه بل قال لأعلم خلقه وقل رب زدني علما وحتى فضل الكلاب المعلمة على غيرها فأحل صيدها وهو الذي صال به الهدهد على سليمان عليه السلام مع عظيم ملكه وقويت حجته مع ضعفه وحقارته حيث قال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سباء بنباء يقين ومن أعظم فضائله القرآنية تعليل خلق العالم به في قوله تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيئ علما ثم تعليل البعث في الدار الآخرة به في قوله تعالى وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ولذلك ذم الله من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وقال تعالى فإنها لا تعمي الابصار الآية وقال وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وقال ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وقال تعالى ولقد آتينا
داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ومنه قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ومنه قصة موسى مع الخضر وقوله على أن تعلمن ورحلته إليه في نافلة العلم وعزمه على أن يمضي حقبا في طلب نافلته والحقب ثمانون سنة وذلك يشهد بصحة حديث عبد الله ابن عمر مرفوعا العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل الحديث خرجه أبو داود وابن ماجه ومنه قال الذي عنده علم من الكتاب
ومنه ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ومنه وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ومنه ووجدك ضالا فهدى ومنه ألم نشرح لك صدرك ومنه فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ومنه تشبيه العالم بالحي والنور والجاهل بالميت والظلمات ومنه هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ومنه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ومنه الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان ومنه الذي علم بالقلم ومنه وبشرناه بغلام حليم ومنه قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ومنه وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ومنه والملائكة وأولوا العلم ومنه والذين أوتوا العلم
درجات ومنه ان في ذلك لآية لقوم يعلمون ومنه بل أنتم قوم تجهلون وشرف الشيء يؤخذ من خساسة ضده ومنه في موسى ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ومنه كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ومنه ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ومنه وزاده بسطة في العلم والجسم ومنه ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ومنه إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ومنه قول أهل النار لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ومنه ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا الآية إلى قوله هم الغافلون ومنه ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ومنه لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال حكاية عن ابراهيم واسماعيل ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم فهذه نيف وأربعون آية من محكم كتاب الله تعالى مع ما في السنة من ذلك فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أوفر عباده حظا من جميع مواهبه في العلم والعمل وهذا كله في العلم أنه هو الملك الوهاب المعطي من يشاء بغير
حساب وهذا كله في العلم النافع دون غيره كما تقدم بيانه بالحجة والحجة على ذلك من الكتاب والسنة والمعقول الباب الثاني في اثبات الطرق إلى الله تعالى وبيان أجلاها وأوضحها على سبيل الاجمال
اعلم أن هذا من أوضح المعارف التي دلت عليها الفطرة التي خلق الخلق عليها ولذلك قال كثير من العقلاء والعلماء والأولياء أنه ضروري لا يحتاج إلى نظر وقال آخرون إنما يحتاج إلى تذكر يوقظ من سنة الغفلة كتذكر الموت الذي تقع الغفلة عنه وهو ضروري حتى قال الله تعالى في مخاطبة العقلاء إنك ميت وإنهم ميتون وقال ثم إنكم بعد ذلك لميتون ونحو ذلك مما أشار إليه القرآن الحكيم حيث حكى الله عن الرسل الكرام قولهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض وقد تقدم قول علي عليه السلام في ذلك الذي شهد له أعلام الوجود على اقرار قلب ذي الجحود وذكر شرح ابن أبي الحديد لذلك وتجويده وقد بسطت أدلة من قال بذلك وما يرد عليهم وما يجيبون به في العواصم ولذلك شذ المخالف هنا ولم يكد الخلاف في حاجة العالم إلى مؤثر وإنما اشتد الخلاف في صفات ذلك المؤثر ونقل الرازي عن الفلاسفة اعترافهم أن خوضهم في الالهيات بالظن دون العلم
واعلم أن هذا الخلاف الشاذ المستند إلى الظن باعتراف أهله إنما وقع مع شذوذه لأنهم نظروا في معرفة الرب جل جلاله من الوجه الذي بطن منه ولم ينظروا في معرفته من الوجه الذي ظهر منه وذلك أنه سبحانه قد تسمى بالظاهر وتسمى بالباطن وثبت هذا في كتابه الكريم فثبت أن له جهة يظهر منها وجهة يبطن منها لتبقى حكمته في قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقوله في الساعة أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى فمن نظر في معرفته من الجهة التي يظهر منها ترادفت مواد
معرفته وكانت نورا على نور يهدي الله لنوره من يشاء كما وصف الله نور هدايته بكثرة المواد في سورة النور ومن نظر في معرفته من غير هذه الطريق كان كمن ضل الطريق واجتهد في السير بعد الضلال فلا يزال يزداد بعدا بسيره في غير طريق على أنه يحتمل أن المعنى في الظاهر والباطن أنه هو الحق فيهما معا لا أحدهما كما قد يكون بعض الأمور حقا في الباطن ولا حجة عليه ظاهرة فيكون على هذا الوجه في معنى الملك الحق المبين ويكون ذلك أعظم في قطع أعذار المعاندين والله أعلم
والطرق إلى الله تعالى كثيرة جدا ولكنا نقتصر منها على أصحها وأجلاها وأوضحها وأشفاها حتى نأمن بالسلوك فيها من الضلال في الطرق التي تبعد السائر فيها عن مقصوده والعياذ بالله وإلى تلك الطرق الاشارة بقوله تعالى ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقد يكون فيها ما يستلزم رد كثير من الشرائع فنقول الباب الثالث
في بيان شيء من طرق معرفة الله تعالى على مناهج الرسل والسلف على جهة التفصيل للاجمال المتقدم في الباب الذي قبل هذا فلنذكر اشارة لطيفة على قدر هذا المختصر إلى ثلاث دلالات دلالة الانفس ودلالة الآفاق ودلالة المعجزات وكلها دل عليها القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه يهدي للتي هي أقوم أما دلالة الانفس فإنها بليغة قال الله تعالى قتل الانسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره الآيات وقال تعالى وفي أنفسكم أفلا تبصرون وقال يا أيها الانسان ما غرك بربك الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك وقال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم الآية وأبسط آية في ذلك آية الحج
يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة الآيات إلى قوله ذلك بأن الله هو الحق إلى وأن الله يبعث من في القبور وأبطل شبهة الطبائعية بقوله من تراب لأن آدم أبو البشر وأصلهم بالتواتر الضروري لا أب له ولا أم فلزمت الحجة وبانت ووضحت ولله الحمد والثناء والمنة وكذلك الآية التي في سورة المؤمنين من قوله ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين إلى قوله فتبارك الله أحسن الخالقين وقال أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه ومن ثم قيل فكرك فيك يكفيك وقد جمع الله تعالى ذكر دلالتي النفوس والآفاق في قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وذلك أنا نعلم بالضرورة وجودنا أحياء قادرين عالمين ناطقين سامعين مبصرين مدركين بعد أن لم نكن شيئا وأن أول وجودنا كان نطفة قذرة مستوية الأجزاء والطبيعة غاية الاستواء بحيث يمتنع في عقل كل عاقل أن يكون منها بغير صانع حكيم ما يختلف أجناسا وأنواعا وأشخاصا
أما الأجناس فكما نبه عليه قوله تعالى والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع وأما الأنواع فنبه عليها بقوله ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علق فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ومنه ثم سواك رجلا وأما الأشخاص فبقوله تعالى قتل الانسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره الآيات
وبيانه أنه خلق من نطفة فقدره مستوية الطبيعة فكيف يكون منها ما يبصر ومنها ما يسمع ومنها ما يطعم ومنها ما يشم ومنها الصلب ومنها الرخو ومنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع كما نبه الله عليه في كتابه الكريم ونعلم أنها قد تغيرت بنا الأحوال وتنقلت بنا الأطوار تنقلا عجيبا فكنا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم لحما ودما ثم عظاما صلبة متفرقة في ذلك اللحم والدم تقويهما وعصبا رابطة بين تلك العظام صالحة لذلك الربط مما فيها من القوة والمتانة ثم تركب من ذلك آلات وحواس حية موافقة للمصالح مع ضيق ذلك المكان وشدة ظلمته وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون والظلمات الثلاث ظلمة البطن وظلمة المشيمة وظلمة الرحم ثم انظر إلى موضع العينين ما أشبهه بهما بعيدا مما يؤذيها مرتفعا للتمكن من إدراك المبصرات في الوجه الذي لا يحتاج إلى تغطية باللباس من الجمال البديع فيهما وفي جفونهما ولو كانا في الرأس أو في الظهر أو في البطن أو غير ذلك ما تمت الحكمة ولا النعمة بهما وكذلك كل عضو في مكانه وانظر إلى ستر القذر الذي في البطن بالسواتر العظيمة بحيث لا يحس له حس ولا يظهر له ريح ولا يخرج إلا باختيارنا في موضع خال وإن من عجيب صنع الله تعالى استمساك البول في حال الغفلة بل في حال النوم حتى نختار خروجه ونرضى به من غير رباط ولا سداد في مجراه ولا مانع محسوس فتبارك الله أحسن الخالقين ثم حياتنا في بطون الأمهات من غير نفس ولو كان ثم نفس لكان ثم صوت ولو غم أحدنا بعد الخروج ساعة لمات بل كثيرون يموتون في المدافن المتخذة للحبوب مع سعتها ثم خروجنا من ذلك الموضع الضيق من غير اختيار من المولود والوالدة وهو فعل محكم صعب لابد له من فاعل مختار وعدم الموت لشدة الضغطة عند الخروج وسلامة الولد وأمه من الموت في ذلك من آيات الله كما أشار إليه في آية الحج في وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه
ثم احداث اللبن في ثدي الأم من يومئذ من بين قرث ودم وتربية المولود وفهمه للغة أهله ما كانت فصيحة عربية أو عبرية عجمية مع كثرة قواعد العربية وكثرة اختلاف عوامل الاعراب والعاقل المميز يقف أضعاف تلك المدة بين العرب والعجم فلا يعرف من ذلك ما عرف الصغير ولا يدري ما يقولون بمجرد المخالطة كالطفل الذي لا عقل له ولا تمييز وكذلك العجمي بين العرب ثم يترقى إلى حال التمييز وتتعاقب عليه الأحوال من الصغر والكبر والضعف والقوة والشباب والشيب والعقل والذكاء والبلادة والمرض والصحة والشهوة والنفرة والدواعي والصوارف والعسر واليسر والغنى والفقر وضده من غير اختيار منه في شيء من ذلك فلابد لهذه التغيرات من مغير قادر عليم مدبر حكيم
وقد صنفت في هذا المعنى كتب علم التشريح وبيان كيفية الخلقة وهو مما ينبغي الوقوف عليه أو على شيء منه وقد نقل ابن الجوزي منه جملة شافية في أول كتابه لقط المنافع في الطب فليطالع فيه فلو جاز أن يكون مثل هذا بغير صانع لجاز أن تصح لنا دور معمورة أو مصاحف مكتوبة أو ثياب محوكة أو حلى مصوغة بغير بان ولا كاتب ولا حائك ولا صائغ فما خص خير الخالقين بان يكفر ولا يدل عليه أثر صنعته العجيبة وخلقته البديعة ولو كان هذا الأثر للطبع كما قال كثير من الفلاسفة لكان أثرا واحدا كما لو جمدت النطفة بطبع البرد أو ذابت أو أنتنت
قال الامام المؤيد بالله في الزيادات أن الطبع ان سلمنا وجوده لا يحصل به الشيء على قدر الحاجة وإنما يكون بمقدار قوته وضعفه ألا ترى أن النار تحرق لا على قدر الحاجة بل على قدر قوتها وتنقص عن الحاجة إذا ضعفت وكذلك الماء الجاري والحكيم يجريه ويقطعه على قدر الحاجة اه كلامه وفيه تنبيه حسن على الفرق الجلي
فإذا عرفت هذا فانظر كيف يمكن أن يتغير المني المستوي إلى تلك الأمور المختلفة المحكمة البديعة الاحكام العجيبة الصنعة وهل ذلك إلا بمنزلة تجويز أن يصير المداد مصحفا معربا لا غلط فيه ولا لحن بطبع المداد من غير كاتب عالم بل احكام الانسان أبلغ وأعجب وقد رأيت كم جمع في الأنملة الواحدة من الاصابع من الاشياء المختلفة فوضع فيها جلدا ولحما وعصبا وشحما وعروقا ودما ومخا وعظما وبلة وظفرا وشعرا وبضعة عشر شيئا غير ذلك كل واحد منها يخالف الآخر قدرة وحياة واستواء وارتفاعا وانحدارا وخشونة ولينا وحرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وصلابة ورخاوة ثم خلق في بعضها الحياة دون بعض كالشعر والظفر والعظم وجعلها مدركة لأمور شتى كالحرارة والبرودة واللين والخشونة والقلة والكثرة والرطوبة واليبوسة ومن لطيف الحكمة فيها اختلافها في الطول والقصر حتى تستوي عند القبض على الأشياء فتقوى بالاستواء وهذا مما تخفى فيه الحكمة جدا أعني كون الاختلاف في ذلك سبب الاستواء عند القبض ولذلك خصت بالذكر في قوله تعالى بلى قادرين على أن نسوي بنانه فتبارك الله أحسن الخالقين
وقد أشار الله تعالى إلى بطلان مذهب الطبائعيين بهذا المعنى ونبه عليه سبحانه وتعالى حيث قال في كلامه الكريم وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وآخر الآية دليل على أن العقل يدرك بذلك بطلان قول أهل الطبائع
ومما يدل عليه عافية كثير من المرضى بعد غلبة العلة وقوتها وضعف أسباب العافية ويأس الطبيب من العلاج فقد ذكر الأطباء أن الطب لا ينفع في بعض تلك الأحوال فيتأمل ذلك كثيرا ففيه شفاء لما في الصدور وقد وقعت في ذلك فقلت فيه
فيا عطسات فرجت كل كربة ... ولم يبق في أيدي الاساة سوى الصفق
له الحمد منشكين من غير حيلة ... ولا سبب يجري لي الريق في حلقي
بكن علمت الله علم ضرورة ... وكم مثلها يجلو الوساوس في الحق
فإني شارفت الموت من الإسهال فعطست ثلاث عطسات فكأنما نشطت من عقال ولم يكن للعطاس سبب طبيعي قط فكانت من الآيات العجيبة
ومما ينبغي التيقظ له في الرد عليهم أن آدم هو أبو البشر وذلك معلوم ضرورة تواتر ودلالة جلية أما التواتر فواضح وأما الدلالة فمحال أن يكون البشر من أم وأب وإلى ما لا نهاية لأن عدم التناهي في الحوادث الماضية محال فوجب أن يكون أولهم حادثا من غير أم ولا أب ولا نطفة ولا طبيعة وانه صنع حكيم وإنما علمنا من السمع أن اسمه آدم وأنه من طين فلو كانت الطبيعة تقتضي ذلك بنفسها من غير صانع لكان في كل زمان تظهر صور كثيرة من الطين كصورة آدم ثم النظر في خلق سائر الحيوان كذلك فإن انفلاق بعض الطيور عن فراخها من عجيب صنع الله وكان بعض السلف يحتج بذلك على أن الله تعالى عليم قدير لا كعلم الخلق وقدرتهم لأن قدرته أثرت فيما داخل البيضة من غير كسر لها ولا مباشرة وعلمه أحكم صنع ما في البيضة كذلك وإلى ذلك أشار القرآن الكريم حيث قال الله تعالى في سورة الحج يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب يعني أولكم وأوصلكم وليس في خلق الإنسان من التراب شبهة ألبتة لاعتراف الطبائعية بأنه خلاف العوائد الطبيعية وكذلك قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء وقد أعظم الله تعالى هذه الدلالة فقال كيف
تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الآية وجعل عدم الإيمان بها أكفر الكفر فقال سبحانه قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ونبه بقوله سبحانه على أن الموت دع عنك الحياة مما يستدل به على الله تعالى كما أوضح ذلك في قوله فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون إلى قوله فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين وذلك أن الحي يموت بإذن الله تعالى مع اجتماع أسباب الحياة في هذا العالم الواسع كما يعيش باذن الله في بطن أمه بغير نفس يجري ولا هواء يمد روحه فسبحان من هو على كل شيء قدير ومنه المبدأ وإليه المصير وقد اختار المؤمن هذه الحجة في قوله لصاحبه الكافر المخاصم له أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا وأثنى الله تعالى عليه بذلك وخلد ذكره في أفضل كتبه فكيف لا يختاره المؤمن لتقوية يقينه ودفع وساوس خصومه وشياطينه
وأما دلالة الآفاق فما يحدث ويتجدد في العالم في طلوع القمرين والكواكب وغروبها عند دوران الافلاك الدائرات والسفن الجاريات والرياح الذاريات والنجوم الثوابت منها والمعالم والرواجم والاستدلال بالرواجم جيد لدلالته الواضحة على الفاعل المختار كما يدل على ذلك حركة القمرين الدائمة وسائر النجوم والافلاك وكذلك تغير أحوال الهواء بالغيوم والصواعق والبروق العجيبة المتتابعة المختلطة بالغيوم الثقال الحاملة للماء الكثير المطفئ بطبعه للنار المضادة له وما في الجمع بينها وانشائها وانزال الأمطار منها بالحكمة البالغة لا تختلط قطرة بأخرى ولو اشتدت الرياح العواصف وصغرت القطر وكثرت وتقاربت حتى تقع متفرقة غير ضارة ولو اجتمعت لعظم ضررها ثم نزول البرد القوي الشديد المتحجر في أوقات الخريف الذي لا يجمد فيه الماء مع أنه لا يجمد في أيام الغيم سواء كانت في الشتاء أو في غيره لرطوبة الغيم فمن أين جاء البرد المتحجر والماء
إذا جمد لا يكون على صفة البرد أبدا فتأتي هذه الامطار فتعم الأرض سهولها ووعورها وشعابها وشعافها لينبت العشب الكثير للنعام وسائر الهوام وتسقي المزروع وتنبت الاشجار والفواكه والازهار والثمار وتمد البحار والأنهار والآبار ثم ما في اختلاف الليل والنهار والفصول والاحوال وقد جمع الله تعالى ذلك في قوله إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إلى قوله لآيات لقوم يعقلون فالفكر في هذه الأمور هو النظر المأمور به وعلى ذلك درج السلف من غير ترتيب المقدمات على قانون أهل المنطق بل قد شهد كتاب الله على أن ذلك يفيد البيان حيث قال سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ثم توعد من زعم أن ذلك لم يفده بيانا بقوله أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد وعلى هذا قال الشيخ مختار بن محمود في كتابه المجتبى في آخر ما قيل في حقائق النظر أنه تجريد الفكر عن الغفلات وحكى عن شيخه محمود بن الملاحي أنه لا يشترط في العلم بالله أن يبتني على المقدمات المنطقيات والأساليب النظريات وكيف ينكر هذا أو يستبعد وقد حكى الله عن الهدهد وهو من العالم البهيمي أنه وحد الله واحتج على صحة توحيده بهذا الدليل المذكور في الآفاق قال الله سبحانه حاكيا عنه الا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السموات والأرض يعني المطر والنبات فاحتج بحدوث هذين الأمرين العجيبين المعلوم حدوثهما مع تكررهما بحسب حاجة الجميع إليهما وكذلك قيل لبعض الاعراب بم عرفت ربك فقال البعرة تدل على البعير وآثار الخطا تدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج كيف لا تدل على العلي الكبير وقد أشارت الرسل عليهم السلام إلى هذا المعنى في قوله تعالى قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض
ومما أستجيد في هذا المعنى وتناقله السلف الصالح قول زيد بن عمرو ابن نفيل رحمه الله تعالى
رضيت بك اللهم ربا فلن أرى ... أدين إلها غيرك الله ثانيا
وأنت الذي من فضل من ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت لموسى اذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له آأنت سويت هذه ... بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له آأنت رفعت هذه ... بلا عمد أرفق إذا بك بانيا
وقولا له آأنت سويت وسطها ... منيرا إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له من يرسل الشمس غدوة ... فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤسه ... وفي ذاك آيات لمن كان واعيا وله أيضا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا وفيه يقول ورقة بن نوفل
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا
وتفكر في تباين القمرين في الحرارة والبرودة وبرد القمر مع استمداده في نوره من الشمس وحرارة الشمس الشديدة ومم استمدت تلك الحرارة الدائمة المتوقدة وهي في أرفع الاجواء الرطبة الباردة وكيف لم تحترق وتتلاش مع شدة حرارتها ودوامها وعدم ما تحرقه مثل سائر الناريات وقد ذكر صاحب الوظائف أن في كتاب الله تعالى من الآيات في هذا المعنى خمسمائة آية وقد ذكرت في تكملة ترجيح أساليب القرآن من ذلك ما يشفي ويكفي
ولنختم هذا المعنى بذكر آية واحدة منها وهي قوله تعالى ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره وفي آية أخرى بأنه سبحانه
يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده وهذه حجة أجمع عليها الكفرة مع المسلمين فإن الجميع اتفقوا على أن العالم في الهواء أرضه وسماؤه وما فيه من البحار والجبال وجميع الاثقال وقد ثبت بضرورة العقل أن الثقيل لا يستمسك في الهواء إلا بممسك وأن هذا الامساك الدائم المتقن لا يكون بما لا يعقل من الرياح كما زعمت الفلاسفة على أن الرياح تحتاج إلى خالق يخلقها ثم إلى مدبر يقدرها مستوية الانفاس موزونة القوة لا يزيد منها شيء على شيء حتى تعتدل اعتدالا أتم من اعتدال الفاعل المختار فإن الفاعل المختار لو قصد الاعتدال التام حتى يستوي على رأسه حفنة مملوءة ماء لم يستطع تمام الاعتدال إلا برياضة شديدة فكيف تعتدل عواصف الرياح وتقع موزونة وزن القراريط في الصنجات المعدلة حتى يستوي عليها ثقل الأرض والجبال من غير رب عظيم قدير عليم مدبر حكيم
وأما دلالة المعجزات فهي من أقوى الدلالات وأوضح الآيات لجمعها بين أمرين واضحين لم يكن نزاع المبطلين إلا فيهما أو في أحدهما وهما الحدوث الضروري والمخالفة للطبائع والعادات وهذا هو الذي أراه الله خليله عليه السلام حين سأل الله طمأنينة قلبه والذي احتج به موسى الكليم عليه السلام على فرعون وسماه شيئا مبينا كما حكاه الله تعالى في سورة الشعراء حيث قال فرعون لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال موسى أو لو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين إلى قوله فألقي السحرة ساجدين وكل ما تعارضت فيه أنظار العقلاء وقدحت فيه شكوك الأذكياء فلا شك أن لأهل الاسلام من ذلك القدح المعلى في اثبات الصانع الحكيم تعالى وعلى كل حال فالنبوات وآياتها البينة ومعجزاتها الباهرة وخوارقها الدامغة أمر كبير وبرهان منير ما طرق العالم له معارض ألبتة
خصوصا مع قدمه وتواتره فإن آدم عليه السلام أول البشر وأبوهم نبي مرسل إلى أولاده ثم لم تزل رسل الله تعالى لترى مبشرين ومنذرين وعاضدين لفطرة الله التي فطر الخلق عليها فلا أشفى ولا أنفع من النظر في كتبهم وآياتهم ومعجزاتهم وأحوالهم ثم اعتضد ذلك بأمرين أحدهما استمرار نصر الأنبياء في عاقبة أمرهم وإهلاك أعدائهم بالآيات الرائعة وثانيهما سلامتهم واتباعهم ونجاتهم على الدوام من نزول العذاب عليهم كما نزل على أعدائهم ولا مرة واحدة وذلك بين في القرآن وجميع كتب الله تعالى وجميع تواريخ العالم ومن غريبها الذي لا يكاد أحد ينظر فيه حفظهم مع ضعفهم من الأقوياء الاعداء وأهل القدرة مثل حفظ موسى وهارون من فرعون مع ظهور قدرته ولذلك قالا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى فقال الله تعالى لهما لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى وكذلك قال نوح لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ونحو ذا قال هود لقومه وكذلك قال الله تعالى لمحمد قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ولما نزل عليه قوله تعالى والله يعصمك من الناس ترك الحرس وكان يحرس قبل نزولها وقصة إبراهيم عليه السلام في ذلك أشهر وأبهر بل على هذا درج أهل الصلاح ووضحت حماية الله لأهل الصدق في التوكل كما وعد الله تعالى به والمختصر لا يحتمل إلا الاشارة ثم يفتح الله تعالى على المتأمل ومنهم من كفاه الله بالاسباب الظاهرة الحارقة مثل ملك سليمان عليه السلام واخدام الجن مع الانس وتسخير الريح له وجميع ما حكى عنه فهذا أيضا يدل على الله تعالى أوضح الدلالة حيث جمعت قدرته الباهرة خرق العادات في نصرتهم بالأسباب الباطنة والظاهرة وكذلك عقوبات أعداء الله الخارقة كمسخ أهل السبت قردة وبمثل ذلك
يعلم الله ضرورة لأن مثل ذلك لا يصح بالطبع وهو متواتر مع اليهود مع ثبوته في كتاب الله وفيه ما يدل على وقوعه ضرورة لقوله تعالى ولقد علمتم الذي اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين فلو لم يكن هذا حقا معلوما عند خصوم رسول الله ما خوطبوا بذلك ولو خوطبوا بذلك وعندهم فيه أدنى ريب لبادروا إلى التكذيب والتشنيع وكل هذا يعلم ضرورة من العوائد المستمرة وكذلك نتق الجبل وفلق البحر وقصة أصحاب الفيل وأصحاب الجنة في ن وصاحبا الجنة في الكهف وشفاء أيوب وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام بل منه جميع المعجزات والكرامات الخارقات ومن أعظمه إحياء الموتى لعيسى عليه السلام وكلام عيسى عليه السلام في الطفولة وهو معلوم بالتواتر وسبب غلو النصارى فيه وهم خلائق يعلم بخبرهم العلم الضروري وخسف قارون وداره والخلق ينظرون ونحو ذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى وذكرهم بأيام الله وقوله تعالى ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون
وقد نبه الله سبحانه وتعالى على هذه الدلالات الثلاث في أول سورة الأنعام فتأملها لكنه يسمي المعجزات الآيات ثم أتبعها بابطال اعتلالهم بالسحر كما سيأتي في النبوات
وينبغي ههنا مطالعة كتب قصص الأنبياء ومن أجودها كتاب ابن كثير البداية والنهاية وكتب المعجزات مثل الشفاء للقاضي عياض والمعجزات النبوية من جامع الأصول في حرف النون ولي في ذلك كتاب
مختصر سميته البرهان القاطع في معرفة الصانع ومن أحسن ما أشير فيه إلى المعجزات المذكورة في كتاب الله تعالى هذه الأبيات
هو الله من أعطى هداه وصح من ... هواه أراه الخارقات بحكمة
بذاك على الطوفان نوح وقد نجا ... به من نجا من قومه في السفينة
وغاض على ما فاض عنه استجابة ... وجد إلى الجودي بها واستقرت
وسار ومتن الريح تحت بساطه ... سليمان بالجيشين فوق البسيطة
وقبل ارتداد الطرف احضر من سباله ... عرش بلقيس بغير مشقة
وأحمد ابراهيم نار عدوه ... ومن نوره عادت له روض جنة
ولما دعا الاطيار من رأس شاهق ... وقد ذبحت جاءته غير عصية
ومن يده موسى عصاه تلقفت ... من السحر أهوالا على النفس شقت
ومن حجر أجرى عيونا بضربة ... بها دائما سقت وللبحر شقت
ويوسف إذ ألقى البشير قميصه ... على وجه يعقوب عليه بأوبة
رآه بعين قبل مقدمه بكى ... عليه بها شوقا إليه فكفت
وفي آل إسرائيل مائدة من ... السماء لعيسى أنزلت ثم مدت
ومن أكمه أبرى ومن وضح غدا ... شفى وأعاد الطير طيرا بنفخة
وصح بأخبار التواتر أنه ... أمات وأحيا بالدعا رب ميت
وأبعد من هذا عن السحر أنه ... رضيع ينادي باللسان الفصيحة
ينزه عن ريب الظنون عفيفة ... مبرأة من كل سوء وريبة
وقال لأهل السبت كونوا إلهنا ... قرودا فكانوا عبرة أي عبرة
وصرع أهل الفيل من دون بيته ... بطير أبابيل صغار ضعيفة
وأحرق روض الجنتين عقوبة ... بكاف ونون عبرة للبرية
من نبوع العيون من الحجر بضرب العصا دليل سمعي خاص قاطع على خلق الماء وعلى إخراج المخلوق من العدم المحض وكذلك قوله تعالى وفار التنور وكذلك خروج الماء الكثير من أصابع رسول الله
وإنما ذكرت هذه الآيات لأن بعض الناس ذكر أنه ليس في هذا نص شرعي وإنما يدل عليه العقل والعمومات لا النصوص وقد روى الحاكم في هذا المعنى حديثا في تفسير قوله تعالى جميعا منه
تكميل
ثم يعتضد هذا بما يناسبه من كرامات الصالحين وعقوبات الظالمين المذكورة في كتاب الله تعالى والمتواترة والمشاهدة ثم ما وقع من تكرر نصر الله تعالى للحق والمحقين وإنهم وان ابتلوا فالعاقبة لهم على ما دل عليه قوله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وكذلك قول الله تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين وقوله انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد وقوله تعالى كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقد جود الزمخشري هذا المعنى في تفسير قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وفسرها بما كان من فتوح الاسلام الخارقة في الآفاق وفسرها ببلاد العجم وفي أنفسهم وفسرها ببلاد العرب وفي ذلك حديث ابن عباس الطويل وكذلك الأنبياء تبتلى ثم تكون لهم العاقبة رواه البخاري ويشهد لصحته الاستقراء من التواريخ وقوله تعالى والعاقبة للمتقين وفي الشعراء تنبيه على ذلك في آيات كثيرة يعقبها بقوله تعالى إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم
فتأمل ثم ما قد وقع للإنسان من إجابة الدعوات وكشف الكربات وستر العورات وتيسير الضرورات وقضاء الحاجات وكشف المشكلات والالهام في المعارف الخفيات والاشارات المرشدات في المنامات الصادقات وفي هذا يقول ابن الفارض شعرا
وقل لي من ألقى إليك علومه ... وقد ركدت منه الحواس لغفوة
وقد احتج بذلك الغزالي وعارض به الفلاسفة في إحالتهم لعلم الغيب وهذه الأشياء إذا ضمت إلى البراهين حصل من مجموعها قوة بقين كثيرة ولقد قال الغزالي أنه حصل له يقين قوي بالمعاد من مجموع براهين وقرائن وتجارب
ثم اليقين بعد هذا كله من مواهب الله تعالى فإن أنعم الله به عليك فكن من الشاكرين وإن عرض لك الشك بعد هذا كله فاحذر أن يكون ذلك عقوبة بذنب كما نبه الله على ذلك بقوله فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وقوله سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينه ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب فافزع إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار والتضرع والتذلل وطلب أسباب الرقة والتخويف العظيم لنفسك من الوقوع في الشقوة الكبرى بعذاب الآخرة فإن من طبائع النفوس الإيمان عند شدة الخوف ولذلك آمن قوم يونس لما رأوا العذاب وآمن فرعون حين شاهد الغرق وقد نبه الله على ذلك بقوله بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب ولذلك يرجع كثير من العقلاء عند الموت عن عقائد وقبائح وشبهات كانوا مصرين عليها وليس ذلك لتجلي برهان حينئذ بل لأن الطبع القاسي كان كالمعارض للبرهان فلما لأن بقي البرهان بلا معارض وكذلك لو شاهد فرعون وغيره أعظم برهان بغير خوف ما آمنوا قال الله تعالى فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين
وحكى ابن خلكان عن ابن سينا أنه لما عرف علة الموت أقبل على القرآن وترك ما كان عليه فانصح نفسك وذكرها وقل لها لو كان معك يقين بارتفاع التكليف ما خفت ولكنك عن قريب إن لم يرحمك مولاك تقعين في أشد العذاب وينكشف عنك هذا الارتياب وذكرها عظيم حسرة المكذبين يوم يقال انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون فإن النفس كما أنها بعيدة الايمان فإنها بعيدة الامان وخوفها أعظم الاعوان على الايمان قال الله تعالى وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقال تعالى وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم وقال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ولأنها لوجدان الخوف عند التخويف تنزل من مرتبة القطع بالتكذيب الذي هو أول ما يروم الشيطان فإذا نزلت من ذلك وجب عليها في العقل تصديق الثقة والعمل بالظن كيف إذا جاء الثقة مع ظن صدقه بالمعجز وعضدته البراهين المقدمة وإلى هذه الطريقة الاشارة بقوله تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به إلى قوله إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقوله تعالى قل أرأيتكم إن أتأكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون وقوله فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين وقوله تعالى وبدا لهم من الله
ما لم يكونوا يحتسبون فإن نفرت النفس من الايمان ببعص المحارات وتوهمت أنه من المحالات كثبوت القدم الذي لا نعرفه إلا بالتصديق أو ثبوت الحكمة في العذاب وخلق أهله فسيأتي الجواب في ذلك في اثبات حكمة الله تعالى
ومن أنفع ما يدفع الحيرة به أنه لابد من لزوم المحارة في العقول على كل تقدير والاسلام أقل المحارات من جميع الملل الكفرية وبالاسلام تندفع كلها وتخرج العقول من الظلمات إلى النور وانظر إلى هذا العالم المحسوس بالضرورة تجد المحارة العقلية لازمة لوجوده لأنه لا يخلو بالضرورة من الحدوث أو القدم فالقدم من محارات العقول والحدوث من غير محدث من محاراتها بل من محالاتها فالمحارات أقرب من المحالات لأن الممكن البعيد أقرب من الممتنع ولا ثالث لهذين الأمرين إلا الاسلام وإلى هذا أشار من قال
صورة الكون محال ... وهي حق في الحقيقة
لكنه أخطأ في تسمية المحارة محالا فإن كانت المحارة لازمة للإسلام فهي لما عداه ألزم فإن كان هذا اللزوم حقا فالمحارة حق والحق لا يستوحش منه وإن كان باطلا فالباطل حقيق لا يستوحش من خشيته لأنه لا شيء حقيقة فكيف الخوف من لا شيء فمن لم يثبت الرب قديما أثبت العالم قديما ومن لم يثبت له أسماءه الحسنى بلا سبب أثبت الاحكام العجيب للعالم بلا سبب ومن لم يثبت الرب بكماله بلا سبب أثبت العالم بأحكامه وعجائبه بلا سبب ومن لم يقبل الايمان بالبرهان والقرآن قبل الكفر بلا قرآن ولا برهان
وإلى هذا آشار رسول الله حيث قال لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله وأمرنا بالاستعاذة والانتهاء حينئذ لأنه يقال للكافر فإذا أمكن وجود العالم بغير خالق فأولى منه وجود الرب بغير خالق ودل على أنه لابد من انتهاء الموجودات الممكنة إلى واجب الوجود تعالى
واعلم أن مادة هذه الوساوس عجب الانسان بعقله وعلمه وظنه أنه إذا لم يعرف شيئا فهو باطل فاعرف أنك كما قال أصدق القائلين في صفة الانسان أنه كان ظلوما جهولا ويدل على هذا من المعقول مع المنقول أمران أحدهما أن الانسان يؤثر هواه في الاقبال على دار الفناء وعلى شهواتها الضارة المضرة في العاجلة المشاهدة ويقدم المرجوح على الراجح قطعا ويتحمل من الأمانات التي هو في تحملها مختار ما يدل على صحة ما روي من تحمل آدم عليه السلام لأصلها وجميعها مثل الدخول في الديون والضمانات والحقوق الزوجية وغيرها وحقوق المخالطة والفرق بين الأحكام عند الرضا والغضب والغنى والفقر والامان والخوف وبذلك يعرف الفطين من طبع نفسه الظلم وجحد الحق عند رجحان الداعي إلى ذلك ولذلك يوجد البخل من بعض الاجواد في الاحوال والكذب من بعض الصادقين كذلك قال صالح عليه السلام يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فبين أن الصارف لهم الهوى المحض لا الشبهة
ومن هنا نقم الله على الكفار أنهم آمنوا بالباطل فلو كان كفرهم بالحق الذي هو الله وكتبه ورسله من أجل الشبهة لكانوا لعبادة الحجارة وغيرها أشد كفرا وذلك بين في قوله تعالى والدين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ونحوها قوله في قصة الخليل عليه السلام وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم فبين الخليل لهم أن خوفهم وتخويفهم
من أصنامهم واعتذارهم به عن الايمان شيء باطل ولو كان من قبيل خوف العقلاء المستند إلى الامارات الصحيحة أو الأدلة الواضحة لكان خوفهم من الله تعالى أولى من كل وجه صحيح
ولوضوح هذا جاء فيه بأدوات الاستنكار والاستبعاد مثل قوله وكيف أخاف ما أشركتم وقوله فأي الفريقين أحق بالأمن وهذه المعارضة وأمثالها تفيد القطع بعناد الخصم فتأملها في كتاب الله تعالى وهي جيدة مفحمة نافعة ولذلك سماها الله تعالى حجة ورفع بها خليله عليه السلام ونحوهما قوله تعالى وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا وكذلك قوله تعالى ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير وقوله تعالى أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون
وقد يقع من أهل الايمان شيء من ذلك في غير الكفر ولذلك لم تقبل شهادة المؤمن العدل لنفسه ولا على عدوه وكذلك حكى الله عن الكفار جحدهم في يوم القيامة حتى تشهد عليهم جلودهم وحتى يقولوا لها لم شهدتم علينا وذلك أنهم رأوا من عدل الله تعالى وحكمه بالبينات دون علمه ما أطعمهم في نفع ذلك لهم والطبيعة واحدة إلا ما هدى الله وأصلح فاحذر من هذه الطبيعة أن تتوهم كفرها وقساوتها وجفاوتها برهانا معارضا لبراهين الحق بل ولا شبهة أبدا ولذلك يزول شكها وريبها بمعانية الأهوال كمعاينة هول المطلع كما حكى ابن خلكان عن ابن سينا رأس الفلاسفة أنه لما عرف أنه ميت أعتق مماليكة وفعل من القرب الذي أمكنه وأقبل على التضرع إلى الله تعالى وتلاوة كتاب الله واضمحلت عنه تلك الوساوس
فهذه هذه ولذلك أكثر الله تعالى ورسله من الجمع بين الأدلة والوعيد وقصص المعذبين واعتمدها مؤمن آل فرعون فأحسن في دعاء قومه إلى
الايمان وتخويفهم من العذاب الأدنى المعجل في الدنيا ثم من العذاب الأكبر فقال يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد الآيات وإنما بدأ بذكر عذاب الله للكافرين في الدنيا لأنه كان معلوما لهم بالضرورة فتأثيره في النفوس أقوى كما ذكره المؤيد بالله في قوة النفع بذكر الموت والبلاء في القبور وتصور ذلك وأمثاله
والآن ظهر لك أن اثبات الرب والايمان به هو الحق والأحوط كما تبين قبل ذلك أن اثبات العلوم هو الحق بحيث لا يخاف في هذين الاعتقادين مضرة ألبتة والخوف العظيم والمضار العظيمة في عدمهما كما قال القائل
قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الاموات قلت إليكما
إن صح قولكما فليس بضائري ... أو صح قولي فالوبال عليكما ومثل ذلك قول الآخر
ورغبني في الدين أن دليله ... قوي ويخشى كل شر بجحده
وكرهني للكفر أن فساده ... جلي ويخشى كل شر بقصده
بل كما قال الله تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به الآية كما تقدم والمراد ايراده من غير شك لمداواة النفوس الجامحة والوساوس الغالبة والاستعانة على تليينها بالمعارضات النافعة لتسلم العقول مما يزاحمها مما شق على الأوهام من الغيوب وتذعن لما يخالف القياس من الأحكام الباب الرابع في اثبات التوحيد والنبوات وفروعها
ثم أن المثبتين للعلوم والربوبية اختلفوا في أمور ثلاثة أحدها توحيد الرب وقد علم بالضرورة من الدين وإن خلافه كفر ودليل السمع في
هذا المقام صحيح بالاتفاق مع ما عضده من الدليل العقلي الذي نبه القرآن عليه في قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ولا خفاء في ذلك ولا خلاف فيه بين المسلمين فلا يحتاج فيه إلى عناية ولا شك في قوة براهينة وسقوط المعارض لها وأنه أحوط لما في مخالفته من خوف العذاب العظيم وسيأتي تمام الكلام فيه في فروع النبوات
وأما الكلام في النبوات فاعلم أنه من أوضح المعارف وقد تطابقت دلائل المعجزات الباهرات عليه ولا شك مع ذلك أنه الاحوط لأن التكذيب بها من الكفر المعلوم الموجب للعذاب الأكبر وليس لمنكري النبوات من الشبه ما يعارض دلائل ثبوتها ولا ما ينتهض لإثارة الشكوك في هذا المقام البين وإنما قدحت البراهمة في الشرائع بنحو إباحة ذبح البهائم من غير جرائم وذلك جهل فاحش فإن الله الذي خلقها هو الذي أحلها في دار الفناء التي كتب فيها الموت على كل حي لحكمة بالغة وقد ساوى سبحانه بيننا وبينها بالموت وإن اختلفت الأسباب ولا مانع في العقل من ذلك قبل ورود الشرع على بعض الوجوه فهؤلاء البراهمة لا ينكرون تطابق العقلاء على سقي المزارع بالماء وإن مات بسبب ذلك كثير من الذر ونحوها من الحيوانات التي تكون في مجاري الماء وعلى الاستسقاء من المناهل وإن كان وسيلة إلى موت حيوان الماء وعلى إخراج دود البطن بالأدوية وإن مات ألوف كثيرة بسبب عافية انسان واحد من ألم لا يخاف منه الموت ويخرج الانسان الذباب من منزله ولو هلكن من البرد والحر ونحو ذلك وإنما أجمع أهل العقول على مثل هذا لما في فطر العقول من ترجيح خير الخيرين واحتمال أهون الشرين عند التعارض كما قيل حنانيك بعض الشر أهون من بعض
ومن ذلك استحسن العقلاء تحمل المضار العظيمة في الحروب لدفع ما هو أضر منها وقالت العرب
بسفك الدما يا جارتي تحقن الدما ... وبالقتل تنجو كل نفس من القتل
وقد جاء القرآن بذلك بأفصح عبارة وأوجزها فقال تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب والقصد أنه لا ينكر في العقول أن يغذي الحيوان الشريف بالحيوان الخسيس فتدفع بالغذاء عنه المضرة وتكمل بالغذاء له النعمة وعلى تسليم أن العقل لا يستحسن ذلك فإنه يجوز أن يحكم بحسن ذلك مالك الجميع علام الغيوب الذي لا معقب لحكمه ولا عالم بغيبه ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وتوهم معارضة ذلك بالتقبيح العقلي في غاية السقوط فإن العقلاء يختلفون فيما دق من هذا الباب وإنما يتفقون على الضروري منه الذي لم يرد الشرع به قطعا مثل ترجيح الكذب على الصدق مطلقا لا مقيدا بحال الضرورة فأي عاقل يرجح هذه الحماقة على البراهين الواضحة في النبوات
وقد جود الجاحظ الكلام في النبوات في كتاب مفرد في ذلك وتبعه في ذلك الامام المؤيد بالله عليه السلام فهذب كتابه وحسن ترصيعه وقرب متباعدة فينبغي للمسلم الوقوف عليه وحسن التأمل له فالأمر في ذلك جلي فطري وإنما ينبغي أن يذكر هنا الفروق بين الأنبياء عليهم السلام وسائر من يقع منه الخوارق من أهل السحر والطلسمات وسائر أهل الرياضات
واعلم أن المتكلمين يذكرون هنا فروقا كثيرة منها أن السحر فن معروف له شيوخ يعرفونه ويعلمونه وفيه مصنفات ومن تولع به وطالع كتبه وتتلمذ لشيوخه عرفه وإنما اختلف في تعلمه فقيل حرام وقيل فرض كفاية حتى إذا ظهر ساحر عرف سحره وهذا باطل لوجهين أحدهما أنه لم يكن في الصحابة بعد رسول الله من يعرفه ولو كان فرضا كانوا أقوم الناس به وثانيهما أنه قد ثبت بالضرورة أن محمدا خاتم الأنبياء وهذا برهان يوضح لنا أن كل مدع للنبوة بعده كاذب
وأن كل خارقة تأتي على يد مدعي النبوة بعده فأنها غير صحيحة فإذا تقرر هذا فقد اتضح الفرق فإن النبوات لا حيلة لأحد في اكتسابها
الفرق الثاني أنه لا حقيقة للسحر ولا يبقى وفي المعجزات ما يبقى مثل الناقة في قوم صالح ومثل القرآن العظيم في معجزات رسول الله ولذلك كان أبهر المعجزات فإنه لو أمكن فيه السحر لأمكن أن جميع أشعار العرب وتواريخ العالم وجميع كتب الدنيا سحر وهذا معلوم الفساد بالضرورة وقد أشار إليه في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى في أول سورة الأنعام ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين فإنه سبحانه عاب عليهم الاعتذار عن الحق بالسحر في الموضع الذي لا يمكن فيه السحر قطعا في عقول العقلاء فكيف وقد جعلوه سحرا بينا لا سحرا مشكوكا فيه لشدة عنادهم يدل على ذلك أنهم جعلوه غاية ما اقترحوا تعجيزا وعنادا وعتوا حيث قالوا أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه فتأمل ذلك وكذلك أمثالهم من أعداء الاسلام وكذلك قال تعالى في سورة يونس حكاية عن موسى وقومه فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون فاكتفى موسى بتقريعهم حيث وضح عنادهم
الفرق الثالث أنه لا يكون السحر إلا بشروط مخصوصة في أوقات مخصوصة ولا يكون بحسب الاقتراح بخلاف المعجزات
قلت وهنا فروق أوضح من هذه الفروق بين الأنبياء وغيرهم وذلك من وجوه
الأول اتفاق الأنبياء في التوحيد والدعاء إلى الله تعالى والترغيب فيما لديه والترهيب من عقوبته فالأول منهم يبشر بالثاني والآخر منهم يؤمن بالأول وليس أحد منهم يخطئ أحدا ولا ينقم عليه ولا ينتقصه بخلاف سائر أرباب الخوارق وسائر العلماء والأولياء فإنه يجري بينهم المعارضة
الدالة على ارتفاع العصمة ألا ترى أن أهل الرياضة تكون فيهم المبتدعة بل منهم الدهرية والبراهمة وقد ذكر صاحب العوارف طرفا من ذلك في الباب السابع والأربعين وصنف شيخ الاسلام ابن تيمية مصنفا في ذلك سماه الفرق بين الأحوال الربانية والأحوال الشيطانية الوجه الثاني ما ذكره الشيخ مختار في المجتبى وهو أن صاحب المعجزات يفارق صاحب الحيل والسحر في الزي والرواء والهيبة والكلام والأفعال وفي كافة الأحوال أنوار التقوى تلألأ في وجه صاحب المعجزات وآثار الصلاح تلوح في وجوه أهل الخيرات تعرفهم بسيماهم كما قال ربهم ومولاهم شيمتهم التحلم والاصطبار ودينهم الصفح والعفو والاستغفار والجود فالسخاء والايثار والمصافاة مع المساكين والفقراء والحنو والحدب على الضعفاء والأعراض عن زخارف الدنيا وعن اتباع الشهوات والهوى
وأما أصحاب السحر والحيل فرذائل التزوير لائحة في وجوههم ومخايل الختل والغدر واضحة في جباههم قصارى همهم استمالة الأغبياء وإيثار مواطن الملوك والأمراء والأغنياء وغاية أمنيتهم نيل الجاه والعز في الدنيا والظفر بما يوافق النفس والهوى اه . وقد سبقه الرازي إلى هذا المعنى بأجود من كلامه لكنه أطول فآثرت اختصار ما ذكره الرازي في كتاب الأربعين ونقلته وزدت عليه كثيرا في كتاب البرهان القاطع في معرفة الصانع وصحة الشرائع
وإلى هذا الوجه الإشارة بقوله تعالى أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون وقوله أسحر هذا ولا يفلح الساحرون كما تقدم في كلام موسى عليه السلام وقوله تعالى اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وأمثالها وفي آية يسن اشارة إلى أن الكذب على الله وعلى الخلق في غاية القبح ونفرة العقلاء عنه متمكنة فلا يمكن صدوره من أهل العقول الراجحة والزهد المجرب لامتناع وقوع المرجوح عقلا وسمعا وهذه وأضعاف أضعافها صفات الأنبياء عليهم السلام كما أوضحته في البرهان القاطع ثم ان الله تعالى جعل في بعض أحوال
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فتنة للذين في قلوبهم زيغ ومرض وعمى كما قال تعالى وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا وذلك ليبقى الابتلاء الذي اقتضته الحكمة حين كان في أسماء الله المبتلى والباطن والظاهر كما مضى فمن كان نظره من الجهات المناسبة لاسمه الظاهر رشد وسعد ومن كان نظره على العكس من ذلك وقع في المحارات وبعد من مسالك النجاة فكن من ذلك على حذر وافزع إلى الله واستعذبه من ذلك وهو الهادي ولا يهدى إلا الله
الوجه الثالث أنه يظهر على كل نبي ما يميزه من السحرة وأهل الحيل مثال ذلك إيمان السحرة بموسى واعترافهم أن الذي جاء به ليس في جنس السحر واحياء عيسى للموتى وذلك ان موسى عليه السلام كان في وقت ظهر فيه علم السحر وعيسى عليه السلام كان في زمن ظهر فيه علم الطب فجاء كل واحد منهما بما يعرفه أهل عصره وكذلك محمد كان في زمان ظهرت فيه الفصاحة فجاء بالقرآن العظيم الذي لا يخفى عليهم ما اشتمل عليه من وجوه الاعجاز
ثم انه ظهر لنا في حق نبينا أمور كثيرة تميزه عن السحرة والمحتالين منها ورود البشارة به في التوراة والانجيل قال الرازي في كتابه الأربعين والدليل على ذلك أنه ادعى أن ذكره موجود فيهما قال الله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التورية والانجيل وقال حكاية عن عيسى المسيح ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ومعلوم أنه لو
لم يكن صادقا في ذلك لكان هذا من أعظم المنفرات عنه لليهود والنصارى ولا يمكن أن العاقل يقدم على فعل يمنعه من مطلوبه ويبطل عليه مقصوده ولا نزاع بين العقلاء انه كان أعقل الناس وأحلمهم انتهى
ومنها ما ظهر من كراماته في أيام الحمل به وأيام الطفولية مثل ما روى مسلم في الصحيح والنسائي من حديث أنس أن جبريل أتاه وهو يلعب مع الصبيان فشق بطنه واستخرجه وجاء الغلمان يسعون إلى ظيره فقالوا ان محمدا قد قتل وهو منتقع اللون قال انس قد كنت أرى ذلك المخيط في صدره
ومنها علم جميع من آمن به من أهله وأصحابه وأهل بلده ببراءته من التهمة بالسحر ولا شك ان علمهم بذلك ضروري كما يعلم ذلك أحدنا في كثير من أهله وخاصته وجيرانه وأهل زمانه ولذلك حصل معنا العلم الضروري بذلك عن خبرهم ولو كان خبرهم عن ظن لم يحصل لنا منه علم ضروري ومن لم يحصل له هذا العلم الضروري فذلك لتقصيره في علم الحديث والسير والتاريخ على أنا غير محتاجين إلى شيء من هذا لما قدمناه من انه لا يمكن السحر في القرآن لدوامه وعظيم ما اشتمل عليه من البلاغة والعلوم ولو أمكن ذلك بالسحر لامكن الساحر أن يكون كلامه بليغا مفهوما ولما حصلت الثقة بكلام ولا كتاب على وجه الأرض
وقد بسطت القوم في هذا في البرهان القاطع وهذا كاف على قدر هذ المختصر وليس التآليف الامثل للثمار وطرح البذر في الأرض الطيبة ثم يهب الله من البركة ما يشاء وهو الفتاح العليم على أن السحر أحد الدلالات البينة على الله تعالى لان علمه من العلوم التي لا تدرك بالعقل مثل ما ذكره الغزالي في أمثاله مما يعلم قطعا انه ينتهي إلى تعليم عالم الغيب ولذلك جاء النص الصريح في كتاب الله تعالى بأنه من تعليم ملكين من ملائكة الله وأن علمه أنزل عليهما كما قال تعالى وما أنزل على الملكين ببابل الآيات ثم فيه دلالة على النبوات من جهة أخرى
وذلك ان الساحر يعجز عن معارضة الانبياء وعن بلوغ درجتهم في الاعجاز الحق فتبين بذلك صدقهم وتمييزهم برفيع مقامهم عن السحر والسحرة كما كان في قصة موسى عليه السلام مع السحرة فتعرف بذلك قدر النبوات معرفة مقادير المحاسن بأضدادها ولله الحكمة البالغة في كل شيء سبحانه وتعالى
ومما يقوي أمر النبوات والاسلام النظر في معارضها وضعفه فان المخالفين لذلك ضربان أحدهما أهل التجاهل المتدينون بدين الآباء وان كان عبادة الاحجار ونحو ذلك ولا يلتفت إلى هؤلاء مميز وثانيهما أهل الفلسفة وقد نقل الرازي عنهم الاعتراف بأن خوضهم في الربوبيات بالظن وأنهم لا يعلمون إلا أحكام المشاهدات والمجريات ولو لم يقروا بذلك قام الدليل القاطع عليهم بذلك وهو اختلافهم وتكاذبهم المتباعد المتفاحش الذي تميز الانبياء بالعصمة منه عن جميع أهل الدعاوي الباطلة والنظر في هذا نفيس جدا فان الشيء انما يزداد شرفا على قدر خساسة ضده وصحة على قدر ضعف معارضه وإليه الاشارة بقول يوسف عليه السلام يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار إلى آخر الآيات ويقرب منه قوله تعالى أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ثم أن الله تعالى نبه على عظيم عناد المكذبين للانبياء بقوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل فقوله إنما أنت نذير واضح في الرد عليهم بأن أصل القصد في النبوات اقامة الحجة على الغافلين عن الامر الجلي بمجرد ما ينبه الغافل من النذارة القائمة مقام الحاضر على القلب وذلك ما لا يحتاج إلى دليل قاطع على صدق النذير بل يكفي في النذير أن يكون ممكن الصدق غير مقطوع بكذبه في الأصل ومثله فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ولذلك ذهب إلى ذلك كثير من الامامية
كما ذكره صاحب كتاب الدعائم عنهم لكن الله زاد في إقامة الحجة ليقوى عدله على الكافرين وفضله على المؤمنين فأيدهم بأنواع الآيات الخارقة والامارات الصادقة وفي الآية دلالة على حسن الاحتياط في الحذر بعد سماع النذر كما هو معلوم في النظر وكما تقدمت عليه الدلالة في كلام مؤمن آل فرعون وغيره مما تقدم من الآيات الكريمة في ذلك ولله الحمد ثم أن الأمة أجمعت على انقطاع الوحي بعد رسول الله وأنه لا طريق لأحد من بعده إلى معارضة ما جاء به فمن ادعى ذلك وجوز تغيير شيء من الشريعة بذلك فكافر بالاجماع
خاتمة
ثم إن المثبتين للنبوة اختلفوا في الايمان بجميع الانبياء فمنهم من فرق بين رسل الله فآمن ببعضهم وكفر ببعضهم كاليهود والنصارى ومنهم من آمن بجميع رسل الله ولم يفرق بين أحد منهم كالمسلمين فلا شك في أن إثبات النبوات أصح دليلا وأحوط ثم أن الايمان بجميع الأنبياء كذلك فان المكذب برسول واحد كالمكذب بجميع الرسل وهل أشقى ممن سلم من جميع المهالك حتى إذا لم يبق إلا مهلكة واحدة وقع فيها فانظر ما أوضح الضلال في جميع ما تقدم من انكار العلوم ثم من إنكار الربوبية ثم من إنكار التوحيد ثم من إنكار النبوات ثم من إنكار نبوة محمد خاصة وما أوضح الحق في مخالفة ذلك كله فالحمد لله رب العالمين
ومن واضحات الدلالة على اليهود أنهم مقرون برسول مبشر به في التوراة لكنه عندهم غير محمد فيقال لهم تكذيبهم بمحمد يؤدي إلى تكذيبهم بكل مدع أنه هو لأنه لا يمكن أن يأتي إلا بمعجزات وأما حديث تمسكوا بالسبت أبدا فلو كان حقا لذكروه للنبي ولم يؤمن منهم أحد لكنه موضوع في زمن الراوندي ذكره صاحب التقويم في أصول الفقه ولا حجة فيه لو صح لأن المراد بذلك قد يكون مدة طويلة وإلى غاية كقوله تعالى وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده
فصل في تأكيد اليقين بالنبوات زيادة على ما تقدم
وذلك أن كثرتهم عليهم السلام قد علمت لأهل العلم بتواريخ العالم وأخبار الامم واشتهرت لمن كان أقل بحثا وخبرة بهذه العلوم وورد في الاخبار أنهم عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وكتب الله التي جاؤا بها مائة كتاب وأربعة كتب رواه ابن حبان والبيهقي من حديث أبي ذر بسندين حسنين وتواترت كثرتهم في الجملة ولا شك أن الجمع العظيم متى تفرقت أوطانهم وقبائلهم وأغراضهم وأزمانهم ومذاهبهم ولم يكونوا من أهل الصناعات النظرية والرياضات الفلسفية والقوانين المنطقية ثم اتفقوا على القطع بصحة أمر لا داعي له ولا مانع منه بحيث لو اجتمع عيون الفطناء وحذاق الأذكياء ومهرة العلماء على واحد منهم يشككون عليه في اعتقاده لم يرفع إليهم رأسا ولم يلتفت إليهم أصلا فعلمنا علما تجربيا ضروريا أنهم ما تواطئوا على التعمد للمباهتة والتجري على التدليس والمغالطة وأنه ما جمع متفرقات عقائدهم وألف نوافر طباعهم وربط بين جوامح مختلفات اختياراتهم وعصمهم عن متابعة سنة العقلاء في اختلاف مذاهبهم مع طول أنظارهم إلا صدق ما ادعوه من شريف علمهم وحالهم وصحة ما بنوا عليه دينهم ويقينهم من استناد هذه العوالم والخلائق والآثار والحوادث إلى رب عظيم ومدبر حكيم واضطراره لهم بالمعجزات والقرائن إلى الاجتماع على هذا الدين القويم والشأن العظيم وحينئذ لا تردد العقول ولا توقف الاذهان عن الجزم بصدقهم وثلج الصدور لصحة خبرهم فكيف إذا عضد هذا الجميع العظيم من البراهين النيرة والقرائن الواضحة والشواهد الصادقة ما لم يحصره
الاذكياء والعارفون على مرور الدهور والقرون حتى قال الله تعالى في كتابه المكنون فبأي حديث بعده يؤمنون
فمن ذلك ما ذكره الامام المؤيد بالله عليه السلام في كتابه في اثبات النبوات قال عليه السلام وأنتم إذا تأملتم أحوال الفترات التي كانت بين آدم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد ازددتم معرفة بحسن تدبير الله تعالى لخلقه بابتعاث الرسل وتجديده ما درس أو كاد يدرس من الشرائع والملل وأنه تعالى ابتعث حين علم الصلاح في الابتعاث ومد الفترة حين علم اقتران المصلحة بها لأن الفترة على ما يقوله بعض أهل التواريخ على اختلاف بينهم فيه والله أعلم بتحقيق ذلك كانت بين آدم ونوح صلى الله عليهما سبعمائة عام وإنما كان ذلك كذلك والله أعلم على مقدار ما يلوح لنا ويبلغه مقدار أفهامنا أن آدم هبط إلى الأرض وهو أبو البشر وأول الانس ولم يكن في زمانه شيء من الكفر وعبادة الاصنام ولم يكن غيره وغير زوجته حواء وأولادهما وكانوا يعرفون حاله فلم يكن في أمره شك عندهم لوضوح أمره وظهور آياته وقلة من بعث اليهم فامتد زمان الفترة وكان بينهما مع شيث ذلك وإدريس عليهما السلام فاستحدث الناس الكفر وعبادة الأصنام واتخذوا ودا وسواعا ويغوت ويعوق ونسرا فابتعث الله تعالى نوحا عليه السلام يدعوهم إلى التوحيد وخلع الأصنام والأنداد فلبث فيهم كما قال الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما فغرقهم الله بالطوفان حين تمت عليهم حجته وعلم أنه لا يصلح منهم أحد كما أوحى ذلك إلى نوح عليه السلام
ثم كانت الفترة بين نوح وإبراهيم عليهما السلام نحو سبعمائة عام وإنما كانت هذه المدة نحو ذلك لأن الغرق أعاد حال نوح إلى نحو حال آدم صلى الله عليهما وسلم في ظهور أمره وابتداء البشر منه مع أنه لم يكن بقي من الكفار أحد إلا أن الناس قد كانوا عرفوا عبادة الأصنام واتخاذ الأنداد من دون الله تعالى فأسرعوا بعده إلى الكفر وعبادة الأصنام وكان الله تعالى قد بعث هودا إلى عاد لما ازداد تمردهم وصالحا بعده إلى
ثمود ثم لما ازداد الكفر ظهورا وانتشارا ابتعث الله تعالى إبراهيم فدعاهم إلى الله تعالى وكسر أصنامهم ونبههم على خطأ أفعالهم وجدد لهم الذكرى وأنزل تعالى عليه الصحف وبعث لوطا عليه السلام إلى قوم مخصوصين حين ازداد عتوهم واستحدثوا من الفاحشة ما لم يكن قبلهم ثم كانت الفترة بينه وبين موسى صلى الله عليهما نحو أربعمائة سنة وإنما كانت كذلك والله أعلم لأن ابراهيم ﷺ مضى والكفر باق بينهم ظاهر ولم تكثر أتباعه الكثرة الظاهرة على ما بلغنا وبعث الله بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام والاسباط وشعيبا قبل مبعث موسى عليه السلام وقبل أيوب وكان قد بعث قبل موسى عليه السلام وتغيرت أحوال بني إسرائيل وقل قبول الناس الحق وظهر الكفر وبلغ مبلغا لم يكن بلغه من قبل لأن فرعون ادعى الربوبية فاستعبد بني إسرائيل فعظم الأمر وازداد الكفر واتسع الخرق ونسى الحق فلذلك قصرت مدة هذه الفترة حتى بعث موسى ﷺ مع تلك الآيات العظام كالعصا واليد البيضاء ومجاوزة بني إسرائيل البحر بعد أن انفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وتغريق فرعون ومن معه إلى غير ذلك من الحجر الذي انفجرت منه العيون وما كان ظهر قبل ذلك من الجراد والقمل والضفادع والدم وغير ذلك مما يطول ذكره وأنزل عليه التوراة وبين فيها الأحكام والحلال والحرام وظهر أمره أتم الظهور وإنما كانت أعلام موسى أكثر وآياته أظهر لأن بني إسرائيل كانوا والله أعلم أجهل الأمم وأغلظهم طبعا وأبعدهم عن الصواب وأبلدهم عن استدراك الحق ألا ترى أنهم بعد ما جاوز الله بهم البحر وغرق آل فرعون وهم ينظرون قالوا لموسى حين مروا على قوم عاكفين على أصنام لهم يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة واتخذوا العجل وعبدوه وظنوا أنه إلههم وإله موسى وأنه نسي فبحسب هذه الأحوال اقتضت الحكمة إيضاح الآيات والاعلام وتكثيرها لهم ثم بعث يوشع ويونس ثم بعث داود وأنزل عليه الزبور وبعث سليمان وآتاه الله الملك مع تلك الآيات العظيمة ثم بعث بعده زكريا ويحيى صلى الله عليهم وكانت الفترة بين موسى وعيسى نحو ألفي سنة لعظم آيات موسى وعظم الكتاب الذي أنزل
معه ولما بعث بينهما من الأنبياء عليهم السلام وهذه المدة أطول المدد التي كانت بين من ذكرنا عليهم السلام
ثم لما تزايد الكفر وتغيرت أحوال بني إسرائيل وشاع الإلحاد في الفلاسفة بعث الله عيسى عليه السلام بتلك الآيات الباهرة وبقي فيهم ما بقي ثم أكرمه الله تعالى ورفعه إليه ثم كانت الفترة بينه وبين نبينا محمد نحو ستمائه عام وكانت هذه المدة أوسط المدد وذلك والله أعلم لأن حجج الله تعالى كثرت فيها لبقاء التوراة والزبور والانجيل ومع ذلك كثر الضلال وقيل في المسيح قولان عظيمان أحدهما ما قالته اليهود والثاني ما قالته النصارى ثم بعث الله تعالى النبي محمدا وختم به الرسالة ونحن من مبعثه على نحو من أربعمائة عام فدل على قرب الساعة وأزوف القيامة وحقق ذلك قوله تعالى اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون وقوله تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر وقول النبي بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه اه
قلت وهذا كلامه عليه السلام في هذا التاريخ المتقدم فكيف بنا اليوم وقد دخلنا في المائة التاسعة أكثر من ثلثها قال فانظروا رحمكم الله في حسن نظر الله تعالى لعباده بما ذكرنا فاعتبروا به واستعدوا للدوام والبقاء فله خلقتم فكأن الواقعة قد وقعت والحاقة قد حقت فريق في الجنة وفريق في السعير فلا يصدنكم الشيطان وأتباعه عنها كما قال الله تعالى إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى وفقنا الله وإياكم لطاعته واتباع مرضاته قلت ومع قرب مبعث محمد من القيامة فلم يخل الله عباده من تجديد الآيات وما يقوم مقام تجديدها وذلك بأمور أعظمها إعجاز القرآن العظيم وبقاؤه في الأمة وحفظه له عن التغيير
وقد جود الامام المؤيد بالله عليه السلام ومن سبقه من علماء الاسلام
القول في ذلك وقد جمعه عليه السلام في كتابه في النبوات وجوده وإن كان قال عليه السلام أنه لم يزد على ماقالوه وإنما أوجز من كلامهم ما جعله البسط متباعد الأطراف أو بسط ما جعله الايجاز خفي الاغراض فقد أفاد وأجاد وأحسن وزاد فينبغي مطالبة كتابه في ذلك وكتاب الجاحظ فيه أيضا فانه السابق له عليه السلام إلى ذلك والمشهور بالتجويد في هذه المسالك
ومن نفيس كلامه في ذلك قوله ومن الدليل على اعجاز القرآن أن النبي ابتدأ الاتيان بهذا القرآن على غاية الاحكام والاتقان وقد ثبت جريان العادة أن كل أمر يقع على وجه لا يصح وقوعه عليه إلا بعلوم تحصل للفاعل له لا يصح وقوعه ابتداء على غاية الاحكام والاتقان وأن بلوغه الغاية يتعذر إلا على مر الدهور والأعصار وتعاطي جماعة فجماعة له وانه لا فرق في ذلك بين شيء وشيء من الأمور في منظوم الكلام ومنثوره وما يتعلق بالتنجيم والطب والفقه والنحو والصناعات التي هي النساجة والصياغة والبناء وما أشبه ذلك فإذا ثبت ذلك وثبت وقوع القرآن على الوجه الذي بيناه ثبت أنه وقع على وجه انتقضت به العادة فجرى مجرى قلب العصا حية واحياء الموتى والمشي على الماء والهواء إلى آخر ما ذكروه في ذلك ولولا أن ذكره يناقض ما قصدت من الاختصار لذكرته فهذا أعظم الآيات لبقائه في أمة محمد وفناء آيات الأنبياء في أعصارهم عليهم السلام ولكن الله لما علم أن النبوة قد انقطعت جعل هذا المعجز الجليل باقيا على مر الدهور جديدا على طول العصور
الأمر الثاني ما أشار إليه رسول الله حيث قال إن الله يبعث لأمتي من يجدد لها دينها رأس كل مائة عام وهذه إشارة إلى ما من الله تعالى به على أهل الاسلام من الأئمة الهداة للأنام عليهم السلام ومن سائر العلماء الاعلام والصالحين الكرام ومما يجعل الله تعالى فيهم من الاسرار ويجدد بهم من الآثار ويوضح بهم من المشكلات ويبين بهم
من الدلالات ويرد بعلومهم من الجهالات ويؤيد بهم من الكرامات وصادق المبشرات من رؤيا الحق الواردة في محكم الآيات وصحيح الروايات
الأمر الثالث نصر الله تعالى لحماة الاسلام المجاهدين وإنجازه ما وعدهم به في كتابه المبين من نصره للمؤمنين وعلى لسان رسوله الصادق الأمين من حفظه لهذا الدين على كثرة الكافرين والمفسدين والملاحدة والمتمردين ولو نذكر القليل من ذلك لطال وقد اشتملت عليه تواريخ الاسلام وتواريخ الرجال فالحمد لله رب العالمين
وأما ما يختص بنبينا محمد من الآيات الباهرة والدلالات الواضحة فأكثر من أن يحصر وأشهر من أن يذكر وقد صنفت في ذلك مصنفات كثيرة منها كتاب الشفاء للقاضي عياض المالكي وغيره لكن تقصيها هنا مما لم تدع إليه الحاجة إذ لا منازع من أهل الاسلام في نبوته ولا شاك ولا مشكك فيها وإنما المراد هنا ارشاد المختلفين من أمته إلى أوضح الطرق وأنصفها وأهداها إلى اتباع سنته والسلامة من مخالفته ولكنا نتبرك ونتشرف بذكر شيء يسير منها على جهة الاشارة والرمز إلى جمل من ذلك على حسب ما يليق بهذا المختصر فنقول كما قال واحد من علماء الاسلام
إن معجزاته قسمان حسية وعقلية أما الحسية فثلاثة أقسام أحدها أمور خارجة عن ذاته وثانيها أمور في ذاته وثالثها أمور في صفاته
أما القسم الأول وهو الاشياء الخارجة عن ذاته فمثل انشقاق القمر وطاعة الشجر في المشي إليه وتسليم الحجر وحنين الجذع إليه ونبوع الماء من بين أصابعه واشباع الخلق الكثير من الطعام القليل وشكاة الناقة وشهادة الشاة المشوية واظلال السحاب قبل مبعثه وما كان من حال أبي جهل وصخرته حين أراد أن يضربها على رأسه وما كان من شاة أم معبد حين مسح يده المباركة على ضرعها وأمثال ذلك ولو ذكرت طرق ذلك وأسانيده لمنع عن المقصود بالاختصار وأخرج عنه إلى التآليف الكبار
وأما القسم الثاني وهي الأمور العائدة إلى ذاته فهو مثل ما كان من الخاتم بين كتفيه والنور الذي كان ينتقل من أب إلى أب إلى أن خرج إلى الدنيا وما شوهد من خلقته وصورته التي يحكم علم الفراسة بأنها دالة على نبوته
وأما القسم الثالث وهو ما يتعلق بصفاته فهي كثيرة ونحن نشير إلى بعضها فمن ذلك أن أحدا ما سمع منه كذبا لا في أمور الدين ولا في أمور الدنيا ولو صدر عنه شيء من ذلك مرة واحدة لاجتهد أعداؤه في نشره واظهاره
الثاني أنه ما فعل قبيحا منفرا عنه لا قبل النبوة ولا بعدها الثالث أنه لم يفر عن أحد من أعدائه لا قبل النبوة ولا بعدها وان عظم الخوف واشتد الأمر مثل يوم أحد ويوم الأحزاب الرابع أنه كان عظيم الشفقة والرحمة على أمته كما قال الله تعالى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وقال تعالى فلعلك باخع نفسك وقال تعالى ولا تحزن عليهم وقال تعالى عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم الخامس أنه كان في أعظم الدرجات في الكرم والسخاء حتى أن الله تعالى علمه التوسط في ذلك حيث قال له ولا تبسطها كل البسط السادس أنه ما كان للدنيا في قلبه وقع السابع أنه كان في غاية الفصاحة الثامن أنه بقي على طريقته المرضية أول عمره إلى آخره والمزور لا يمكنه ذلك وإليه الاشارة بقوله تعالى وما أنا من المتكلفين التاسع أنه كان مع أهل الغنى والثروة في غاية البعد عن المطامع والترفع عنها ومع الفقراء والمساكين في غاية القرب منهم والتواضع لهم واللطف بهم العاشر أنه كان في كل واحدة من هذه الأخلاق الكريمة في الغاية القصوى من الكمال ولا يتفق ذلك لأحد من الخلق غير أهل العصمة من الله تعالى فكان اجتماع ذلك في صفاته من أعظم المعجزات
وأما المعجزات العقلية فهي ستة أنواع النوع الأول أنه ظهر بين قبيلة ما كانوا من أهل العلم ومن بلدة ما كان فيها أحد من العلماء في ذلك العصر بل كانت الجهالة غالبة عليهم ولم يتفق له سفر من تلك البلدة إلا مرتين كلاهما إلى الشام وكانت مدة سفر قليلة ولم يذهب أحد من العلماء والحكماء إلى بلده حتى يقال أنه تعلم العلم من ذلك الحكيم فاذا خرج من مثل هذه البلدة ومثل هذه القبيلة رجل بارع الكمال فائق على فحول الرجال من غير أن يمارس شيئا من العلوم ولا يخالط أحدا من العلماء ألبتة ثم بلغ في معرفة الله تعالى وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه هذا المبلغ العظيم الذي عجز عنه جميع الأذكياء من العقلاء بل عجزوا عن القرب منه والمداناة له بل أقر الكل بأنه لا يمكن أن يزاد في تقرير أصول الدلائل ومهمات المعارف على ما ورد في القرآن العظيم ثم ذكر قسس الأولين وتواريخ المتقدمين بحيث لم يتمكن أحد من الاعداء العارفين بذلك أن يخطئه في شيء منها بل بلغ كلامه في البعد من الريب إلى أن قال بذلك أن يخطئه في شيء منها بل بلغ كلامه في البعد من الريب إلى أن قال عند مجادلتهم له تعالوا ندع أبناءننا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين
فحادوا عن ذلك وعرفوا صدقه واجابة دعوته ولم يقدر أحد من أعدائه أن ينسب إليه أنه أخذ ذلك من مطالعة كتاب ولا صحبة أستاذ وكانت هذه الاحوال ظاهرة معلومة عند الاصدقاء والأعداء والقرباء والبعداء كما أشار إليه قوله تعالى أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون وقال وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون وقال فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون وكل من له عقل سليم وطبع مستقيم علم أن هذه الاحوال لا تتيسر إلا بالتعليم الالهي والتوفيق الرباني
النوع الثاني أنه عليه كان قبل اظهاره دعوى الرسالة غير باحث عن هذه المور ولا مشغول بها ولا جرى على لسانه حديث
النبوة لنفسه ودعوى الرسالة والذي يدل على ذلك أنه لو اتفق له خوض في هذه المطالب لقال الكفار أنه أفنى عمره في ذلك وفي جمع القرآن حتى قدر على ذلك بعد طول التأمل والتدبر وجاء به ولما لم يذكر هذا عن أحد من الاعداء مع شدة حرصهم على الطعن فيه وفي نبوته علمنا ذلك ومعلوم أن من انقضى من عمره أربعون سنة ولم يخض في شيء من هذه المطالب ثم أنه خاض فيها دفعة واحد وأتى بكلام عجز الأولون والآخرون عن معارضته فصريح العقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا على سبيل الوحي من الله تعالى
النوع الثالث أنه تحمل في أداء الرسالة أنواع المتاعب والمشاق فلم يغيره ذلك عن المنهج الأول ولم يطمع في مال أحد ولا في جاهه بل صبر على تلك المشاق والمتاعب ولم يظهر في عزمه فتور ولا في اصطباره قصور ثم أنه لما قهر الأعداء وقويت شوكته ونفذت أوامره في الأموال والارواح لم يتغير عن منهجه الأول في الزهد في الدنيا والاقبال على الآخرة وكل من أنصف علم أن المزور وحاشاه من ذكر ذلك لا يكون كذلك فان المزور إنما يروج الكذب والباطل على الحق لكي يتمكن من الدنيا فاذا وجدها لم يملك نفسه عن الانتفاع بها لكيلا يكون ساعيا في تضييع مطلوبه بل تضييع مطلوبه بل تضييع دنياه وآخرته وذلك ما لا يفعله أحد من العقلاء
النوع الرابع من معجزاته العقلية أنه كان مستجاب الدعوة وذلك معلوم بالتواتر الضروري لمن عرف سيرته وأخباره وأحواله بل لمن طالع كتب آياته واعلامه وذلك ثابت في الكتب الست بالأسانيد المعروفة من حديث جابر بن عبد الله وأبي هريرة والسائب بن يزيد وأبي زيد ابن أخطب ويزيد ابن أبي عبيد وابن مسعود وأنس والبراء بن عازب وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم
النوع الخامس ورود البشارة به في التوراة والانجيل والدليل على ذلك أنه ادعى ذلك كما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم ومعلوم أنه لو لم يكن صادقا في ذلك لكان هذا من أعظم المنفرات لأهل الكتاب عنه ولا يصح من العاقل أن يقدم على فعل ما يمنعه من مطلوبه ويحول بينه وبين
ما يحاوله ولا نزاغ من العقلاء أنه كان من أوفر الناس عقلا وأحسنهم تدبيرا وأرجحهم علما قال بعض العارفين فادم كانت أوامره بنصرته لأولاده لا تحصى ونوح عهد إلى أتباعه باتباعه ووصى والخليل كان أكثرهم اجتهادا في ذلك وحرصا وبنوه تواصو به وإسماعيل أكثرهم فحصا وتوراة موسى نطقت بنعته وصفاته وأبانت عن معانيه وآياته وأوضح براهان على ذلك ودليل أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل وزبور داود أفصح بصدق معجزاته واعرب عن ظهور بيناته وإنجيل عيسى شهد بأنه الخاتم الذي يشكر دينه ويحمد وصرح به قوله تعالى ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد والأخبار ببعثه من الأحبار أكثر من أن تذكر يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر
فاسمع أنباءهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ومن صفته في التوراة على ما ثبت في صحيح البخاري يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للاميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الاسواق ولا يجزى بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله يفتح بها آذانا صما وأعينا عميا وقلوبا غلفا ذكر في تفسير قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه كما روي في تفسيرها عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أن الله ما بعث نبيا إلا وأخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه
النوع السادس اخباره عن الغيوب وصدقه في ذلك وهذا باب واسع معلوم بالتواتر الضرورى لأهل المعرفة بالأخبار والتقصي فيه يخرجنا عما قصدناه من الاختصار فليطالع في مظانه فانما القصد الاشارة وفي القرآن منه الكثير الطيب كما ذكره المؤيد بالله عليه السلام وغيره مثل الجاحظ
والرازي والقاضي عياض وغيرهم وفي دواوين الاسلام من ذلك عن علي عليه السلام وجابر بن سمرة وأبي هريرة وأبي ذر وجابر بن عبد الله وحذيفة وعمرو بن أخطب وأنس وعاصم بن كليب وعائشة وأبي حميد الساعدي وثوبان وعدي بن حاتم ومما تواتر من ذلك حديث تقتلك يا عمار الفئة الباغية كما ذكره الذهبي في ترجمة عمار من النبلاء واتفق البخاري ومسلم على صحته وتخريجه من حديث أبي سعيد الخدري ولفظ البخاري ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ورواه مسلم من حديث أبي قتادة وأم سلمة وكلها عن أحمد بن حنبل في المسند ورواه الترمذي من حديث خزيمة بن ثابت والطبراني من حديث عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعمار وحذيفة وأبي أيوب وزياد وعمرو بن حزم ومعاوية وعبد الله بن عمرو وأبي رافع ومولاة لعمارة وغيرهم وقال ابن عبد البر تواترت الاخبار بذلك وهو من أصح الحديث
وقال ابن دحية لا مطعن في صحته ولو كان فيه مطعن لرده معاوية وأنكره وكذلك قال المؤيد بالله عليه السلام في كتابه في النبوات وعن أحمد ابن حنبل أنه روي من ثمانية وعشرين طريقا وإنما ذكرت طرفا من أسانيده على طريق الاجمال لوقوعه على ما أخبر به في عصر الصحابة رضي الله عنهم ولولا خشية الاطالة لذكرت الأسانيد في كل حديث
ولنختم هذا النوع بهذا الحديث الجليل والعلم الكبير من أعلام النبوة نبوة سيدنا محمد ونذكر هنا حديث هرقل وهو قيصر ملك الروم حين جاءه كتاب رسول الله فجمع من بأرضه من العرب وكان فيهم أبو سفيان فسأله عن حسب رسول الله وصدقه قبل دعوى النبوة وعن أتباعه وثبوتهم على دينه وعن حربه كيف هو وعن وفائه وبما يأمر الحديث بطوله خرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس
الباب الخامس في الاحتراز من بدع أهل الاسلام وهو قسمان مقدمات عامة جميلة ومسائل مبهمة تفصيلية
القسم الأول المقدمات والآن وقد تخلصنا من جملة الشكوك التي بين أهل الملل الخارجة عن الاسلام بأبين طريق وتحققنا بالاضطرار أنه لا يمكن أن يوجد في العالم أقوم منهجا من منهج الاسلام المشتمل على التوحيد والايمان بجميع كتب الله ورسله ولا أنزه ولا أبعد من كل مكروه في الاعمال والاقوال والأخلاق والعقائد وأن من فر من الاسلام كراهية لأمر وقع في أعظم مما فر منه من المحارات والمحالات والضلالات والشناعات فيجب علينا شكر النعمة بحسن التخلص والاحتياط والانصاف فيما وقع بين أهل الاسلام من الاختلاف لوجهين أحدهما وجوب النصيحة للمسلمين والتقرب بذلك إلى أرحم الراحمين فقد ثبت في الحديث الصحيح أن الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين ولعامتهم وهذه كلمة اجماع من المسلمين وثانيهما الاحتراز من الهلاك بعد طول السلامة مما تقدم من ضلالات أهل الملل الكفرية والحذر من أن يكون ممن ذمهم الله تعالى بقوله فما اختلفوا حتى جاءهم العلم فلا أشفى ممن فاته رضا ربه والنجاة من عذابه بعد أن لم يبق بينه وبينه إلا اليسير فنسأل الله تمام هدايته فانه لا حول ولا قوة إلا بالله ولا هداية إلا به وهو حسبنا ونعم الوكيل
واعلم أني قد أذكر المبتدعة وأهل السنة كثيرا في كلامي فأما المبتدعة فانما أعني بهم أهل البدع الكبرى الغلاة ممن كانوا فأما البدع الصغرى فلا تسلم منها طائفة غالبا وأما أهل السنة فقد أريد بهم أهلها على الحقيقة وقد أريد بهم من تسمى بها وانتسب إليها فتأمل مواقع ذلك فأول ما ينبه طالب الحق والنجاة عليه أن يعلم أنه لا يصح أن يخفى على أهل الاسلام دين رسولهم الذي بعث اليهم وأقام بين أظهرهم يبينه لهم حتى تواترت شرائعه وصفاته مع قرب العهد من ابتداء الافتراق واتصال الاخبار وكثرة
العلماء والرواة بل قد تواتر اليهم ولم يخف عليهم ما لا تعلق له بالدين من صورته فانهم يعلمون ضرورة أنه لم يكن أعور ولا أعرج ولا أسود ولا فاحشا ولا ممارياولا فيلسوفا ولا شاعرا ولا ساحرا ولا منجما
فان قيل فمن أين جاء الاختلاف الشديد فاعلم أن منشأ معظم البدع يرجع إلى أمرين واضح بطلانهما فتأمل ذلك بانصاف وشد عليه يديك وهذان الامران الباطلان هما الزيادة في الدين باثبات ما لم يذكره الله تعالى ورسله عليهم السلام من مهمات الدين الواجبة والنقص منه بنفي بعض ما ذكره الله تعالى ورسله من ذلك بالتأويل الباطل
ولهذين الأمرين الباطلين أصلان عقلي وسمعي أما الأصل الأول وهو العقلي فذلك أنه عرض للمبتدعة بسبب الخوض فيما لا تدركه العقول من الخفيات التي أعرض عنها السلف نحو مما عرض للبراهمة الذين حكموا برد النبوات من إيجاب أمور سكت الشرع عن بعضها ونهى عن بعضها واستقباح أمور ورد الشرع بتحسينها لكنهم خالفوا البراهمة في أنهم صدقوا الشرع في الجملة وصدقوا هذه القوادح في تفاصيل الشرع وراموا الجمع بينهما فوقعوا لذلك في أشياء واهية كما تراه واضحا إن شاء الله تعالى في هذا المختصر ولزمهم ما التزموا من أن رسل الله عليهم السلام قصروا في البيان عمدا امتحانا للمكلفين وتعريضا للعلماء الراسخين للثواب العظيم في التأويل لكلام رب العالمين
ولا شك أن الحق في خلاف هذا فقد نص الله على أن الرسل إنما أرسلت لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأنزل علينا في كتابه المبين على لسان رسوله الأمين اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا وصح التحذير من البدع ومن الله علينا باقرار أهل البدع بذلك وانعقاد الاجماع من الجميع على تحريم الابتداع في الدين كما يأتي بيانه فوجب علينا أن نصنع في القوادح في تفاصيل الاسلام التي عرضت لبعض أهل الكلام مثل ما صنعنا
معا في الرد على البراهمة في القوادح التي قدحت في جملة الاسلام وذلك أن نعتقد أن الحق في تلك القوادح التفصيلية هو فيما جاء من عند الله بدليل المعجزات الباهرات ونعلم أن للبصائر أوهاما في الخفيات من الاحكام مثل ما ثبت للابصار في الخفيات من الأوهام فلا نتبع في الخفيات وهم البصائر ولا وهم الأبصار فنكون كمن قدم ضوء النجوم على ضوء النهار بل نتتبع الجلي من المعقول والمنقول ونرد اليه الخفيات على العقول وننتفع بالجلي ونقف فيما دق وخفي ونصنع في الانتفاع بالبصائر كما صنعنا في الانتفاع بالأبصار ولا نقف الجلي على الخفي ولا نرجح الخفي على الجلي فهذا ما لا يخفى ترجيحه عقلا ولا سمعا
أما العقل فلأن الانسان يحسن ما يحسنه وما لا يحسنه وما يعرفه وما يجهله كما يحسن الجوع والظمأ والبصر والعمى وأما السمع فلقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وإذا أردت معرفة هذا من غير تقليد فطالع كتاب الملخص للرازي في علم اللطيف وكتاب التذكرة لابن متويه ولا تقتصر على التذكرة فانها مختصرة مع أن كتاب الرازي معدود في الوسائط في هذا الفن لا في البسائط ومن البسائط فيه شرح الملخص هذا للكاتبي وشرح التنبيهات والاشارات للخواجه ذكر ذلك ابن ساعد الانصاري في كتابه ارشاد القاصد إلى المقاصد في ذكر أنواع العلوم والمصنفات فيها
وأما الأصل الثاني وهو السمعي فهو اختلافهم في أمرين أحدهما في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يرد المتشابه إلى المحكم وثانيهما اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولا
والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة علم
الله على علم الخلق فان العوائد التجريبية والأدلة السمعية دلت على امتناع الاتفاق في تفاصيل الحكم وتفاصيل التحسين والتقبيح ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء كما قال تعالى حاكيا عن رسول الله ما كان لي من علم بالملاء الأعلى إذ يختصمون وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود وموسى وهارون وموسى والخضر وصح في الحديث اختلاف موسى وآدم واختلاف الملائكة في حكم قاتل المائة نفس إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك وأن علة الاختلاف التفاضل في العلم فوجب من ذلك ان يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الاحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفة وأصوله وفروعه ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافا خصوصا من المقلدين
وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليهما السلام وهذه فائدة نفيسة جدا وبها يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع كما هو دين القرامطة والزنادقة وقد أشار السمع إلى ذلك بقوله تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن وقال في رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم
وكيف يستنكر اختلاف الانسان الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الاعظم بل كيف لا يختص هذا الرب الاعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفتها أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به وتأويله وبهذا ينشرح صدر العارف للايمان بالمتشابه والايمان بالغيب في تأويله فلنذكر بعد هذا كل واحد من الامرين المقدم ذكرهما على الايجاز
أما الأمر الأول وهو اختلافهم في ماهيتهما فمنهم من قال المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحدا والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجلي وما عداه متشابه وعزاه الامام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية ومنهم من قال المحكم ما كان إلى معرفته سبيل والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال نحو قيام الساعة والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش وخزنة النار ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة ثم اختلفوا فمنهم من قال هي الحروف المقطعة في أوائل السور ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة ومنهم من قال المنسوخ ومنهم من قال القصص والامثال ومنهم عكس فقال المحكم آيات مخصوصة وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه إلى غير ذلك حكى الجميع الامام يحيي في الحاوي واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقلي والمتشابه به ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد مثل قيام الساعة والاعداد المبهمة
وقال شيخ الاسلام ابن تيمة في القاعدة الخامسة من جواب المسألة التدبيرية إنا نعلم ما أخبرنا الله تعالى به من وجه دون وجه لقوله تعالى أفلا يتدبرون القرآن وهذا يعم المحكم والمتشابه وجمهور الأمة على أن الوقف عند قوله تعالى إلا الله وهو المأثور عن أبي ابن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم وعن مجاهد وطائفة أن الراسخين يعلمون تأويله ولا منافاة بين القولين عند التحقيق فالتأويل على ثلاثة وجوه الأول كلام الأصوليين وهو ترجيح المرجوح لدليل الثاني أن التأويل هو التفسير وهو اصطلاح المفسرين كما أن الأول اصطلاح الاصوليين ومجاهد امام التفسير عند الثوري والشافعي والبخاري وغيرهم والثالث أن التأويل هو الحقيق التي يؤول اليها الكلام لقوله تعالى هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله فتأويل أخبار المعاد وقوعها يوم القيامة كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وأخوته هذا تأويل رؤياي من قبل ومنه قول عائشة رضي الله
عنها كان يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن تعنى قوله فسبح بحمد ربك واستغفره
ومنه قول ابن عيينة السنة هي تأويل الأمر والنهي فان نفس الفعل المأمور به هو تأويل الامر به ونفس الموجود المخبر به هو تأويل الخبر وبهذا يقول أبو عبيدة وغيره والفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به ونهى عنه لعلمهم بمقاصد الرسول كما يعلم اتباع بقراط وسيبويه من مقاصدهما ما لا يعلم بمجرد اللغة ولكن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته بخلاف الخبر
إذ عرفت ذلك فتأويل ما أخبر به الله عن ذاته المقدسة بما لها من الأسماء والصفات هو حقيقة ذاته المقدسة وتأويل ما أخبر به الله من الوعد والوعيد هو نفس الثواب والعقاب وليس شيء منه مثل المسميات بأسمائه في الدنيا فكيف بمعاني أسماء الله تعالى وصفاته ولكن الأخبار عن الغائب لا يفهم إن لم تعبر عنه الاسماء المعلوم معانيها في الشاهد ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد مع الفارق المميز وفي الغائب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما ورد في صفة الجنة كيف بالذات المقدسة إلى قوله ومما يوضح ذلك كله أن الله تعالى وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه وفي آية أن بعضه محكم وبعضه متشابه فالأحكام الذي يعمه هو الاتقان وهو تمييز الصدق من الكذب في اخباره والغي من الرشاد في أوامره والتشابه الذي يعمه هو ضد الاختلاف المنفى عنه في قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وهو الاختلاف المذكور في قوله انكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك فالتشابه به هنا تماثل الكلام وتناسبه بحيث يصدق بعضه بعضا فالاحكام العام في معنى التشابه العام بخلاف الاحكام الخاص والتشابه الخاص فانهما متنافيان فالتشابه الخاص مشابهة
الشيء لغيره من وجه ومخالفته من وجه آخر بحيث يشتبه على بعض الناس إنه هو أو هو مثله وليس كذلك والاحكام الخاص هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر يعني على من عرف ذلك الفصل وهذا التشابه الخاص إنما يكون بقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما
ثم من الناس من لا يهتدي إلى ذلك الفاصل فيكون مشتبها عليه ومنهم من يهتدي له فيكون محكما في حقه فالتشابه حينئذ يكون من الامور الاضافية فاذا تمسك النصراني بقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر ونحوه على تعدد الآلهة كان المحكم كقوله تعالى وإلهكم إله واحد ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحدا يزيل ما هنالك من الاشتباه اه
وقد ترك الامام والشيخ وجها آخر من المتشابه الذين يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه مثل خلق أهل النار وترجيح عذابهم على العفو عنهم مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء
والدليل على أن الحكمة خفية فيه تسمى تأويلا له ما ذكره تعالى في قصة موسى والخضر فان قوله سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا صريح في ذلك وهذا مراد في الآية لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك وهم لا يبتغون علم العاقبة عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد وما يؤول اليه على ما فسره الشيخ فهم الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان إنما يستقبحون شيئا من الظواهر بعقولهم يتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه
والذي وضح لي في هذا وضوحا لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور
أحدها أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصور والتفصيل أو على جهة الاحاطة على حد علم الله كلاهما باطل بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى ولا يحيطون به علما ولقوله تعالى ليس كمثله شيء وانما تتصور المخلوقات وما هو نحوها ولما روي من النهي عن التفكر في ذات الله والامر بالتفكر في آلاء الله ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه حتى رواه عنه الخصوم ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله تعالى على العقول امتنع منها بها واليها حاكمها ومن التفكر في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف لتعريفها ما لا تعرفه حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه فمن أكبرها قول البهاشمة من المعتزلة أن الله تعالى عن قولهم لا يعلم من ذاته غير ما يعلمونه قال بن أبي الحديد في شرح النهج وهذا مما يصرح به أصحابنا ولا يتحاشون عنه وقد كثرت عليهم الردود حتى تولى عليهم في ذلك كثير من أصحابهم المعتزلة كابن أبي الحديد وغيره حتى قال في ذلك قصائد كثيرة بليغة منها
سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا عنا السفر
رجعت حسري فما وقعت ... لا على عين ولا أثر
فلحى الله الأولى زعموا ... أنك المعلوم بالنظر
كذبوا أن الذي زعموا ... خارج عن قوة البشر
فاذا كان هذا كلام إمام معارفهم والحامي عن حماهم فما ظنك بغيره من خصومهم فاعرض على فطراتك التي فطرك الله عليها هل تجد علمك بالله مثل علم الله وأنت الحكم كما قال أمير المؤمنين عليه السلام فان الانسان يعرف أحوال نفسه وعلمه وجهله مثل عافيته وألمه
وقد بسطت القول في الرد عليهم في دعوى العلم بالذات كعلمه تعالى في ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان وكفى بقول أمير المؤمنين
عليه السلام في ذلك ولم يعلم له مخالف في الصدر الاول وكفى به عليه السلام سلفا وقدوة وإماما وحجة في هذه المشكلة ومن أبيات في الرد عليهم كنت قلتها وهي أيضا
لي في القدم مقال غير مبتكر ... سبحانه عن خيال الوهم والفكر
أجله أن يحيط الناظرون به ... ذاتا وأين قوى النظار والنظر
فالعلم قسمان تصدق ومعرفة ... تختص بالذات والتصديق بالخبر
ومنها
الله أكبر هذا قاطع ولنا ... عليه أكبر برهان من الزبر
تنزه الرب في الذكر المنزل ان ... يحيط علما به خلق من البشر
تمدحا لم يكن في الذكر مختلفا ... قطعا ولا غلطا من وهم ذي نظر
وفي الحديث دلالات لنا ولنا ... حديث موسى كليم الله والخضر
وفي كلام أمير المؤمنين هدى ... هذا وحسبك برهانا لمنتصر
وفي وصيته ابن المصطفى حسنا ... دلائل لفقيه القلب معتبر
وعن وجوه الكراسي قد رواه لنا ... عبد الحميد بشرح النهج ذي العبر
وجنح القول فيه بالقصائد أمثالا ... تسير مسير الشمس والقمر
تلك الأولى حكمت بالمنع قد حكمت ... بها الملائك أهل القرب والنظر
والراسخين وأدنى من له أدب ... وكل متعظ لله منكسر
فلا ترجح عليهم غير محتفل ... شيوخ جبة إن جاوزوا فلا تجر
والفرق كالصبح لا يخفى على أحد ... والخبر تميز فليس الخبر كالخبر ولبعض الاصحاب أبيات في هذا المعنى جيدة
ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم وبدع المعطلة على اختلافهم أيضا فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والاسماء الجميع ومنهم الباطنية ودونهم الجهمية ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض وقد بسطت القول في ذلك في الوهم الخامس عشر من العواصم في نحو مجلد ويأتي إلى ذلك إشارة في هذا المختصر كافية إن شاء الله
تعالى فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الايمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم فطلبوا العلم من غير مظانه بل طلبوا علم ما لا يعلم فتعارضت أنظارهم العقلية وعارض بعضهم بعضا في الأدلة السمعية فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات ويدعون فيها ما ليس من التشبيه والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الاسلام جميعا إلى التشبيه ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار والاقتداء بالسلف الاخيار والاقتصار على جليات الابصار وصحاح الآثار
وقد روى الامام أبو طالب عليه السلام في أماليه باسناده من حديث زيد بن أسلم أن رجلا سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال يا أمير المؤمنين هل تصف لنا ربنا فنزداد له حبا فغضب عليه السلام ونادى الصلاة جامعة فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته وطول ولهم إليه وتعظيم جلال عزته وقربهم من غيب ملكوت قدرته أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم وهم من ملكوت القدس كلهم ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته فأتم به وأستضيء بنور هدايته فانما هي نعمة وحكمة أوتيتها فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي ولا عن أئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه فانه منتهى حق الله عليك
وقد روى السيد في الأمالي أيضا الحديث المشهور في كتاب الترمذي عن علي عليه السلام عن رسول الله أنه قال ستكون فتنة قلت فما المخرج منها قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم فهو الفاصل بين الحق والباطل من ابتغى الهدى من غيره أضله الله إلى قوله من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه
هدى إلى صراط مستقيم ورواه في أماليه بسند آخر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ورواه ابن الأثير في الجامع عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث متلقى بالقبول عند علماء الأصول ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه لبيانهم فيها على زعمهم المحكم من المتشابه فمنهم من صرح بذلك وقال أن كلامه أنفع من كلام الله تعالى وكتبه أهدى من كتب الله وهم الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني وقد حمله الامام المطهر بن يحيى على الحنون وقيل لم يصح عنه ومنهم من يلزمه ذلك وإن لم يصرح به فهذا الأمر الاول من المتشابه وهو التحكم بالنظر في ذات الله تعالى وما يؤدي اليه
الأمر الثاني من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة الله تعالى وقدرته على ما يشاء وقد ثبت في كتاب الله تعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال اني أعلم ما لا تعلمون ثم ساق خبر آدم وتعليمه الاسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله ألم أقل لكم اني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما سيأتي بيانه من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير فالخلق كلهم كالشجرة وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة واليه الاشارة بقوله وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة قال الله له كف عن عبادي إن مصير عبدي مني احدى ثلاث إما أن يتوب فأتوب عليه أو يستغفرني فأغفر له أو أخرج من صلبه من يعبدني رواه الطبراني
وقال الغزالي في كتاب العلم في الاحياء في أقسام العلوم الباطنة ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرا ببعض الخلق كما يضر نور الشمس
أبصار الخفافيش وكما يضر ريح الورد بالجعل وكيف يبعد هذا وقولنا أن كل شيء بقضاء من الله وقدر حق في نفسه وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه ونقيض الحكمة والرضا بالقبيح والظلم وألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك وكذلك سر القدر لو أفشي أو هم عند أكثر الخلق عجزا إذ تقصر أفهامهم عن ادراك ما يزيل هذا الوهم عنهم
وقال في شرح اسماء الله الحسنى في شرح الرحمن الرحيم والآن أن خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيرا أو أن تحصيل ذلك الخير من غير شر أولى فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين فانك مثل أم الصبي التي ترى الحجامة شرا محضا والغبي الذي يرى القصاص شرا محضا لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول وانه في حقه شر محض ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ولا يدري أن التواصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض لا ينبغي حكيم أن يهمله هذا أو قريب من هذا
وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في العواصم والسر في ذلك أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شرا قطعا وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال ولكم في القصاص حيوة يا أولي الالباب وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات فهذا هو سر القدر في الجملة وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الاشقياء فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى وهم غلاة الاشعرية إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه ومن الناس من أداه ذلك إلى القول بالجبر ونفي قدرة العباد واختيارهم ومنهم من جمع بينهما ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم وهم جمهور المعتزلة لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزا ويسمونه غير مقدور كما سيأتي ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب وهم غلاة القدرية نفاة الاقدار
وقد تقصيت الردود الواضحة عليهم والبراهين الفاضحة لهم في العواصم وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه في علمي فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم وبلغت أحاديث وجوب الايمان بالقدر اثنين وسبعين وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثا من غير الآيات القرآنية والأدلة البرهانية
وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخروي وتبعه تلميذه ابن القيم الجوزية وبسط ذلك في كتابه حادي الارواح إلى ديار الافراح فافردت ذلك من جزء لطيف وزدت عليه ومضمون كلامهم أنه لا يجوز اعتقاد أن الله يريد الشر لكونه شرا بلا لابد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة اليه وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأويل الخضر لموسى وطردوا ذلك في شرور الدارين معا ونصر ذلك الغزالي في شرح الرحمن الرحيم ولنورد في ذلك حديثا واحدا مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول قال البيهقي في كتابه الاسماء والصفات عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس لما بعث الله موسى وكلمة قال اللهم أنت رب عظيم ولو شئت أن تطاع لأطعت ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يارب فأوحى الله اليه لا أسأل عما أفعل وهم يسئلون فانتهى موسى ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى الطبراني وزاد فيه فلما بعث الله عزيزا سأل الله مثل ما سأل موسى ثلاث مرات فقال الله تعالى له أتستطيع أن تصر صرة من الشمس قال لا قال أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح قال لا قال أفتستطيع أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور قال لا قال فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه أما أني لا أجعل عقوبتك إلا أني أمحو اسمك من الأنبياء فلا تذكر فيهم
فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك كموسى وأجيب عليه بمثل ذلك وقال الله تعالى له لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك فجمع عيسى من معه فقال القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه
وروى الطبراني عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر فقال وجدت أطول الناس فيه حديثا أجهلهم به وأضعفهم فيه حديثا أعلمهم به ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس كلما ازاد فيه نظرا ازداد قلت ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها والجواب الجملي عليهم كما مر وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث رجال بعضها ثقات وبعضها شواهد لبعض كما أوضحته في العواصم وأقل من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك يكفي المنصف وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة
الأمر الثالث من المتشابه الحروف المقطعة أوائل السور فان الجهل بالمراد بها معلوم كالألم والصحة والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة ونحو ذلك ضروري ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتابا من كتبه الكريمة ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم ونحو ذلك وهذا هو اختيار زيد بن علي عليه السلام والقاسم والهادي عليهما السلام وهو نص في تفسيرهما المجموع وكذلك الامام يحيى عليه السلام ذكره في الحاوي وقولهم أنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها مقلوب وصوابه أنا لا نفهمها فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكملة ترجيح أساليب القرآن
الامر الرابع من المتشابه المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن سواء كان بسبب الاشتراك في معناه أو لغرابته أن عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع أو غير ذلك وقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام
فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك كموسى وأجيب عليه بمثل ذلك وقال الله تعالى له لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك فجمع عيسى من معه فقال القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه
وروى الطبراني عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر فقال وجدت أطول الناس فيه حديثا أجهلهم به وأضعفهم فيه حديثا أعلمهم به وجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس كلما ازاد فيه نظرا ازداد ا قلت ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها والجواب الجملي عليهم كما مر وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث رجال بعضها ثقات وبعضها شواهد لبعض كما أوضحته في العواصم وأقل من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك يكفي المنصف وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة
الامر الثالث من المتشابه الحروف المقطعة أوائل السور فان الجهل بالمراد بها معلوم كالألم والصحة والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة ونحو ذلك ضروري ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتابا من كتبه الكريمة ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم ونحو ذلك وهذا هو اختيار زيد بن علي عليه السلام والقاسم والهادي عليهما السلام وهو نص في تفسيرهما المجموع وكذلك الامام يحيى عليه السلام ذكره في الحاوي وقولهم انا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها مقلوب وصوابه انا لا نفهمها فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكملة ترجيح أساليب القرآن
الأمر الرابع من المتشابه المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن سواء كان بسبب الاشتراك في معناه أو لغرابته أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع أو غير ذلك وقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام
كيف لغيره وذلك قوله إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق قال يا نوح إنه ليس من أهلك
وأما المحكم فهو ما عدا المتشابه وغالبه النص الجلي والظاهر الذي لم يعارض والمفهوم الصحيح الذي لم يعارض والخاص والمقيد وإن عارضهما العالم والمطلق ويلحق بهذا فوائد الاولى الصحيح في قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله الوقف على الله بدليل ذم مبتغى تأويل المتشابه في الآية وهو اختيار الامام يحيى في الحاوي واحتج بأن أما للتفصيل على بابها والتقدير وأما الراسخون بدليل قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ كما تقول أما زيد فعالم وعمرو جاهل أي وأما عمرو فجاهل يوضحه أن المخالف مسلم ان هذا هو الظاهر منها لكنه يقول أنه يجب تأويلها على أن المراد ذمهم بابتغاء تأويله الباطل فيقيد اطلاق الآية بغير حجة ويجعلها من المتشابه مع أنها الفارقة بين المحكم والمتشابه وهذا خلف
وقد روى الحاكم عن ابن عباس أنه قرأ ويقول الراسخون وقال صحيح ورواه الزمحشري في كشافه قراءة عن أبي وغيره ورواه الامام أبو طالب في أماليه عن علي علي السلام ولم يتأوله ولم يطعن فيه وهو في النهج أيضا وهو نص لا يمكن تأويله فان لفظه عليه السلام أعلم أيها السائل أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه رسوخا فاقتصر على ذلك اه بحروفه وأيضا فلا يجب علم جميع المكلفين بذلك عند الخصوم إذ في المتكلفين الامي والعجمي ونحوهم وإذا كان علم البعض يكفي ويخرج الخطاب بذلك عن العبث جاز أن يكون ذلك البعض هو رسول الله ومن شاء الله من ملائكته وخواص عباده والله سبحانه أعلم
الفائدة الثانية إذا تعارض العام والخاص فالمحكم هو الخاص والبناء عليه واجب وفيه الجمع بينهما وفي العكس طرح الخاص مع رجحانه بالنصوصية وهي قاعدة كبيرة فاحفظها ولا خلاف فيها في الاعتقاد لعدم الفائدة في التاريخ فيه ولذلك أجمعوا على اثبات الخلة للمتقين وتأويل نفي الخلة المطلق فتأمل ذلك
الفائدة الثالثة إذا كان التحسين العقلي مع بعض السمع فهو المحكم والمتشابه مخالفه لما وضح من تأويل الخضر بموافقة العقل وفي مخالفة هذه القاعدة عناد بين وضلال كبير فاعرفها واعتبر مواضعها ترشد إن شاء الله تعالى
فصل
إذا عرفت ما قدمت لك بما عرفته في هذا المختصر أو به ربما أرشدك إلى مطالعته مما هو أبسط منه في هذا المعنى مثل ترجيح أساليب القرآن وتكملته فاعلم أن معظم ابتداع المبتدعين من أهل الاسلام راجع إلى هذين الامرين الباطلين الواضح بطلانهما كما تقدم وهما لزيادة في الدين والنقص منه ثم يلحق بهما التصرف فيه بالعبارات المبتدعة بعد رسول الله وليس بأمر ثالث لأنه من الزيادة في الدين لكنه تفرد بالكلام وحده لطول القول فيه وعظم المفسدة المتولدة عنه
فمن الزيادة في الدين أن يرفع المظنون في العقليات أو الشرعيات إلى مرتبة المعلوم وهذا حرام بالاجماع وإنما يختلف الناس في التفطن لأسبابه وسيأتي ذكر أسبابه في آخر الكلام في الزيادة في الدين مقسوما موضحا في صور أربع يأتي بيانها بعون الله تعالى
ومن الزيادة في الدين أن يدخل فيه ما لم يكن على عهد رسول الله وعهد أصحابه رضي الله عنهم مثل القول بأنه لا موجود إلا الله كما هو قول الاتحادية وأنه لا فاعل ولا قادر إلا الله كما هو قول الجبرية وأمثال ذلك من الغلو في الدين وإنما وردت الشرائع بتوحيد الله في الربوبية وذلك بلا إله إلا الله له الاسماء الحسنى وتوابع ذلك المنصوصة والمجمع عليها كتوحيده بالعبادة ومن ذلك القول بأن الله تعالى صفة لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا هي من أسمائه الحسنى ولا من مفهوماتها ولوازمها وان معرفة هذه الصفة واجبة واختراع اسم لها وهي الصفة الاخص عند بعض المعتزلة ويسمونها صفة المخالفة أيضا وانها المؤثرة في سائر صفات الكمال الذاتية الاربع وهي كونه حيا قديما عالما قادرا
وبها تخالف ذات الله سائر الذوات وقد كفى في رد ذلك أبو الحسين وأصحابه كما ذكره مختار في الباب السادس من خاتمة أبواب العدل من كتابه المجتبى
ومن ذلك اثبات أهل الاتحاد لمثل ذلك أو نحوه فانهم يفرقون بين الله تعالى وبين اسمه الاحد فيجعلون الأحد مؤثرا في الله الواحد وفي سائر أسمائه ويجعلون الأحد سابقا في رتبة الوجود على الله ويجعلون الله في الرتبة الثانية والاحد في الأولى ويسمون الثانية هم والفلاسفة باسماء مبتدعة منها الحضرة العمائية والواحدية والأحدية ومنها حضرة الارتسام ومنها مرتبة الربوبية والألوهية ومنها الحقيقة الانسانية الكمالية ومنها مرتبة الامكان كما حققه الفرغاني في شرح نظم السلوك وكثيرا ما يكررون الفرق بين الحضرة الأحدية والحضرة الواحدية ويعنون بالأحدية الوجود المطلق وهو عندهم الحق الذي لا نعت له ولا وصف كقول الملاحدة سواء في نفي أسمائه تعالى لكنهم يثبتون الاسماء الحسنى للواحد لا للأحد وهذا يلزمهم قول الثنوية لكنهم يعتذرون عنه بأن الله وأسماءه الحسنى كلها خيالية لا حقيقة لها ولا لشيء بعدها ولا وجود لها فكل ما عدا الوجود المطلق عندهم خيال كطيف الخيال في الأحلام من الأنبياء والجنة والنار ومن صح هذا منه فهو كفر بين وجهل فاحش فانه لا ثبوت للوجود المطلق في الخارج ألبتة وإنما المعلوم وجوده عقلا وشرعا هو ما نفوا وجوده من الله الواحد الرب الذي له الاسماء الحسنى والمثل الأعلى وما نفوه من حقيقة وجود جميع كتبه ورسله وخلقه ومعاده فالله المستعان
ومن ذلك ما انفردت به الأشعرية من دوام وصف الله تعالى بالكلام ووجود ذلك في القدم والأبد وجعله مثل صفة العلم لا يجوز خلوه عنه طرفة عين وقد أوضح الجويني القدح في ذلك في مقدمة كتابه البرهان في أصول الفقه كما سيأتي تحقيقه فالشرع لم يرد إلا بأن الله تعالى متكلم وأنه كلم موسى تكليما ونحو ذلك وما زاد على هذا فبدعة في الدين قد أدت إلى التفرق المنهي عنه وإلى الزامات قبيحة كما سيأتي
ومن ذلك ما اتفقت عليه الاتحادية وبعض المعتزلة بل جمهورهم وهو
اثبات الذوات في القدم والأزل بل اثبات العالم كله فيهما ودعوى الفرق بين ثبوته في العدم ووجوده فيه فانهم يقولون هو ثابت غير موجود وقد جود الرد عليهم في ذلك صاحبهم الشيخ أبو الحسين وأصحابه مثل محمود ان الملاحمي في كتابه الفائق والشيخ مختار في كتابه المجتبى وكشفوا الغطاء عن بطلان ذلك وكفوا المؤنة ومن نظر في كلامهم في ذلك ما يلزم منه من الالزامات الصعبة الفاحشة تيقن مضرة الزيادة في الدين على ما جاء به سيد المرسلين
ومثال النقص من الدين قول من يقول ان الله تعالى ليس برحمن ولا رحيم ولا حليم باللام على الحقيقة بل على المجاز وقول من يقول أنه سبحانه ليس بحكيم على الحقيقة بل بمعنى محكم لمصنوعاته لا أن له في ذلك الاحكام حكمة أصلا والمقصود معرفة طريق النجاة بأمر واضح ولا يخفى على من له أدنى عقل وتمييز من المسلمين أن نجاة أهل الاسلام في اتباع الرسول ولزوم ما جاء به من غير تصرف فيه بزيادة ولا نقصان ولا ابتداع عبارة لم تكن وسواء كانت تلك الزيادة أو النقص حقا أو باطلا فان زيادة الحق المبتدع في الدين قد يجر إلى الفضول والباطل ويوقع في التفرق المحرم في كتاب الله تعالى بل قد صار ادخاله في الدين والمراء فيه بدعة من البدع المحرمة فالحزم في ترك هذه الأمور كلها وترك التعادي عليها وفي الوقف في حكم من زاد أو نقص وتأخير الفصل معه إلى يوم الفصل لأن غير ذلك يؤدي إلى التفرق المحرم بنص كتاب الله تعالى إلا من رد المعلوم بالضرورة من الدين وهو يعلمه ونحن نعلم أنه يعلمه فانه كافر حتى كان المكلفين ولا يجوز الوقف في أمره مع تواتر ذلك عنه وتحققه منه كما سيأتي في بابه وقد نزل قوله تعالى ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق
في رغبتهم إلى غير القرآن من محض الخير كيف بالرغبة فيما لا يؤمن شره كيف ما تحقق شره وفي نحو ذلك حديث معاذ الذي خرجه أبو داود في السنة
وذكر الشيخ مختار في المجتبى في المسألة السادسة من خاتمة أبواب العدل ما لفظه اعلم أن شيوخ المعتزلة إلى زمن الشيخ أبي هاشم لم ينصوا على اثبات الصفات ولا على نفيها إلى أن صرح باثباتها أبو هاشم وصرح بنفيها أبو علي وأبو القاسم البلخي والاخشيد وأبو الحسين قلت وقد علم تعظيم خلفهم لسلفهم وعلم أن الاقتداء بسلفهم خير من الاقتداء بخلفهم بالنص في خير القرون ان ادعوا منهم أحدا وباقرارهم هذا لو اجتمع خلفهم على أمر وأما مع اختلاف خلفهم واجتماع سلفهم على ترك الخوض فيما خاض فيه خلفهم فأدى خوضهم فيه إلى الاختلاف والتأثيم فلا يشك منصف أن الاقتداء بسلفهم أرجح فان نفاة الصفات ألزموا المثبتين تركيب الذات وما يترتب عليه بل ألزموهم ذلك في مجرد قولهم أن الوجود غير الموجود ومن أثبت الصفات ألزم النفاة تعطيل الاسماء الحسنى ومخالفة الاجماع فلزم التمسك بما اعترفوا بأن السلف كانوا مجتمعين عليه سلفهم وسلف سائر الفرق الاسلامية وترك ما اختلفوا فيه ويسعنا ما وسع السلف الصالح للاجماع على صلاحهم
فاذا عرفت هذا في الجملة فلنعد إلى ذكر الدليل الثاني على بطلان هذين الامرين المضلين للاكثرين وهما الزيادة والنقصان في الدين ثم نتبع ذلك زيادة بيان في المنع من التصرف في الكتاب والسنة بدعوى التعبير عنهما وترك عباراتهما فنقول
أما الأمر الأول وهو الزيادة في الدين فسببه تجويز خلو كتب الله تعالى وسنن رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام عن بيان بعض مهمات الدين اكتفاء بدرك العقول لها ولو بالنظر الدقيق ليكون ثبوتها بعد رسول الله النظر العقلي هذا مذهب أهل الكلام ومذهب أهل الأثر أنه ممنوع والدليل على منعه وجوه
الوجه الأول قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فاذا قلنا بوجوب ما أوجبه
أهل الكلام لزم أنه بقي أهل الدين وأوجبه من تقرير القواعد التي يجب بها تأويل السمع وبيان التأويل على التفصيل في آيات الصفات وكثير من الاسماء الحسنى كالرحمن الرحيم الحكيم وما يؤدي إلى التفرق المنصوص على تحريمه لأنه خوض في دقائق يستحيل اتفاق الأذكياء عليها بالعادات المستمرة فانها استمرت العوائد على اختلاف العقلاء متى خاضوا في نحو ذلك حتى الطائفة الواحدة ولذلك كانت المعتزلة عشر فوق وأهل السنة كذلك أو قريبا منه وكذلك سائر الفرق حتى قيل إن الاتفاق في الضروريات فاذا كان الاتفاق في الخفيات ممتنعا كالافتراق في الضروريات وقد ثبت تحريم الافتراق لزم من ذلك تحريم الخوض في الخفيات ما لم يدل على وجوبه دليل صحيح
الوجه الثاني أنه لا نزاع أنه لا يجوز اثبات العقول لزيادة في الشريعة لا يدكها العقل وإنما النزاع فيما تدركه العقول مثل نفي الولد عن الله تعالى ونفي الثاني لكن السمع دل على أنه لا يجوز خلو كتب الله تعالى عن بيان مثل ذلك قال الله تعالى في نفي الولد عنه جل جلاله قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي وقال سبحانه في نفي الثاني قل أرأيتم ما تدعون من دون الله إلى قوله تعالى ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين فهاتان الآيتان تدلان على أنه لا يجوز خلو كتب الله تعالى وسنن أنبيائه عن أمر كبير من مهمات الدين العقلية وكذلك قوله تعالى وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون فثبت أن ما خلت عنه كتب الله تعالى فليس من مهمات الدين وإن زيادته في الدين محرمة ألا ترى أن رسول الله حذر أمته من فتنة الرجال وعظمها وأخبر عن الأنبياء كلهم أنهم حذروا أممهم منها مع أن
بطلان دعواه معلوم بالعقل لأنه يدعي الربوبية وهو بشر يحتاج إلى الأكل والشرب وينام ويعجز ويجهل ويمرض ويبول ويتغوط وينكح دع عنك كونه جسما مركبا من لحم ودم وعظام وعصب فلم يكلنا ربنا سبحانه وتعالى إلى معرفة عقولنا بحدوث ما كان على هذه الصفات واستحالة ربوبية الحادث بل زاد في البيان على لسان رسوله حتى أبان لنا أنه أعور وأنه مكتوب بين عينيه كافر يقرأه من يكتب ومن لا يكتب فلو كان يجوز عليه الاهمال لكان ذلك أحق ما يهمل لقوله في الاحاديث الصحيحة ما خفي عليكم من شيء فلا يخفى عليكم إن ربكم ليس بأعور لأنه قد تقرر أنه ليس كمثله شيء عقلا وسمعا فيجب أن لا يكون بشرا كاملا فكيف يكون بشرا ناقصا معيبا فدل الحديث على تأكيد ما دل القرآن عليه في الآيتين المتقدمتين
الوجه الثالث قوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولا معنى للارسال إلا البيان وإلا لصح أن يرسل الله تعالى رسولا أبكم غير ناطق وقد ورد القرآن بتقبيح ارسال الاعجمي إلى العربي لذلك في قوله تعالى أأعجمي وعربي بل نص الله تعالى على أنه أرسل كل رسول بلسان قومه ليتم لهم البيان
وقد أجمعت الامة على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فكل ما لم يبين من العقائد في عصر النبوة فلا حاجة إلى اعتقاده ولا الخوض فيه والجدال والمراد سواء كان إلى معرفته سبيل أو لا وسواء كان حقا أو لا وخصوصا متى أدى الخوض فيه إلى التفرق المنهي عنه فيكون في إيجابه إيجاب ما لم ينص على وجوبه وان أدى إلى المنصوص على تحريمه وهذا عين الفساد
قالت الخصوم العقل يكفي بيانا في العقليات فلا يجب البيان فيها من الشرع
قلت إن أردتم الجليات التي لا يقع في مثلها التنازع أو لا يحتاج في الدين إلى معرفتها أو لا يحتاج البليد فيها إلى تفهيم الذكي أو الظنية التي لا إثم فيها على المخطئ فمسلم ولا يضر تسليمه ومن القسم الأول من هذا علم الحساب وإن دق بعضه فان طرقه معلومة الصحة عند الجميع ولذلك لم تمنع دقته من الوفاق فيه وكذلك كثير من علم الغربية والمعاني والبيان والبلاغة وإن أردتم القسم الآخر وهو ما يحتاج اليه في الدين ويكون مفروضا على جميع المسلمين من الخاصة والعامة أجمعين ويقع في مثله الخفاء والنزاع والاختلاف الكثير ويأثم المخطئ فيه ولا يسامح فغير مسلم لكم أن مثل هذا يوكل إلى عقول العقلاء وتترك الرسل بيانه لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فلم يكتف سبحانه بحجة العقل حتى ضم اليها حجة الرسالة مع أن معرفته سبحانه ونفي الشركاء عنه من أوضح المعارف العقلية ولذلك قالت الرسل فيما حكى الله عنهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض
وقد مر بيان ذلك في مقدمات هذا المختصر وفي هذه الآية وما في معناها من السمع حجة على أن ما لم يبينه الله تعالى سمعا لم يعذب المخطئ فيه إن شاء الله تعالى لكن يخشى على من خاض فيا لم يبينه الله أن يعذب على الابتداع وقد بين الله تحريمه وبيان تحريم ذلك في قوله ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا وبقوله تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لهم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون فنسأل الله السلامة
الوجه الرابع قوله تعالى في وصف القرآن تبيانا لكل شيء وقوله سبحانه ما فرطنا في الكتاب من شيء ولا شك أنه يدخل
في ذلك بيان مهمات الدين الاعتقادية وإن كانت عقلية ويدخل فيه ما بنه النبي لقوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ولقوله تعالى في خطاب النبي لتبين للناس ما نزل إليهم فهذا بيان جملي ومنه قوله إني أوتيت القرآن ومثله معه الحديث
ومما يصلح الاستدلال به في هذا المقام قوله تعالى وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها فلولا أن كتابها هو موضع الحجة عليها في أمور الدين ومهماته ما اختص بالدعاء اليه ونحوها قوله تعالى الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان فجعل الكتاب في بيان الدين وحفظه وتمييز الحق من الباطل كالميزان في بيان الحقوق الدنيوية وحفظها بل جعل الحق مختصا به بالنص والميزان معطوفا عليه بالمفهوم أي والميزان بالحق وقال بعد الامر بوفاء الكيل والوزن لا تكلف نفسا إلا وسعها لأنه يحتاج إلى المعاملة بالكيل والوزن وإن وقع التظالم الخفي في مقادير مثاقيل الذر أو أقل منه ولم يقل ذلك بعد الأمر بلزوم كتابه واتباع رسله لأنه لا حاجة ولا ضرورة إلى البدعة في الاعتقاد
وأما الفروع العملية فلما وقعت الضرورة إلى الخوض فيها بالظنون لم يكن فيها حرج بالنص والاجماع فتأمل ذلك فانه مفيد
ومن ذلك قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول واتفق أهل الاسلام على أن المراد بالرد إلى الله ورسوله الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله ولو لم يكونا وافيين ببيان مهمات الدين ما أمرهم الله بالرجوع اليهما عند الاختلاف
الوجه الخامس في الدليل على منعه أيضا الاجماع على تحري البدعة في الدين وما زال الصحابة والتابعون لهم باحسان يحذرون من ذلك حتى
ثمت النعمة وقامت الحجة بموافقة المتكلمين والغلاة على ذلك في الجملة حتى رمى بعض المتكلمين بعضا بذلك عند الضجر من الخوض في تلك المباحث والشناعات فقال الشيخ تقي الأمة خاتمة أهل الاصول العجالي المعتزلي في آخر الرد على أصحابه المعتزلة حيث حكموا بثبوت العالم قبل خلقه في العدم المحض والازل الذي لا أول له ما لفظه
إن كل من سمع ذلك من العقلاء قبل أن يتلوث خاطره بالاعتقادات التقليدية فانه يقطع ببطلان هذه المذاهب ويتعجب أن يكون في الوجود عاقل تسمح نفسه بمثل هذه الاعتقادات ويلزمهم أن يجوزوا فيما نشاهده من هذه الأجسام والاعراض أن تكون كلها معدومة لأن الوجود غير مدرك عندهم وإلا لزم أن يرى الله تعالى لوجوده بل إنما تناوله الادراك للصفة المقتضاة عندهم وهي صفة التحيز وهيئة السواد والبياض فيهما غاية الامر أن الجوهرية عند بعضهم تقتضي التحيز بشرط الوجود لكن الترتيب في أن الوجود لا يقتضي الترتيب في العلم كما في صفة الحياة والعلم فيلزمهم أن يشكوا بعد هذه المشاهدة في وجودهما وكل مذهب يؤدي إلى هذه التمحلات والخصم مع هذا يزداد سفاهة ولجاجا فالواجب على العاقل الفطن الاعراض عنه والتمسك بقوله تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ومن ذم من السلف الكلام والمتكلمين إنما عنوا أمثال هؤلاء ظاهرا والله الموفق . اه بحروفه ذكره علامة المعتزلة الشيخ مختار بن محمود في كتابه المجتبى عاضدا له ومنتصرا به فهذا كلام المتكلمين بعضهم في بعض بل كلام الطائفة الواحدة منهم بعضهم في بعض وفيه الاعتراف بذم البدعة وأهلها وصدور ذللك من السلف الصالح فسبحان من أنطقهم بالحجة عليهم كما أنطق جلود الجاحدين يوم القيامة بمثل ذلك
ولا شك أن إيجاب أمر كبير يجب من أجله التعسف في تأويل ما لا يحصى من آيات كتاب الله وتقبيح ظواهره بل تقبيح ممادحه مثل الحكم بأن الرحمن اسم ذم الله تعالى في الظاهرالسابق إلى الافهام إن لم يتأول وان نفيه عن الله مدح لائق بجلال الله من غير قرينة والقول بتكفير من لم يعرف
هذا واستحلال سفك دمه ووجوب دوام عذابه في الآخرة من غير أن يجري لذلك ذكر في زمن النبوة والصحابة هو من أعظم البدع وأفحشها وأنكرها
الوجه السادس الاحاديث الواردة في النهي عن البدعة ولا حاجة إلى سردها بجميع ألفاظها وأسانيدها مع الاجماع على صحة هذا المعنى كما مر في الوجه الذي قبله
الوجه السابع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قول رسول الله اتركوني ما تركتكم فانما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وما في معنى ذلك مثل حديث إن الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تضيعوها وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير بيان فلا تتعرضوا لها وفي هذا المعنى أحاديث جمة مجموعها يفيد العلم بأن الشرع ورد بحصر الواجبات والمحرمات وأن السؤال عما لم يرد به حرام حتى ثبت في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص أن من أعظم المسلمين إثما في المسلمين من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته ولقد علمهم رسول الله حتى كيفية قضاء الحاجة وفي ذلك يقول السيد الامام يحيى بن منصور الهاروي المفضلي عليه السلام
ما باله حتى السواك أبانه ... وقواعد الاسلام لم تتقرر في أبيات له طويلة في تقرير هذا المعنى وقد كتبتها في ترجيح أساليب القرآن هي وأمثالها فان قيل هذا في غير العقائد
قلنا العقائد أولى بذلك لأنه لا يجوز أن يتجدد فيها للخلف ما لم يكن واجبا على السلف بخلاف الفروع فقد تجدد الحوادث ويقع للمتأخر فيها ما لم يقع للمتقدم
الوجه الثامن إن رسول الله ما زال يوصي أمته بالرجوع إلى كتاب الله عند الاختلاف والتمسك به عند الافتراق وكان ذلك هو
صيته عند موته وجاء ذلك عنه على كل لسان حتى اعترفت به المبتدعة كما اعترفت بورود النهي عن البدع وصحته ولله الحمد والمنة بل قد جاء ذلك صريحا في كتاب الله تعالى على أبلغ صيغ التأكيد قال الله تعالى يا أيها الذي آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا إلى قوله وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ويؤكده قوله تعالى فلا وربك لا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
ولا شك أن القرآن العظيم أعظم ما قضى به ودعا إليه ثم سنته التي هي تفسير القرآن وبيانه كما أجمعت عليه الأمة في تفاصيل الصلاة والزكاة وسائر أركان الاسلام وفي المواريث وغيرها ومن ذلك ما جاء فيمن لم يحكم بما أنزل الله من الآيات الكريمة في آية فأولئك هم الكافرون وفي آية الظالمون وفي آية الفاسقون وقوله تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وقوله وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون وقوله ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون وما أبلغ قوله فصلناه على علم وأعظم موقعه عند المتأملين لأن العلوم تقل وتتلاشى في جنب علم الله تعالى بما ينفع ويصلح من البراهين والأساليب وما يضر ويفسد من ذلك بل قد جاء في الحديث الصحيح أن علم الخلائق في علم الله تعالى كما يأخذه الطائر من البحر بمنقاره ومما جاء في ذلك من طريق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن رسول الله أنه قال في القرآن الكريم فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم
ما بينكم من ابتغى الهدى من غيره أضله الله إلى قوله من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن دعى اليه هدى إلى صراط مستقيم الحديث بطوله كما تقدم
الوجه التاسع إن الدين قد جاء به الرسول وفرغ منه به ولم يبق بعد تصديقه به بدلالة المعجزات الباهرات إلا اتباع الدين المعلوم الذي جاء به لا استنباطه بدقيق النظر كما صنعت الفلاسفة الذين لم يتبعوا الرسل وعلى هذا درج السلف ولذلك قال مالك لمن جادله كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا لجدله ما أنزل على محمد وروى مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على السنة الواضحة ليلها كنهارها إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا وروى ابن ماجه نحو هذا مرفوعا من حديث أبي الدرداء يوضحه أنه لو كان الدين مأخوذا من النظر لكنا قبل النظر غير عالمين ما هو دين الاسلام وإنما نخترعه نحن وهذا باطل ضرورة
يزيده وضوحا وجهان أحدهما الاحاديث الصحيحة المشهورة بل المتواترة في حصر أركان الاسلام والايمان والتنصيص عليها وتداول الصحابة فمن بعدهم لها يرويها سلفهم لخلفهم وخلفهم عن سلفهم واضحة جامعة لشرائط الاسلام والايمان واحترام أهلها وأنه لا يحل دم امرئ جمعها ودان بها وفي معناها من كتاب الله تعالى قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة وذلك دين القيمة وكذلك قوله تعالى إن الذين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وكذلك قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعبضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
وثانيهما اجماع الامة على تكفير من خالف الدين المعلوم بالضرورة والحكم بردته إن كان قد دخل فيه قبل خروجه منه ولو كان الدين مستنبطا بالنظر لم يكن جاحده كافرا فثبت أن الرسول قد جاء بالدين القيم تاما كاملا وأنه ليس لأحد أن يستدرك عليه ويكمل له دينه من بعده
الوجه العاشر إن الله ذم التفرق بعد مجيء الرسل والكتب من قبلنا ولولا أن في ما جاءت به يوجب الوفاق ما خص ذمهم بتلك الحال قال الله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وقبلها حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة الآيات إلى وذلك دين القيمة ففسر البينة بقوله رسول من الله إلى آخر الآية وقال وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وقال ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
الوجه الحادي عشر وهو أعجبها أن العقول بريئة أصح البراءة وأوضحها عما ادعوا عليها من معرفة وجوب ما لم يرد به كتاب من الله تعالى ومن معرفة صحة ما يناقض الآيات القرآنية فانه قد وضح للمحققين من نظار العقلاء وأذكيائهم أنه لا تعارض بين صحيح السمع وصحيح العقل وأن أصل البدع كلها يوهم التعارض بينهما في صور أربع الصورة الأولى أن جماعة من المشتغلين بعلم المعقول لم يتقنوه فيتوهمون في بعض الأمور أنه صحيح في دليل عقلي توهموه قاطعا وليس بقاطع وفي معرفة القاطع وشروطه اختلاف بين المنطقيين وبعض المتكلمين
ومن مواضع بيان ذلك مقدمة التمهيد للامام ي بن حمزة عليه السلام وسبقه إلى ذلك الرازي في مقدمة نهاية العقول وبسط أكثر منه فمن أراد معرفة صعوبة هذا القام وقلة وجود رجاله فليطالع ما ذكرته في هذين الكتابين مطالعة شافية ولو بحث عما لم يعرف من ذلك
ومن أشهر ما لهم في ذلك خمس قواعد أحدها أن الجسمية أمر ثبوتي مشترك بين الأجسام زائد عليها وثانيها تماثل الأجسام وجواهرها وثالثها أن كون المتحيز في المكان أمر ثبوتي زائد عليه لا وصف عدمي وسواء كان حركة أو سكونا أو اجتماعا أو افتراقا ويسمونه دليل الاكوان ورابعها قياس واجب الوجود تعالى على ممكن الوجود في أشياء كثيرة مثل قول الملاحدة نفاة الاسماء الحسنى أن كونه تعالى على صفة دون أخرى يقتضي أن يجري مجرى الممكنات الحادثات التي تحتاج في مثل ذلك إلى تخصيص مخصص وقد أوضحت ما أورد بعضهم على بعض من الاشكالات الصعبة في ذلك في مسألة الرؤية من العواصم وربما نقلته مفردا في موضعه من هذا المختصر لينظر فيه من يفهمه إن شاء الله تعالى وخامسها أن كل موجود في الخلاء العدمي حتى الظلمة والنور فانه جسم أو حال فيه محتاج اليه
وخالفهم في القاعدة الأولى أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على ما نقله ابن تيمية فقالوا أن الماهية المشتركة المعروفة بالمجردات لا وجود لها ألبتة إلا في الاذهان ولم يقم على وجودها برهان في الخارج كما بسط في موضعه
وخالفهم في الثانية الرازي والشيخ أبو القاسم البلخي الكعبي وأصحابه معتزلة بغداد
وخالفهم في الثالث الشيخ أبو الحسين البصري وخلق كثير ذكرهم الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى وخالف أهل القاعدة الرابعة جمهور أهل الاسلام
وخالفهم في الخامسة أهل اللغة وأهل الأثر وبعض أهل الكلام والمعقولات والسلف الصالح من الصحابة والتابعين ظاهرا لا رواية ومستند الظهور نقل أهل اللغة وهم من أهلها بلا ريب
وخالفهم في القواعد الخمس كلها جميع أهل الآثار وسلفهم من الصحابة والتابعين ظاهرا مع من ذكرنا معهم من ذلك من أهل المعقولات والمتكلمين كما بسط في مواضعه والحمد لله
ومما اختلفوا فيه هل يجب بناء الدليل على الضرورة فيما انتهى اليه النظر أو على سكون النفس فعند المنطقيين وأبي الحسين من المعتزلة وأكثر المحققين أنه لابد من الانتهاء إلى الضرورة وإلا أدى إلى التسلسل أو التحكم وعند جمهور المعتزلة أنه يكفي أن ينتهي إلى سكون النفس ويرد عليهم سكون نفوس المبطلين ببواطلهم وهذا ما عارض والقصد بذكره بيان أن كون الدليل العقلي قاطعا من المواضع الدقيقة التي اختلف فيها أهل الدعوى للذكاء والكمال في التدقيق فيجوز أن يقع الخطأ على المحقق في مثل هذا وينبغي أن يحذره المنصف فان كثيرا من أهل العقول يقصر في هذا الموضع فيظن في بعض العقليات أن دليله قاطع وليس بقاطع في نفس الامر ثم يعارضه السمع فيرى في نفسه أن التأويل يتطرق إلى السمع لاحتمال اللفظ اللغوي له دون الادلة العقلية القاطعة في ظنه وزعمه أنها قاطعة ولا يدري أن قطعه بأنها قاطعة قطع بغير تقرير ولا هدى ولا كتاب منير وانه مقام صعب خطير وأنه بطول النظر والمراجعة فيه جدير ولو لم يكن في ذلك عبرة للمعتبرين إلا ما جرى لموسى الكليم عليه أفضل الصلوات والتسليم حيث قطع بالنظر العقلي على قبح ما فعله الخضر عليه السلام فانكشف له خلاف ما قطع عليه وكذلك نوح عليه أفضل الصلاة والسلام حيث قطع على أن ولده من أهله فبان له خلاف ذلك فاذا كان هذا في حق أرفع البشر مرتبة فمن الناس بعدهم فليتفطن طالب النجاة لذلك وليحذر أشد الحذر
وقد أشار إلى ذلك ابن عبد السلام في قواعده في حقوق القلوب وما يجب من معرفة الله وتقرير العامة على ما علم أنهم لم ينفكوا عنه لدقة الأمر المانع مما هم عليه وصعوبة معرفته عليهم وذلك كغلاة الاشعرية في نفي حكمة الله تعالى وتقبيح اسم الحكيم في الظاهر وإيجاب تأويله بالمحكم لصنعه من غير حكمة له في ذلك الاحكام وغلاة المعتزلة في نفي السميع البصير والمريد وتقبيحها في الظاهر وإيجاب تأويلها بالعليم لا سواه وذلك يضعف في مثل يريد الله بكم اليسر وقول الخليل لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا
وكذلك الجميع من الاشعرية والمعتزلة في نفي حقيقة الرحمن الرحيم وما في معناهما من الرؤوف والودود وأرحم الراحمين وحكمهم بأنها أسماء قبيحة الظواهر في حق الله تعالى وأنها لا تليق بجلاله إلا بصرفها عن ظواهرها وتعطيلها عن حقائقها إلى المجاز المحض وأن نسبة الرحمة إلى الله سبحانه كنسبة إرادة الانقضاض إلى الجدار والجناح إلى الذل وكل ذلك بمجرد ظن أن الدلالة العقلية القاطعة دلت على ذلك وستأتي الاشارة إلى تلك الأدلة وما يرد عليها على قواعد أئمة المعقولات على حسب هذا المختصر مع الارشاد إلى مواضع البسط
فأما لوازم رحمة المخلوقين المستلزمة للنقص فواجب تنزيه الله تعالى عنها قطعا وفاقا كلوازم علمهم وارادتهم ونحو ذلك كما سيأتي تحقيقه
ومن مظان بطلان ذلك النظر في كيفية بعض صفات الله تعالى اللائقة به بل الواجبة له على التفصيل المؤدي إلى القطع بتسمية تلك الصفات معاني وإلى القطع بالفرق بينهما وإلى القطع بأن ذات الله تعالى لا يصح وجود المعاني فيها ومجموع ذلك هو الذي اضطر البهاشمة إلى أنه تعالى مريد بارادة حادثة لا فيه ولا في غيره ولا يحتاج في خلقها إلى ارادة والحازم يوازن بين الممتنعات فيرد أشدها امتناعا في الفطر ولعل وجود العرض لا في محل بل لا في العالم ولا خارجه وتأثيره لمن لم يوجد فيه أبعد مما فروا منه
وقد جود ابن تيمية وغيره من أئمة العلم الجامعين بين التحقيق في هذين العلمين العقلي والسمعي الكلام في ذلك وفي المختصرات من ذلك ما يكفي المقتصد وأما من أراد الغاية في البحث فلا تكفيه المختصرات ولا النظر في كتب بعض الخصوم بل يحتاج إلى النظر في الكتب البسيطة للمعتزلة والاشعرية ومتكلمي أهل السنة وكتبهم أقل الكتب وجودا
ومن مشاهيرها منهاج السنة النبوية لابن تيمية على ما قيل ولم أقف عليه وفي هذه الصورة يتكلف المتكلمون كلهم التأويلات البعيدة تارة لما يمكن تأويله لو دل دليل قاطع على امتناع ظاهره ولكن لا قاطع محقق إلا مجرد دعوى وتارة لما لا يمكن تأويله إلا بتعسف شابه تأويل القرامطة وربما استلزم بعض التأويلات مخالفة الضرورة الدينية وهم لا يعلمون ولا يؤمن الكفر في هذا المقام في معلوم الله تعالى وأحكام الآخرة وإن لم نعلمه نحن وتوقفنا لشبهة التأويل وعدم علمنا بعلمهم بما أنكروه فانه لا يؤمن في حكم الله والله المستعان
فسبب الاختلاف في هذه الصورة وما يتركب عليها وهو معظم التأويل هو الاختلاف في أن الأدلة العقلية الموجبة للتأويل عند المتأولين قطعية أم لا أما من علم بطلان القطع إما بالعقل أو بالسمع القاطع أو بهما معا فعليه البيان لذلك فاذا سطع الحق وجب اتباعه من أي الجانبين كان
وأما من لم يعلم ذلك لكن علم أن أذكياء العقلاء ما زالوا يغلطون في اعتقاد القطع في مثل هذه الدقائق وان خوضه فيها أشبه شيء بركوب البحر عند هيجه واضطرابه وان الجميع قد انعقد اجماعهم على أن مخالفة العقل إذا تجرد عن السمع ليست بكفر ولا فسق وإن كان فيها مخالفة ضرورة العقل فان من اعتقد في حنظلة مرة أنها حلو يكون قد خالف ضرورة العقل ولا يكفر بل ولا يفسق لقول النبي أن كذبا علي ليس ككذب على غيري أنه من يكذب علي يلج النار وإنما هذا كاذب على نفسه ولم يكذب على الله ولا رسوله فكيف من قال بغير الحق في دقائق الكلام متأولا
وكذلك انعقد إجماعهم على أن مخالفة السمع الضروري كفر وخروج عن الاسلام وأن ذلك لا يؤمن في القول بأن الرحمن الرحيم الحكيم السميع البصير ليست بأسماء مدح الله تعالى بل أسماء ذم قبيحة يجب تأويلها وتحذير عوام المسلمين من الاغترار باطلاقها وأنها ليست أسماء حسنى لأن الحسنى جمع الاحسن لا جمع الحسن وهذه لم تدخل في الحسن كيف في أحسن الحسن فان عامة أهل الاثر رجحوا الاعتقاد الاسلم على الاعلم لأن المتكلمين قد اعترفوا بأن طريقة السلف أسلم لكن ادعوا أن طريقهم أعلم
ووجه الترجيح عندهم أنهم علموا من كثرة نصوص الكتاب والسنة في هذه الأسماء أنها على جهة التمدح كما يأتي في موضعه وظهور ذلك في عصر النبوة والصحابة والتابعين من غير تحذير لأحد من الاغترار بظاهرها مع اعتقاد الجميع أن الله ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته يقتضي عادة العلم الضروري بأنها أسماء مدح وأنها من الاسماء الحسنى التي لا قبح فيها وخافوا الكفر في مخالفة هذا العلم
وأما الادلة الموجبة للتأويل فسوف يأتي البيان الواضح أنها قد انتهت إلى غاية الدقة ووردت عليها الشكوك الصعبة حتى اختلف في صحتها أئمة المعقول فمخالفة الحق فيها على جهة التأويل لا يكون كفرا ولا فسقا على جميع قواعد العقلاء قالوا ولا شك أن الفوز بالامان من الكفر الموجب الخلود في النار أرجح من الفوز بالظفر بالحق في دقائق الجواهر والاعراض كما نص عليه المؤيد بالله في الزيادات من أئمة العترة وغيره منهم عليهم السلام فشد على هذه يديك ولا تغفل النظر فيها
فان قلت فما يعتقد أهل الاثر في رحمة الله وهل يجوزون أنها رحمة مثل رحمة المخلوقين
قلت كلا فان رحمة المخلوقين ممتزجة بجهلهم وعجزهم فيدخلها الحسرة والاسف والبكاء والاماني الباطلة فتغلبهم فتصرفهم عن العدل والحق وقد أجمعنا على أن العليم القدير محكمان لا يجب تأويلهما ولو قال قائل أنهما في حق الله مثلها فينا لكان كافرا بالاجماع فاذا وجب نفي التشبيه في المحكمات بالاجماع فكيف لا ننفيه في غيرها وسيأتي إيضاح ذلك وإنما بسطت القول هنا لأن أكثر التأويل يدور على هذه الصورة
فان قيل تقديم العقل على السمع أولى عند التعارض لأن السمع علم بالعقل فهو أصله ولو بطل العقل بطل السمع والعقل معا وهذه من قواعد المتكلمين
قلنا قد اعترضهم في ذلك المحققون بأن العلوم يستحيل تعارضها في العقل والسمع فتعارضها تقدير محال فانه لو بطل السمع أيضا بعد أن دل
العقل على صحته لبطلا معا أيضا لأن العقل قد كان حكم بصحة السمع وأنه لا يبطل فحين بطل السمع علمنا ببطلانه بطلان الاحكام العقلية وممن ذكر ذلك ابن تيمية وابن دقيق العيد والزركشي في شرح جمع الجوامع
الصورة الثانية أن يتيقن المتكلم بعض الأدلة العقلية حتى لا يشك في صحتها وهي كذلك ثم يعتقد لتقصيره في علم السمع أن السمع ورد بنقيض ذلك الأمر المعلوم عنده فيقع في الكفر الصريح كابن الراوندي وسائر من صرح بالردة لذلك ومن هؤلاء بعض الفلاسفة وأكثر البراهمة أعني أن بعضهم كفر من هذه الجهة وبعضهم كفر من جهة أخرى وذلك أن هؤلاء اجتمعت كلمتهم على أن عذاب الآخرة خال عن المصلحة والحكمة وأن ذلك لا يجوز على مختار عليم حكيم فقولهم أن التعذيب لغير حكمة لا يجوز على المختار العليم الحكيم حق وصواب لكنهم قصروا في علم السمع فظنوا أنه ورد بأن ذلك العذاب خال عن الحكمة ودعوى هذا على السمع باطلة وقد جود ابن تيمية غاليا في الرد عليهم على التفصيل كما هو مبسوط في حادي الارواح وأشار إلى مثل قولة الغزالي في المقصد الاسنى في شرح الرحمن الرحيم منه ولم يصرح وجعل ذلك من الاسرار التي لا تفشى وسيأتي طرف من ذلك وبيان المختار منه في مسألة اثبات الحكمة قريبا إن شاء الله تعالى
الصورة الثالثة قوم أسرفوا في التقصير في علم السمع تارة في طلب معرفة نصوصه وألفاظه وطرق صحتها وتارة في معانيها وتارة في كيفية الجمع بين المتعارض فيقدمون العموم على الخصوص والظواهر على النصوص ونحو ذلك حتى ظنوا في بعض الأمور أن السمع ورد به ورودا ضروريا أو قطعيا ولم يرد به السمع أصلا لا ضرورة ولا قطعا ولا ظنا ثم عارضته أدلة كثيرة جلية عقلية أو سمعية أو كلاهما كالنواصب والروافض وكثير من الوعيدية والمبالغين في التكفير والتفسيق والتقنيط والتبري من كثير من أهل الاسلام والمبتدعة الذين لهم ذنوب وهفوات لا تخرج عن الاسلام
ومن ذلك خبط كثير من الناس في مسألة القرآن وتكفير كل منهم لمن خالفه بغير برهان حتى اعتقد بعض المحدثين قدم التلاوة وجحد حدوث
صوت التالي مع اعترافه بحدوث التالي وحدوث لسانه ووجودهما قبل التلاوة وقد قال الغزالي إن هذا ما درى ما القديم وقال البيهقي أن من عرف معنى هذا رجع عنه وإنما كانت هفوة ممن لم يتعقل هذا وحتى قال الشيخ أبو علي الجبائي أن الله تعالى يتكلم مع التالي وأن الصوت كامن في الحروف في المصاحف وكل ذلك لاعتقادهم أن السمع ورد بان كلام الله هو المسموع في المحاريب المكتوب في المصاحف وان منكر هذا كافر
وما قالوه من أن ذلك كلام الله في الجملة حق ولكن لابد من الفرق بين التلاوة والمتلو والحكاية والمحكى وهو فرق ضروري فان المتلو المحكي كلام الله بغير شك والتلاوة والحكاية فعل لنا مقدور اختياري بغير شك ولا شك أن ما هو مقدور لنا واقع باختيارنا غير المعجز الذي لم يقدر عليه أحد فالشيخ أبو علي خاف ما خاف أهل الأثر في المرتبة الأولى من الكفر في مخالفة السمع فتكلف مخالفة المعقول في كمون الصوت في الحروف المكتوبة وفي احداث صوت من الله مع صوت كل قارئ حتى يكون السامع لكل قارئ سامعا لكلام الله على الحقيقة كما سمعه موسى عليه السلام كل هذا حتى لا يخالف الاجماع والنص حيث قال الله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله فأي حرج على أهل الأثر إذا تابعوا سائر السمع وخالفوا من المعقولات ما هو أدق من المعقول الذي خالفه أبو علي في هذه المذاهب التي لولا رواها عنه أصحابه لعدت من تشنيع الاعداء عليه
وأما أولئك المحدثون فلم يفرقوا بين إنكار السلف كون القرآن مخلوقا وبين كونه قديما فظنوا ما ظن أبو علي من الاجماع من السلف على قدمه وسوف يأتي الفرق بينهما في بابه وأما الروافض والنواصب والخوارج وغلاة الوعيدية فظنوا أن السمع ورد بعقائدهم فجحدوا كل ما خالف ذلك مما لم يعلموه وتأولوا ما علموه ففحش جهلهم حيث قدموا الاكاذيب المعلوم عند أهل السمع بطلانها على المتواترات وهؤلاء لا دواء لهم لأن اعتقادهم تقليد محض لاسلافهم وهو غير منكشف لهم إلا بان يشكوا فيه ويقبلوا على تعلم السمع وقراءة كتب الرجال والتواريخ والمساند حتى
يكونوا من أئمة السمع وينكشف لهم جهل أسلافهم أو عنادهم وهم غير ملتفتين إلى شيء من هذا بل هم في غاية العجب بعلمهم واتقانهم وغاية السخرية بخصومهم فهم أفحش الاقسام الاربعة المشهورة وهم من الذين لا يدرون أنهم لا يدرون
وقد رأيت لبعض حذاق الباطنية في كتاب الملل والنحل القدح في الاخبار بذلك فانه لم يفرق بين التواتر الحق ودعوى التواتر فقال أما التمسك بالاخبار فانه متعارض لأن كل طائفة قد تواتر لهم ما هم عليه عن أسلافهم الذين يثقون بهم ولم يعلم المغفل أن هذا مثل دعوى اليهود لقول موسى عليه السلام تمسكوا بالسبت أبدا ودعوى تواتر ذلك عنه وأنه لا فرق بين تلك الدعوى وبين ما صح عن نبينا محمد أنه لا نبي بعدي وأنه خاتم الأنبياء وكم بين تواتر صفات الكمال في رسول الله وتواتر معجزاته وفضائله للعارفين وبين تلقي صبيان اليهود لما يعارض ذلك كله عن آبائهم القوم البهت وهل يقول مميزان الامرين في التواتر سواء فجهال هذه الصورة مثل صبيان اليهود حين نشؤا على ظن السوء برسول الله وأنه لا دواء لهم إلا أن يتركوا تقليد آبائهم في ذلك الظن السيء ويطالعوا كتب الاسلام التي فيها سيرته وأخلاقه ومعجزاته وسائر مناقبه والتواتر مما لا يمكن تعريف الجاهل به ألبتة
ولذلك يقول العلماء في ذلك أنه معلوم لمن طالع كتب الاخبار وإلا فكل مبطل معتقد لصحة باطله ولولا الفرق بين الاعتقادات الباطلة والعلوم الصحيحة ما تميز كفر من اسلام ولا شرك من توحيد ولا عالم من جاهل فالعلم الحق ما جمع الجزم والمطابقة والثبات عند التشكيك فالظنون تلتبس بالعلوم الجازمة عند كثير من العامة والاعتقادات الباطلة وإن كانت جازمة في نفوس أهلها فهي غير مطابقة في الخارج واعتقادات عوام المسلمين وإن كانت جازمة في نفوسهم مطابقة للحق فانها لا تثبت في نفوسهم عند التشكيك والعلم الحق هو ما جمع هذه الأوصاف الثلاثة والله سبحانه قد خص بالهداية له من علم منه القبول والانصاف والاهلية لذلك كما قال في إبراهيم عليه السلام وكنا به عالمين وقال معاذ إن العلم والإيمان
مكانهما من طلبهما وجدهما فاطلبوا ذلك من حيث طلبه إبراهيم حيث قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين وقد تقدم الارشاد إلى طريق الظفر بالحق في هذه المقدمة من هذا المختصر
الصورة الرابعة طائفة من أهل السمع أتقنوا علم السمع وعلموا منه بعض القواعد علما صحيحا وتواتر لهم ما لم يتواتر لغيرهم لشدة بحثهم وقطعهم أعمارهم في ذلك ثم نازعهم في ذلك جماعة من علماء المعقولات المقصرين في علم السمع كبعض المعتزلة خصوصا المتأخرين في نفي الشفاعة للموحدين ونفي الرجاء للمذنبين منهم وإيجابب خلودهم في النار مع المشركين فظن أولئك الذين أتقنوا ما علموا من السمع أن العلوم العقلية هي المعارضة لما عرفوه من السمع الحق في ذلك لشبهة أن المعارضين لهم فيه يدعون التحقيق في المعقولات فيعادون علم المعقول ومن خاض فيه حتى من أهل السنة وظنوا أن الاصغاء اليه والنظر فيه يستلزم البدعة من غير بد ولو نظروا بعين التحقيق لعلموا أن خصومهم في هذه المسألة إنما أتوا من التقصير في علم السمع وإقلال البحث عنه وما شابوا به جدا لهم من المعقولات فانما ادعوا فيه على العقل ما هو بريء منه كما يدعون على العقل تقبيح خطاب الله لنا بالعموم المخصوص في العقائد من غير بيان مقترن به ولم يعلموا أنه يرد عليهم هذا بعينه في عمومات الوعد كعمومات الوعيد فلو حرم تخصيص الوعيد بالأدلة المنفصلة عنه لحرم تخصيص الوعد كذلك بل أولى وأحرى وحينئذ يحصل بطلان مقصودهم
فان قالوا في عمومات الوعد يمكن أن تخصيصها قد كان تقدمها وعلم
قلنا وكذلك يمكن في عمومات الوعيد فان قالوا في تخصيص الوعيد أنه ظني قلنا صدقتم أنه ظني عندكم لكن قد علم غيركم ما لم تعلموه من تواتره كما أوضحته في العواصم ولئن سلمنا أنه ظني فان حكم الظني أن لا يقطع بصدقه ولا كذبه لا أنه يقطع يكذبه لأنه لا طريق إلى ذلك وأنتم لم تتوقفوا في صدقه بل قطعتم بكذبه وهذا هو القطع بغير تقدير والخبط الذي ليس من العلم العقلي في قبيل ولا دبير
واعلم أنه لا يكاد يسلم من هذه الاغلاط إلا أحد رجلين إما رجل ترك البدعة كلها والتمذهب والتقاليد والاعتزاء إلى المذاهب والأخذ من التعصب بنصيب وبقي مع الكتاب والسنة كرجل نشأ قبل حدوث المذاهب ولم يعبر عن الكتاب والسنة بعبارة منه مبتدعة واستعان الله وأنصف ووقف في مواضع التعارض والاشتباه ولم يدع علم ما لم يعلم ولا تكلف ما لا يحسن وهذا هو مسلك البخاري وأئمة السنة غالبا في ترجمة تصدير الأبواب وفي العقائد بالآيت القرآنية والاخبار النبوية كما صنع في أبواب القدر وكتاب التوحيد والرد على الجهمية وأبواب المشيئة ورجل أتقن العلمين العقلي والسمعي وكان من أئمتهما معا بحيث يرجع اليه أئمتهما في وقائعهما ومشكلاتهما مع حسن قصد وورع وانصاف ونحر للحق فهذا لا تخلف عنه هداية الله واعانته وأما من عادى أحد هذين العلمين وعادى أهله ولم يكن على الصفة الأولى من لزوم ما يعرف وترك ما لا يعرف فانه لابد أن تدخل عليه البدع والاغلاط والشناعات
ومن أنواع الزيادة في الدين الكذب فيه عمدا وهذا الفن يضر من لم يكن من أئمة الحديث والسير والتواريخ ولا يتوقف على نقدهم فيه بحيث لا يفرق بين ما يتواتر عند أهل التحقيق وبين ما يزوره غيرهم وليس له دواء إلا اتقان هذا الفن والرسوخ فيه وعدم المعارضة لأهله بمجرد الدعاوى الفارغة وهو علم صعب يحتاج إلى طول المدة ومعرفة علوم الحديث وعدم العجلة بالدعوى وإن كان جليا في معناه فان الرسوخ فيه بعيد عن حصول العلم الضروري بأحوال رسول الله وأحوال السلف بحيث يعلم دينهم بالضرورة مثل ما يعلم مذهب المعتزلة والأشعرية كذلك يطول البحث في علم الكلام ويعلم ما يختلفون فيه وما لا يختلفون فيه وما يمكن القدح فيه من المنقولات المشهورة وما لا يمكن من غير تقليد ولا أقل من معرفة مثل علوم الحديث للحاكم في ذلك وهذا عندي هو الفائدة العظمى في الرسوخ في علم الحديث وليس الفائدة العظمى فيه معرفة أحاديث الاحكام في فروع الحلال والحرام كما يظن ذلك من يقتصر على قراءة بعض المختصرات في ذلك ويكتفي به في هذا العلم الجليل ولأمر ما كان أئمة الحديث الراسخون أركان الايمان
في الثبوت عند الفتن والامتحان وقد ذكرت أمور كثيرة يقدح بها على المحدثين وأئمة المنقولات وقد ذكرتها والجواب عنها في المجلد الأول من العواصم واشتمل ذلك على فوائد ومعارف مهمة يحتاج اليها من يهتم بالمعارف المنقولة ولله الحمد وهذا آخر ما حصر من التحذير من الزيادة في الدين والكلام في بطلان ذلك وتحريمه وهو الامر الأول
وأما الأمر الثاني وهو النقص في الدين برد النصوص والظواهر ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدل على ثبوت الموجب للتأويل إلا مجرد التقليد لبعض أهل الكلام في قواعد لم يتفقوا عليها أيضا وأفحش ذلك وأشهره مذهب القرامطة الباطنية في تأويل الاسماء الحسنى كلها أو نفيها عن الله على سبيل التنزيه له عنها وتحقيق التوحيد بذلك ودعوى أن اطلاقها عليه يقتضي التشبيه وقد غلوا في ذلك وبالغوا حتى قالوا أنه لا يقال أنه موجود ولا معدوم بل قالوا أنه لا يعبر عنه بالحروف وقد جعلوا تأويلها أن المراد بها كلها أمام الزمان عندهم وهو عندهم المسمى الله والمراد بلا إله إلا الله وقد تواتر هذا عنهم وأنا ممن وقف عليه فيما لا يحصى من كتبهم التي في أيديهم وخزائنهم ومعاقلهم التي دخلت عليهم عنوة أو فتحت بعد طول محاصرة وأخذ بعضها عليهم من بعض الطرقات وقد هربوا به ووجد بعضها في مواضع خفية قد أخفوه فيها فكما أن كل مسلم يعلم أن هذا كفر صريح وأنه ليس من التأويل المسمى بحذف المضاف المذكور في قوله تعالى واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها أي أهل القرية وأهل العير وإنما علم هذا كل مسلم تطول صحبته لأهل الاسلام وسماع أخبارهم والباطني الناشئ بين الباطنية لا يعلم مثل هذا فكذلك المحدث الذي قد طالت مطالعته للآثار قد يعلم في تأويل بعض المتكلمين مثل هذا العلم وإن كان المتكلم لبعده عن أخبار الرسول وأحواله وأحوال السلف قد بعد عن علم المحدث كما بعد الباطني عن علم المسلم فالمتكلم يرى أن التأويل ممكن بالنظر إلى وضع علماء الأدب في شروط المجاز وذلك صحيح ولكن مع المحدث
من العلم الضروري بأن السلف ما تأولوا ذلك مثل ما مع المتكلم من العلم الضروري بأن السلف ما تأولوا الاسماء الحسنى بامام الزمان وان كان مجاز الحذف الذي تأولت به الباطنية صحيحا في اللغة عند الجميع لكن له موضع مخصوص وهم وضعوه في غير موضعه كذلك المتكلم في بعض أسماء الله الحسنى كالسميع والبصير والحكيم والرحمن والرحيم فانها من الاسماء الحسنى المعلوم ورودها في كتاب الله على سبيل التمدح بها والثناء العظيم ونص الله تعالى ورسوله على أنها ثناء على الله تعالى في حديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي وفيه فاذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى أثنى علي عبدي مع تكريرها في عهد النبوة والصحابة والتابعين لم يشعر أحد منهم في تلك الاعصار كلها بتقبيح شيء من ظواهرها ألا ترى أن الرحمن الرحيم ثابتان في السبع المثاني المعظمة متلوان في جميع الصلوات الخمس مجهور بهما في أكثرها في محافل المسلمين مجمعين على أنهما من أحسن الثناء على الله تعالى وأجمله وأفضله متقربين إلى الله بمدحه بذلك مظهر من أنه أحب الحمد اليه ولذلك كرر تكرارا كثيرا في كتاب الله سبحانه وفي بسم الله الرحمن الرحيم المكرر في أول كل سورة المتبرك به في أول كل عبادة وجمعا معا ومرجعهما إلى معنى واحد ولم يجمع اسمان في معنى واحد في موضع واحد قط كالغفار الغفور ونحو ذلك بخلاف الرحمن الرحيم فتأمل ذلك فهما الغرة والمقدمة في ممادح رب العزة في خطب المسلمين وجمعهم وجماعتهم وحوائجهم ومجامعهم ورسائلهم ومكاتباتهم وتصانيفهم وتصرفاتهم وكل أمر ذي بال كان منهم في مصادرهم ومواردهم وتضرعهم إلى ربهم ودعائهم وعند رقتهم وخضوعهم وجدهم واجتهادهم يلقنها سلف المسلمين خلفهم ويتلقنهما خلفهم عن سلفهم ويعلمهما الآباء أبناءهم ويتعلمهما الابناء من آبائهم ويتردد التشفي بذكرهما بين أصاغرهم وأكابرهم وبدوهم وحضرهم وخاصتهم وعامتهم وذكرانهم وإناثهم وبلدائهم وأذكيائهم فأي معلوم من الدين أبين من كونهما من ممادح الله تعالى وأشهر وأوضح وأظهر وأكثر استفاضة وشهرة وتواترا وعظمت الشناعة في إنكار حقيقتهما ومدحتهما حين وافق ذلك مذهب القرامطة ومذهب أسلافهم من المشركين في انكارهم الرحمن ونص القرآن على الرد عليهم
في ذلك والصدع بالحق فيه حيث حكى عنهم قولهم وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا فقال عز من قائل الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا وحيث قال وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو وحيث قال وهم بذكر الرحمن هم كافرون وعظم الله تعالى هذا الاسم الشريف وبالغ في تعظيمه حيث قال قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الاسماء الحسنى وقال حاكيا عن خيار عباده هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا وجاءت الصوادع القرآنية مادحة لله تعالى بأعظم صيغ المبالغات في هذه الصفة الشريفة الحميدة بأن الله تعالى خير الراحمين وأرحم الراحمين وكرر هذه المبالغة في مواضع من كتابه الكريم الذي قال فيه إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وجاءت في كلام موسى وأيوب ويعقوب ويوسف عليهم السلام
وكرر الله تعالى التمدح بالرحمة مرارا جمة أكثر من خمسمائة مرة من كتابه الكريم منها باسمه الرحمن أكثر من مائة وستين مرة وباسمه الرحيم أكثر من مائتي مرة وجمعهما للتأكيد مائة وست عشرة مرة وأكد الرحيم فجمعه مرارا مع التواب ومرارا مع الرؤوف والرأفة أشد الرحمة ومرارا مع الغفور وهي أكثر عرفت منها سبعة وستين موضعا وأخبر أنه كتب على نفسه الرحمة مرتين وأنه لا عاصم من أمره إلا من رحم وأن من لم يرحمه يكن من الخاسرين ولا يزالون مختلفين إلا من رحم وإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم وأنه ذو رحمة واسعة إلى غير ذلك من صيغ المبالغات القاضية بأن ذلك من أحب الثناء والممادح والمحامد اليه تعالى
وبالغت الملائكة الكرام في ممادح الرب سبحانه بذلك فأوردت أبلغ صيغ المبالغات فقالت ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ومدح الله ذاته الكريمة بهذه الصيغة البليغة فقال ورحمتي وسعت كل شيء وفي كتاب سليمان عليه السلام الذي حكاه الله عنه في كتابه الكريم لشرفه العظيم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم وحكى الله نحو ذلك في كتابه الكريم عن إبراهيم ويعقوب وموسى وأيوب وصالح وعيسى ابن مريم عليهم السلام للدلالة على اتفاق الأديان النبوية الأولى والآخرة على مدح الله تعالى بذلك وخاطب الأنبياء عليهم السلام بذلك الجفاة الاجلاف من المشركين ونحوهم ممن لا يفهم دقائق الكلام الصارفة إلى مقاصد أهله فقال الخليل عليه السلام في خطاب أبيه يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا وقال هارون عليه السلام لعباد العجل ما ذكره الله عنه ومدحه به حيث قال ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وكتب ذلك سليمان إلى بلقيس وقومها وأمر الله تعالى في كتابه الكريم بالفرح برحمته والفرح بها فرع التصديق بها فقال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا وفي عطفها على فضله دلالة على المغايرة بينهما وذلك خلاف ما يقول من تأولها
وفي الصحاح من ذلك الكثير الطيب وما لا تتسع له هذه التذكرة المختصرة منه حديث سلمان وأبي هريرة وجندب وابن عباس وعبادة وأبي سعيد الخدري وابن حيدة وخلاس والحسن وابن سيرين في المائة الرحمة التي لله تعالى وإنها وسعت الخلائق منها رحمة واحدة وأن هذه الرحمة التي يتراحم بها الخلائق والسباع والدواب البرية والبحرية هي
جزء من مائة جزء من رحمة الله وظهرت محبة الله تعالى للثناء عليه بهذه الصفة وما يشتق له منها من الاسماء الشريفة حتى كان أحب الاسماء اليه عبد الله وعبد الرحمن كما ثبت في الصحيح فكيف يقال أن ظاهرها نقص وذم وكفر وتشبيه وسب للملك الحميد المجيد الذي لا أحد أحب اليه الحمد والمدح منه ولا أعرف بما يليق بجلاله منه ثم من رسله ولا يحصى عليه ثناء هو كما أثنى على نفسه لأهليته لذلك ولذلك مدح نفسه وعلمنا مدحه ودعانا اليه وأثابنا عليه فكيف يفتتح كتبه الكريمة ويشحنها بما ظاهره السب والذم والكفر والتشبيه وبما نسبته اليه كنسبة الارادة إلى الجدار والجناح إلى الذل بل أشد بعدا من ذلك فان الجدار لا يذم بالارادة والذل لا يذم بالجناح فصار لا يوجد لذلك مثال لأنه يستلزم استعارة اسم الذم لارادة المدح كما لو مدحت بالظلم الملك العادل وبالنقص الرجل الكامل مجازا ونحو ذلك
مما لا يحسن في البلاغة بل لا يصح في اللغة ولا يوجد في كلام العامة والعجم
وقد أجمع المسلمون على حسن اطلاق الرحمة على الله من غير قرينة تشعر بالتأويل ولا توقف على عبارة التنزيل ولو كان ظاهرها القبح والذم والانتقاص لله تعالى لم يحسن ذلك من العباد وان ورد في كلام الله أقر في موضعه على قواعد علماء الكلام على أن فطر العقول تعرف رحمة الله تعالى وسعة علمه وكمال قدرته فان العلم بضعف العباد مع تمام القدرة والممادح والمحامد وعدم المعارض يستلزم الرحمة عقلا أيضا فهي من المحكمات لامن المتشابهات على أن الله سبحانه أعلم وأحكم وأجل وأعظم وأعز في كبريائه عن أن يتخير ما ظاهره الانتقاص والذم غرة شادخة لاسمائه الحسنى مقدمة في مثاني كتابه العظمى وهو الذي بلغ كلامه أعلى درجات الاعجاز في البلاغة التي هي البلوغ إلى المراد المقصود بأوضح العبارات وأجزلها وأبينها وأجملها
وأيضا فقد ثبت أن الرحمن مختص بالله تعالى وحده ويحرم إطلاقه على غيره ولو كانت الرحمة له مجازا ولغيره حقيقة كان العكس أوجب وأولى وما المانع للمسلم من اثباتها صفة حمد ومدح وثناء كما علمنا ربنا مع نفي
صفات النقص المتعلقة برحمة المخلوقين عنه تعالى كما أثبتنا له اسم الحي العليم الخبير المريد مع نفي نقائص المخلوقين في حياتهم المستمرة لجواز التألم بأنواع الآلام ثم للموت الذي لابد منه لجميع الاحياء من الانام وكذلك ينزه سبحانه عما في علمهم الناقص بدخول الكسب والنظر في مباديه والاستدلال والاضطرار في منتهاه الذي يستلزم الجسمية والبينة المخصوصة والحدوث ويعرض له التغير والنسيان والخطأ والشغل ببعض المعلومات عن بعض وكذلك تنزه ارادته عما في ارادتنا من استلزام الحاجة إلى جلب المنافع ودفع المضار ونحو ذلك وكذلك كل صفة يوصف بها الرب سبحانه ويوصف بها العبد وان الرب يوصف بها على أتم الوصف مجردة عن جميع النقائص والعبد يوصف بها محفوفة بالنقص وبهذا فسر أهل السنة نفي التشبيه ولم يفسروه بنفي الصفات وتعطيلها كما صنعت الباطنية الملاحدة
ويدلك على قبح تأويل هذه الاسماء الشريفة في الفطر كلها إنك تجد المعتزلي يستقبح تأويل الاشعرية للحكيم غاية الاستقباح والاشعري يستقبح تأويل المعتزلة البغدادية للسميع البصير المريد غاية الاستقباح والسني يستقبح تأويل المعتزلة والاشعرية للرحمن الرحيم الحكيم غاية الاستقباح والكل يستقبحون تأويل القرامطة لجميع الاسماء الحسنى غاية الاستقباح ومتى نظرت بعين الانصاف وجدتهم في ذلك كما قيل
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
وكذلك نجد كل واحد منهم يلزم المنكر عليه مثل ما ألزمه فان المعتزلة والاشعرية إذا كفروا الباطني بانكار الاسماء الحسنى والجنة والنار يقول لهم الباطني لم أجحدها إنما قلت هي مجاز مثل ما انكم لم تجحدوا الرحمن الرحيم الحكيم وإنما قلتم إنها مجاز وكيف كفاكم المجاز في الايمان بالرحمن الرحيم وهما أشهر الاسماء الحسنى أو من أشهرها ولم يكفني في سائرها وفي الجنة والنار مع أنهما دون أسماء الله بكثير وكم بين الايمان بالله وبأسمائه والايمان بمخلوقاته فاذا كفاكم الايمان المجازي بأشهر الاسماء الحسنى فكيف لم يكفني مثله في الايمان بالجنة والنار والمعاد يوضحه أن الاجماع منعقد على كفر من قال أن الله يأمر بالفسق والمعاصي حقيقة
وقد قال الزمخشري بذلك مجازا في تفسيره أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ولم يكفر بذلك وكذلك قال بعض الاشعرية أن الله تعالى يحب المعاصي مجازا ولم يكفروه بذلك ولو قالوه حقيقة كفروا فدل على أن الايمان المجازي في موضع الحقائق كلا شيء فكما لم يضره من آمن بالامر بالقبائح مجازا فكذلك لا ينفع من آمن بالرحمن الرحيم الحكيم مجازا لأنهم بمنزلة الزمخشري في إيمانه بأمر الله بالفسق مجازا مع نفيه لذلك أشد النفي واعتقاده أنه كالعدم يوضحه أنه لا شك ولا خلاف في كفر من آمن بالنبوات مجازا ونفاها حقيقة فأسماء الله الحسنى المعلوم تمدحه بها في جميع كتبه أجل وأعظم من جنته وناره وأنبيائه فلا يكفي الايمان بشيء منها مجازا إلا أن يصح في ذلك اجماع قاطع وبرهان الله أقطع في بعض المواضع يؤمن معه من الوقوع في البدعة والفرقة المنهي عنهما بالنصوص والاجماع وكذلك يقول بعضهم لبعض فيما اختلفوا فيه كما يقول لهم الباطني
وكذلك محبة الله تعالى لأنبيائه وأوليائه التي هي أعظم فضل الله العظيم عليهم وأشرف ما يرجونه من مواهبه العظام وقد نص الله تعالى على ذلك في غير آية من كتابه الكريم كقوله تعالى يحبهم ويحبونه وقوله تعالى والله يحب الصابرين وكذلك كون الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وأكبر من ذلك أن الله تعالى اتخذ ابراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم خليلا بالنص القرآني واتخذ محمدا خليلا بالنص النبوي والحلة في اللغة العربية أرفع مراتب المحبة ولم تزل هذه النصوص مقررة مجللة معتقدة مع تنزيه الله تعالى من نقائصها مثل تنزيهه من نقائص علم المخلوقين وارادتهم في العليم المريد وغيرهما حتى فشت البدعة واجتمعت كلمة المعتزلة والأشعرية على تقبيح نسبة الرحمة والحلم والمحبة والخلة إلى الله تعالى إلا بتأويل موجب لنفي هذه الأشياء عن الله بغير قرينة وموجب تحريم اطلاقها إلا مع القرينة فيجوز عندهم أن تقول إن الله غير رحيم ولا رحمن ولا حليم ولا يحب المؤمنين ولا الصابرين ولا المتطهرين
ولا اتخذ ابراهيم خليلا بغير قرينة ولا تأويل كما يجوز أن تقول في الجدار أنه ليس بمريد ولا يجوز ذلك الاثبات إلا بالتأويل والقرينة الدالة عليه
والمسلم بالفطرة ينكر هذه البدع وبالرسوخ في علم الحديث يعلم بالضرورة حدوثها وأن عصر النبوة والصحابة بريء منها مثل ما يعلم أن المعتزلة أبرياء من مذهب الأشعرية وأن الأشعرية أبرياء من مذهب المعتزلة وأن النحاة أبرياء من مذهب الشعوبية وأمثال ذلك فيجب تقرير ذلك وأمثاله مما وصف الله تعالى به ذاته الكريمة على جهة التمدح والحمد والثناء وسيأتي الجواب عن سبب تخلف الرحمة لكثير من أهل البلاء كما يتخلف العطاء عن كثير من الفقراء ولا يقدح ذلك في مدح الله بالجود والكرم حقيقة باجماع المسلمين لمعارضة الحكمة في الموضعين سواء وقد جود الغزالي القول في هذا المعنى في المقصد الامنى فلا حاجة إلى التطويل بنقل كلامه وموضعه معروف
والدليل على أنه لا يجوز القول بأن ظاهر هذه الاسماء كفر وضلال وأن الصحابة والسلف الصالح لم يفهموا ذلك أو فهموا ولم يقوموا بالواجب عليهم من نصح المسلمين وبيان التأويل الحق لهم أمران الأول قاطع ضروري وهو أن العادة توجب في كل ما كان كذلك أن يظهر التحذير منه من رسول الله ومن أصحابه يتواتر أعظم مما حذروا من الدجال الأعور الكذاب ولا يجوز عليهم مع كمال عقولهم وأديانهم أن يتركوا صبيانهم ونساءهم وعامتهم يسمعون ذلك منسوبا إلى الله وإلى كتابه ورسوله وظاهره الكفر وهم سكوت عليه مع بلادة الأكثرين ولو تركوا بيان ذلك ثقة بنظر العقول الدقيق لتركوا التحذير من فتنة الدجال فان بطلان ربوبيته أجلى في العقول من ذلك ألا ترى أن المتكلمين لما اعتقدوا قبح هذه الظواهر تواتر عنهم التحذير عنها والتأويل لها وصنفوا في ذلك وأيقظوا الغافلين وعلموا الجاهلين وكفروا المخالفين وأشاعوا ذلك بين المسلمين بل بين العالمين فكان أحق منهم بذلك سيد المرسلين وقدماء السابقين وأنصار الدين الثاني أنه قد ثبت في تحريم الزيادة في الدين أنه لا يصح سكوت الشرع عن النص على ما يحتاج اليه من مهمات الدين
وثبت أن الاسلام متبع لا مخترع ولذلك كفر من أنكر شيئا من أركانه لأنها معلومة ضرورة فأولى وأحرى أن لا يجيء الشرع بالباطل منطوقا متكررا من غير تنبيه على ذلك لا سيما إذا كان ذلك الذي سموه باطلا هو المعروف في جميع آيات كتاب الله وجميع كتب الله ولم يأت ما يناقضه في كتاب الله حتى ينبه على وجوب التأويل والجمع أو يوجب الوقف بل لم يأت التصريح بالحق المحض عند كثير منهم قط في آية واحدة تكون هي المحكمة ويرد اليها جميع المتشابه فان الله ذكر أنه نزل في كتاب آيات محكمات ترد اليها المتشابهات ولم يقل أن جميع كتابه متشابه فأين الآية المحكمة التي دلت على ما يقولون
وقد اعترف الرازي في كتابه الاربعين وهو من أكبر خصوم أهل الأثر أن جميع الكتب السماوية جاءت بذلك ولم ينص الله تعالى في آية واحدة على أنه منزه من الوصف بالرحمة والحلم والحكمة وأنه ليس برحيم ولا رحمن ولا حليم ولا حكيم ولا سميع ولا بصير وهذا خليل الله تعالى الذي مدح نبينا محمد بمتابعته يقول لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا إلى قوله إن الشيطان كان للرحمن عصيا فكيف يحسن تقرير الخلاف في ذلك كله بين المعظمين من علماء الاسلام من غير تحذير منه ولا زجر عنه وأمثال ذلك على ما ادعاه علماء الاثر وهو كذلك وإن لم يعترف به وهذه الكتب السماوية موجودة كلها
وهبك تقول هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء
فان قيل ورود المتشابه في القرآن معلوم مجمع عليه ولابد أن يكون ظاهر المتشابه باطلا وإلا لما وجب التأويل فما هذا التهويل
قلنا أما وروده فمعلوم لا ينكر وأما تفسيره بما يوجب أن يكون ظاهره باطلا فغير صحيح لقول الراسخين في العلم آمنا به كل من عند ربنا ولذم الله الذين في قلوبهم زيغ بابتغاء تأويله وقد تقدم هذا فلا نسلم قبح ظاهره بل هو محل النزاع بل نقول هو قسمان
أحدهما لا ظاهر له ولا يفهم منه شيء فلا يضل به أحد وذلك مثل حروف التهجي في أوائل السور على الصحيح كما تقدم فحكمه الوقف في معناه وكذلك المشترك الذي تجرد عن القرائن في حق من لم يعرف قرينه مرجحة لاحد معانيه وما جري هذا المجرى وقد تقدم الوجه في جواز ورود السمع بمثل هذا ولا يجوز القطع على خلوه عن الحكمة لجواز فهم البعض له ولو رسول الله وحده أو لجواز أن تكون الحكمة فيه غير فهم معناه ولعدم الدليل القاطع على أنا مخاطبون بهذا الجنس
النوع الثاني من المتشابه ما كان له ظاهر يسبق إلى افهام أهل اللغة ولكن خفيت الحكمة فيه على العقول مثل عدم العفو عن المشركين في الآخرة وعمن شاء الله من المذنبين مع أن العفو أرجح وأحب إلى الله تعالى في جميع كتبه وشرائعه وأحكامه وأوامره فهذا نؤمن بظاهره ولا نقول أن ظاهره باطل بل نقول أن الحكمة فيه خفية ولو أنا علمناها لعرفنا حسنه بل نقطع أنا أجهل من أن نعلم جميع حكم الله في جميع أحكامه ولو علمنا الله تعالى نصف ما يعلمه لجاز أن تكون الحكمة في هذا النصف الذي لم يعلمناه كيف وقد صح أن جميع علم الخلائق في علم الله مثل ما يأخذه الطائر بمنقاره من البحر الأعظم
وأما المجاز المعلوم أنه مجاز مثل واخفض لهما جناح الذل من الرحمة فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور فليس من المتشابه فان هذا يعرف معناه جميع أجلاف العرب ولا يصح دخول اللبس والاختلاف في معناه ولذلك لم يقل بنفي عمى الابصار لأن معنى الآية نفي عمي القلوب عن الابصار وأن عمي القلوب هو الحقيقي العظيم المضرة والابصار لا تعمى عنه إنما تعمى القلوب وكذلك الأمر بخفض جناح الذل معلوم أن المراد به الخضوع للوالدين واللطف بهما ونحو ذلك وكذلك كلما وضحت فيه احدى القرائن المجازية الثلاث
المعروفة اللفظية والعقلية والعرفية ولم تكن القرينة خفية مختلفا فيها كما سيأتى بيانه إن شاء الله تعالى
وقد تم الكلام في بيان تحريم الزيادة في الدين والنقص منه وقلما تدخل البدعة على السني من هذين الامرين وأكثر ما تدخل عليه من التصرف في العبارات وهو الامر الثالث الذي وعدت بذكره مفردا لكثرة مضرته وإن كان في الحقيقة راجعا إلى الزيادة في الدين فأقول
الامر الثالث التصرف في عبارات الكتاب والسنة والرواية بظن الترادف في الألفاظ واعتقاد الترادف من غير يقين وقد تفاحش الأمر في ذلك ونص القرآن على النهي عن التفرق فوجب تحريم ما أدى اليه والاختلاف في معاني كتاب الله تعالى ورواية ما قال الله ورسوله بالمعنى قد أدى ذلك إلى الحرام المنصوص ولم يكن من الانصاف أن نقول الحق متعين منحصر في عبارات بعض فرق الاسلام دون بعض غير ما ثبت في إجماع الامة والعترة فوجب أن يعدل إلى أمر عدل بين الجميع فتترك كل عبارة مبتدعة من عبارات فرق الاسلام كلها سواء علمنا بالعقل أنها حق أو باطل لأنه لا يجب الاشتغال بكل حق فقد نعلم من أمور الدنيا ما لا يحصى ولا تجب علينا معرفته وتعريفه مثل ما اشتملت عليه التواريخ من حوادث الزمان وعجائب أخبار البلدان بل ما تضمن المفاسد من الحق حرم فلذلك قد يكون من الحق ما هو حرام بالاجماع والنص كالغيبة والنميمة متى أردنا بالحق مجرد الصدق والمطابقة فلذلك لا ينبغي الاشتغال ببعض العلوم وغيرها لمجرد كونها حقا حتى يرد الشرع بالأمر بذلك ليعلم بالشرع أنه حق متضمن لمفسدة راجحة أو مساوية والله أعلم وكذلك ما كان من أمور الدين التي لم ينص فرض معرفتها في كتاب الله ولا السنة المتفق على صحتها
فان قلت هذا صحيح متى ثبت أنه يجوز على العلماء والثقات الخطأ في فهم المعنى أو في التعبير عما فهموا أو فيهما معا فما الدليل على جواز ذلك على العلماء حيث لم يصح إجماعهم
قلت الدليل على ذلك أمور كثيرة أذكر منها ما حضر والله الهادى
منها أنه ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله قال نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وفي رواية فرب حامل فقه غير فقيه وثبت أن الفتنة وقعت بين الصحابة ما لها سبب إلا اختلافهم في الفهم وثبت في الصحيح أن عدي بن حاتم الصحابي رضي الله عنه غلط في معنى قوله تعالى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود وجعل تحت وسادته عقالين أسود وأبيض فقال له رسول الله إنك لعريض القفا أو عريض الوساد وثبت في الصحيح أن ابن عمر رضي الله عنهما لما روى حديث الميت يعذب ببكاء أهله قالت عائشة ما كذب ولكنه وهل أي أخطأ في فهم ما سمع
وفي الصحيح عنه أيضا أن رسول الله قال أرأيتكم ليلتكم هذه فان على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدا خرجه البخاري ومسلم وزاد فيه الترمذي وأبو داود قال ابن عمر فوهل الناس في مقالة رسول الله فيما يتحدثونه من هذه الأحاديث يعني حسبوه أراد القيامة وفي المستدرك عن علي عليه السلام نحو هذا
وأوضح من هذا كله أن النبي شرط التعمد فقال من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وهو حديث متواتر فلولا جواز الخطأ ما كان لذلك فائدة وثبت أيضا أن عمر رضي الله عنه شك في حديث فاطمة بنت قيس لمثل ذلك بل شك في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه في التيمم لخوف الوهم فان عمارا لا يتهم بتعمد الكذب ولذلك أذن له في روايته مع شكه في صحته وثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة أو فهم أوتيه رجل فدل على التفاوت في الفهم ويدل عليه من كتاب الله قوله سبحانه ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما
يوضح ذلك أنه قد اشتد اختلاف العلماء في أمرين أحدهما رواية الحديث بالمعنى حيث يستيقن الترادف والاستواء المحقق في العموم والخصوص والخفاء والجلاء وأن لا تنقل اللفظة المشتركة إلى لفظة غير مشتركة ولا
العكس ولا لفظة لها مجاز إلى لفظة لا مجاز لها ولا العكس ولا يعبر بالحقيقة عن المجاز ولا العكس ولا بالمنطوق عن المفهوم ولا العكس ولا بالمطابقة عن التضمن ولا الالتزام ولا العكس وأمثال ذلك
فاذا اجتمعت هذه الشرائط وعلم اجتماعها فهو محل الاختلاف الشديد في الرواية بالمعنى فمنهم من أجاز الرواية بالمعنى للضرورة ومنهم من منعها خوفا من المفسدة ومنهم من فصل فقال أن كان اللفظ النبوي محفوظا لم يجز سواه ومنهم من عكس وقال إن كان محفوظا جاز لأن معنى اللفظ المحفوظ معروف يتمكن من تبديله بمثله ومعنى اللفظ المنسي غير معروف إلى غير ذلك من الأقوال
ولولا ضرورة الترجمة للعجم ما شك منصف أن الأولى منع هذا سدا للذريعة إلى تحريف المعاني النبوية لأن كل أحد حسن الظن بنفسه وقد يظن بل يقطع أن المعنى واحد وليس كذلك يوضحه أن الدليل على أن المعنى واحد ليس الا عدم الوجدان لمعنى آخر لجواز الاشتراك أو لتجوز وهذا دليل ظني والظن هنا غير مفيد
فثبت أنه لا يجوز إلا للضرورة المجمع عليها كالترجمة للعجمي ولذلك كان بيان الموقوف على الصحابي من المرفوع إلى النبي واجبا ولم يحل رفع الموقوف الذي لا مجال للعقل في معرفته وإن جاز العمل به لحسن الظن بالصحابي فلا يحل رفعه وثبت عن ابن مسعود أنه كان إذا قال قال رسول الله استقبلته الرعدة وقال هكذا إن شاء تعالى أو أو ذكره الذهبي في ترجمته من التذكرة وسمى أبو بكر رضي الله عنه تفسيره للكلالة رأيا لأجل هذا رواه البغوي في تفسيره وغيره وإلا فما فسرها إلا بمقتضى اللغة العربية
فان قلت لابد من العمل بدلالة التضمن والالتزام فكيف منعت منهما
قلت لم أمنع من العمل بهما في العمليات الظنيات وإنما منعت من أمرين أحدهما تبديل المطابقة بهما فكما أنه لا يجوز لك أن تقول أن الله حرم عظام الخنزير وشعره أعني لا يجوز أن تنسب ذلك إلى قول الله ونصه
بدلالة التضمن وهي أن هذه الأشياء بعض الخنزير الذي حرمه الله تعالى وهو متضمن لها وان كان لك أن تذهب إلى ذلك وتعمل فيه بمقتضى ما تضمنه على أن المنصوص من تحريمه هو لحمه لا جملته وثانيهما العمل بالتضمن والالتزام في الاعتقاد القاطع لأنهما غير قاطعين ولا ضرورة اليهما فيه ولخوف الفتنة وفتح أبواب الاختلاف والتفرق المنهي عنه
وقد روى البخاري ومسلم والنسائي حديث ابن عمران الجوني عن النبي اقرأوا القرآن ما أئتلفت عليه قلوبكم فاذا اختلفتم فقوموا عنه وشواهده كثيرة فهذا في القرآن المأمور بالاعتصام به كيف بما سواه
الامر الثاني مما يدل على جواز الخطأ على أهل العلم في الفهم والتعبير أنه اشتد اختلاف فطنائهم وأذكيائهم في تعريف الامور الظاهرة بالحدود الجامعة المانعة وقد تسمى الحقائق فانه قد علم شدة اختلافهم في ذلك وقدح بعضهم على بعض وعلم اجتهادهم في تحريرها وندور الحد الذي لا يعترض مع أن كثيرا من الامور التي يتعرضون لحدها يكون جليا واضحا كالعلم والخبر وقد اشتد الخلاف في تحديدهما كما ذكره ابن الحاجب في مختصر المنتهى وشراح كتابه وغيرهم وكذلك يختلف المتكلمون والنحاة والفقهاء في نحو ذلك فثبت أن المعبرين عن المعانى كالرماة للاغراض يقل منهم المصيب ومن يفوز من الاجادة بنصيب
بل قد وضح في كتاب الله تعالى اختلاف سليمان وداود عليهما السلام في الفهم كما مضى ونص موسى على أن أخاه هارون أفصح منه لسانا فاذا ثبت جواز الخطأ على العلماء في الفهم أولا ثم في التعبير عما فهموا ثانيا وكانوا قد اختلفوا في كثير من القرآن والسنة وعبر كل منهم بعبارة محدثة مبتدعة وقد رأيناهم متباعدي الفهم والاجادة في التعبير عن الجليات كالعلم والخبر مع جمع الخواطر على تنقيح العبارة في الحدود وحذف الفضلات واجتناب المجاز وقصد صحة الجمع لأوصاف المحدود والمنع من دخول غيره فيه والعناية التامة في تحرير الحد على جميع شرائطه المعروفة والحذر من قدح الاذكياء فيه بأدنى أمر يلمحه فطنهم الوقادة وقرائحهم النقادة فمع هذا الاحتراز الكثير وقع الخلل الكبير في
كثير من الجليات التي هي أفعالنا كالخبر أو صفاتنا الوجدانية كالعلم والوجود فكيف إذا وقع التعبير عن محارات العقول ومواقفها من أحكام القدم والقديم سبحانه ونعوت جلاله الاكبر الاعز الاعظم وسائر ما يتعلق به من الاسماء والاحكام ثم سائر دقائق الجواهر والاعراض وغوامض علم الكلام وما لم تعرف العقول منه إلا مجرد العبارات الرائعة والاشارات الغامضة في أسرار الاقدار والحكم الخفية وتأويل المتشابهات التي تفرد الرب سبحانه بعلمها على الصحيح والجمع بين المتعارضات والخوض في الممنوعات مثل كلامهم في الروح مع توقف النبي فيه ونزول القرآن بما يقتضي الكف عنه ورعا وأدبا وحياء من الله ورسوله حتى تجاسروا على تأويل الروح بغير دليل
ومنتهى الامر أن ما قالوه محتمل فمجرد الاحتمال لا يبيح الممنوع من غير يقين مع التساهل وعدم الاحتراز الذي ذكرناه في الحدود ومع اعتماد المجاز والاستعارات والتورية والاشارات في كثير من المواضع على أن الله تعالى قد حكى في كتابه من زجر الملائكة عن الخوض في بعض ذلك ما كان فيه كفاية وعبرة حيث تعرضوا عليهم السلام لمعرفة سر القدر في أمر واحد وهو خلق آدم وذريته بقولهم للملك العزيز العليم الحكيم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فقوبلوا من الخطاب بما لم يكن لهم في حساب حتى قيل لهم إن كنتم صادقين فيما خاطبهم به رب العالمين وأمرهم أن يكونوا لآدم ساجدين وكان إبليس بسبب تكبره عن ذلك من الكافرين وهذا كله بسبب خوضهم في السر الممنوع والامر المحجوب وكذلك موسى الكليم عليه أفضل الصلاة والتسليم وهو المقرب نجيا والوجيه عند الله نصا جليا لما تعرض لما ليس من شأنه من علم السر الذي هو تأويل المتشابه نزل إلى مقام السائل المحروم والمخطئ المكظوم وقطع على خطا الخضر عليهما السلام في موضع كان يجب عليه القطع فيه بتصويبه لما تقدم من أخبار الله تعالى له بأنه أعلم منه وسؤاله لقاءه وإجابته دعوته
وتبليغه بفضل الله إلى ذلك كل ذلك لما تعرض لسر التأويل وفي مثل ذلك قيل
وإن مقاما حار فيه كليمه ... ولم يستطع صبرا لخير العوالم
جدير بتحقيق عظيم وريبة ... من الوهم عند الجزم من كل عالم
وفي البيت الثاني تنبيه للمتكلمين وغيرهم على ما لم يزل الاكابر يقعون فيه من دعوى القطع واعتقاده من غير تحقيق فان موسى عليه السلام لولا اعتقد القطع بخطإ الخضر ما أنكر عليه
وكذلك قطع كثير من علماء الكلام على صحة أدلتهم الموجبة لتأويل كلام علام الغيوب بل هم دون الكليم المقرب الوجيه المعصوم بمسافات لا تدركها الخواطر ونسبة علم الله تعالى إلى علم جميع العالمين كما جاء في الصحيح مثل ما أخذه الطائر من البحر الزاخر
وما أحسن أدب البوني في قوله علم الخلائق في علم الله مثل لا شيء في جنب ما لا نهاية له والقصد أن من عرف منه الخطأ في الجليات فكيف يكون حاله متى خاض في هذه الخفيات وترك عبارات الحق الذي نص على أنها لا تبدل كلماته وانه لا معقب لحكمه وان كتابه لو كان من عند غيره لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وانه نور وشفاء وهدى لا ريب فيه فكيف تترك عبارات هذا المعجز الباهر وتبدل بعبارات من لا عصمة له عن الخطأ بل عن القبائح والكفر أعاذنا الله تعالى منه
ولقد تفاحش جهل أتباع المتكلمين ومقلديهم وغلوا في الدعاوى غلوا لم يسبقهم اليه غلاة قدمائهم وسباق كبرائهم فهذا أبو القاسم البلخي الكعبي إمام المعتزلة يقول في حق العامة هنيئا لهم السلامة هنيئا لهم السلامة ذكره في كتابه المقالات وقد عد العامة فرقة وحدهم فأصاب
وصنف محمد بن منصور كتاب الجملة والألفة في النهي عن تكفير المختلفين في أصول الدين وهو إمام التشيع للعترة وحتى أقوالهم وأفعالهم عليهم السلام على ذلك وأنه مذهب من أدرك من المعتزلة كالجعفرين
وطول في ذلك ذكره صاحب الجامع الكافي في آخر الجزء السادس وهذا العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي مع توغله في علم الكلام يقول
تاه الانام بأسرهم ... فاليوم صاحي القوم عربد
والله ما موسى ولا ... عيسى المسيح ولا محمد
عرفوا ولا جبريل وهو إلى محل القدس يصعد ...
من كنه ذاتك غير أنك واحد في الذات سرمد ...
عرفوا اضافات ونفيا والحقيقة ليس توجد ...
فليخسأ الحكماء عن ... حرم له الاملاك له سجد
من أنت يا رسطو ومن ... أفلاط مثلك يا مبلد
ومن ابن سينا حيث قرر ما هذيت به وشيد ...
هل أنتم إلا الفراش ... رأى السراج وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه ... ولو اهتدى رشدا لأبعد وفي ذلك يقول أيضا
فيك يا أغلوطة الفكر ... تاه عقلي وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ... ربحت الا عنا السفر
رجعت حسرى وما وقفت ... لا على عين ولا أثر
فلحى الله الاولى زعموا ... إنك المعلوم بالنظر
كذبوا إن الذي زعموا ... خارج عن قوة البشر
وله في هذا المعنى أشياء بليغة كثيرة ذكرها في شرح نهج البلاغة في شرح قول أمير المؤمنين عليه السلام وقد ذكر عجز العقول عن معرفة ذات الرب جل جلاله فقال عليه السلام في ذلك امتنع منها بها واليها حاكمها قال ابن أبي الحديد وهو قول لم تزل فضلاء العقلاء مائلين اليه ومعولين عليه أو كما قال
وقد استكثرت من كلامه على قدر تركي البسيط في هذا المختصر لمعارضة أصحابه المعتزلة بكلامه فانهم يعترفون بعلو مرتبته فيهم
فأما أهل السنة ومن ينسب إلى نصرتهم من المتكلمين فهم بذلك أشهر ومما قاله الفخر الرازي
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم
وأنشد الشهرستاني في ذلك في أول كتابه نهاية الاقدام في علم الكلام
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم
وصرح الغزالي بذلك في الاحياء وصنف فيه ولابن دقيق العيد فيه أبيات جيدة مع علو مرتبته في المعقولات والمنقولات
واشتهر عن الجنيد نفع الله به على علو مرتبته انه كان يقول ما يعرف الله إلا الله وجود الغزالي تفسير ذلك في مقدمات المقصد الاسنى وجود ذلك أيضا الزركشي في شرحه جمع الجوامع للسبكي ودع عنك هؤلاء كلهم فقد كفانا كتاب الله تعالى حيث يقول سبحانه ولا يحيطون به علما ولا أوضح من نص القرآن إذا أجير من التأويل بغير برهان وكيف نتأول ذلك وهذا رسول الله وآله وسلم وهو المبين لكتاب الله الواسطة المختارة بين الله وبين عباد الله يقول في هذا المقام سبحانك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال في حديث آخر تطاع ربنا فتشكر وتعصى فتغفر وتجيب المضطر وتكشف الضر ولا يجزى بآلائك أحد ولا يبلغ مدحك قائل هذا وهو أفصح وأعلم من ترجم عن ممادح ربه سبحانه وهو المؤتى في ذلك لجوامع الكلم وحسناها وأنفسها عند الله تعالى وأسناها وهو المخاطب بقول الله تعالى وعلمك
ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما فاعترف عليه السلام بقصور عبارته عن بلوغ المرام في هذا المقام فكيف سائر الانام
مرام شط مرمي الوصف فيه ... فدون مداه بيد لا تبيد
فان قيل كيف السبيل إلى المنع من التعبير بغير عبارة الكتاب والسنة وقد وقع التعبير في هذا الكتاب وغيره بذلك قلنا لم نمنع ذلك مطلقا إنما منعنا ذلك في مهمات الدين التي وضحت فيها عبارات الكتاب والسنة ودلت الادلة على انها منحصرة كما تقدم ولم تلجيء اليها ضرورة ولا اجتمعت شرائط اليقين في مطابقة العبارات عنها
والنكتة في ذلك منع ما يؤدي إلى الاختلاف المحرم وتمييز ما يجب قبوله وهو عبارات القرآن والسنة عما لا يجب قبوله على الجميع وهو عبارات من ليس بمعصوم وليس يخالف في حسن هذا الاختيار مميز بعد فهم معناه والمقصود به وقد يجمع بين عبارة الكتاب والسنة وعبارة أهل المعقولات إذا كان معناهما واحدا جليا لا يؤدي إلى مفسدة ولا إلى اختلاف ولكن ليكون الجمع بينهما أظهر في وضوح المعنى وتجليه لاهل العلوم المعقولات والمنقولات جميعا وآنس لهم حيث اجتمعت عباراتهم على معنى متداول متفق عليه بين أهل المعارف من أئمة الفنون كلها كما نذكره في مسألة الارادة من التعبير عن حكمة الله تعالى في المتشابه لغرض العرض تارة وبالمراد الأول تارة وبالخير المحض تارة وبالغايات الحميدة تارة وتأويل المتشابه والداعي والحكمة وداعي الحكمة وأمثال ذلك والله الهادي
فهذا الكلام انسحب على من التهى عن ترك عبارات الكتاب والسنة وتولى من لم يعصم للتعبير عنهما وما يجر ذلك من الخطأ وتوسيع دائرة الاختلاف المحرم وان ذلك أدى إلى غموض الحق وخفائه وزاد الحق غموضا وخفاء أمران
أحدهما خوف العارفين مع قلتهم من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن واجماع أهل الاسلام وما زال الخوف مانعا من اظهار الحق ولا برح المحق عدوا لاكثر الخلق
وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول حفظت من رسول الله وعاءين أما أحدهما فبثثته في الناس وأما الآخر فلو أبثه لقطع هذا البلعوم وما زال الأمر في ذلك يتفاحش وقد صرح الغزالي بذلك في خطبة المقصد الاسنى ولوح بمخالفته أصحابه فيها كما صرح بذلك في شرح الرحمن الرحيم فأثبت حكمة الله ورحمته وجود الكلام في ذلك وظن أنهم لا يفهمون المخالفة لان شرح هذين الاسمين ليس هو موضع هذه المسألة ولذلك طوى ذلك واضرب عنه في موضعه وهو اسم الضار كما يعرف ذلك أذكياء النظار
وأشار إلى التقية الجويني في مقدمات البرهان في مسألة قدم القرآن والرازي في كتابه المسمى بالاربعين في أصول الدين في الكلام على تأثير الوصف العدمي في دليل الاكوان وصرح بالمخالفة في ذلك في المحصول في باب القياس لأنهم يتسامحون في المخالفة في الاصول الفقهية دون الاصول الدينية وتراه يشير في نهاية العقول الاشارة الخفية الى مخالفتهم كما صنع في دليل الاكوان بعد الاحتجاج في تماثيل الاجسام على ان الجسمية أمر مشترك حيث قال وفي هذا الكلام نظر لم يزد على هذا وقد أشار الى انه راجع الى أن ما لا دليل عليه يجب نفيه وقد بالغ في بطلانه كما أوضحته في العواصم وقد طول في مقدمات النهاية في ابطال هذه الطريقة فتأمل أمثال ذلك منه
وفي صحيح البخاري باب كيف يقبض العلم وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم انظر ما كان من حديث النبي فأكتبه فانى أخاف دروس العلم وذهاب العلماء ولا يقبل إلا حديث النبي وليفشوا العلم وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فان العلم لا يهلك حتى يكون سرا وأورد فيه حديث ابن عمر مرفوعا ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد وإنما يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
قال ابن بطال معنى قوله ان الله لا ينتزع العلم من العباد انه لا يهب لهم العلم ثم ينتزعه بعد أن تفضل به عليهم وانه يتعالى عن ان يسترجع ما وهب لهم من علمه الذي يؤدي إلى معرفته والايمان به وانما يكون قبض
العلم بتضييع العلم فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى وقد أنذر E بنقص الخير كله وما ينطق عن الهوى
وثانيهما الاعتماد على الكتابة في حفظ العلم فانه أدى إلى كتم أهل العلم لكثير من مصونه في أول الأمر ثم لمهمات الدين في آخره وكان العلم في أول الأمر يبذل من أهله لأهله مشافهة ولو سرا وذلك النقص وهو محفوظ في الصدور غير مبذول لأهل الشرور في السطور فلما قل الحفظ وطال الأمر وكتب ليحفظ وتعذرت الصيانة وخيف العدوان من أعداء أهل الايمان كتم بعضهم فلم يظهر علمه فازداد النقص واتقي بعضهم فتكلم بالمعاريض الموهمة للباطل خوفا على نفسه ورمز بعضهم فغلط عليه فيما قصده في رمزه فتفاحش الجهل وقد أوضحت كثرة الغلط فيما أريد بيانه كيف لا فيما أريد كتمانه وما لا يجوز تفسيره إلا لمن علم من صاحبه مراده بالنص فلما كثرت أسباب غموض الحق وجب الرجوع في أصله الذي ضمن الله حفظه حيث قال انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وان يبتغي من حيث ابتغاه خليل الله عليه السلام حيث قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين كما نص على ذلك معاذ رضي الله عنه حيث قال وأوصى به عند موته كما رواه الترمذي والنسائي معافى المناقب والحاكم في الفتن من المستدرك وصححه على شرط مسلم وهذا لفظه مختصرا عن زيد بن عمير أنه كان عند معاذ حين احتضر فكان يغشي عليه ثم يفيق حتى غشي عليه غشية ظننا انه قد قبض فيها ثم أفاق وأنا مقابله أبكى فقال ما يبكيك قلت أبكي على العلم والحلم الذي أسمع منك يذهب قال فلا تبك فان العلم والايمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما فابتغه حيث ابتغاه إبراهيم عليه السلام فانه سأل الله وهو لا يعلم وتلا إني ذاهب إلى ربي سيهدين أه ونحو ذلك ما وهب الله من اليقين والفوز العظيم لأهل الكهف وكذلك السحرة الذين آمنوا بموسى من غير طول نظر وقد غلل الله قبول النصارى للحق بان منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق
فمن أراد احياء هذه السنة واتباعها خلع قيود عصبيات المذاهب ورسوم عوائدهم وترك التقليد في تكفير الخصوم وترك جميع العبارات المبتدعة وأخلص لله والتجأ اليه وتضرع وتورع وتذلل وتواضع واستأنف طلب العلم النافع من الله بواسطة أهل الورع والتواضع والانصاف من علماء الطوائف كلها ولم يقلدهم في دعاوي التفسير لكتاب الله تعالى وصحيح السنة حيث يختلفون حتى ينظر بتفهم وانصاف أيهم أقوى دليلا وأوضح سبيلا مؤمنا بالله موقنا بمعونته وهدايته وصدق وعده حيث قال سبحانه ومن يؤمن بالله يهد قلبه وحيث قال على لسان رسوله ومن أتاني يمشي أتيته أسعى ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت اليه باعا فاذا علمنا على ذلك لوجه الله وتعاونا عليه لله وبالله نظرنا في نصوص كتاب الله وصحيح سنة رسول الله فان وضح الحق من غير دقة وغموض ولا تعارض بين النصوص ولم يجب التأويل بامر بين جلي مأمون الخطر باجماع أو ضرورة فلا معدل عن كتاب الله وسنة رسول الله وآله وان وقع التعارض المحقق وسعنا الوقف في ذلك ووكلنا علمه إلى الله تعالى امتثالا لقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وان كان التعارض غير محقق وانما هو اختلاف يمكن فيه الجمع جرينا على القواعد الصحيحة المجمع عليها في الجمع بين المختلفات وتركنا من حاد عنها بالمعاذير الخفية
وهذه القواعد هي مثل تقديم النص على الظاهر المحتمل والخاص على العام والمبين على المجمل والمعلوم على المظنون والمتواتر على الآحاد والناسخ على المنسوخ والمشهور على الغريب والصحيح على الضعيف والمتفق على صحته على المختلف في صحته وكلام أئمة كل فن على من خالفهم ممن لا يعرف ذلك الفن أو يعرف منه اليسير ولا يعرف ما عرفوه فان الأمر في ذلك كما قيل ليس العارف كالبارع في المعرفة وشتان ما بين ليلة المزدلفة وليلة عرفة وكذلك نرجع في شروط ذلك كله إلى الأدلة المقبولة
فان قيل لابد من تفسير الكتاب والسنة بغير الفاظهما وقد منعتم من
العبارات المبتدعة قلنا لم نمنع من ذلك مطلقا إنما منعنا منه حيث يضر ويستغني عنه بعبارات الكتاب والسنة الجليلة التي لا تحتاج إلى تفسير كما تقدم وأما التفسير فما كان من المعلومات بالضرورة من أركان الاسلام واسماء الله تعالى منعنا تفسيره لأنه جلي صحيح المعنى وإنما يفسره من يريد تحريفه كالباطنية الملاحدة وما لم يكن معلوما ودخلته الدقة والغموض فان دخله بعد ذلك الخطر وخوف الاثم في الخطأ مما يتعلق بالعقائد تركنا العبارات المبتدعة وسلكنا طريق الوقف والاحتياط إذ لا عمل يوجب معرفة معناه المعين وان لم يدخل فيه الخطر عملنا فيه بالظن المعتبر المجمع على وجوب العلم به أو جوازه والله الهادي
فصل في الارشاد إلى طريق المعرفة لصحيح التفسير
وأصح التفاسير عند الاختلاف بطريق واضح لا يشك أهل الانصاف في حسن التنبيه عليه والاشاد اليه
اعلم ان كتاب الله تعالى لما كان مفزع الطالب للحق بعد الايمان وكان محفوظا كما وعد به الرحمن ودخل الشيطان على كثير من طريق تفسيره وعدم الفرق بين التفسير والتحريف والتأويل والتبديل ولو كان لكل مبتدع ان يحمله على ما يوافق هواه بطل كونه فرقا بين الحق والباطل وقد ثبت انه يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق وهذا لا يتم إلا بحراسته من دعاوى المبطلين في تصرفاتهم واحتيالهم على التشويش فيه ولبس صوادعه وقواطعه بخوافيه وهذه هذه فليهتم المعظم له بمعرفتها ويتأملها حق التأمل ويتعرف على أسبابها ممن قد مارسها وقد أوضحتها فيما تقدم من هذا المختصر وذكرت الصور الابع التي يغلط فيها كثير من المتكلمين في اعتقاد وجوب التأويل بسببها أو بعضها فتأملها وجود النظر في ذلك الفصل الذي ذكرتها فيه
فاذا عرفت ذلك فلا غنى عن معرفة مراتب المفسرين حيث يكون التفسير راجعا إلى الرواية ثم مراتب التفسير حيث يكون التفسير راجعا إلى الدراية
أما مراتب المفسرين فخيرهم الصحابة رضي الله عنهم لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة ولان القرآن أنزل على لغتهم فالغلط أبعد عنهم من غيرهم ولانهم سألوا رسول الله وآله عما أشكل عليهم وأكثرهم تفسيرا حبر الامة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وقد جمع
عنه تفسير كامل ولم يتفق مثل ذلك لغيره من الصدر الأول الذين عليهم في مثل ذلك المعول ومتى صح الاسناد اليه كان تفسيره من أصح التفاسير مقدما على كثير من الائمة الجماهير وذلك لوجوه أولها أن رسول الله وآله دعا له بالفقه في الدين وتعليم التأويل أي التفسير كما تقدم تقريره في الكلام على المتشابه وصح ذلك واشتهر عن رسول الله وله طرق في مجمع الزوائد وقال الحافظ أبو مسعود في أطرافه انه مما أخرجه البخاري ومسلم بكماله وفيهما من غير طريق أبي مسعود عند سائر الرواة اللهم علمه الكتاب والحكمة وفي رواية اللهم فقهه في الدين وفي رواية الترمذي أنه رأى جبريل عليه السلام مرتين ودعا له النبي بالحكمة مرتين وينبغي معرفة سائر مناقبه مع ذلك في مواضعها ولولا خوف الاطالة لذكرتها
وثانيها أن الصحابة اتفقوا على تعظيمه في العلم عموما وفي التفسير خصوصا وسموه البحر والحبر وشاع ذلك فيهم من غير نكير وظهرت إجابة الدعوة النبوية فيه وقصة عمر معه رضي الله عنهما مشهورة في سبب تقديمه وتفضيله على من هو أكبر منه من الصحابة وامتحانه في ذلك
وثالثهما كونه من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة وستأتي الاشارة إلى مناقبهم الغزيرة في آخر المختصر فيكون المعظم له والموفى له حقه في ذلك قد قام بحق الثقلين وعمل بالوصية النبوية فيهما
ورابعهما أنه ثبت عنه إن كان لا يستحيل التأويل بالرأي روى عنه أنه قال من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وفي رواية بغير علم رواه أبو داود في العلم والنسائي في فضائل القرآن والترمذي في التفسير وقال حديث حسن وشرطه فيما قال فيه حديث حسن ان يأتي من غير طريق
وخامسها أن الطرق اليه محفوظة متصلة غير منقطعة فصح منها تفسير نافع ممتع ولذلك خصصته بالذكر وإن كان غيره أكبر منه وأقدم وأعلم وأفضل مثل علي بن أبي طالب عليه السلام من جنسه وأهله وغيره من أكابر الصحابة رضي الله عنهم لكن ثبوت التفسير عنهم قليل بالنظر اليه رضي الله عنهم أجمعين
ثم المرتبة الثانية من المفسرين التابعون ومن أشهر ثقاتهم المصنفين في التفسير مجاهد بن جبر المكي وعطاء بن أبي رباح وقتادة بن دعامة والحسن البصري وأبو العالية رفيع بن مهران ومحمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم وكلهم مخرج عنهم الحديث في دواوين الاسلام الستة وغيرها والاسانيد اليهم بتفاسيرهم متصلة كما ذكره البغوي في أول تفسيره وغيره وقد نقم على بعضهم أشياء سهلة لكن ينبغي التيقظ لها عند التعارض والاختلاف فان مثلها يؤثر في الترجيح فينظر تراجمهم في تذكرة الذهبي وميزانه وأبسط منهما تهذيب شيخه المزي وكتابه النبلاء وأمثالها من كتب الرجال وتواريخ علماء الاسلام ويلحق بهؤلاء عكرمة مولى ابن عباس وهو دونهم لوقوع الخلاف فيه فان الخلاف فيه كثير بين الصدر الأول لكن أكثره راجع إلى اعتقاده لأنه كان ينسب إلى رأي الخوارج فيكون على ما يدل على مذهب الخوارج أضعف
وقد صنف جماعة في الذب عنه وجود ابن حجر في ذلك في مقدمة شرح البخاري لأن البخاري احتج به وأهل السنن والأكثرون وتجنبه الامام مالك ومسلم في صحيحه ثم بعده مقاتل بن حيان ومحمد بن زيد مهاجر احتج بهما مسلم وأهل السنن دون البخاري وتكلم فيهما بعضهم بغير حجة بينة ثم علي بن أبي طلحة وهو قريب منه احتج به مسلم وأهل السنن لكن قال أحمد له أشياء منكرات وقال الذهبي في الميزان وقد روي عن ابن عباس تفسيرا كثيرا ممتعا والصحيح عندهم أن روايته عن مجاهد عن ابن عباس وإن كان يرسلها عن ابن عباس فمجاهد ثقة يقبل وقد يعضد تفسيره وتفسير أمثاله بمفهومات من القرآن مثل تفسيره لتقدير يوم القيامة بخمسين الف سنة عن ابن عباس أنه في حق الكافر وذلك يعتضد بقوله تعالى وكان يوما على الكافرين عسيرا وبقوله تعالى على الكافرين غير يسير وبقوله تعالى يقول الكافرون هذا يوم عسر
وبأحاديث مرفوعة في ذلك منها ما رواه البغوي من طريق ابن ابي لهيعة عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد ومنها ما يأتي الآن في النوع الثالث من مراتب التفسير ثم السدي الكبير يروى عن ابن عباس وطبقته بعد هؤلاء وهو مختلف فيه وهو اسماعيل بن عبد الرحمن القرشي الكوفي وحديثه عند مسلم وأهل السنن الأربعة وهو تابعي شيعي وربما كان الكلام فيه لمذهبه عند من يخالفه وأما السدي الصغير محمد بن مروان عن الاعمش فواه جدا ومنهم محمد بن سليمان الانباري أحد مشايخ أبي داود ورواة سننه ومنهم عطية العوفي عن أبي سعيد فيه ضعف وكذلك محمد بن السائب الكلبي ومقاتل بن سليمان واهيان لا سيما مقاتل بن سليمان فقد كذبه غير واحد ولم يوثقه أحد واشتهر عنه التجسيم والتشبيه ولذلك لم يرو عنه من أهل الكتب الستة إلا النسائي قال كان لا يكذب يعني لا يتعمد الكذب وأثنى عليه بعضهم بمعرفة التفسير وأما الكلبي فروى عنه الترمذي وحده ولم يوثقه أحد
وكذلك تنبغي معرفة من جرح وكذب من متأخري المفسرين مثل أبي بكر محمد بن الحسن النقاش توفي عام 351
وإنما سقت لك ذكرهم لما قيل أن المفسرين أكثروا من حكاية الاقوال المختلفة والحق يضيع بين قولين فصاعدا فأرشدت إلى طرف من الترجيح عند الاختلاف وبقية المفسرين مذكورون في كتب الرجال ولكن المدار على من ذكرت في الأكثر فهذه مراتب المفسرين فيما يرجع من التفسير إلى الرواية
وأما مراتب التفسير فيما يرجع منه إلى الدراية فهي ترجع إلى سبعة أنواع النوع الأول تفسير المتكررات تكريرا كثيرا مثل آيات الاسماء الربانية والصفات والمشيئة والاسماء المعروفة بالدينية وهي الاسلام والإيمان والاحسان والمسلمون والمؤمنون والمحسنون وكذلك أسماء الظالمين والفاسقين والكافرين وسائر ما يتعلق بالاعتقاد ويحتاج إلى مزيد بحث وانتقاد مما تورد فيه الادلة والشبه والورود والمعارضات
وهذا القسم ينبغي أن يكون مفردا في مقدمات التفسير حتى يشبع فيه الكلام من غير تكرير أو يؤخذ من مظانه من كتب الاعتقاد على الصفة التي أشرت اليها في أول هذا المختصر في الانصاف ومعرفة أدلة الجميع وفي هذا المختصر من ذلك كفاية إن شاء الله تعالى وما هو إلا كالمقدمة للتفسير فان اشتبه الصواب على أحد في هذا القسم أو خاف وقوع فتنة من الخوض فيه والبحث عنه والمناظرة ترك ذلك وكفاه الايمان الجملي لما ثبت في حديث جندب بن عبد الله عن رسول الله أنه قال اقرأوا القرآن ما أتلفت عليه قلوبكم فاذا اختلفتم فقوموا عنه رواه البخاري ومسلم وغيرهما وله شواهد قدر خمسة عشر حديثا والمراد الاختلاف مع التعادي والتفرق كما هو عادة أهل الكلام دون الاختلاف مع التوالي والتصويب كما هو عادة الفقهاء وسائر أهل العلوم وذلك لما في حديث عمر مع هشام ابن حكيم في اختلافهما في القراءة وتقرير النبي لهما على الاختلاف في القراءة ونهيهما عن الاختلاف في التخطئة والمناكرة خرجه الجماعة وهو متواتر أو مشهور عند أئمة الحديث فقد رواه ثمانية عشر صحابيا وما تقدم من حديث جندب وشواهده مما هو زيادة بيان بعد قوله تعالى لا تفرقوا وأمثالها وهي كافية شافية مغنية عن الاحاديث لكن في اجتماع الكتاب والسنة قرة عيون المؤمنين وطمأنينة قلوب الموقنين وفي البخاري والنسائي عن ابن مسعود نحوه وقد أشار إلى هذا محمد بن منصور الكوفي وصنف فيه كتاب الجملة والالفة وذكره عن الكبراء من علماء العترة وغيرهم وأنكر على أهل الكلام ما اختصوا به من التعادي عند الاختلاف في الدقائق الخفية وهذا عارض هنا وليس هو موضعه
النوع الثاني تفسير القرآن بالقرآن وذلك حيث يتكرر في كتاب الله تعالى ذكر الشيء ويكون بعض الآيات أكثر بيانا وتفصيلا وقد جمع من هذا القبيل تفسير مفرد ذكره الشيخ تقي الدين في شرح العمدة ولم اقف عليه وقد يذكر المفسرون منه أشياء متفرقة فمنه تفسير قوله تعالى في سورة المؤمن وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم
بأنه العذاب الأدنى المعجل في الدنيا لقوله سبحانه في آخر هذه السورة فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون وقد تكرر هذا في كتاب الله تعالى ومنه تفسير فصل لربك وانحر بقوله تعالى إن صلاتي ونسكي ومحياي ونحو ذلك ومنه تفسير قوله تعالى ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما بأهل الكتاب كقول مجاهد لقوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن يضلوا السبيل ويقويه ان عصاة المسلمين لا يريدون فجور صالحيهم والآية وردت بضمير الغائب في المريدين وضمير الخطاب في المائلين فقوى ذلك ومنه تفسير من يعمل سوءا يجز به بقوله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير فقوله فيها ويعفو عن كثير مخصص لعموم من يعمل سوءا يجز به ومقيد لاطلاقها كأنه قال الا أن يعفو بدليل هذه الآية مثل ما انها مخصصة بآيات التوبة فانه مقدر فيها إلا أن يتوبوا بالاجماع وبالنصوص في التائبين وهذه الآية دالة على اشتراط عدم العفو وعلى اعتبار مصائب الدنيا في عذاب المسلمين ووعيدهم كما دل على ذلك حديث علي عليه السلام في تفسيرها وحديث أبي بكر رضي الله عنه في تفسير من يعمل سوءا يجز به ولذلك طرق شتى وفيه أحاديث كثيرة مجمع على معناها وأحاديث الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو وطرقه صحيحة كثيرة كما يأتي في مسألة الوعد والوعيد
ومنه حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص كنفي الخلة والشفاعة في آية مطلقا وقد استثنى الله المتقين من نفي الخلة في قوله تعالى الأخلاء
يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين واستثنى ما أذن فيه من الشفاعة بقوله في آية من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى
ومنه الجمع بين ما يتوهم أنه مختلف كخلق بني آدم من تراب كما في الكهف ومن طين في غير آية وهو تراب مختلط بالماء ففيه زيادة على التراب المطلق وكذلك خلقه من صلصال فانه أخص من الجميع لأنه طين مخصوص ومنه تقديم المنطوق على المفهوم وأوجب منه تقديم تفصيل القول المنطوق على عموم المفهوم لأن الخاص يقدم على العام المنطوق فكيف لا يقدم على عموم المفهوم
النوع الثالث التفسير النبوي وهو مقبول بالنص والاجماع قال الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال لتبين للناس ما نزل إليهم وفي الحديث لا يأتي رجل مترف متكئ على أريكته يقول لا أعرف إلا هذا القرآن ما أحله أحللته وما حرمه حرمته إلا واني أوتيت القرآن ومثله معه ألا وان الله حرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ويدل على ذلك أن الاجماع قد انعقد على نسخ وجوب الوصية للوارثين بحديث لا وصية لوارث وهو حديث حسن وإذا وجب قبول ذلك في نسخ فريضة منصوصة فيه فكيف بسائر البيان والتخصيص وقبوله في نسخ وجوب الوصية اجماع العترة والأمة
وقد اشتملت على ذلك الصحاح والسنن والمسانيد وجمع بحمد الله تعالى وجمعت منه الذي في جامع الاصول ومجمع الزوائد ومستدرك الحاكم أبي عبد الله ويلحق بذلك أسباب النزول وقد أفرده الواحدي وغيره بالتأليف وهو مفيد جدا لأن العموم الوارد على سبب مختلف في تعديه عن سببه وهو نص في سببه ظني في غيره وقد يقصر عليه بالاجماع كما ثبت في قوله تعالى في ذم الذين يفرحون بما أتوا عن ابن عباس أنها نزلت في اليهود وفرحهم بما أتوا من التكذيب بالحق فلولا ذلك أشكلت وتناولت من فرح
بما عمله من الخير وقد صح أن المؤمن من سرته حسنته وساءته سيئته والفرح بالخير والطاعة من ضروريات الطباع والعقول
ومنه تفسير والفتنة أشد من القتل سببها وهو فتنة من أسلم حتى يعود إلى الشرك ولولا ذلك وقع الغلط الفاحش في مواضع كثيرة ومنه تخصيص العمومات مثل تحريم الصلاة على الحائض وسائر ما في السنن من أحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج وشروط قطع السارق ونحو ذلك واستيعابه في التفاسير غير معتاد
ومنه تقديم ذوي السهام على العصبات ومنع الكافر من ميراث المسلم وعكسه واسقاط الأقرب للأبعد من العصبات والاقوى للأضعف
ومنه الجمع بين آيتي الكلالة فان الاولى في الاخوة من الام والاخرى فيمن عداهم وأمثال ذلك مما لا غنى عنه ولابد ولا خلاف فيه
ومنه الزيادة في البيان كصلاة الخوف والبغوي مكثر من هذا وهو أمر مجمع عليه ودليل على المبتدعة حيث يمنعون من بيان السنة للقرآن
ومنه ما يتقوى بالشواهد ومفهومات من القرآن كحديث أبي سعيد في تخفيف طول يوم القيامة على المؤمن كما تقدم الان من رواية البغوي وقد أخرجه أحمد وأبو يعلى بسند البغوي المقدم وحسنه الهيثمي لشواهده وذكر مثله عن أبي هريرة وابن عمر وبسندين جيدين وعن ابن عمرو أيضا باسناد فيه رجل لم يعرف وقد تقدمت شواهده من القرآن
النوع الرابع الآثار الصحابية الموقوفة عليهم وأجودها ما لا تمكن معرفته بالرأي سواء رجعنا بالرأي إلى العقل أو إلى الاستنباط من اللغة وقد كانت عادتهم الاشعار بالرأي في ذلك وأمثاله كما ذكره أبو بكر رضي الله عنه حين فسر الكلالة برأيه ذكره البغوي وغيره
وقد ذكر السيد أبو طالب عليه السلام في المجزى ان عادتهم الاشعار بالرأي فاذا جزموا بالتحريم ونحوه كان دليلا على رفعه وكذلك ذهب كثير من المفسرين إلى مثل ذلك في تفاسيرهم المجزومة لا سيما من ثبت عنه تحريم
التفسير بالرأي كابن عباس رضي الله عنه ولذلك اشتملت على هذا النوع من تفاسيرهم تفاسير أهل السنة لكن يحتاج إلى معرفة الاسناد اليهم فيما لم يكن مصححا عنهم في دواوين الاسلام الصحيحة المشهورة ومن مظان ذلك المستدرك للحاكم ففيه من ذلك الكثير الطيب وقد نقلته بحمد الله مع التفسير النبوي
النوع الخامس ما يتعلق باللغة والعربية على جهة الحقيقة فأما المتعلقات اللغوية فهي جلية وقد صنف فيها مصنفات مختصرة على جهة التقريب مثل كتاب العزيزي وليس فيه تنقيح كثير وأوضح منه وأخصر كتاب أبي حيان في ذلك لكنه ربما أهمل بعض ما يحتاج اليه والمعتمد في ذلك كتب اللغة البسيطة دون ما يؤخذ من كثير من المفسرين كما ذكره أبو حيان في أول كتابه ونبه عليه
وأما العربية فقد جود أبو حيان في ذلك وجمع الذي في تفسيره فجاء كتابا جيدا مستقلا وهو المعروف بالمجيد في اعراب القرآن المجيد وقد اشتمل على ما في الكشاف مع زيادة أضعافه وينبغي التنبيه في هذا النوع لتقديم المعروف المشهور على الشاذ وتقديم الحقيقة الشرعية ثم العرفية ثم اللغوية ومعرفة المشترك لما فيه من الاجمال وأخذ بيانه من غيره كتفسير عسعس بادبر لان عسعس مشترك بين اقبال الليل وادباره وقد قال الله تعالى والليل إذ أدبر وفي قراءة إذا أدبر فدل على ان أفضل الليل السحر كما دلت على هذا أشياء كثيرة فيفسر بذلك عسعس وان كان مشتركا ويتفطن هنا لامور
أحدها الحذر من تفسير المشترك بكلا معنييه كتفسير عسعس بأول الليل وآخره كما توهم مثل ذلك في الالفاظ العامة فانه لم يتحقق ورود اللغة بذلك ولذلك لم يقل أحد باعتبار ثلاث حيض وثلاثة أطهار جميعا في العدة لما كانت القروء مشتركة
وثانيها معرفة ما يظن انه حقيقة وهو مجاوز من مظانه كتاب أساس
البلاغة للزمخشري فانه جود القول فيه بل لا أعلم أحدا بين ذلك كما بينه ولذلك قيل انه من روائع مصنفاته وبدائع مخترعاته فاذا عرفت حقيقة الكلمة ومجازها لم يفسر فيهما معا أيضا
وثالثها الفرق بين دلالة المطابقة والتضمن والالتزام فالمطابقة هي اللغوية دونهما وهي دلالة اللفظ على معناه الموضوع له كدلالة غسل أعضاء الوضوء عليها جملة وان دل اللفظ على جزء المعنى فهو التضمن كدلالة آية الوضوء على غسل العين لانها بعض الوجه وما تحت الاظفار والخاتم لانه بعض اليد وان دل اللفظ على لازم ما وضع له فدلالة الالتزام كدلالة آية الوضوء على وجوبه وهما عقليتان فيقدم عليهما ما عارضهما مما هو أرجح منهما من الدلائل اللفظية على حسب القوة ألا تراهم رجحوا دلائل رفع السر والحرج على دلالة غسل العين من الوجه وكذلك اختلفوا فيما تحت الاظفار والخاتم لذلك
النوع السادس المجازي وتعتبر فيه قرائن المجاز الثلاث الموجبات للعدول اليه ولا حرم القول به والعدول اليه الاولى العقلية التي يعرفها المخاطب والمخاطب كقوله واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها أي أهملهما ومنه جناح الذل و جدارا يريد أن ينقض وهو كثير وليس هو من المتشابه بل تعرفه أجلاف العرب الثانية العرفية مثل يا هامان ابن لي صرحا أي مر من يبني لان مثله في العرف لا يبني الثالثة اللفظية نحو مثل نوره فانها دليل على أن الله غير النور يهدي الله لنوره من يشاء فانها دليل على أن المراد نور الهدى ويتيقظ هنا لما كان من جنس تأويل الباطنية فيرد وان صدر من غيرهم فقد كثر جدا
وأما الدعوى الباطلة تجردها عن أحد هذه القرائن وأما ما يدعيه أهل الكلام من الادلة التي لم يتفقوا على صحة دليل واحد منها فلا يجوز
تقليدهم في ذلك لا عندهم ولا عند غيرهم بل يجب البحث التام أو الامساك عن التأويل حتى يقع الاجماع كما مر موضحا
ومن العقلي الجلي المجمع عليه تخصيص وأوتيت من كل شيء على ما يناسب ملوك البشر من المعتاد في الدنيا دون العالم العلوي وأمور الآخرة والملائكة والنبوة ونحو ذلك
النوع السابع ما لم يصح فيه شيء من جميع ما تقدم ويختلف فيه أهل التفسير وأهل العلم مثل تفسير الحروف التي في فواتح السور وتفسير الروح ونحو ذلك مما لم يصح دليل لنا على تفسيره ولا معنا ضرورة عملية تلجئ إلى وجوب البحث عنه وقد يرتكب فيه مخالفة الظواهر ويبتني على أسباب مختلف في صحتها فالحزم الوقف فيه لما تقدم من حديث ابن عباس في وعيد من فسر القرآن برأيه وعن جندب مثله رواه أبو داود والترمذي وأوضح منهما قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم
وهذا النوع السابع قسمان
قسم فيه مخاطرة كبيرة وخوف البدعة والعذاب وهو ما يتعلق بذات الله تعالى ونحوه من المتشابهات وقد تقدم القول فيه في هذا المختصر وقد بسطته في ترجيح أسباب القرآن على أساليب اليونان وقسم دونه مثل تعيين الشجرة التي أكل منها آدم واسمها وأسماء أهل الكهف وأسماء سائر المبهمات وتطويل القصص والحكايات فهذا لا بأس بنقله مع بيان انه لم يصح فيه شيء وعدم تعلق مفسدة به ولا دخول شبهة في تحليل أو تحريم والله سبحانه أعلم
وأما التأويلات التي يدعى الاجماع على وجوبها سواء كانت من اجماع الامة أو العترة فاعلم أن الاجماعات نوعان أحدهما تعلم صحته بالضرورة من الدين بحيث يكفر مخالفه فهذا اجماع صحيح ولكنه مستغنى عنه بالعلم الضروري من الدين وثانيهما ما نزل عن هذه المرتبة ولا يكون الا ظنا لانه ليس بعد التواتر الا الظن وليس بينهما في النقل مرتبة قطعية بالاجماع وهذا هو حجة من يمنع العلم بحصول الاجماعات بعد انتشار الاسلام كما
نص عليه الامام المنصور بالله في مجموعه والامام يحيى بن حمزة في المعيار والرازي وغيرهم بسطته في غير هذا الموضع
وهذا آخر القول في القسم الاول من هذا المختصر وهو في ذكر المقدمات العامة الجميلة ولو أفرد لاستقل بنفسه كتابا مفيدا ويتلوه القسم الثاني وهو الكلام في المبهم من المسائل التفصيلية المختلف فيها بين أهل الاسلام وذكر طرف صالح مما فيها من المباحث السمعية القريبة التي لا خطر في النظر فيها ولا غنى لاهل المرتبة الوسطى عن معرفة مثلها لتقر عقائدهم إذ يستحيل من أهل هذه المرتبة أن يطمأنوا إلى التقليد المحض وإنما يطمئن اليه من لم يدر قط ما لتقليد ولا دري انه مقلد ومعظمها مهان
المهم الأول مقام معرفة كمال هذا الرب الكريم وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى وذلك من تمام التوحيد الذي لابد منه لان كمال الذات باسمائها الحسنى ونعوتها الشريفة ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم ولذلك عد مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها من أعظم مكائدهم للاسلام فانهم عكسوا المعلوم عقلا وسمعا فذموا الامر المحمود ومدحوا الامر المذموم القائم مقام النفي والجحد المحض وضادوا كتاب الله ونصوصه الساطعة قال الله جل جلاله ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه وقال سبحانه وتعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى فما كان منها منصوصا في كتاب الله وجب الايمان به على الجميع والانكار على من جحده أو زعم ان ظاهره اسم ذم لله سبحانه وما كان في الحديث وجب الايمان به على من عرف صحته وما نزل عن هذه المرتبة أو كان مختلفا في صحته لم يصح استعماله فان الله أجل من ان يسمى باسم لم يتحقق انه تسمى به
وعادة المتكلمين أن يقتصروا هنا على اليسير من الأسماء ولا ينبغي
ترك شيء منها ولا اختصاره فان ذلك كالاختصار للقرآن الكريم ولو كان منها شيء لا ينبغي اعتقاده ولا ذكره ما ذكره الله تعالي في القرآن العظيم
وعادة بعض المحدثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها مع الاختلاف الشهير في صحته وحسبك ان البخاري ومسلما تركا تخريجه مع رواية أوله واتفاقهما علي ذلك يشعر بقوة العلة فيه كما أوضحته في العواصم ولكن الاكثرين اعتمدوا ذلك تعرضا لفضل الله العظيم في وعده من أحصاها بالجنة كما اتفق علي صحته وليس يستيقن احصاؤها بذلك الا لو لم يكن لله سبحانه اسم غير تلك الاسماء فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصي بطل اليقين بذلك وكان الاحسن الاقتصار علي ما في كتاب الله وما اتفق علي صحته بعد ذلك وهو النادر كما يأتي
وقد ثبت أن أسماء الله تعالي أكثر من ذلك المروي بالضرورة والنص أما الضرورة فان في كتاب الله أكثر من ذلك كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالي وأما النص فحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول وآله وسلم أنه قال ما قال عبد أصابه هم أو حزن اللهم اني عبدك وابن عبدك وابن امتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي الا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكان حزنه فرحا رواه أحمد وأبو عوانة في صحيحه وهذا اسناد أحمد قال ابن الجوزي في الحديث الاربعين من مسند ابن مسعود من جامع المسانيد أخبرنا يزيد ابن هارون انا فضيل بن مرزوق أنا أبو سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله ابن مسعود بالحديث وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه أحمد وأبو يعلا والبرار ورجال أحمد وأبي يعلا رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان والقاسم هذا هو ابن عبد الرحمن بن عبد الله ابن مسعود وليس هو الدمشقي المختلف فيه بل هو ثقة لم يتكلم عليه وهو من رجال البخاري وأهل السنن ولم يذكره الذهبي في الميزان إلا للتمييز بينه وبين
المختلف فيه وكذلك لم يذكره ابن حجر فيمن انتقد على البخاري وأبوه عبد الرحمن من رجال الجماعة متفق عليه الا أن سماعه من أبيه ليس بمشهور فحديثه عنه في السنن الأربع وقال ابن معين والمزي قد سمع من أبيه ومن علم حجة على من لم يعلم وأبو سلمة هو الجهني وثقة ابن حبان ولم يذكره في الميزان وعدم ذكره في الميزان دليل على ثقته لا سيما مع تصحيح أبي عوانة للحديث وبقيتهم رجال الصحاح فثبت هذا الحديث
وثبت ان حصر الاسماء التسعة والتسعين لا ينال الا بتوفيق الله تعالى كساعة الاجابة يوم الجمعة لانها مجملة في أسماء الله فلنذكر هنا ما وجدناه منصوصا من الأسماء في كتاب الله باليقين من غير تقليلد فانها أصح الأسماء وأحبها إلى الله تعالى حيث اختارها في أفضل كتبه لا فضل أنبيائه والذي عرفت منها إلى الآن بالنص صريحا دون الاشتقاق في القرآن مائة وخمسة وخمسون غير الممادح السلبية كما سيأتي وفيها اسم واحد بالمفهوم المعلوم وهو الاعز ذكره ابن حجر في تلخيصه ولم أجده بنصه فذكرته فيها ولم أحسبه في العدد المذكور وهو أخذه من قوله تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين جوابا على قول المنافقين ليخرجن الاعز منها الأذل وهي هذه وهي الاعتقاد متى سأل عنه سائل
هو الله الذي لا إله إلا هو الا له الصمد الواحد الاحد الرحمن الرحيم ذو الرحمة الواسعة أرحم الراحمين خير الراحمين العفو الغفور الغافر الغفار واسع المغفرة أهل التقوى وأهل المغفرة خير الغافرين الحاكم الحكم الحكيم الاحكم أحكم الحاكمين خير الحاكمين العالم العليم الاعلم علام الغيوب الرب البر الواسع الموسع الملك المليك المالك مالك الملك الرازق الرزاق خير الرازقين الخالق الخلاق أحسن الخالقين الناصر نعم النصير خير الناصرين الحافظ الحفيظ خير الحافظين الناصر نعم النصير خير الناصرين الحافظ الحفيظ خير الحافظين القوي الاقوى ذو القوة المتين العلي الاعلى المتعال القادر القدير المقتدر نعم القادر العزيز الاعز الشاكر الشكور قابل التوب التواب المجيب القريب
الاقرب الحي القيوم القائم على كل نفس بما كسبت الفاعل الفعال لما يريد الوارث خير الوارثين الكريم الاكرم فالق الاصباح فالق الحب والنوى العظيم الاعظم الولي نعم المولى الشاهد الشهيد الكبير الاكبر القاهر القهار نعم القادر نعم الماهد الكفيل نعم الوكيل المستمع السميع البصير البديع الرؤوف الحليم الرشيد السريع المبين الخبير المبرم الغني الحميد المجيد الوهاب الجامع المحيط الكافي الحسيب الحاسب المقيت الرقيب كاشف الضر الفاطر الكاتب المبتلي اللطيف الصادق الحق الودود الحفي المستعان الفاتح الفتاح نور السموات والأرض الهادي رفيع الدرجات الرافع المنتقم الزارع المنزل المنشئ الاول الآخر الظاهر الباطن القدوس السلام المؤمن المهيمن الجبار المتكبر البارئ المصور مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي جاعل الليل سكنا المنذر المرسل خير الفاصلين أسرع الحاسبين خير المنزلين عدو للكافرين ولي المؤمنين خير الماكرين المتم نوره الغالب على أمره البالغ أمره ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل العظيم ذو العرش العظيم ذو الانتقام ذو الجلال والاكرام انتهى ما عرفته من الاسماء الحسنى نفعنا الله بها وببركاتها وهي مائة ونيف وخمسون
وقد تركت التكرار فاكتفت باسم الرب عن رب كل شيء ورب العالمين ورب العزة ورب العرش العظيم ورب الملائكة والروح واكتفيت بالواسع عن واسع المغفرة وواسع كل شيء رحمة وعلما ونحو ذلك وتركت ما كان من صفات أفعاله وأسمائه مثل شديد العقاب وسريع الحساب ونحو ذلك لأنه لم يسم نفسه بها ولا علمت أحدا عدها في أسمائه بل عدت في أفعاله سبحانه وتعالى لأنه لا فرق في المعنى بين قوله إن الله شديد العقاب وبين قوله إن عذاب الله لشديد فتأمل ذلك
وذكر الغزالي في المقصد الاسى أن ما كان يطلق على العباد من أسمائه تعالى على جهة الحقيقة مثل الزارع والكاتب لم يطلق على الله مجرد بل يطلق حيث أطلقه على لفظه مع ما يتعلق به من السياق وهذا حيث يخاف اللبس
والتشبيه واجب وحيث يؤمن أدب حسن واحتياط جيد والله سبحانه أعلم
وقد يدق على بعض الناس كون بعضها في القرآن كالكفيل لأنه مأخوذ من قوله وقد جعلتم الله عليكم كفيلا وكالرافع من قوله ورافعك إلي والهادي من قوله لهاد الذين آمنوا ونحو ذلك وكالمبرم لأنه لم يذكر فيه مفردا إنما ذكر بصيغة الجمع في قوله أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون وكذلك الموسع والمنزل قال تعالي وإنا لموسعون وقال أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن الزارعون وكذلك الزارع في قوله تعالي أأنتم تزرعونه أم نحن المنزلون والمبتلي في قوله تعالي وإن كنا لمبتلين ونحو ذلك وكفي بنا حاسبين وإنا لصادقون إنا معكم مستمعون وإنا له كاتبون وهو وليهم أنت ولينا وكذلك الاقرب إنما وجدته في قوله تعالي ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وقد ذكرت القادر مرتين وليس تكرارا بل القادر الاول من القدرة ولذلك ذكرته مع القدير والمقتدر والقادر الثاني من التقدير وذلك نحو قوله تعالي فنعم القادرون وقد ذكرت فيها مخرج الحي من الميت وهو في القرآن بالياء المثناة من تحت لوجهين احدهما إني ذكرت مخرج الميت من الحي وهو في القرآن بالميم ولم أستحسن فرقة من صاحبه وملازمة خاصة
وهو أبهر منه وأكبر وأعظم مدحا وأكثر وثانيهما أن لفظ مخرج قد ثبت في القرآن ولم أرد الا اضافته إلي ذلك المدح الباهر والثناء الفاخر
وينبغي أن يختمها الداعي بها بحديث ابن مسعود المقدم لعمومه لما لم يذكر ومما ينبغي تلاوته لمن تعرض لرحمة الله سبحانه في فضل احصاء التسعة والتسعين اسما الحروف المقطعة في أوائل السور احتياطا لأنه قد قيل أنها أسماء الله تعالي أو رمز إلي اسماء شريفة ولم يصح وليس هذا موضعها لعدم صحة ذلك وإنما ذكرت ذلك ارشادا لمن يحب الفائدة وليس في الصحيحين مما ليس في كتاب الله تعالي إلا المقدم والمؤخر في حديث ابن عباس في دعاء النبي حين يقوم من الليل والوتر ومنهما من حديث أبي هريرة الذي سردت الاسماء الحسني في آخره
وزاد ابن حزم مما ادعي صحته السيد السبوح الحق الوتر الدهر المسعر المحسن المحسان الجميل الرفيق الشافي المعطي ولم ينسبها إلي حديث أبي هريرة لكن تتبعها من أحاديث متفرقة وكذلك الطبيب خرجه دوت وس باسناد علي شرط الشيخين لكن قال الترمذي أنه غريب من حديث عبد الله بن اياد عن أبي رمثة الصحابي مرفوعا ومنها مقلب القلوب لأن رسول الله كان يقسم به وزاد الترمذي في الحديث المختلف فيه مما لم أجده بنصه في القرآن خمسة وعشرين اسما وهي القابض الباسط الخافض المعز المذل العدل الجليل المحصي المبديء المعيد المحيي المميت الواجد بالجيم الماجد المقدم المؤخر الوالي المقسط المغني المانع الضار النافع الباقي الرشيد الصبور وزاد ابن ماجه علي الترمذي في حديث أبي هريرة هذا الراشد البرهان الواقي القائم الناظر السامع الابد العالم المنير التام الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد في اطلاق بعض هذه نظر مع عدم صحة الاسناد وزاد الحاكم علي الترمذي في المستدرك في هذا الحديث المختلف فيه بعينه الحنان المنان الدائم الجميل القديم الوتر المدبر الشاكر الرافع وزاد عليه أيضا بما في القرآن الاله الرب الفاطر المليك المالك الاكرم وذكرت الرفيع فيها إذ لم يجعله مثل رفيع الدرجات
وفي حديث آخر ان الله المسعر رواه الخمسة إلا النسائي وصحيحه الترمذي من حديث أنس ذكره صاحب المنتقي في التسعين
وفي البخاري ومسلم منها الوتر المقدم المؤخر وفي مسلم منها الرفيق وصحح ابن ماجه منها السيد السبوح الجميل المحسان المسعر القابض الباسط الشافي المعطي الدهر قال ابن ماجه بعد سردها ثم قال زهير وبلغنا عن غير واحد من أهل العلم أن راويها يفتتح بقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير لا اله الا الله له الاسماء الحسنى وأكثر هذه أو كثير منها صحيح المعنى بالاجماع فلا بأس بالحاق المجمع عليه منها بما في القرآن لما تقدم في حديث ابن مسعود من قوله أو علمته أحدا من خلقك
وأما المشتقات من الافعال الربانية الحميدة فلا تحصى وقد جمع بعضهم منها ألف اسم مثل كاتب الرحمة على نفسه المحمود العادل المعبود المحكم المنعم متم النعمة المطعم المقدر القاضي المدبر الحق الشافي الباري الماحي المثبت المؤيد الكافي القاسم العاصم القاصم الدافع المدافع المملي الآخذ المجير المزكي الموفق المصرف الممكن مقلب الليل والنهار الصانع الواقي المتكلم المريد المرجو المخوف المخشى المرهوب السابق الديان المستجار المستعاذ المعاذ الملجأ المنجا المنجي ولو ذكر منها ما كان من خواص الربوبية كان حميدا وذلك مثل المحيي المميت خاصة ما جاء في القرآن صلة للذي ونحوه كقول الخليل عليه السلام والذي يميتني ثم يحيين لأن الموصول وصلته في حكم الواحد والله أعلم
وأما أنواع الثناء من غير اشتقاق من ألفاظ القرآن فلا تحصى مثل قديم الاحسان دائم المعروف المستغاث المأمول وأمثال ذلك مما لا منع لما أجمع عليه منه والظاهر جواز هذين النوعين لأنهما من الاخبار الصادقة والله أعلم وذلك فيما كان مجمعا عليه على أنه حسن لا قبح فيه وثناء جميل لا ذم فيه ولا تمثيل ولا تشبيه والا فالاقتصار على المنصوصات عند الاختلاف لازم وهو موضوع الكتاب
واما الممادح السلبية في كتاب الله تعالى فاعتقادها لازم وان لم تكن أسماء في عرف أهل العربية لكنها نعوت حق واجبة بنص القرآن لله تعالى وذلك مثل قوله تعالى ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد وليس له سمي فانه معلوم من قوله تعالى هل تعلم له سميا وان العباد لا يحيطون به علما كما قال في سورة طه بل لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وإنما استثنى في معلوماته المخلوقة وإما في ذاته المقدسة العزيزة فاطلق النفي ولم يستثن أحدا ولا شيئا ولو كان يريد أن يختص أحدا بذلك لاستثناه كما استثنى من الاحاطة بعلمه تعالى
ومن ذلك أنه لا تدركه الابصار وهو يدركه الابصار وأنه لا تأخذه سنة ولا نوم وأنه وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وانه خلقهما في ستة أيام وما مسه من لغوب وإنه ليس بظلام للعبيد وإنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وما في معناها ولا يريد بنا العسر وما جعل علينا في الدين من حرج وأنه لا يجوز عليه اللعب والعبث وخلو أفعاله عن الحكمة لقوله تعالى وما كنا لاعبين وقوله ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار وأمثال هذه الآيات في حكمته في خلق الارضين والسموات وأنه تعالى لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد ولا يبدل القول لديه تبديلا قبيحا بخلاف التبديل الحسن لقوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل ولآيات النسخ وانه لا يخلف الميعاد وأنه تعالى يجير ولا يجار عليه ويطعم ولا يطعم وأنه لا شريك له في الملك ولا ولي له من الذل وان هذه الآيات دلت على ما أجمعت عليه الامة اجماعا ضروريا وعلم من الدين علما ضروريا انه تعالى منزه عن كل نقص وعيب مما يقع في أسماء المخلوقين سواء كان من أسماء الذم لهم كالظلم واللعب والجهل أو من أسماء النقص فيهم كالفقر والضعف والعجز وسائر ما يجوز على الانبياء الاولياء وأهل الصلاح
وأما أسماء المدح التي تطلق على العباد على وجوه تستلزم النقص وتطلق على الله تعالى على وجوه تستلزم الكمال وهي صفات العلم والقدرة والرحمة والحياة ونحو ذلك فانها تطلق على الله تعالى على جهة الكمال كما اطلقها مجردة عن نقائص المخلوقين التي تعرض فيها بأسباب تخصهم دونه تعالى فهذا هو اعتقادنا واعتقاد أهل الحق والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله والحمد لله رب العالمين
فصل في معانيها
اعلم أنه قد تكلم على معانيها جماعة من أهل العلم والتفسير وأكثرها واضح والعصمة فيها عدم التشبيه واعتقاد أن المراد بها أكمل معانيها الكمال الذي لا يحيط بحقيقته إلا الله تعالى كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ولابد من الاشارة هنا إلى أمر جملي وهو أصل عظيم وبيان نفع معرفته في تفسير اسمين مما ورد منها اسم من صحيحها واسم من المختلف في صحته منها
أما الاصل العظيم فهو تفسير الحسنى جملة وذلك أنها جمع الاحسن لا جمع الحسن وتحت هذا سر نفيس وذلك أن الحسن من صفات الالفاظ ومن صفات المعاني فكل لفظ له معنيان حسن وأحسن فالمراد الاحسن منهما حتى يصح جمعه على حسنى ولا يفسر بالحسن منهما إلا الاحسن لهذا الوجه
مثال الاول وهو اللفظ الذي له معنيان اسم النور وقد ثبت في سورة النور الله نور السموات والارض وفي الصحيحين من حديث ابن عباس في دعاء رسول الله في قيام الليل ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن وهذا الاسم الشريف له معنيان معلومان لا خلاف فيهما وهما نور الابصار ونور البصائر ولا خلاف بين العقلاء أجمعين دع عنك المسلمين ان نور البصائر هو أشرفهما وأكرمهما وخيرهما وأحسنهما وذلك معلوم من ضرورة العقل والدين ولذلك قال الله تعالى في بيان تعظيمه وتشريفه وتكريمه فإنها لا تعمي الابصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور أي لا تعمي الابصار العمي الضار الضر المذموم المستعاذ منه المهلك لمن وقع فيه وإنما تعمي هذا العمي العظيم المضرة القلوب التي هي محل نور البصائر
فاذا عرفت هذا فاعلم أن القرآن الكريم قد دل على تفسير هذا الاسم الشريف في حق الله تعالى بذلك أوضح دلالة وذلك في قوله تعالى بعد قوله الله نور السموات والارض يهدي الله لنوره من يشاء فدل على أنه نور الهدى لأن نور الابصار مبذول مشترك بين الكفار والمسلمين بل بين جميع الحيوانات الانسانية والبهيمية وكذلك ثبت في الحديث هذا المعنى فخرج الحاكم في المستدرك في تفسير سورة النور من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى مثل نوره كمشكوة يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة وقال صحيح الاسناد
قلت الوجه فيه أنه معلوم أن الله لم يرد تشبيه النور بالمشكاة نفسها وان هنا محذوفا فاما ان يكون المحذوف نور المشكاة حتى يشبه النور بالنور أو يكون المحذوف محل النور الذي يصح تشبيهه بالمشكاة نفسها حتى يشبه محل النور الذي هو المؤمن أو قلبه بالمشكاة نفسها التي هي محل تلك الأنوار الموصوفة في الآية
وقد كنت أتوقف في أي التقديرين أولى حتى وقفت على كلام ابن عباس رضي الله عنه فاتبعته لأنه منصوص على تقديمه في القرآن وتعليمه التأويل بالدعوة النبوية ثم جاء من طريقه عن رسول الله تحريم تفسير القرآن بالرأي ثم ظهر لي بالنظر صحته وتبين أنه لا يمكن سواه وذلك أنا لو جعلنا المحذوف نور المشكاة لكان المشبه بنورها هو نور الله الكلي الاعظم وهو أجل من أن يشبه بنور المشكاة ويدل على ذلك أن الله تعالى شبه ذلك النور الذي شرفه باضافته اليه بالمشكاة المترادفة الانوار وهذا التشبيه لا يليق إلا متى كان المشبه قلب المؤمن لأن النور الذي فيه من مواهب الله تعالى هو نصيب الواحد من المؤمنين المخصوص به ولذلك جاز تشبيهه يوضحه أنه لا يجوز تشبيه الله ولا تشبيه شيء من صفاته بشيء من مخلوقاته
وأما أن هذا النور هو نور البصائر لا نور الابصار فبدل عليه في هذه الآيات أمران أحدهما قوله تعالى في هذه الآية يهدي الله لنوره
من يشاء كما تقدم وثانيهما مقابلته لذلك بتشبيه أعمال الكفار بالظلمات المترادفة ومقابلته لقوله نور على نور في حق المؤمنين بقوله ظلمات بعضها فوق بعض في حق الكافرين ومقابلته لقوله تعالى يهدي الله لنوره من يشاء في حق المؤمنين بقوله ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور في حق الكافرين ويدل على ذلك أيضا في هذه الآيات قوله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فان فيها بيان أن هذا النور هو نور الهداية والاعمال الصالحة التي محلها في هذه البيوت الشريفة على الخصوص وليس بنور الكواكب والابصار التي هي تعم كل محل شريف وخسيس وكل مبصر مؤمن وكافر ويدل على ذلك من الكتاب والسنة المنفصلة عن هذه الآيات ما لا يكاد يحصى مثل قوله تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور الآية وقوله تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وقوله تعالى قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس وقال في حق محمد فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون
ومن أوضحه يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وقوله فيه بافواههم من ترشيح الإستعارة أما نور الابصار والشمس ونحو ذلك فلم ينكر ذلك الكفار ولا يمكن أن يهموا باطفائه وقوله تعالى أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقوله تعالى في صفة رسول الله وسراجا منيرا
ومن الاحاديث الصحيحة قوله الصلاة نور والصدقة برهان خرجه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي مالك الأشعري وذلك يناسب كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال الله تعالى وهذا معنى نور الهدي والله أعلم
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله كان يقول في دعائه عند أن يقوم من الليل اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وفي لساني نورا إلى قوله واجعل لي نورا قال ابن الأثير في النهاية أراد ضياء الحق وبيانه كأنه قال اللهم استعمل هذه الأعضاء مني في الحق وفي حديث آخر أن رسول الله كان يقول في دعائه تم نورك فهديت فلك الحمد رواه الجزري في العدة وفي حديث ابن مسعود المقدم من رواية أحمد وأبي عوانة أن رسول الله قال في ذلك الدعاء اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك إلى قوله أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وفي رواية ونور بصري فكون القرآن نور البصر هنا يدل على أن المراد بصر الهدى والحق أيضا كما فسرته الرواية الأخرى في قوله ونور صدري وكل هذا دليل على أن الهدى أصيل في التسمية بهذا الاسم الشريف وأنه أشرف معانيه
فظهر أن معنى النور في أسماء الله تعالى هو الهادي لكل شيء إلى مصالحه والمرشد لكل حي إلى منافعه الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى حتى هدى الطفل المولود إلى الالتقام من الثدي وامتصاص اللبن
وأعجب من ذلك هداية أولاد البهائم التي لا تحسن أمهاتها شيئا من مقدمات المعاونة على تعليم الرضاع والهداية إلى موضع اللبن فهذا من أوائل هداية الله سبحانه لمن لا هداية له ولا تمكن الاشارة إلى نهايات هداياته واختلاف أنواعها ومقاديرها
وفي كتاب العبر والاعتبار للجاحظ وكتاب حياة الحيوان من ذلك الكثير الطيب والمكثر من ذلك مقل فالهداية من الله تعالى وهو الهادي باجماع
المسلمين وقد خرج اسم الهادي الترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم في حديث الاسماء الحسنى فالتفسير بها صحيح وان كان الله تعالى هو رب الانوار كلها أنوار الابصار وأنوار البصائر فاللفظة لا يراد بها إلا أحد معانيها على الصحيح ولم أتبع في هذا التفسير الرأي وإنما اتبعت فيه القرآن والسنة كما تقدم بيانه
قال ابن الأثير في نهايته هو الذي يبصر بنوره ذو العماية ويرشد بهداه ذو الغواية وأما حديث نور أني أراه فانه حديث معل متكلم فيه عند أكثر أئمة الحديث وهو من رواية يزيد بن ابراهيم التستري عن قتادة عن عبد الله ابن شقيق عن أبي ذرانة سأل النبي هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه
والقدح فيه من وجوه الأول قدح أئمة الحديث فيه وقد سئل إمام الحديث أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال ما زلت منكرا له روى ذلك عن أحمد الخلال في العلل وابن الأثير في تفسيره النور من النهاية وابن الجوزي بعد رواية الحديث في جامع المسانيد وهو الرابع والخمسون وكذلك روى ابن الجوزي وابن الأثير كلاهما عن امام الأئمة ابن خزيمة أنه قال في القلب من صحة هذا الحديث شيء وأن الله شقيق لم يكن يثبت أبا ذر ذكره ابن الأثير زاد ابن الجوزي لأنه قال أتيت فاذا رجل قائم فقالوا هذا أبو ذر فسألته الحديث
الثاني أن ابن شقيق كان ناصيا يبغض عليا رضي الله عنه كما ذكره الذهبي وذكر أن سليمان التيمي كان سيء الرأي فيه قلت وكان سليمان التيمي أحد أئمة الاسلام الكبار ورجال الجماعة وأهل المناقب المشهورة من سادات التابعين معاصرا لابن شقيق خبيرا به فقوله فيه مقبول وإنما قبله من قبله على قاعدتهم في قبول أهل الصدق من الخوارج متى ظنوا صدقهم بالتجربة في مواضع سهلة يكون في قبولهم فيها احتياط والمرجح آخر على ما هو مبسوط في الأصول وعلوم الحديث وهذا مقام عزيز ومحل رفيع لا يقبل في مثله حديث مختلف فيه
الثالث أن يزيد بن إبراهيم الراوي له عن قتادة ضعيف في قتادة ضعفه فيه يحيى بن معين وابن عدي وهما من أجل أئمة هذا الشأن وقد حكى ابن حجر في علوم الحديث عن الذهبي أنه ما اجتمع اثنان من أئمة هذا العلم على جرح أو توثيق إلا كان كما قالا قال ابن حجر بعد ذلك والذهبي من أهل التتبع التام قلت لعله يريد حيث لم يعارضهما أحد مثل هذا الموضع على أن ابن عدي قال أنهم أنكروا على يزيد هذا أحاديث رواها عن قتادة وكلامه هذا يدل على أنهما لم ينفردا بتضعيفه في قتادة بل فيه نسبة ذلك إلى أهل الحديث وأما أهل الصحيح فلم يخرجوا حديثه عن قتادة وسيأتي عذر مسلم في ذلك
الرابع أن الحديث معل بالاضطراب فانه رواه تارة كما تقدم وتارة رأيت نورا وهاتان روايتان متضادتان في احداهما اثبات الرؤية للنور وفي الأخرى انكار ذلك بصيغة الاستفهام وهي في هذا المقام أشد في الانكار والعلة تقدح في حديث الثقة المتفق عليه فاجتمع فيه الضعف والاعلال وأحدهما يكفي في عدم تصحيحه
الخامس أن أصح روايتي الحديث إن قدرنا صحته هي رواية رأيت نورا وليس فيها أن ذلك النور هو الله سبحانه وتعالى عن ذلك وإنما كانت أصح الروايتين لأنها رواية هشام وهمام كلاهما عن قتادة الذي هو شيخ يزيد بن ابراهيم المضعف في قتادة وهما أوثق منه مطلقا فكيف في قتادة فلم يبق لتصحيح روايته وجه
فان قلت فكيف خرج مسلم الروايتين معا في الصحيح قلت الذي عندي أنه إنما خرجهما شاهدين على قوة حديث عائشة رضي الله عنها في نفي رؤية رسول الله لله سبحانه ليلة الاسراء فانه خرج حديثها وطول في ذكر طرقه ثم أردفه بما يناسبه ويقوى معناه فذكر هذا الحديث من طريقيه معا أردفه بما يناسبه وذكر بعده حديث حجابه النور كما جاء صريحا في حديث أبي موسى شاهدا لهذا المعنى ومسلم يتساهل في الشواهد هو وغيره من أئمة الحديث وقد تأوله غير واحد على تقدير صحته بأن المراد حجابه النور كما جاء صريحا في حديث أبي موسى ممن تأوله ابن الأثير
في نهايته وابن الجوزي في جامعه بعد روايته وذكر الحجاب قرآني صحيح كما يأتي في آيات الصفات قال الله تعالى أو من وراء حجاب وقال في الكافرين كلا انهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون والحجاب حاجب للعباد لا لله سبحانه كما نبهت عليه بهذه الآية الكريمة فانه بين فيها انهم المحجبوبون لا هو وهذه نكتة شريفة فتأملها وقد طال الكلام في هذا الاسم الشريف وهو موضعه لأن الخطر من أسماء الله سبحانه جليل والكثير من البحث والتحقيق فيها قليل
ومثال الثاني اسم الضار وذلك أن الله تعالى لما ثبت بالأدلة أنه لا يصح أن يريد الشر لكونه شرا بل إنما يريده لما علم من الخير كما بينه الغزالي في المقصد الأسنى وسوف نبين أدلته في اثبات حكمة الله تعالى في جميع أفعاله من هذا المختصر ثبت أن كل ضر من الله تعالى هو خير ونفع بالنظر إلى الحكمة فيه وبذلك فسر النووي الحديث الصحيح في التوجه الخير بيديك والشر ليس اليك أي ليس بشر بالنظر إلى حكمتك فيه ومن هنا سمى الله تعالى القصاص حياة وهو قتل وقطع ونحو ذلك ومن هنا لم يستحق الطبيب الذي يكوي ويقطع اسم الضار فثبت أن كل ضر منه سبحانه وتعالى يستحق أن يسمي الله منه أسماء حسنة مثل الديان والمنتقم والمبتلى وهذه خير من اسم الضار لأنه يفهم منها المجازاة على أفعال متقدمة يستحق أهلها ذلك لأجلها بخلاف الضار وكذلك عذاب الله في الآخرة فانه مشتمل على ذلك وإلى ذلك الاشارة بقوله انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال تعالى قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فانا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون انه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى انسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون وقال تعالى جزاء لمن كان كفر بضم الكاف وكسر الفاء وأمثال ذلك كثير مما يدل على نفع المؤمنين بعذاب الكافرين والانتصاف لهم فيجب أن يكون في الاسم
المشتق لله تعالى من ذلك ما يدل على حكمته بل هنا سر لطيف أنفس من ذلك وهو أن كل ضر وشر في الدنيا والآخرة فانما هو بذنوب العباد وما تستوجبه وتستدعيه من العقوبات
أما شرور الدنيا فلقوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير وفي قراءة بما كسبت أيديكم وقوله تعالى وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الانسان كفورا وفي آية إذا هم يقنطون وفي قوله ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون مع ما في الحديث من ذلك
وأما عذاب الآخرة فلقوله تعالى وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون وقوله ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون فسماه كسبا لهم وعملا ومنه قول أيوب عليه السلام أني مسني الشيطان بنصب وعذاب لما كان عقوبة ذنبه ومنه قوله تعالى فأخرجهما مما كانا فيه فنسب الاخراج إلى الشيطان لذلك
ومن أجل ذلك صح أن يقال أن العذاب ظلم وضر من العباد لأنفسهم كما قال تعالى وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وأما من الله تعالى فانما هو منه عدل وحكمة أما العدل فلوقوعه جزاء وفاقا بعد التمكن والانذار وقطع الاعذار والاشهاد والكتابة والوزن بموازين الحق وأمثال ذلك وأما الحكمة فللنص على حاجة المتشابه إلى التأويل
وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام بيان أن التأويل بيان وجوه خفية تناسب عقول العقلاء وسيأتي هذا المعنى مبسوطا واضحا في مسألة
الحكمة من هذا المختصر إن شاء الله تعالى وسيأتي في مسألة الافعال بيان أن المعاصي من العباد وما ورد في ذلك من نصوص القرآن والسنة الجمة التي لا نزاع فيها ولا معارض لها ومجموع ذلك يقتضي نسبتها ونسبة جميع ما يترتب عليها ويتفرع عنها من شرور الدارين إلى العباد المستحقين للذم والعذاب عليها بالنصوص والاجماع
وأما تقدير الله تعالى لوقوعها باختيار العباد لحكمة فهو مثل سبق علمه بذلك لا يوجب لله تعالى إلا وصف القدرة والعزة كما يأتي أيضا مبسوطا في موضعه من هذا المختصر إن شاء الله تعالى
فان قيل فكيف جاز اطلاق الضار عليه سبحانه فالجواب من وجهين أحدهما أن اسم الضار لم يرد في القرآن ولا في حديث متفق على صحته فمن لم يتحقق الاذن فيه ولم يصح له كالبخاري ومسلم ومن شرط في الصحة شرطهما لم يجب عليه ادخاله في الاسماء الحسنى وقد بسطت القول فيه في العواصم في آخر مسألة العباد وذكرت فوائد تستحق الرحلة اليها إلى أبعد مكان فلتطلب من مكانها وثانيهما على تقدير صحة أن اسم الضار لا يجوز افراده عن النافع فحين لم يجز افراده لم يكن مفردا من أسماء الله تعالى وإذا وجب ضمه إلى النافع كانا معا كالاسم الواحد المركب من كلمتين مثل عبد الله وبعلبك فلو نطقت بالضار وحده لم يكن اسما لذلك المسمى به ومتى كان الاسم هو الضار النافع معا كان في معنى مالك الضر والنفع وذلك في معنى مالك الأمر كله ومالك الملك وهذا المعنى من الأسماء الحسنى وهو في معنى قوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذلك من تشاء بيدك الخير الآية وهو في معنى القدير على كل شيء
وميزان الاسماء الحسنى يدور على المدح بالملك والاستقلال وما يعود إلى هذا المعنى وعلى المدح بالحمد والثناء وما يعود إلى ذلك وكل اسم دل هذين الأمرين فهو صالح دخوله فيها والضار النافع يرجع إلى ذلك مع على الجمع وعدم الفرق ومع القصد فيلزم من أطلقه قصد ذلك مع الجمع
وقد ذكر غير واحد من العلماء أنه لا يجوز افراد الضار ولم يلخصوا هذا التلخيص وقد وفق الله له من كره الشذوذ عن الجمهور في قبوله وإن لم يكن من الاسماء القرآنية ولا مما صح سنده والله المستعان والهادي لا إله إلا هو
فائدة هل يجوز تسمية محامد الرب تعالى وأسمائه الحسنى صفات له سبحانه وتعالى قال الله تعالى ولله المثل الأعلى وذكر أهل التفسير واللغة أنه الوصف الا على وكذلك جاء في كلام علي عليه السلام أنه قال فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته ذكره السيد أبو طالب في الأمالي باسناده والسيد الرضي في النهج كلاهما في جوابه عليه السلام على الذي قال له صف لنا ربنا وهذا لا يعارض قوله تعالى سبحانه وتعالى عما يصفون لأنه لم ينزه ذاته عن الوصف مطلقا حتى يعم الوصف الحسن وإنما ينزه عن وصفهم له بالباطل القبيح
ومما يحتاج إلى ذكر الشاهد في هذه الاسماء المختلف في صحة سندها اسم الصبور لأنه ليس في كتاب الله تعالى وقد خرج البخاري ومسلم في حديث أبي موسى عن رسول الله أنه قال لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله تعالى إنه ليشرك به ويجعل له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم ذكره ابن الأثير في آخر كتاب الصبر من حرف الصاد من جامعه ويشهد لذلك ما ورد في القرآن الكريم من نسبة الغضب فعلا لا اسما إلى الله تعالى وكل ذلك مع القطع بانتفاء نقائص المخلوقين اللازمة لهذه الامور عن جلال الله تعالى باجماع المسلمين في المعنى وإن اختلفت عباراتهم
والذي في كتاب الله تعالى اسم الحليم وهما في المعنى متقاربان قال ابن الأثير في النهاية هو الذي لا يعاجل العصاة ومعناه قريب من معنى الحليم والفرق بينهما أن المذنب لا يأمن العقوبة كما يأمنها في صفة الحليم كذا قال وفيه نظر فانه لا أمان لمذنب من العقوبة بالاجماع من الوعيدية وأهل الرجاء واهل الارجاء لجهل الخواتم والنصوص كقوله تعالى إن عذاب ربهم غير مأمون وفي آية إن عذاب ربك كان محذورا
ولقوله تعالى وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وغير ذلك والله أعلم ولذلك قالت المرجئة ببقاء الخوف في حال التكليف
وأما المنان فقال ابن الاثير في النهاية وغيره أنه المنعم من المن وهو الاحسان الذي لا يطلب عليه جزاء لا من المنة وهو من تفسير اللفظ المشترك بأحسن معانيه لما قدمته وإن كانت المنة حسنة من الله تعالى كما قال بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان ولكن الاسماء الحسنى جمع الاحسن لا جمع الحسن كما تقدم فتأمل ذلك يفتح لك باب الفقه في أسماء الله سبحانه وتعالى
فصل
في التعريف بالقصور عن الاحاطة بحقيقة معرفة الله تعالى ومعرفة أسمائه ونعوته الجليلة من جميع الوجوه على مقتضى ما أرشدنا اليه ربنا سبحانه وتعالى في قوله تعالى ولا يحيطون به علما وكما اشتهر عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام حتى روته الخصوم عنه وكفى به أسوة وسلفا صالحا في ذلك كيف ولا يعرف له مخالف من أهل عصره ومن بعدهم بل اعترف العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي أنه قول لم تزل فضلاء العقلاء مائلين اليه وقد اخترت ايراد كلام الغزالي في المقصد الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى لحسن عبارته ووضوح أمثاله في ذلك فأقول
قال الغزالي في الفصل الرابع من مقدمات المقصد الأسنى وقد حث على الترقي في المراتب الشريفة الكمالية من العلم والرحمة ونحو ذلك مما فيه تخلق ببعض أسماء الله تعالى
فان قلت ظاهر هذا الكلام يشير إلى مشابهة بين العبد وبين الله تعالى والله تعالى ليس كمثله شيء
فأقول مهما عرفت معنى المماثلة المنفية عن الله تعالى عرفت أنه لا مثل له وينبغي أن لا تظن أن المشاركة بأي لفظ توجب المماثلة ألا ترى أن الضدين بينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون فوقه بعد وهما متشاركان في أوصاف كثيرة فالسواد يشارك البياض في كونه عرضا وفي كونه مدركا وفي كونه لونا في كونه موجودا ومرئيا ومعلوما وفي أمور أخر إلى قوله
ولو كان الأمر كذلك لكان الخلق كلهم مشبهة إذ لا أقل من إثبات المشاركة في الوجود بل المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية فالفرس وإن كان بالغا في الكياسة لا يكون مثلا للانسان لأنه مخالف له بالنوع وإنما يشابهه بالكياسة التي هي عارضة خارجة عن الماهية المقومة للذات الانسانية والخاصية الالهية أنه سبحانه الموجود الواجب الوجود بذاته التي عنها يوجد ما في الامكان وجوده على أحسن الوجوه في النظام والكمال وهذه الخاصة لا يتصور فيها مشاركة ألبتة والمماثلة لا تحصل إلا بها فكون العبد صبورا شكورا لا يوجب المماثلة ككونه سمعيا بصيرا عالما قادرا حيا فاعلا بل أقول خاصية الالهية ليس إلا لله تعالى ولا يعرفها إلا الله ولا يتصور أن يعرفها إلا هو أو مثله لو كان له مثل فحين لم يكن له مثل فلا يعرفها غيره فاذا الحق ما قاله الجنيد رحمه الله تعالى لا يعرف الله إلا الله إلى قوله بل أزيد فأقول لا يعرف أحد حقيقة الموت والجنة والنار إلا بعد الموت ودخول الجنة والنار لأن الجنة عبارة عن أسباب ملذة ولو فرضنا شخصا لم يدرك قط لذة لم يمكننا أصلا أن نفهمه الجنة تفهيما يرغبه فيها وكذلك إذا أدرك شيئا من اللذات فغايتنا أن نفهمه الجنة بأعظم ما ناله من تلك اللذات فان كان في الجنة لذة مخالفة لهذه اللذات فلا سبيل إلى تفهيمها أصلا إلا بالتشبيه بهذه المخالفة لها كما ذكرناه في تشبيه لذة النكاح بحلاوة السكر متى طالبنا الصغير ومن لا يشتهي النكاح أن نعرفه ذلك بل العبارة الصحيحة عن الجنة أنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
فكيف يتعجب من قولنا لم يحصل أهل السموات والأرض من معرفة الله تعالى إلا على الاسماء إلى قوله فان قلت فاذا لم يعرف حقيقة ذاته فهل تعرف حقائق الاسماء قلنا هيهات ذلك لا يعرفه بالكمال إلا هو لأنا إذا علمنا ذاتا عالمة فقد علمنا شيئا مجملا لا ندري ما حقيقته لكن ندري أن له صفة العلم فان كانت صفة العلم معلومة لنا حقيقة كان علمنا بها علما تاما وإلا فلا ولكنه لا يعرف أحد حقيقة علم الله إلا من له مثل علمه وليس ذلك إلا له وإنما يعرفه غيره بالتشبيه بعلم نفسه وعلم الله لا يشبهه علم الخلق ألبتة فلا يكون معرفتهم بعلمه معرفة تامة بل إلهامية تشبيهية فلا تعجبن من
هذا بل أقول لا يعرف الساحر إلا الساحر نفسه أو ساحر مثله أو فوقه انتهى كلامه
والقصد تقريب الافهام من معنى قول الله سبحانه ولا يحيطون به علما وعن أمير المؤمنين عليه السلام في عجز العقول عن ذلك امتنع عنها بها واليها حاكمها وقد ذكرت كلام العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي عنها في ذلك وأشعاره ومبالغته في نصرته قريبا وكذلك نض الامام المؤيد بالله يحيى بن حمزة في شرحه لنهج البلاغة واحتج بكلامه عليه السلام على ضعف كلام أبي هاشم
وحكى الرازي قول علي عليه السلام عن جمهور المحققين وابن أبي الحديد عن فضلاء العقلاء وهو قول الباقلاتي وإمام الحرمين الجويني والكيا الهراسي والغزالي والصوفية حكى ذلك الزركشي في شرح جمع الجوامع وجود الكلام احتجاجا وجوابا وقد نقلته وزدت عليه في ترجيح أساليب القرآن ويدخل فيما ذكرته مسألة القرآن ومسألة الرؤية وقد بسطت القول فيهما في العواصم في المجلد الثاني في مقدار ثمانين ورقة وجودت القول في أدلة الفريقين على الانصاف ولله الحمد وتقصيت كلام أهل المعقولات ومعارضة بعضهم بعضا ونقلته من كتبهم الحافلة التي هي النهاية في ذلك ليخرج الواقف على ذلك من ظلمات التقليد والعصبية وهو يأتي جزءا مفردا لمن أحب أن يضمه إلى هذا أو مجلدا واحدا مع هذا لمن أحب
ويلحق بهذا الاشارة إلى مذهب أهل السنة في معنى قوله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قالوا المراد نفي التشبيه بتعظيم الاسماء الحسنى واثباتها لا بنفيها كما قالت القرامطة مثاله أنه عليم لا يعرب عن علمه شيء ولا يزول علمه ولا يتغير ولا يكتسب بالنظر الذي يجوز فيه الخطأ ويتعلق بالماضي والمستقبل والغيب والشهادة ويعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور ولا تأخذه سنة ولا نوم وأمثال ذلك في كل اسم
ويدل على قولهم وجوه الأول قوله في آخر الآية وهو السميع البصير وهو أوضح دليل على ذلك الثاني تمدحه تعالى بكل اسم على انفراده الثالث قوله تعالى ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم وقوله تعالى وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم أي الوصف الاعلى على ألسنة أهل السموات والارض وهو كمال الثناء بأسمائه الحسنى كما ذكره المفسرون والقرآن يفسر بعضه بعضا وأما نفي الاسماء عنه وتأويلها فلا يدل عليه عقل ولا سمع بل هو خلاف المعلوم ضرورة من الدين وليس فيه من الشبهة غير تسميتهم له تنزيها وهو اسم حسن على مسمى قبيح فالواجب تنزيه الله تعالى منه
الرابع اجماع أهل الاسلام على مدحه تعالى باثبات الاسماء الحسنى لا بنفيها فان تسمية الملاحدة نفيها تنزيها لله تعالى من مكائدهم للاسلام والمسلمين وكم فعلت الزنادقة في الاسلام من نحو ذلك يسترون قبائح عقائدهم بتحسين العبارات قاتلهم الله تعالى وبذلك تم الكلام في الذات والاسماء الحسنى والله الهادي وهو حسبنا ونعم الوكيل ويتلوه الكلام في الحكمة والمشيئة والقضاء والقدر وأفعال العبادة وتمكينهم والاسماء الدينية والوعد والوعيد والتكفير والتفسيق وما يجب من حب القرابة والصحابة وسائر المؤمنين
تم الجزء المبارك من إيثار الحق على الخلق والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده المهم الثاني الكلام في حكمة الله تعالى تم في مشيئته ومحبته وأفعال العباد وما يتعلق بها من الكفر والفسق والوعد والوعيد
وهذا المهم يختص بمن قد عرف من علم الكلام والاختلاف ما أمرض قلبه أو منع يقينه بالاعتقاد الجملي أو من رسخت في قلبه العصبية ولم يستطع دفعها من غير حجة حين بقيت بلا معارض أو من ضل بالتقليد ومن كان في عافية من ذلك فلا يحتاج اليه والله أعلم
ولنبدأ بالقول في الحكمة لأنها الاساس فانها نوع مخصوص من علم الله تعالى بالمنافع الخفية والعقول الحميدة والمصالح الراجحة وبها تبرز أفعاله تعالى من القدرة إلى الوجود ويتبين عجز العقول عن مدارك جميع ما له سبحانه وتعالى من الحكمة والكرم والجود فنقول وبالله نستعين وهو حسيبنا ونعم الوكيل
المسألة الأولى في إثبات حكمة الله تعالى في جميع أفعاله وأن ذلك أحوط ومعناها ههنا العلم بأفضل الاعمال والعمل بمقتضى ذلك العلم مثاله العلم بأن الصدق أولى من الكذب والعدل أولى من الجور والجود أولى من البخل والاحسان أولى من الاساءة ولا خلاف في تسمية هذا الذي ذكرته حكمة في حق الحكماء والعلماء من الخلق وإنما ادعى بعض الغلاة أن مثل ذلك منها محال في حق الرب تعالى كما يأتي فساده وتختلف العبارات عما ذكرنا والمعنى واحد
وقد ذكر ابن الاثير في النهاية في غريب الحديث أن الحكمة العلم
بأفضل الاعمال ومنه قوله تعالى ويعلمهم الكتاب والحكمة فان النبي لم يكن يعلمهم الصناعات بالاجماع وإنما كان يعلمهم أفضل الأعمال من أحسن الأخلاق وعلى هذا التفسير قوله تعالى حكمة بالغة فما تغنى النذر وقوله تعالى ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فانما يشكر لنفسه وقوله تعالى وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظمكم به وكذلك قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم وقول عيسى عليه السلام وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم فانه لا يصح تأويل الحكيم في هاتين الآيتين وغيرهما بالمحكم لعدم المناسبة كما سيأتي
وعبارة أهل الكلام في تفسير الحكمة أنها اثبات داع راجح إلى جميع ما فعله الله وأراده وان خفي على خلقه أو كثير منهم والمرجع بهذا الداعي إلى علم الله تعالى بالمصالح والغايات الحميدة وسبب وقوع الخلاف في ذلك أن قوما ممن أثبت الحكمة غلوا في ذلك فأوجبوا معرفة العقول للحكمة بعينها على جهة التفصيل فجاؤا بأشياء ركيكة فرد عليهم ذلك طائفة من الاشعرية وغلوا في الرد وأرادوا حسم مواد الاعتراض بنفي التحسين العقلي واستلزم ذلك نفي الحكمة فتجاوزوا الحد في الرد فوقعوا في أبعد مما ردوه وأشد وخير الامور أوسطها
والقول بحكمة الله تعالى أوضح من أن يروى عن صحابي أو تابعي أو مسلم سالم من تغيير الفطرة التي فطر الله خلقه عليها ولذلك تقر به العوام من كل فرقة ويقر به كل من لم يتلقن خلافه من اتباع غلاة بعض المتكلمين على ما فيهم من الشذوذ وقد اجتهدوا واحتالوا في تحسين مذهبهم بمجرد عبارات مزخرفة ليس تحتها أثارة من علم مثل تسمية الحكمة العلة وإبهام
أن القول بالحكمة يقدح في كون الله غنيا وهذا من أبطل الباطل ولو كان ذلك يقدح في غناه وجب أن يقدح في غناه وجوب وصفه بكونه عليما قديرا سميعا بصيرا إلى سائر أسمائه الحسنى خصوصا كونه تعالى مريدا ولزم مذهب الملاحدة في نفي جميع أسمائه وكان المعدوم والجماد أغنى الأغنياء وقد تقرر في قواعد أهل الاسلام نفي التشبيه عن ذات الله تعالى وصفات وأفعاله وتقرر أن المراد بنفي التشبيه تعظيم الرب جل وعز في ذاته وصفاته وأفعاله لا نفي الصفات والاسماء والممادح
فمن الواجب في نفي التشبيه عن أفعاله أن تكون أكمل من أفعال المخلوقين من جميع الوجوه لا أنها تكون أخس ولا أنقص في وجه واحد من الوجوه المحمودة
ولا ريب ولا شبهة أن قاعدة الكمال في الافعال أن يكون صدورها عن الحكمة البالغة في توجيهها إلى المصالح الراجحة والعواقب الحميدة فكلما ظهر ذلك فيها كانت أدل على حكمة فاعلها وعلمه وحسن اختياره ومحامده وكلما بعدت عن ذلك كانت أشبه بالآثار الاتفاقية وما يتولد عن العلل الموجبة وأشبهت أفعال الصبيان في ملاعبهم والمجانين في خيالاتهم فلا يوجد في أفعال المخلوقين أخس ولا أنقص من أفعال الصبيان والمجانين لخلوها عن الحكمة مع أنها لم تخل من موافقة شهواتهم ولم تجرد عن كل داع فمن نفي عن أفعال الله كل داع وحكمة فقد جعلها من هذه الجهة أنقص قدرا من أفعال الصبيان والمجانين في ملاعبهم وجنونهم
وأصل أهل الاسلام تحريم تشبيه أفعال الله بأفعال العقلاء والحكماء في كمالها وعدم مداناتهم لها في ذلك لزيادتها في الكمال في ذلك وبلوغها في الزيادة إلى منزلة لا تبلغها عقول الاذكياء والحكماء كما أن الحيوان البهيمي لا يبلغ بما له من الالهام إلى تعرف حكمة الحكماء وتصانيف الأذكياء ومعارف الفطناء ولا يتمكن من معرفة مقدار زيادتهم عليه فكذلك الحكماء لا يعرفون جميع حكمة الله تعالى ولا يستطيعون أن يعرفوا مقدار زيادتها على حكمتهم كما وضح في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام ولله
المثل الأعلى وكيف تجعل أفعال أحكم الحاكمين أنقص رتبة في خلوها عن الحكمة وأبعد عنها من مرتبة أفعال الصبيان والمجانين والساهين
وإنما قلنا أنهم جعلوها أنقص في ذلك لوجهين أحدهما أنهم قطعوا بخلوها كلها عن كل حكمة وداع وسبب ومنعوا أن تكون أفعاله كلها أرجح من أضدادها إلا في الاقوال فأوجبوا الصدق في أقوال الله تعالى ومنعوا ضده وهو الكذب ولزمهم بذلك الموافقة على ثبوت مثل ذلك في الافعال إذ لم يفرقوا بين الأفعال والأقوال بحجة بينة ولكن خافوا من تجويز الكذب على الله صريح الكفر وإنما الاقوال نوع من الأعمال
وقد أجمعت الامة على دخول الاقوال والاعمال في الوعد والوعيد على الاعمال وفي الصحيح أن أفضل العلم شهادة أن لا إله إلا الله وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة أنه لا تردد في دخول الاقوال في حديث الأعمال بالنيات وأمثال ذلك كثيرة جدا هذا في اللغة والنص والاجماع وأما العقل فلا ريب في تساويهما في ذلك فما بالهم أوجبوا صيانة الاقوال الربانية عن النقائص وأما في الأفعال الربانية فحكموا بأنه تعالى لو عكس الحكم في جميع أوامره العادلة المصلحة الحكيمة في شرائعه وأحكامه في الدنيا وكذلك في يوم القيامة أو عذب الأنبياء والأولياء وأهانهم وأخزاهم بذنوب غيرهم ثم أدخل أعداءه وأعداءهم الجنة بحسناتهم واكرامهم وعظمهم ما كان هذا الحال عليه بأبعد عن حكمته ومحامدة في العقل والسمع مما هو فاعله سبحانه وتعالى مما تمدح به وسماه حقا وعدلا وحكمة وصوابا وتمدح لذلك بأنه لا معقب لحكمه ولا مبدل لكلماته وبأنه إذا بدل آية مكان آية لا يبدلها إلا بما هو خير منها أو مثلها فزعموا أن التسوية بين أحكامه وأضدادها هو مقتضى العقول والشرائع لكن الشرائع وردت بالخبر عن وقوع أحد الجائزين المتماثلين في الحكمة مثل تماثلهما في القدرة بل المتماثلين في القدرة بلا حكمة عندهم إلا الصدق في الخبر فواجب وحده فانا لله إن كانت ذهبت العقول فأين الحياء من الله تعالى وكتبه ورسله والمسلمين
ومن العجب ظنهم أن هذا كله جائز عليه في أفعاله عقلا ولا يجوز في أقواله عقلا أدنى نقص ولا لغب وهو كما قالوا في الأقوال لكن الصواب
صيانة أفعاله كأقواله من الاهمال بل إهمال الافعال من الحكمة أضر وأقبح من إهمال الأقوال وكم بين التخليد في عذاب جهنم بلا ذنب بل بذنب الغير وبين الخلف في وعد بمثوبة عند جميع العقلاء فمن لم يجز عليه هذا الخلف كيف يجوز عليه ذلك التعسف
وثانيهما أنهم جعلوا صدور الافعال منه تعالى عن حكمة محالا عليه غير ممكن له ولا داخل في مقدوره كاحالة الأكل والشرب عليه وصدورها عن حكمة غير محال في حق الصبيان والمجانين والغافلين والنائمين والمفسدين عند الجميع بل يلزمهم أن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا لو عكس الصدق والحق وبعث الكاذبين المفسدين وأيدهم بالمعجزات ما كان أولى من عكس ذلك ولم ينفصلوا عن هذا الالزام بوجه بين وإنما خرموا قاعدتهم فيه خوفا من صريح الكفر فقال بعضهم إنما يمتنع الكذب في كلام الله تعالى لأنه قديم وهذا قد جوز أن الكذب من حيث هو كذب قبيح لكنه مع ذلك نسب إلى الله تعالى عدم القدرة عليه فجمع بين تجويزه نقصين نقص الكذب لو دخل في قدرة الله تعالى ونقص العجز عنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
ولذلك أبطله الرازي بأن القدم يختص الكلام النفسي لا الأصوات عندهم وقال الرازي إنما يمتنع الكذب على الله تعالى لأن صفة النقص لا تجوز على الله تعالى وهذا كلام صحيح لكن كون الكذب صفة نقص اعتراف بالتحسين والتقبيح وثبوت الحكمة عقلا وإذا وقع الاجماع على أن الكذب صفة نقص وعلى أنه إنما امتنع على الله لكونه صفة نقص فكذلك تعذيب الانبياء بذنوب أعدائهم وإثابة أعدائهم بحسناتهم في يوم القيامة ويوم الدين والحق والعدل فانه محال على الله تعالى عقلا وسمعا من الجهة التي استحال عليه الكذب منها ومن زعم أن بينهما فرقا في النقص على العدل الحكيم فقد أبطل والله يحب الانصاف على أن بعثة الرسل الصادقين دون الكذابين من محسنات الافعال التي نازعوا فيها وليست من صدق الاقوال الذي أوجبوه فلزمهم تجويز بعثة الكذابين وتأييدهم بالمعجزات ولذلك لما قرر هذا بعض أئمة المعقولات منهم لم ينفصل عنه إلا بالزام
خصومهم مثله وترك ذلك كذلك غنيمة باردة للزنادقة والملاحدة متى وقفوا عليه أو ظفروا به والله المستعان
وقد أجمعت الامة وعلم من الدين ضرورة أن الله تعالى تمدح بأنه الملك الحميد وإلى هذين الاسمين الشريفين ترجع متفرقات أسمائه الحسنى فما كان منها يقتضي كمال العزة والقدرة والجبروت والاستقلال والجلال دخل في اسم الملك وعاد اليه وما كان منها يقتضي الجود والرحمة واللطف والصدق والعدل وكشف الضر وأمثال ذلك من الممادح دخل في اسم الحميد وعاد اليه وربما عبر عنهما بما رادفهما أو أحدهما مثل قول النبي أهل الثناء والمجد وقوله إنك حميد مجيد فان المجد هو الملك والثناء هو الحمد فمن الناس من نظر إلى اسم الملك فعظمه ووفاه حقه بالنظر إلى معارف البشر وقصر في اسم الحميد ومعناه بنفي الحكمة عن أفعاله كلها كما أن من الناس من عكس فبالغ في اسم الحميد وقصر في تعظيم ملكه وقدرته وعزته فلم يجعل له قدرة على اللطف بعبد واحد من جميع عباده العصاة كما سيأتي في مسألة المشيئة وجميع أئمة الاسلام العارفين جمعوا بين تعظيم هذين الاسمين الشريفين ووفوا كل واحد منهما حقه على حسب قوى البشر في ذلك ومما قلته في ذلك في الاجادة
فمن قاصد تنزيهه لو رعى له ... من الجبروت الحق عز التعاظم
ومن قاصد تعظيمه لو رعى له ... محامد ممدوح بأحكم حاكم
وحافظ كل العارفين عليهما ... وهذا الصراط المستقيم لقائم
ذلك أن اسم الملك يقتضي تفرده بالخلق والامر والعزة وعلم الغيوب والقدرة على كل شيء ثم أن الكمال الاعظم في ذلك كله يقتضي نفوذ المشيئة وسبق القضاء من غير جبر كيلا يفوت عليه سبحانه مراد واسمه الحميد يقتضي كمال الحمد والعدل والحكمة والفضل والصدق والجود والثناء والتسبيح والتقديس ثم أن الكمال الأعظم في ذلك كله يقتضي أوفر نصيب لأفعاله الحميدة وأحكامه العادلة من التنزيه عن اللعب والعبث والخلو عن الحكمة والمساواة بينها وبين أضدادها وهذا ما لا شبهة
فيه ولذلك نص عليه كثير من أئمة الآثار بل من علماء الكلام الذين ربما اتهمهم خصومهم أنهم من نفاة الحكمة
وأنا أورد من ذلك اليسير على قدر هذا المختصر فمن ذلك أن ابن الحاجب جزم في كتابه مختصر منتهى السؤل والامل باجماع الفقهاء على أن أفعال الله تعالى في الشرائع معللة ذكره في دليل العمل بالسير وتخريج المناط من القياس وذكر في مسالك العلة أنها صريح وتنبيه وإيماء فالصريح مثل لعلة كذا أو بسبب أو لاجل أو لكي أو اذن أو مثل لكذا أو ان كان كذا أو بكذا أو مثل فانهم يحشرون أو فاقطعوا أيديهما ومثل سها فسجد ثم ذكر أقسام التنبيه والايماء بعد ذلك وجميع الاشعرية يتابعونه على ذلك في أصول الفقه كالرازي في المحصول والغزالي في المستصفى وجميع من أثبت القياس في الفروع وكذلك شراح كتابه منهم ومن غيرهم مع كثرتهم وأكثرهم أشعرية قرروا ذلك ولم يعترضوه وقد قيل أنه شرح بسبعين شرحا
وأما قول عضد الدين في شرحه وجوبا عند المعتزلة وتفضلا عند غيرهم فانما أراد ارسال الرسل لا تعليل الاحكام الشرعية وإلا بطل القياس ولأن هذا النقل عن المعتزلة وغيرهم باطل في تعليل الاحكام الشرعية وكذلك ذكر الحافظ أسعد بن علي المعروف بالزنجاني أن ذلك مذهب أهل السنة وهو من أئمة الشافعية ذكره في شرح قصيدته الشهيرة في الحث على السنة وهي التي أولها تمسك بحبل الله واتبع الخبر وذكر الذهبي في ترجمة عكرمة من الميزان ما يدل على ذلك وكذلك الامام الخطابي والعلامة الدميري من أئمة الشافعية وأهل السنة ذكرا حكمة الله تعالى في خلق الداء والدواء في جناحي الذباب والهامة تقديم ما فيه الداء وتأخير ما فيه الدواء ردا على من من طعن في الحديث بذلك ونصا على أن لله حكمة في كل شيء وطولا في ذلك ذكره الدميري في كتابه حياة الحيوان في ذكر الذباب من حرف الذال
وشرح ابن الأثير الحكيم بالحاكم وبذى الحكمة معا ولم ينكر تفسيره بذي الحكمة ويجعله من البدع وفسر الحكمة بمعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم فجعل الاشياء متفاضلة في أنفسها والحكمة معرفة ذلك وهذا هو المراد وإذا كان للاسم الشريف معنيان صحيحان مشتملان على الحمد
والثناء لم يصح منع أحدهما على أن تفسير الحكيم بالحاكم مطلقا مما لم أره في كتب اللغة ولعل ابن الأثير قلد فيه بعض المتكلمين وهذه كتب اللغة موجودة والله يحب الانصاف
وذكر ابن كثير في الأول من البداية والنهاية في قصة نوح عليه السلام في تفسير قوله تعالى ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون قال ابن كثير أي من يرد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الفعال لما يريد وهو الحكيم العليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة اه بحروفه هو إشارة إلى قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين كما ذكره الذهبي
فالزنجاني والذهبي وابن كثير من أئمة الاثر وأئمة الشافعية وأهل السنة وقد تطابقوا على تعليل أفعال الله بالحكمة من غير حكاية خلاف في ذلك بل ذكر ذلك الغزالي مع توغله في علم الكلام ذكره في المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى في شرح الرحمن الرحيم وكذلك ذكر مثل ذلك في الاحياء في سر القدر كما تقدم
ومن كلامه في المقصد الاسنى ما لفظه ولذلك قال الله سبقت رحمتي غضبي فغضبه ارادته الشر والشر بارادته ورحمته ارادته الخير والخير بارادته ولكن أراد الخير للخير نفسه وأراد الشر لا لذاته بل لما تضمنه من الخير إلى قوله فلا تشكن أصلا في أن الله أرحم الراحمين وانه سبقت رحمته غضبه ولا تستريبن في أن مريد الشر للشر لا للخير غير مستحق اسم الرحمة إلى آخر ما ذكره وهو كلام طويل متداول بين أهل السنة وكذلك قال النووي في شرح مسلم في حديث والشر ليس اليك أي ليس بشر بالنظر إلى حكمتك فيه وإنك لا تفعل العبث وذكره في الاذكار أيضا
وذكر ذلك الفقيه ابن العربي المالكي في شرح الترمذي ومن كلامه فيه ما لفظه فان البارى لا يجوز عليه الاهمال بحال ولا بوجه قال
وقد وهم في ذلك المتكلمون من علمائنا في بعض الاطلاقات على الله وذلك قبيح فلا تلتفتوا اليه ذكره في أول كتاب الصيام بل قال الرازي في مفاتيح الغيب إن مسألة الافعال وقعت في حيز التعارض بحسب تعظيم الله تعالى نظرا إلى قدرته وبحسب تعظيمه سبحانه نظرا إلى حكمته إلى آخر كلامه كما سيأتي في مسألة الافعال ويعضده كلامه في وصيته وفي أصول الفقه
وقال الامام العلامة محمد بن جرير الطبري إمام السنة ما لفظه فان قال قائل فما معنى قوله عليه السلام اعملوا فكل ميسر لما خلق له إن كان الامر كما وصفت من أن الذي سبق لأهل السعادة والشقاء لم يضطر واحدا من الفريقين إلى الذي كان يعمل ولم يجبره عليه قيل هو أن أهل كل فريق من هذين مسهل له العمل الذي اختاره لنفسه مزين له ذلك كما قال جل ثناؤه ولكن الله حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم وأما أهل الشقاوة فانه زين لهم أعمالهم لإيثارهم لها على العمل بطاعته كما قال جل ثناؤه إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون إلى قوله لأن المضطر إلى الشيء لا شك أنه مكره عليه لا محب له بل هو له كاره ومنه هارب والكافر يقاتل دون كفره إلى آخر ما ذكره وهو كلام جيد مطول ذكره بكماله العلامة ابن بطال في أبواب القدر من شرح صحيح البخاري محتجا به على بطلان قول الجبرية الجهمية وموضحا لبراءة أهل السنة منهم والحجة فيه هنا قوله لإيثارهم لها على طاعته
وفي الواحدي في تفسير قوله تعالى وأضله الله على علم عن سعيد بن جبير على علمه فيه وهو من هذا القبيل وإلا لم يكن مناسبا واحتاج إلى تفسير آخر وقال ابن الجوزي في مواعظه بث الحكم فلم يعارض بلم وقال ابن قيم الجوزي الحنبلي في حادي الأرواح ما لفظه محال على أحكم الحاكمين وأعلم العالمين أن تكون أفعاله معطلة عن الحكم
والمصالح والغايات الحميدة والقرآن والسنة والعقول والفطر والآيات شاهدة ببطلان ذلك
وقال في الجواب الكافي وما قدروا الله حق قدره من نفي حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله وكذلك نصر ذلك شيخه ابن تيمية وبالغ في نصرته وذكر الزركشي في شرح جمع الجوامع نحو ذلك عن الحنفية وأنهم رووه عن ح قال وهو الذي حكاه الزنجاني من أصحابنا وأبو الخطاب من الحنابلة وهو المنصور لقوته من حيث الفطرة وآيات القرآن المجيد وسلامته من الوهن والتعارض
فهؤلاء سبعة عشر من أكابر الاشعرية وأهل الكلام وأهل السنن والآثار من المتأخرين تيسر لي النقل عنهم الآن مع بعدي عن ديارهم دع عنك قدماء السلف الذين صانهم الله وصان أزمنتهم عن البدع فلو ادعى مدع اجماع المتأخرين مع اجماع المتقدمين من المسلمين على ذلك لما بعد عن الصواب والله الهادي
أما القدماء من الصحابة والتابعين فقد علم ضرورة أنهم لم يتأولوا اسم الله الحكيم وأما المتأخرون فأما طوائف الفقهاء وأهل الأثر والشيعة والمعتزلة على كثرة فرقهم فقد اتفقوا على ذلك أما أهل الأثر فقد تقدم نقله عنهم من غير معارضة وأما طوائف الفقهاء فقد نقله عنهم ابن الحاجب عموما وادعى اجماعهم وأما كل طائفة منهم خصوصا فقد تقدم نقله عن أبي حنيفة وأصحابه وأما الشافعية فذكر منهم جماعة عرفت منهم وقت هذا التعليق عشرة الخطابي وعلي بن خلف بن بطال والزنجاني وابن كثير والذهبي والغزالي والنووي وابن الأثير والزركشي والدميري وتركت الرازي لتعارض كلامه في ذلك وأما المالكية فذكر منهم ابن الحاجب وابن العربي وصدع بالحق في هذا الموضع ونص على قبح ذلك ممن قال به من متكلميهم وأما الحنابلة فذكر منهم أربعة ابن الجوزي وأبو الخطاب وابن قيم الجوزيه وشيخه ابن تيمية وبالغا في نصرته
فصل في ذكر الادلة على ذلك
واعلم أن هذه المسألة الجليلة وإن كانت جلية فقد أحوج أهل اللجاج والتمسك بالمتشابهات إلى التطويل فيها لما يتفرع عنها ويبتني عليها من القواعد وقد بسطت الادلة عليها في العواصم ولكن لابد من التبرك بذكر طرف صالح غير المشهور في علم الكلام يدفع الله به في نحو المخالفين
فمن ذلك ما ورد في تعليل خلق السموات والأرض كقوله تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون وقال تعالى أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وفي هذه الآية الكريمة دلالة على أن الفكرة العقلية الصحيحة تثمر المعرفة بحكمة الله والقطع على تنزيه الله من العبث واللعب كما أن الادلة الشرعية جاءت بذلك وذلك واضح في قوله تعالى أولم يتفكروا في أنفسهم فهي حجة على إثبات التحسين العقلي كقوله أم تأمرهم أحلامهم بهذا وقال تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وقال هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إلى غير ذلك
وبوب البخاري بابا في ذلك فقال في التوحيد والرد على الجهمية
باب قول الله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ثم روى حديث ابن عباس كان النبي يدعو من الليل وذكر دعاءه وفيه أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق وذلك من البخاري إشارة إلى مذهب أهل السنة في إثبات الحكمة
ومن ذلك ما ورد في تعليل العذاب بالاعمال والاستحقاق مثل جزاء بما كانوا يعملون وهو أصرح وأكثر وأشهر من أن يذكر بل هو من المعلومات من ضرورة الدين وكذلك جاء صريح التعليل في الأحكام كقوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية وقد ذكرت في العواصم في هذه أكثر من مائة آية من كتاب الله مما تقشعر الجلود لمخالفة آية واحدة منها وإنما اقتصرت على ما هنالك خوفا من الاملال وقد ذكر ابن قيم الجوزية في الجواب الكافي أن في ذلك قدر ألف آية من كتاب الله ذكره في فائدة العمل مع القدر في ترتيب الاشياء على الاسباب في حكمة الله تعالى
ومن ذلك قول نوح عليه أفضل السلام إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين فان لفظة أحكم هنا مبالغة في الحكمة التي هذا موضعها لما في كلامه من التلطف بتنزيه الله عن الخلف في الميعاد ولا يصح أن يكون أحكم هنا مبالغة في الاحكام إذ لا مناسبة لذلك بهذا المقام ولذلك كان الجواب على نوح عليه السلام بأنه عمل غير صالح فبينت له الحكمة على التعيين لتقرير اعتقاده الجملي لها فكشف له بها أن الوعد سبق له متعلق بأهله الصالحين وقد روى أت الوجه في اشتباه ذلك على نوح أن ابنه كان منافقا وكان علم نفاقه من علم الغيب الذي يختص الله به ولو كان عدم صلاحه بأمر بين لم يخف ذلك عليه وهذا وجه جيد والله أعلم ومن ذلك قوله تعالى أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون
ومن ذلك قوله تعالى حاكيا عن الأشقياء لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وقوله في غير آية وأنتم تعقلون وأنتم تعلمون فانها وأمثالها تدل على معرفتهم بعقولهم قبح ما هم عليه وبطلانه معا إذ لو عرفوا بطلانه بها دون قبحه لم تقم عليهم الحجة وإنما أرسلت الرسل لقطع عذرهم لكيلا يقولوا ما حكى الله تعالى عنهم وذلك لزيادة الاعذار لأنه لا أحد أحب اليه العذر من الله تعالى لا لأنه لا حجة عليهم قبل الرسل أصلا ولذلك صح عند أهل السنة أن تقوم حجة الله بالخلق الاول في عالم الذر على ما سيأتي بيانه وذلك قبل الرسل ولم يختلفوا في صحته وإنما اختلفوا في وقوعه
ومن ذلك سؤال الملائكة عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته ولولا اعتقادهم للقطع بالحكمة ما استغربوا ذلك ولا سألوا عنه ولذلك كان الجواب عليهم بقوله تعالى اني أعلم ما لا تعلمون ولم يقل اني يصدر مني ما يفعل المفسدون وأوضح من هذا كله ما جرى بين موسى والخضر عليهما السلام فانه مناد نداء صريحا على اشتمال أفعال الله تعالى على المصالح والغايات المحمودة ولولا اعتقادهما لذلك ما استنكر موسى ولا أجاب الخضر بوجوه الحكمة الراجعة إلى المصالح ولا قنع موسى بذلك الجواب والخصم يعتقد أن المفسدة البينة الفساد في البداية والنهاية الخالية عن الحكمة والمصلحة باطنا وظاهرا جائزة على ا تعالى بل مساوية للمصلحة البينة الصلاح باطنا وظاهرا بل لا يجوز أن يعلل شيء من أفعاله بحكمة بل يجب القطع بخلوهاعن ذلك بل يجب القطع بأن ذلك هو الأولى في ممادح الرب تعالى حتى صرخوا بتأويل اسمه الحكيم بمعنى المحكم لخلق المخلوقات لا سواه لا أن له في ذلك الأحكام حكمة ألبتة ولو كان كذلك لم يقع منه الاحكام لأنه لا يكون أولى به من عدمه وإن لم يكن أولى به فلا ولا أكثر وقوعا في مخلوقاته بل لو كان كذلك لارتفع التحسين والتقبيح في الشرع ولم يكن الامر بالشيء أولى من النهي عنه ولا العكس لأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح ولا مرجح في ذلك كله إلا داعي الحكمة والعلم بفضل بعض الأمور على بعض
ثم إنا قد علمنا أن الشيطان محكم لأسباب فساده ووسواسه أشد الاحكام مع أنه في غاية القبح لخلوه عن الحكمة وكذلك المشركون أحكموا حربهم وسبهم للأنبياء وقالوا في ذلك القصائد المحكمة وإنما قبح ذلك كله وسخف قائله لخروجه عن الحكمة فكيف يرد اسم الحكيم إلى مثل ذلك
وقد نقل تفسير الحكيم بالمحكم من لم يفهم هذه الغائلة من شراح الاسماء الحسنى حتى نقله البغوي في تفسيره ومصنف سلاح المؤمن وأما ابن الأثير في النهاية فنقل التفسيرين معا وأما الغزالي في المقصد الأسنى فانه اتقى فيه من المخالفين بغير شك لأنه صرح بمخالفتهم في شرح الرحمن الرحيم لكنه تلطف في إخفاء المخالفة على الأكثرين بكونه جعلها في الموضع الذي لم يشتهر فيه الخلاف بينهم وبين خصومهم وهو تعظيم رحمة الله تعالى وسعتها وقد أشار إلى مخالفة الأكثرين للحق في خطبة هذا الكتاب بل صرح بذلك وأيضا فيلزم أن لا يكون الجود ونحوه أولى بالله من أضدادها وأيضا كل مقدور ممكن الوجود والبقاء على العدم ولا يترجح أحد الممكنين إلا بمرجح ولا مرجح إلا الدعي وأيضا فيلزم أن لا يحتاج المتشابه إلى تأويل
ومن ذلك أنه يتعذر على من نفى حكمة الله تعالى أن يقطع على صدقه سبحانه وصدق رسله الكرام عليهم السلام كما تقدمت الاشارة اليه وهذا مبسوط في كتب الكلام ولا يصح لهم عنه جواب إلا ما يلزمهم معه ثبوت الحكمة في الافعال والاقوال معا كما تقدم
ومن ذلك أنهم إنما أن يحسنوا نفي الحكمة بغير حجة أو لا يحسنوه إلا بحجة إن حسنوه بغير حجة أكذبهم قوله تعالى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وإن لم يحسنوه إلا بحجة اعترفوا بالتحسين العقلي
ومن ذلك أنهم اعترفوا بأن العقل يعرف الحق من الباطل فيقال لهم فاذا تقرر ذلك فالمعلوم في الفطر ترجيح الحق على الباطل وقد اجتمعنا في الاقوال على ترجيح الصدق على الكذب بخصوصه والصواب ترجيح الحق على الباطل بعمومه في الافعال كالأقوال والله يحب الانصاف
فصل في الجواب عما اغتروا به في ذلك
فمن ذلك أنه ورد في السمع ما يتوهم الجهال منه إن الله تعالى يريد الشر المحض لكونه شرا لا لحكمة فيه ولا غاية محمودة وهذه هي معظم ما جرأهم على ذلك بل ليس لهم كبير شيء سواها وهي شبهة الملاحدة التي يصولون بها على السفهاء والضعفاء وذلك مثل آلام الاطفال والبهائم وعذاب الآخرة الدائم والجواب عن ذلك يتضح بذكر أمور
الامر الأول أن الاستقباح الذي يوجد في العقول لذلك إنما هو بالنسبة إلى من لا يعلم تأويلها تفصيلا ولا جملة لكن الله تعالى قد أعلمنا جملة أن لها تأويلا أو أن لها تأويلا لا يعلمه سواه وهو الصحيح على ما مضى تقريره في هذا المختصر فاذا ذلك الاستقباح الموجود في عقول البشر صحيح بالنظر إلى علومهم القاصرة وعقولهم الحائرة لكن الراكن اليه غفل عن كون ما أنكر صدر عمن ثبتت حكمته وثبت استبداده بعلم الغيوب والحكم وانه يعلم ما لا نعلم من الغيوب والحكم وقد أخبرنا في كلامه الحق أن للمتشابه تأويلا لا يعلمه إلا هو ولو كان ما تشابه علينا حسنا في عقولنا لم يحتج إلى تأويل ولو لم تكن أفعاله موقوفة على الحكمة لم يرد بذلك التنزيل بل ورد السمع بما يدل على أن الله تعالى فعل ذلك للابتلاء كما قال تعالى في تحويل القبلة وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلى قوله وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وفي نحو هذا يقول تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذي من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين فبين سبحانه أن التكذيب بما لم
يعلم تأويله هو عادة جميع الكافرين الاولين والآخرين وان سبب كفرهم وتكذيبهم به إنما هو جهلهم وعدم احاطتهم بعلمه فليحذر ذلك كل الحذر فان طباع الخلق واحدة إلا ما سلم الله تعالى نسأل الله الهداية والسلامة
فعلى هذا يكون الايمان به أفضل الايمان بل محك أهل اليقين والاحسان ويكون الخوف على المرتابين بسببه من مكر الله خوفا عظيما نسأل الله أن يثبتنا ولذلك خص الله الراسخين بالاستعاذة من الزيغ بعد ذكر إيمانهم بالمتشابه كأن ذكره ذكرهم ذلك فليطلب العاقل من طبعه اللجوج ونفسه الجاهلة المهلة اليسيرة حتى ينكشف في الآخرة ذلك التأويل كما انكشف لموسى تأويل الخضر بعد القطع على بطلانه ألا ترى إذا رأيت رجلا مطيقا يضرب ولدا ضعيفا ضربا مؤلما أنه أول ما يسبق إلى طبعك رحمة الصغير والانكار على الكبير حتى تعلم أن الكبير أبو ذلك المضروب وأنه ساع في صلاحه وخبير به فيزول عنك ما كان سبق إلى طبعك
وقد جود هذا الوجه الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى وفي البحث السادس من مسألة الارادة تمام لهذا فيه تقرير ورود السمع بأن الله تعالى في جزاء الاشقياء حجتين حجة ظاهرة وهي العمل وحجة خفية وهي الحكمة الباعثة على الجزاء دون العفو ثم أن تأويل الخضر لموسى دل على أن تأويل المتشابه يرجع إلى رده إلى المحكم الذي تحسنه العقول ولا تنكره وهو جلب المنافع والمصالح ودفع المضار والمفاسد ويدل على لزوم هذا في التأويل أنه لو ورد بخلافه كان متشابها آخر يحتاج إلى التأويل ولم يستحق اسم التأويل وهذه حجة قاطعة ولله الحمد
واعلم أن الطبع في هذه المسألة غالب بقوته على من لم يعارضه بتذكر كمال الربوبية ونقص العبودية ويتضرع إلى الله في امداده بهدايته ألا ترى إلى قوله تعالى بعد ذكره لتحويل القبلة وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله نسأل الله هدايته وإن لا يكلنا إلى نفوسنا طرفة عين
الوجه الثاني أن يتذكر الانسان ما يعلمه من نفسه من شدة الجهل وقلة العلم وتردده في الامور وحيرته في أشياء سهلة ورجوعه عما كان عليه مرارا ووجدانه للشيء بعد الطلب الشديد الطويل واليأس من وجدانه فان علم الانسان بأحوال نفسه ضروري وهو حجة عليه كما قال تعالى بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره وقد وصفه ربه العليم الخبير بأنه ظلوم جهول في كتابه الحق ويعلم من التجربة المستمرة ومن قصة موسى والخضر التفاوت العظيم بين الخلق في البلادة والذكاء ومعرفة الدقائق وخفيات الحكم ومحكمات الآراء وحدس عواقب الامور فكيف التفاوت بين الخلق وخالقهم سبحانه وتعالى ولو وهب الله تعالى لبعض خلقه نصف علمه سبحانه لجاز أن يكون ذلك التأويل في النصف الآخر كيف وقد صح في حديث ابن عباس أن الخضر قال لموسى ما علمي وعلمك وعلم جميع الخلائق في علم الله إلا مثل ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر
والفرق بين هذا الوجه والذي قبله إن هذا راجع إلى كسره لعجبه بنفسه فان الاعتراض على الله سبحانه إنما ينشأ من ذلك والوجه الأول مبني على تسليم صحة إنكاره في المتشابهات لكن بالنسبة إلى عقولنا ومعارفنا والغرض به اقناع الخصم كيلا يعتقد فينا العناد بانكار المدارك العقلية فانا لا ننكرها لكن ندعي أنه قد ينكشف خلاف السابق إلى الوهم العقلي والحسي كما أن الانسان أول ما يرى النجوم يعتقد أنها ساكنة حتى تنكشف له حركتها بالبرهان لا بالبصر وقد يراها متحركة حركة سريعة مع حركة السحاب الرقيق وينكشف له بالبرهان عدم ذلك
الوجد الثالث وهو القالع لآثار هذه الوساوس أن يعلم الانسان أنه ما زال الاختلاف بين أهل الفطن والعلوم من المسلمين فيما بينهم والفلاسفة فيما بينهم وسائر الخلائق حتى حكى الله تعالى الاختلاف اليسير الذي لا يضر فيما عن الملائكة وبعض الأنبياء عليهم السلام فقال تعالى ما كان لي من
علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون وحكى سبحانه ما جرى بين داود وسليمان عليهما السلام من الاختلاف في حكم الغنم إذ نفشت في زرع قوم إلى قوله تعالى ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وحكى ما جرى بين موسى وهارون عليهما السلام حتى حكى قول هارون لموسى لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي و فلا تشمت بي الأعداء وثبت في الحديث اختصام ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في حكم الذي قتل مائة نفس ثم تاب وبعث الله ملكا يحكم بينهم فحكم لملائكة الرحمة وثبت أيضا محاجة آدم وموسى في الخروج من الجنة لا في المعصية كما يظنه كثير من الناس كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى فصار مجموع ذلك دليلا قاطعا على أن العادة قد استمرت على وجوب الاختلاف في الاحكام عند التفاضل في العلم والحكمة وذلك يوجب استقباح الجاهل لبعض أفعال الأعلم على قدر ما بينهما من التفاوت فأولى وأحرى أن يوجب استقباح الجاهل لبعض أفعال الاعلم
ولما كان التفاوت بين علم المخلوقين وعلم خالقهم تعالى لا يقدر بمقدار ولا يتوهم بقياس وجب أن يكون بينهم في التحسين والتقبيح لتفاصيل الاحكام أعظم الاختلاف وجوبا عاديا يستحيل خلافه حتى لو قدرنا ما لا يتقدر من موافقتهم لجميع أحكام الله تعالى على جهة التفصيل لكان هذا محارة عظمى لعقول جميع العقلاء والأذكياء بل محالا ممتنعا في معارف الفطناء والعلماء ولكان ذلك الاتفاق أعظم شبهة قادحة في زيادة علم الله عليهم ومن أدق المتشابه المحير لفطنائهم فلما جاء السمع بالمتشابه عليهم على القاعدة المألوفة والعادة المعروفة في أن الاعلم إذا تميز شيئا قليلا عن أجناسه وأشباهه لم يكن بد من أن يأتي بما لا يعرفون ويفعل ما لا يقولون ويستحسن بعض ما يستقبحون حتى قيلت في هذا الاشعار وضربت فيه الامثال وحتى قيل أن الاجتماع في الخفيات محال مثلما أن الاختلاف في الجليات محال وقد أجاد في هذا المعنى من قال
تسل عن الوفاق فمر بنا قد ... حكى بين الملائكة الخصاما
كذا الخضر المكرم والوجيه المكلم ... إذ ألم به لماما
تكدر صفو جمعهما مرارا ... وعجل صاحب السر الصراما
ففارقه الكليم كليم قلب ... وقد ثنا على الخضر الملاما
فدل على اتساع الامر فيما الكرام فيه خالفت الكراما ...
وما سبب الخلاف سوى اختلاف العلوم هناك بعضا أو تماما ...
فكان من اللوازم أن يكون الاله ... مخالفا فيها الاناما
فلو لم نجهل الاسرار عنها ... بلغنا مثله فيها المراما
فصار تشابه الاحكام منه ... عليه شاهدا ولنا لزاما
فلا تجهل لها قدرا وخذها ... شكورا للذي يحيى العظاما
وحاذر أن تكون لها نسيا ... وتنظر في المواقف أو تراما
فلو لم ينسها موسى عليه السلام قضى من الخضر المراما ...
ولو لم تنسها الاملاك في آدم كانوا بها اعتصموا اعتصاما ...
وإن محارة قد حار فيها الملائك والكليم ولن يسامى ...
لقاطعة القلوب حرية أن ... يكون الابتداع بها حراما
ولا تعجب بفضل الله يوما ... فان العجب يورثك السقاما
وكن لنعال خلق الله تربا ... إذا ما شئت للنعمى دواما
الوجه الرابع
تدبر كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ألا ترى إلى قوله تعالى إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما فعقب ذكر هذا العذاب العظيم بذكر موجبه من عزته وحكمته التي هي تأويل المتشابه وكذلك قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من
يشاء وهو العزيز الحكيم وكذلك قال عيسى عليه السلام وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم ولا يخفى ما في تأويل الحكيم بالمحكم هنا من التعسف الباطل وما في التأويل من غير موجب من فتح أبواب البدع والمجاهل
وفي هذه الآيات وأمثالها نكتة لطيفة في جمعه بين العزة والحكمة وذلك أن اجتماعهما عزيز في المخلوقين فان أهل العزة من ملوك الدنيا يغلب عليهم العسف في الاحكام فبين مخالفته لهم في ذلك فان عظيم عزته لم يبطل لطيف حكمته ورحمته سبحان من له الكمال المطلق والمجد المحقق
وبعد فان اثبات حكمة الله تعالى معلوم في كتاب الله وسنة رسول الله بين لا يدفع مكشوف لا يتقنع مدحا وثناء كما اشتملت عليه النصوص القرآنية والاسماء الحسنى وأسئلة وجوابات كما تبين في قصة موسى والخضر وآدم وملائكة السموات ألا ترى أنك إذا تأملت سؤال الملائكة وما أجيب عليهم به عرفت فيه ما اتفق عليه العقلاء من تقبيح الشر المحض الذي لا خير فيه ولا في عواقبه وغاياته دون الشر المراد لاجل الخير وذلك بين في اظهار الله تعالى لهم صلاح آدم عليه السلام وعلمه وتقدمه في القرب من الله تعالى ألا تراه سبحانه وتعالى يقول لهم بعد بيان ذلك لهم ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون فبين لهم أن خلقا فيهم مثل هذا العبد الصالح والنبي المكلم المقرب المستخلف المعلم لا يحكم عليه بأنه شر محض ولا حكمة فيه ولا خير يقصد به وإنه لا نكارة في شر يكون للخير كالصف للدر والترب للبر والفصاد للعافية والقصاص للحياة وأمثال ذلك مما هو صحيح شهير في حكمة الحكماء وعقول الفطناء
ولذلك قيل أن العالم كالشجرة وأهل الخير منهم كالثمرة من تلك الشجرة وهو أحد الوجوه في تفسير قوله تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون . أي ليعبدني العابدون منهم وقد جاء نحو
ذلك في حديث الخليل عليه السلام حين جعل يدعو علي من رآه يعصي الله فوحي الله اليه يا إبراهيم دع عبادي فان قصر عبدى مني احدي ثلاث اما أن يتوب فأتوب عليه أو يستغفرني فأغفر له أو أخرج من صلبه من يعبدني رواه الهيثمي في مجمع الزوائد والطبراني
فثبت أن الانسان ما يؤتي في توهمه نفي حكمة الله إلا من جهة جهله لقدر علمه وقدر علم الله تعالي وإنما كره علم الكلام لما يؤدي اليه الخوض فيه من المحارات ومخالفة الضرورات أو المشهورات ألا تري أن المتكلمين لما توغلوا في هذه المباحث أدي ذلك طائفة منهم إلي القدح في الحكمة وطائفة إلي القدح في القدرة علي هداية العصاة وطائفة إلي القدح في دوام العذاب ورجحت كل طائفة تأويلها
أما غلاة الأشعرية الذين قدحوا في معني الحكمة فرجحوا ذلك لصعوبة النظر في حكمة الله تعالي في جميع الشرور الدنيوية والأخروية وعجز العقول عن درك ذلك وأما غلاة المعتزلة فرجحوا قدحهم في القدرة على اللطف أنه قد خاض في أمر معين يحتمل أنه محال ولا بد من اخراج المحال من المقدورات بالاجماع وإلا أدي إلي تجوير قلب القديم حادثا والحادث قديما وغير ذلك مما يستقبح ذكره وقد أشار الغزالي إلي مثل كلامهم في شرح الرحمن الرحيم من المقصد الأمني
وأما الأشعرية فقدحوا في الحكمة بأسرها فكان ما ذهبت اليه المعتزلة أهون من هذه الجهة
وأما ابن تيمية وأصحابه فرأوا أن القدح في الحكمة والقدرة يتطرق إلي النقص في كمال الربوبية وذلك يحتمل الكفر ويضارعه أو يقرب منه وأما دوام العذاب فالقدح فيه عندهم سهل بعد ورود الاستثناء في غير آية وحديث وأثر ومنتهاه تخصيص عموم بما يقتضي زيادة الرحمة والحكمة والعدل والثناء
ولي علي الجميع كلام طويل وقد أشرت إلي أقوالهم وشبههم في الإجادة بأقصر عبارة فقلت في ذلك شعرا
تحير أرباب النهي ما المراد بالعصاة ... من الجن وأولاد آدم
أخيرا أراد الله بالخلق أولا ... أم الشر مقصود لا حكم حاكم
فان كان خيرا هل يجوز فواته ... علي مالك ما شاء بالغيب عالم
وإن كان شرا هل أريد لنفسه ... أم الخير مقصود به باللوازم
وهل سبق قصد الخير بالشر يقتضي ... تطابق ذاك القصد حكم الخواتم
ولما أتي ذكر الخلود بناره ... علي جوده في ذكره والجوازم
تعاظم شأن الخلد في النار كل من ... تفكر في أسماء رب العوالم
فلا هو مغلوب ولا هو جاهل ... ولا عابث قطعا ولا غير راحم
فعاد إلي التسليم كل محقق ... لما قاله في الذكر رب العوالم
سواء قضي بالخلد بالنار أو قضي ... بأن عذاب الأشقياء غير دائم
ولما أتي استثناؤه في كتابه ... من الخلد جهرا فل حد التعاظم
وعاد مجال القول في ذاك واسعا ... وقد كان ضاق الأمرضيق الخواتم
ورد شكوك الملحدين خواسئا ... ومد بحار العارفين الاكارم
فمن قائل بالخلد من أجل كثرة ... الوعيد به المنزلات القواصم
ومن قائل أن الخصوم مقدم ... وساعده أسماء أحكم حاكم
وثالثها المنصور يرجي لمسلم ... ومن عاند الاسلام ليس بسالم
ومن لائم من خاض في ذاك حائر ... ومن واقف في ذاك ليس بلائم
ومن خائض فيه يكفر خصمه ... علي مثل ما يأتي فاليس بسالم
ولا كفر في الأقوال بعد تعارض ... الصوادع في تنزيل أعلم عالم
ولكنه يخشي بتكفير غيره ... يبوء به أو باقتراف المآثم
فلولا أراد الله توسيع حكمه ... لما خصه في ذكره غير كاتم
وفي الجنة استثني وعقبة بما ... يدل علي خلد الجنان الدوائم
علي أن وصف الجود لله دائم ... ومستلزم قطعا دوام المكارم
وكيف يدوم الملك والجود والثنا ... وينقطع المعروف في قول عالم
وجاءت أحاديث الصحاح توافق ... العقول بثنيا الرب أرحم راحم
إذا وردت بعد الثواب فانها ... لما زاد جودا في ثواب الاكارم
وإن وردت بعد الوعيد فانها ... لعفو وصفح عن عقاب الجرائم
ووافقها في الذكر ذكر زيادة ... وذكر مزيد في النصوص الجوازم
وطول في الثاني اين تيمة فقف ... علي علمه في كتبه والتراجم
وأسنده عن ستة نص قولهم ... أكابر من صحب النبي الاكارم
فلا تعتقد ان لم يصح مقالهم ... وبان ضعيفا ساقطا كفر عالم
فما هو الا حسن ظن فان يجب ... فما ينقص الرحمن رجوى المراحم
وقول خليل الله ثم ابن مريم ... دليل على بطلان لوم اللوائم
وقد كاد جل الخلق يكفر ضلة ... بذلك لولا فضل أرحم راحم
فمن قاصد تنزيهه لو رعى له ... من الجبروت الحق عز التعاظم
ومن قاصد تعظيمه لو رعى له ... محامد ممدوح بأحكم حاكم
وحافظ كل العارفين عليهما ... وهذا الصراط المستقيم لقائم
وهذا مقام لا يخاطر عاقل ... به وله قد كان خلق العوالم
لتعليل خلق السبع والسبع كلها ... بتعريف وصفيه قدير وعالم
وإن مقاما حار فيه كليمه ... ولم يستطع صبرا لخير العوالم
جدير بتحقيق عظيم وريبة ... من الوهم عند الجزم من كل عالم
ألم تر ما أدى اليه الكلام من ... فريقيه لما لججوا في الخضارم
نفوا حكمة الرحمن في العدل والجزا ... وقدرته عن هدى أحقر ظالم
فوهى فريق عز أقدر قادر ... ووهى فريق قدس أحكم حاكم
وذا عذرهم في ذي الأقاويل أنها ... لمنكرة في قول جل الأكارم
كأنهم راموا مساعدة النهى ... وثلج نفوس بالغيوب هوائم
فلم يجدوا إلا التأول مخرجا ... لاحدى ثلاث في العلوم عظائم
لحكمة رب الخلق أو لاقتداره ... على اللطف أو تخليد أهل الجرائم
وأحسن من ذا الوقف فيه لقطعنا ... جميعا بحسن الحكم من خير حاكم
وذلك مغن إذ سلامة جارم ... لدى الخوف أولى من اصابة جاز
وأثن ولا تستثن شيئا من الثنا ... ودع بدعا أضحت كأضغاث حالم
ولا تخش من عجز ولا جهل حكمة ... ولا غيظ مظلوم ولا عسف ظالم
ولا أنه في بره غير قادر ... عزيز ولا في عزه غير راحم
ولا أنه في حكمه غير عادل ... حكيم لما لم يعلم الخلق عالم انتهت على الاختصار في هذا المختصر
فهذه نبذة مختصرة من أول الاجادة في الارادة وهي قدر ألف ومائتي بيت أو تزيد علي ذلك قلتها أيام النشاط إلي البحث استعظاما لخوف الوقوع في الخطأ أو الخطر في هذه المسألة العظمي فاسأل الله التوفيق والعصمة مما خفت منه انه حسبي ونعم الوكيل
وقد أفردت هذه المسألة في مصنفات حافلة منها لابن تيمية ومنها لتلميذه شمس الدين ومنها للذهبي ومنها لي فمن أحب الاستقصاء في المباحث وقف عليها ونظر فيها هنالك والله الموفق ويأتي في الارادة بضعة عشر وجها مما غالبه منصوص من الحكم الربانية في خلق الاشقياء وكان هذا الموضع يليق بها فلتنظر هنالك في البحث السادس من مباحث الارادة
فهذا المعظم المهم مما خدشت به الملاحدة في الاسلام والمبتدعة في حكمه الملك الحميد الحكيم العلام ولم يبق إلا أمور يسيرة منها تعلقوا بآلام الاطفال والبهائم ومن لا ذنب له وكل ما أبيح في الشرع من ذبح البهائم وتحميلها والعمل بها
والجواب عن ذلك كله هو ما تقدم من البراهين الصحيحة على ان الله تعالى حكيم عليم بل على انه سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين
ولعلماء الاسلام في هذا المقام أجوبة مختلفة على حسب قواعدهم وعقائدهم وفطنهم وقرائحهم وقد رأيت أن أقتصر ههنا على كلام الغزالي في المقصد الاسنى لوجهين أحدهما ليعرف الاشعري ان جمهور أصحابه على القول بحكمة الله تعالى ان لم يكن ذلك اجماع المسلمين وثانيهما لحسن عبارة الغزالي في الاستدلال وضرب الامثال فأقول
قال في شرح الرحمن الرحيم من الاسماء الحسنى ما لفظه سؤال وجوابه لعلك تقول ما معنى كونه رحيما وأرحم الراحمين والدنيا طافحة بالامراض والمحن والبلايا وهو قادر على ازالة جميعها وتارك عباده ممتحنين فجوابك ان الطفل المريض قد ترثى له أمه فتمنعه من الحجامة والأب العاقل يحمله عليها قهرا والجاهل يظن ان الرحيم هو الام دون الاب والعاقل يعلم ان ايلام الاب بالحجامة من كمال رحمته وان الام عدوله في صورة صديق فان ألم الحجامة القليل إذا كان سببا للذة الكثيرة لم يكن شرا بل كان خيرا والرحيم يريد الخير بالمرحوم لا محالة وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير ولو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه وحصل ببطلانه شر أعظم من الشر الذي يتضمن ذلك الخير
قلت وما أبين هذا المعنى في كتاب الله تعالى ولو لم يرد فيه إلا قوله سبحانه وتعالى : ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون وقوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وقوله تعالى ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض وقوله تعالى كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى وقوله تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة وقوله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذي جاهدوا منكم ويعلم الصابرين وقوله تعالى في تعليل أفعاله بالحكم في الآخرة ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه افحاما لسائلي ذلك ومرة أجاب عليهم بقوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
ولا خفاء أن قوله حق القول واضح في مواقفه الحكمة والا لما كان بان يحق أكمل في الثناء على الله تعالى من أن لا يحق فتأمل ذلك يوضحه قوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين الآية إلى سائر ما تقدم في هذا
قال الغزالي واليد المتأكلة قطعها في الظاهر وفي ضمنه الخير الجزيل وهو سلامة البدن ولو ترك قطعها لحصل هلاك البدن ولكن قطعها لسلامة البدن شر وفي ضمنه الخير لكن المراد الأول السابق إلى نظر القاطع هو السلامة التي هي خير محض وهي مطلوبة لذاتها ابتداء والقطع مطلوب لغيره ثانيا لا لذاته فهما داخلان تحت الارادة لكن أحدهما يراد لذاته والآخر يراد لغيره فالمراد لذاته قبل المراد لغيره ولاجل ذلك قال الله تعالى سبقت رحمتي غضبي فغضبه ارادته الشر والشر بارادته ورحمته ارادته الخير والخير بارادته ولكن اراد الخير للخير نفسه وأراد الشر لا لذاته فالخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض وكل بقدر وليس ذلك مما ينافي الرحمة أصلا والآن ان خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيرا أو خطر لك انه كان يمكن حصول ذلك الخير لا في ضمن ذلك الشر فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين
أما قولك ان بعض الشر لا خير تحته فان هذا مما تقصر العقول عن معرفته مثل أم الصبي التي ترى الحجامة شرا محضا ومثل الغبي الذي يرى القتل قصاصا شرا محضا لانه ينظر إلى خصوص شخص المقتول وأن القتل في حقه شر محض ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ولا يدري ان التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض لا ينبغي لحكيم ان يهمله فاتهم خاطرك
وأما الثاني وهو قولك انه كان يمكن تحصيل ذلك الخير لا في ضمن ذلك الشر فان هذا أيضا دقيق فليس كل محال وممكن مما يدرك استحالته وامكانه بالبديهية ولا بالنظر القريب بل يعرف ذلك بنظر غامض دقيق يقصر عنه الاكثرون فاتهم عقلك في هذين الطرفين ولا تشكن أصلا في
انه تعالى أرحم الراحمين وانه تعالى سبقت رحمته غضبه ولا تستريبن في أن مريد الشر للشر أي لكونه شرا فقط لا للخير غير مستحق اسم الرحمة وتحت هذا سر منع الشرع من افشائه فلا تطمع في الافشاء ولقد نبهت بالايماء والرمز ان كنت من أهله فتأمل ارشدك الله
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي انتهى كلامه
وللشيخ مختار قريب منه في كتاب المجتبى لكن بغير عبارته بل للامام القاسم بن ابراهيم عليه السلام نحو هذا المعنى في الجواب على الملحد المعروف بابن المقفع فهذا معنى حسن شهد له القرآن والحكمة وفي الحديث النص أن كل ما قضاه الله تعالى للمؤمن فهو خير له مما يحب أو يكره رواه أحمد ومسلم بنحوه واعتقاده هذا من حسن الظن بالله تعالى وفي الحديث ان حسن الظن بالله تعالى هو من حسن العبادة وفي الصحيح يقول الله تعالى انا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء وذلك يناسب قوله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم وهي المحكم هنا وما فيه المدح من غير ذم بالاجماع
وأما السر الذي ذكر أن الشرع منع من افشائه فلعله أراد سعة الرجاء لرحمة الله تعالى كما جاء عن علي عليه السلام لولا أخاف ان تتكلوا عن العمل لاخبرتكم بما لكم من الاجر في قتلهم يعني الجوارح وفي حديث معاذ لاتخبرهم دعهم يعملوا وقد تبين ان رسول الله بين ذلك مرارا ولم يكتمه دائما وكثير منه في كتاب الله تعالى واستقر الاجماع بعد على تدوينه في كتب الاسلام
ثم ان ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية قد صنفا في هذا مصنفات ممتعة وللذهبي معارضة لهم ولي توسط بينهم والله تعالى يمدنا بهدايته وتوفيقه ولي أيضا تكملة على كلام الغزالي هذا ومناقشة لطيفة تتعلق بآخره
في أمر محتمل وما أظنه أراد فيه إلا الصواب وقد ذكرته في العواصم ونفسه في هذا المقام نفس طيب قرآني أثري فأين هو من قول بعض المتأخرين عنه من المتكلمين من أصحابه وممن كان يظن انه أقرب إلى السنة منه حيث قال في بعض كتبه ما لفظه
فان قال بعض الأشقياء انما فعل ذلك ليثيبهم عليه يعني الآلام والمصائب التي تصيب الصبيان ومن لا ذنب له
قلنا له قد ضللت عن سواء السبيل أما كان في قدرة رب العالمين ان يحسن اليهم عوضا عن تعذيبهم أه فانظر إلى ما في هذا الكلام من البعد عن القرآن والسنة والآثار فأول ما بدأ به أنه سمي القائل بذلك بعض الأشقياء وهو رسول الله تواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة التي لا يجهل مثلها مميز والتي اتفق أهل البصر بهذا الشأن على صحة طرقها وتواترها ودونوها في الصحاح والمسانيد وكتب الزهد والرقائق وليس هي من الآحاد بل هي باب كبير من أبواب الدين الذي لم تزل الصحابة فمن بعدهم من طبقات المسلمين يروونها قرنا بعد قرن يروى ذلك السلف للخلف والاكابر للاصاغر ويعزى به العلماء أهل المصائب حتى قال العلامة أبو عمر ابن عبد البر في هذا الباب في كتابه التمهيد ان ذلك أمر مجمع عليه وهي دالة على حسن التعليل بذلك وان لم يرد في المحل الذي ذكره على انفراده أعني الصبيان والبهائم فان الخصم انما أنكر حسن التعليل بذلك ومتى صح التعليل به في موضع صح في غيره وبطل قطعه ببطلانه فتأمل ذلك فان العلل العقلية لا تخصص ولا توجد غير مؤثرة مع ان كثيرا من الأحاديث تعم الصغار والكبار والمكلفين وغيرهم ولنذكر من ذلك اليسير تنبيها على الكثير ليعرف الحامل على هذا النكير
فمن ذلك ما خرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأحمد في المسند وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله
لا تصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وخط عنه بها خطيئة هذا لفظ مسلم وفيه روايات كثيرة وروى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود قلت يا رسول الله انك توعك وعكا شديدا قال أجل اني أوعك كما يوعك رجلان منكم قلت ذلك بان لك أجرين قال أجل ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه الا حط الله سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ولمسلم نحو من ذلك من حديث جابر وللبخاري ومسلم هذا المعنى من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ولمالك عن يحيى بن سعيد وروى الترمذي عن أنس حديثين ومتن أحدهما عن انس ان رسول الله قال ان عظم الجزاء مع عظم البلاء وان الله اذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط والآخر للترمذي عن جابر ولفظه يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء ثوابهم لو ان جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض وروى مالك والترمذي عن أبي هريرة وأبو داود عن محمد بن خالد السلمي عن أبيه عن جده وله صحبة والترمذي عن مصعب بن سعيد ولفظه أشد الناس بلاء الانبياء ثم الامثل فالامثل ومالك والبخاري عن أبي هريرة ولفظه من يرد الله به خيرا يصب منه والبخاري عن أبي هريرة ولفظه ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه الا الجنة
ولهذا المعنى ثلاثة شواهد في تفسير قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به عن أبي بكر وعائشة وأبي هريرة وان كانت هذه تختص بالمذنبين وهذا في جنس الآلام كلها وفي أنواعها الخاصة أحاديث كثيرة مثل ما جاء فيمن مات له ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث أو اثنان لم تمسه النار الا تحلة القسم رواه البخاري ومسلم من حديث أبى سعيدو أبي هريرة معا والترمذي عن ابن مسعود والبخاري والنسائي عن انس والنسائي عن أبي ذر ومالك عن النضر السلمي والنسائي عن معاوية بن قرة والترمذي عن ابن عباس
فهذه نيف وعشرون حديثا من دواوين الاسلام المشهورة وفي فضل الفقر وأجره خمسة وعشرون حديثا تركتها اختصارا وفي سياق الجميع ما
يشهد بان ذلك تعليل مناسب للعقول ولذلك قبله أصحاب رسول الله ولم ينكروه وهم أوفر عقولا وأصح اذهانا وأسلم من تغير الفطرة التي فطر الله خلقه عليها وعند الخصم ان ذلك التعليل غير مناسب وأنه ونقيضه سواء مثل أن يؤلمهم الله في الدنيا ليعاقبهم على آلامهم في الآخرة فان اعترف بالفرق لزمه مناسبة الأول الذي جاءت به السنة وتلقته الصحابة بالقبول وان ادعى انهما سواء فقد عاند وجنى على المسموع والمعقول فكيف يترك النظر في ذلك كله عالم من علماء الاسلام ويعارضه بقوله أما كان في قدرة رب العالمين ان يحسن اليهم عوضا عن تعذيبهم
وجواب أهل الحق على من ابتلى بهذه الوساوس هو قوله تعالى فلا تضربوا الله الامثال ان الله يعلم وأنتم لا تعلمون وذلك أن الأنظار العقلية انما تورد على العلل العقلية وأما العلل السمعية فانها صدرت عمن يعلم ما لا نعلم وليت شعري اذا أنكر الخصوم هذا المعنى ما يكون تفسير العلم الذي خص الله تعالى به الخضر دون موسى عليهما السلام وقد أوضح الله تعالى أنه علم الحكمة الخفية في مثل ذلك
وقد أجاب بعض المتكلمين بجواب مناسب فقال ان الثواب على هذه الاشياء جزء من الحكمة المسماة بالعلة في عرف المتكلمين وليس هو كلها والجزء الثاني هو الاعتبار بذلك وهذا معنى مناسب وقد ورد ما يدل عليه من الحديث وذلك ما رواه الحافظ ابن كثير من طرق في خلق آدم من أول الجزء الأول من البداية والنهاية ان الله لما أخرج ذرية آدم ورآهم آدم رأى فيهم الغنى والفقير والصحيح والسقيم فقال يا رب هلا سويت بين ذريتي فقال تعالى اني أردت أن تشكر نعمتي الى غير ذلك وكفى بقوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وفي آية أخرى فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وهي شاهدة لقول أهل المعقولات انه لا يكون في مخلوقات الله تعالى ما هو شر محض من جميع
الوجوه لان ما كان كذلك لم يمكن تجويز أنه خير ولا أن فيه خيرا فافهم ذلك
وفي الآلام ما لا يحصى من الالطاف بالمكلفين والتزهيد في دار الغرور ونعيمها الزائل والترغيب في خير الآخرة المحض الخالص من المكدرات وتهذيب الاخلاق ورحمة أهل البلاء والتدريب على الصبر الذي هو أساس الفضائل ومعرفة قدر النعم بالذوق وتخديد الشكر عليه وحسبك في ذلك قول الله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين وفي ذلك من معرفة الانسان بعجزه وذله وجمع القلب على الله واقباله على الدعاء واللجأ والتضرع ومعرفته باجابة الدعاء وكشف الضر وزيادة اليقين به إلى أمثال ذلك من الغايات المحمودة والمصالح المقصودة ما عرفته العقول الصحيحة وقضت به التجارب الدائمة حتى ذكر صاحب عوارف المعارف ما معناه ان العبد مخلوق ليكون ملتجئا إلى الله سبحانه على الدوام فما دام كذلك فهو في عافية ومتى غفل عن ذلك ساقه الله إلى ذلك ببعض المصائب وذكر في موضع آخر أن سبب فضيلة الفقراء أنهم يذوقون الافتقار إلى الله تعالى بقلوبهم وان تلك من أقرب المنازل إلى الله تعالى
وروى ابن قيم الجوزية في حادي الأرواح ان نبيا من الأنبياء عليهم السلام رأى مبتلى فقال اللهم ارحمه فقال الله تعالى كيف أرحمه مما به أرحمه هم عبادي ان أحسنوا فأنا حبيبهم وان أساؤا فأنا طبيبهم ابتليتهم بالمصائب لاطهرهم من المعائب
ومن ذلك الابتلاء بالايمان وبالثبات عليه عند رؤية ذلك فان ذلك يمير الله به الخبيث من الطيب كما نص عليه في ابتلاء المسلمين بتحويلهم من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة ونجم عن ذلك نفاق بعض المنافقين ونزل قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها الآيات وكم عسى أن يكتب الكاتب ويحسب الحاسب من حكم الله سبحانه وفوائده وفوائد أفعاله الحكيمة وتقديراته اللطيفة فهذا يخرج عن المقصود ويمنع مما قصدته من الاختصار على ان المعترض
لمناسبة هذه العلة الشرعية والاحاديث النبوية أتى بما يضحك السامعين ويخالف الاذكياء والبلداء من العقلاء أجمعين فزعم ان الله عذب من لا ذنب له من الصغار والبهائم بغير علة ولا سبب ولا حكمة ولا داع فيا هذا المغفل اذا لم يحز على الله الاحسان العظيم الدائم على سبب وحكمة لم تعقلهما كيف أجزت عليه التعذيب العظيم بغير سبب وحكمة واذا أوجبت تنزيه الله تعالى من الاحسان العظيم الدائم على سبب وحكمة كيف قبحت على غيرك تنزيهه من التعذيب العظيم الدائم بغير سبب وحكمة واذا اعترفت ان من اعترض على الله تعالى في العذاب بغير ذنب فقد زاد شقاؤه وعظم بلاؤه فمن أباح لك اعتراضه في أسباب احسانه حين لم توافق فهمك الذي اختار نفي الحكمة عن جميع الأفعال الربانية وجعل كمال الحكمة نقصا وعكسها عكسا فجعل زينها شيئا وحمدها ذما فكيف اتسع عقله لتجويز تعذيب من لا ذنب له في طبقات النيران إلى ما لا نهاية له من الملك الغني الحميد المجيد الحكيم الرحمن الرحيم الحليم ثم ما اتسع عقله أن يعلم ان الله تعالى في ترتيب الثواب على المصائب وجه حكمة لم يعلمها هو ومنتهى ما في الأمر أن ترتيب ذلك الثواب على تلك المصائب قبيح في منتهى معارف العقول أو عبث لا في علم الله تعالى فهلا آمنت به مع صحته في المعقول والمنقول مثل ما آمنت بتعذيب ذنب من لا ذنب له مع قبحه في المعقول وعدم صحته في المنقول
واعلم ان من عادة بعض المخالفين في هذه المسألة أن يوردوا صورا تحسن من الله تعالى وتقبح من عباده ويوهمون بذلك ان هذا محل النزاع وليس كذلك وكفى حجة على من نازع في هذا قصة الخضر وموسى عليهما السلام ولهذا تجد كثيرا من أهل السنة يظنون ان هذا القدر هو محل النزاع فيرجحون قول من ينفي التحسين العقلي وليس محل النزاع الا في نفي الحكمة عن علم الله تعالى لا عن معارف عقول العقلاء
ومن الخطأ البين ما يفعله كثير من المخالفين من تقدير صور في غاية القبح في الشاهد ثم تقدير أن الله يفعلها فيجب تحسينها منه لو فعلها وموضع القبح بين في وجهين أحدهما في ضرب الأمثال لله والله تعالى يقول
فلا تضربوا الله الامثال وثانيهما في تجويز ان الله يفعل تلك الصور الشنيعة الفاحشة الشناعة وأنا أذكر من ذلك صورة واحدة قد ختم بها هذا الشيخ المدقق كلامه فجعل ثواب الله العظيم على فقر عباده وبلائهم بمنزلة رجل يقلع عيني فقير مسكين مجذوم مقطوع الاطراف ليطعمه لقمة واحدة فاساء الأدب وأبطل في المثل ولله المثل الاعلى والأسماء الحسنى والله تعالى جعل ثواب العبد على ذهاب بصره الخلود الذي لا آخر له في نعيم الجنان الذي لا مثل له بحيث ان من غمس غمسة واحدة فيه من أهل البلاء يقال له هل رأيت بؤسا قط فيقول ما رأيت بؤسا قط فهذا في أول غمسة كيف في الدوام الابدي فيما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في مقعد صدق عند مليك مقتدر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
وكل عاقل يشترى هذا بان يقطع إربا أربا في كل حين ولذلك قال الله تعالى ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة الآية وورد في البخاري ومسلم عن أنس أنه لا يحب الرجوع الى الدنيا أحد من أهل الجنة الا الشهيد فانه يحب أن يعود فيقتل عشر مرات لما رأى من عظيم الأجر على الشهادة وقال رسول الله في حديث ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل رواه البخاري وهذا لفظه ومسلم ومالك وغيرهم وفي صحيح مسلم ان الله ليغفر للعبد بالشربة يشربها فيشكر عليها والأكلة يأكلها فيشكر عليها وفيه ان سبحان الله نصف الميزان وسبحان الله والحمد لله يملآن ما ما بين السموات والارض
فهذا بعض ما صح ويسير من كثير بل قطرة من بحار فضل الله العظيم الذي لا يقدر بمقدار ولا تمده لو كتب الانهار ولا البحار فكيف بقدر لقمة واحدة يطعمها فقير مسكين حيران لقلع عينيه
وقد أجاد الشيخ مختار في المجتبى حيث أشار الى الفرق بين الجزاء
العظيم وغيره في تقبيح هذه الامور وتحسينها ولو كان يقبل مثل ذلك الاعتراض على العلل السمعية والحكم الالهية لو رد على قوله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وقيل أما كان في قدرة رب العالمين أن يدخلهم الجنة عوضا عن بذلهم أنفسهم وأموالهم الحقيرة مع انها من مبادي مواهبه ولو كان هذا من العلم المحمود لسبق اليه السلف الذين هم خير أمة أخرجت للناس رضي الله عنهم
ومن ذلك احتجوا بقوله تعالى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون
والجواب من وجهين أحدهما ان هذه الآية في اثبات عزة الله تعالى وهي كلمة اجماع بين المسلمين والله أعز من أن يسئل وليس ذلك يقتضي أنه غير حكيم فقد تمدح بالعزة بل تمدح بسؤاله وعده الصادق للمتقين حيث قال سبحانه في كتابه المبين قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاؤن خالدين كان على ربك وعدا مسؤلا فوجب الايمان بهما معا فهو العزيز الحكيم كما جمعهما سبحانه وتعالى كثيرا في التمدح بهما معافي غير موضع واحد وذلك اشارة الى انهما اخوان لا يفترقان لا ضدان لا يجتمعان ولذلك بوب البخاري عليهما مجموعين بابا في كتاب التوحيد من صحيحه وثانيهما أن هذه الآية في الدلالة على بطلان الشركاء الذين عبدهم المشركون والمراد انهم يسئلون يوم القيامة عن ذنوبهم ويعذبون عليها كقوله ولقد علمت الجنة انهم لمحضرون ومن كان كذلك فهو مربوب لا رب وانما الرب الحق الذي يسأل عباده يوم القيامة فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لا من يخاف العذاب ويحاسب أشد الحساب وسياق الآية من أولها واضح في ذلك فالاحتجاج بها على نفي الحكمة غفلة عظيمة وانما هي لنفي شريك مغالب يلزم اظهار الحكمة ويعاقب على ترك البيان لها ونحو ذلك وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله ان يسأله الزيادة من العلم ولم يعلم موسى
على طلب ذلك من الخضر عليهما السلام والله يحب أن يسئل ومن لم يسأل الله يغضب عليه فمن سأل الله من أنبيائه عن خفي حكمته لم يدخل في الآية كما سأله آدم عليه السلام هلآ سويت بين ذريتي فقال فعلت ذلك لتشكر نعمتي وانما يلام من سأل اعتراضا أوشكا أو استبعادا والله سبحانه أعلم
ومن ذلك شبهة الثلاثة الاطفال الذين فرضوا أن أحدهم مات صغيرا فدخل الجنة وأحدهم كبر ووحد الله وعبده ودخل الجنة وأحدهم كبر وكفر ودخل النار فرأى الصغير منزلة المؤمن الكبير فوقه في الجنة فقال يا رب هلا بلغتني منزلة هذا فيقول الله تعالى له اني علمت انك لو كبرت كفرت ودخلت النار فيقول الذي في النار فهلا أمتني صغيرا وهذه هي مسألة خلق الاشقياء بعينها لكن غيروا العبارة فيها
والجواب ان هذا التقدير خطأ فاحش فان العلة في امانة الصغير ليس هي علم الله بانه لو كبر كفر ولو كانت هذه هي العلة لأمات جميع الكفرة والاشقياء كلهم صغارا بل لما خلقهم صغارا حتى يميتهم فان ترك خلقهم أولى من استدراك الفساد بموتهم بعد خلقهم ولو كانت هذه هي العلبة لصاحت الوحوش والطيور وجميع أنواع الدواب وقالت يا رب هلا جعلتنا من بني آدم ولصاح المؤمنون كلهم وقالوا ربنا هلآ عصمتنا وبلغتنا مراتب الأنبياء بل جعلتنا كلنا أنبياء يوحى الي كل واحد منا ويسري بنا الى السماء وقالوا جميعا هلا جعلتنا ملائكة كراما ولقالت الأنبياء هلا ساويت بيننا فانه نص انه فضل بعض الرسل على بعض ولقالت مثل ذلك الملائكة فانه فضل بينهم ولو انفتح هذا الباب لاعترض تفضيل يوم الجمعة والعيد وليلة القدر ولم تكن هذه الأوقات المخصوصات اولى بذلك من غيرها ولاعترض تخصيص السموات باماكنها والارضين بسكانها ولاعترض تخصيص ايجاد العالم وكل فرد ممن فيه بوقت دون وقت وتخصيص جميع ما فيه بقدر دون قدر في جميع أفعال الله تعالى ومقادير الاعمال والاجساد والارزاق والنعم والقوى والالوان والتقديم والتأخير والتقليل والتكثير ولما انتهى ذلك الى حد ولا وقف على مقدار الا والاعتراض فيه قائم والسؤال عليه وارد ولقالت القباح هلا جعلتنا حسانا والنساء هلا جعلتنا رجالا وأمثال ذلك مما لا يحصى وذلك مما يؤدي إلى عدو وجود
شيء من الموجودات بل الى استحالة وجود الممكنات من جميع المخلوقات لعدم رجحان وقت على وقت ومكان على مكان وقدر على قدر فيلحق القادر حينئذ بالعاجز ويتعذر الاختيار على جميع المختارين وانتهينا الى مسألة لا تنتهي لتعارض الدواعي المستدعية للوقف وترك جميع الأفعال وهذا خروج من المعقول فان العاطش الجيعان لو حضر عنده كيزان كثيرة ورغفان كثيرة وهو لا يأكل معتذرا بان الدواعي الى تخصيص كل كوز وكل رغيف تعارضت عليه حتى لم يتمكن من الاكل والشرب ودفع الضرر العظيم لعد من المجانين
والجواب عن هذه الوساوس ان الله يختص برحمته من يشاء وانه في ذلك العليم الحكيم الخبير البصير ومتى دعت الحكمة الى أحد الامرين المستويين بادر جميع العقلاء الى تخصيص أحدهما محمودين على ذلك غير ملومين سواء كان ذلك التخصيص مستندا الى مرجح خفي أم الى الحكمة الاولى
ومن ذلك الحديث المقلوب الذي خرجه البخاري في التوحيد في الباب الخامس والعشرين في قوله تعالى إن رحمة الله قريب من المحسنين فانه خرج فيه عن عبادة حديثا مرفوعا انما يرحم الله من عباده الرحماء وحديث انس مرفوعا ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته ثم أراد تأكيد هذين الحديثين في رحمة الله تعالى بحديث ثالث لابي هريرة وقد رواه على الصواب قبل هذا الموضع من طريق اتفق على صحتها هو ومسلم وغيرهما ثم جاء به في هذا الموضع من طريق أخرى لم يوافقه عليها مسلم ولا غيره من أهل السنن وانما أراد تقوية أصل الحديث وما فيه من معنى الرحمة المتفق عليها فقال حدثنا عبيد الله بن سعيد قال حدثنا يعقوب يعني ابن ابراهيم بن سعد الزهري قال حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الاعرج عن أبي هريرة عن النبي قال اختصمت الجنة والنار الى ربهما فقالت الجنة يا رب مالها لا يدخلها الا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار فقال للجنة أنت رحمتي وقال للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها
قال فاما الجنة فان الله لا يظلم من خلقه أحدا وانه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها فتقول هل من مزيد ثلاثا حتى يضع قدمه فيها فتمتلئ ويرد بعضها الى بعض وتقول قط قط قط فهذا حديث مقلوب انقلب على بعض رواته كما خرج مسلم من حديث أبي هريرة في ذلك السبعة الذين يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة يوم لا ظل الا ظله فذكر منهم رجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله خرجه مسلم وانما انقلب على بعض الرواة وصوابه ما خرجاه معا عن أبي هريرة في هذا الحديث بعينه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه فحكم كل عارف بانقلابه لما اتفقا عليه في ذلك ولانه المناسب فان اليمين هي المنفقة فخرجه مسلم كذلك لتقوى أصل الحديث بهذا الاسناد لا لكونه ظن صحة هذا المتن المقلوب مع مخالفته للمنقول والمعقول ولم يتهم أحد مسلما بجهل ذلك
وكذلك حديث الجنة والنار فانهما اتفقا على اخراجه على الصواب من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله تحاجت النار والجنة فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة ما لي لا يدخلني الا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة انت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول قط قط قط فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها الى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فان الله ينشئ لها خلقا خرجه البخاري في التفسير في تفسير ق ومسلم في صفة النار نعوذ بالله منها وفي صفتها خرج مسلم حديث أنس والبخاري في التوحيد في الباب السابع منه في قول الله تعالى وهو العزيز الحكيم فخرج منه حديث شعبة وسعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة عن أنس قال لا يزال يلقى فيها وهي تقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فيزوي بعضها الى بعض ثم تقول قد قد بعزتك وكرمك ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم الله فضل الجنة هذا لفظ البخاري في التوحيد ورواه مسلم من طريق سعيد عن قتادة بمثله الا
انه قال قط قط ثم رواه من طريق أخرى فقال نازهير بن حرب ناعفان ناحماد يعني ابن سلمة ناثابت قال سمعت أنسا يقول عن النبي قال يبقي من الجنة ما شاء الله ان يبقى ثم ينشئ الله لها خلقا مما يشاء وخرج مسلم أصل الحديث من طريق أبي سعيد الخدري عن النبي في محاجة الجنة والنار الى قوله لكل واحدة منكما ملؤها فلم يذكر ما بعده من الزيادة
فقد تبين بهذا ان حديث ابراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الاعرج عن أبي هريرة حديث منقلب لم يتابع عليه فأما أبو هريرة فقد تخلص من الوهم برواية الثقات للحديث عنه على الصواب وكذلك الاعرج قد خرجه عنه مسلم من طريق أبي الزناد عن أبي هريرة بغير ذكره لتلك الزيادة المنكرة وأبو الزناد في الأعرج من ابراهيم فانه راويه المشهور وفي كتب الجماعة الستة عنه قدر ثلاثمائة حديث وليس لابراهيم عن صالح عنه الا سبعة أحاديث لم يتفقا على واحد منها خرج البخاري ثلاثة منها أحدها في الابراد بالصلاة في شدة الحر وهو معروف من غير طريقه والثاني لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك وهو كذلك والثالث هذا الحديث وغيره فيه أثبت منه وأحفظ له كما نبين لك ان شاء الله وأما مسلم فلم يخرج له عن صالح عن الاعرج الا في الفضائل ثلاثة أحاديث والسابع من هذه الترجمة خرجه ابن ماجة في رفع اليدين عند التكبير وهو معروف
وقد ذكر ابن حجر ابراهيم بن سعد فيمن اختلف فيه من رجال البخاري وحكى بعد توثيقه عن ابن عدي انه روي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه انه ذكر ابراهيم بن سعد عند يحيى بن سعيد فجعل يقول ابراهيم بن سعد كأنه يضعفه وقال ابن عدي كلام من تكلم فيه تحامل فأفاد انه قد تكلم فيه وقال ابن دارة كان صغيرا حين سمع من الزهري فهذا ما ذكره ابن حجر في ترجمته ولم يذكره الذهبي في الميزان والاعلال والحكم بالانقلاب والادراج ونحو ذلك لا يختص بالضعفاء بل يجوز الحكم به بمخالفة الاوثق والاكثر مع القرائن وقد اجتمع ذلك كله بل ذكر ابن قيم الجوزية في حادي الارواح ان ذلك من المقلوب وان البخاري قد نبه
على ذلك قال والروايات الصحيحة ونص القرآن يرده فان الله تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من إبليس وأتباعه وأنه لا يعذب الا من قامت عليه الحجة وكذب رسله قال تعالى كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء
قلت ويدل على هذا وجوه منها ان راوي هذا الحديث المقلوب جعل تنزيه الله تعالى من الظلم عند ذكره الجنة فأوهم بذلك ان من أدخله الله تعالى الجنة بغير عمل كان ظلما وهذا من أفحش الخطأ فان الحور العين في الجنة والاطفال بغير عمل وهذا هو الموضع الذي لا يسمى ظلما عند أحد من المسلمين ولا من العقلاء أجمعين ولا أشار الى ذلك شيء من الحديث ولا من السنة ولا من اللغة ولا من العرف وانما ذكر هذا في النار اشارة الى أن التعذيب بغير ذنب هو شأن الظالمين من الخلق والله تعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين خلقه محرما كما رواه أبو ذر عن رسول الله عن ربه تعالى في الحديث الصحيح بل كما تمدح بذلك رب العالمين في كتابه المبين
الوجه الثاني انه قصر في سياقه المتن فقال وقالت النار ولم يذكر ما قالت ولا سكت من قوله قالت قال ابن بطال في شرحه وهو كذلك في جميع النسخ وذكر هذا الراوي قول الله تعالى للجنة أنت رحمتي ولم يتمم قولها لها أرحم بك من أشاء من عبادي والنقص في الحفظ والركة في الرواية بين على حديثه
الوجه الثالث تجنب المحدثين لاخراج هذه الرواية مثل مسلم والنسائي مع روايتهما الحديث ومثل أحمد بن حنبل في مسنده مع توسعه فيه وكذلك ابن الجوزي في جمعه أحاديث البخاري ومسلم ومسند أحمد وكذلك ابن الاثير في جامع الاصول وهو يعتمد الجمع بين الصحيحين للحميدي والحميدي انما يترك ما ليس على شرط البخاري مما ذكره في صحيحه مثل حديث الفخذ عورة فانه ترك ذكره لذلك كما ذكر ابن الصلاح في علوم
الحديث والامر أوضح من أن يطول في بيانه وانما ذكرت هذا لان صاحب القواعد احتج به ونسبه الى الصحيح ولم يذكر فيه شيئا أصلا وكذلك المهلب فعرفت انهما قد غلطا في ذلك كيف من هو أقل معرفة منهما بسبب ذكره في صحيح البخاري وقد رأى ذكره في صحيح البخاري
وقد ذكر ابن الصلاح وغيره ان في البخاري أحاديث كثيرة على غير شرطه ولا شرط غيره من أهل الصحيح وان ذلك معلوم وذكر من ذلك حديث بهز بن حكيم في ان الفخذ عورة وقد ذكر غيره من ذلك شيئا كثيرا فقد ذكر ابن حجر في مقدمة شرح البخاري بعض ما اعترض على البخاري فذكر مائة حديث وعشرة أحاديث وانما قلت انه البعض لانه ذكر ان من ذلك عنعنة المدلسين التي في الصحيح وأحاديث الرجال المختلف فيهم وذلك شئ كثير
الوجه الرابع انه قد ثبت بالنصوص والاجماع ان سنة الله تعالى انه لا يعذب أحدا بغير ذنب ولا حجة كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى ذكرى وما كنا ظالمين وفي الصحيحين لا أحد أحب اليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ومن جحدان هذه سنة الله فقد جحد الضرورة وإذا تقرر أنها سنة الله تعالى فقد قال تعالى ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن نجد لسنة الله تحويلا وقال تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم وأحسن ما أنزل الله الينا هو الثناء عليه وتسبيحه وتقديس أفعاله وأقواله من جميع صفات النقص فكيف يعدل عن هذا كله مع موافقة الرواية الصحيحة له إلى رواية ساقطة مغلوطة مقلوبة زل بها لسان بعض الرواة كما زل لسان الذي اراد أن يقول اللهم أنت ربي وأنا عبدك فغلط من شدة الفرح بوجود راحلته عليها طعامه وشرابه بعد اليأس كما ورد في الأحاديث الصحاح ولو كان
الغلط يحكم به لوجب كفر ذلك الغالط وتكفيرنا له لأجل غلطه وعكسه ما أراد ونجعله مذهبا له
الوجه الخامس أنه لو قدر ما لا يتقدر من ورود حديث صحيح بذلك الغلط لم يدل على مخالفة جميع ما عارضه من الأدلة القاطعة والحجج الساطعة لأنه محتمل لموافقتها فانه لم يصرح فيه بأنه ينشيء للنار خلقا لا ذنوب لهم ولا قال فيدخلهم النار قبل أن يذنبوا ويستحقوا العذاب وإذا لم ينص على ذلك وجب تقدير ذلك لموافقة سنة الله تعالى التي لا تبديل لها ولا تحويل وذلك على أحد وجهين إما أن يكون هؤلاء الذين أنشأهم الله لها هم قوم من كفار بني آدم الذين تقدم كفرهم وقدم ادخارهم لها بعد كفرهم وسمى اعادتهم لها انشاء لأنها انشاء حقيقي لصورهم وردهم على ما كانوا أو لأنه كان قد أعدمهم وهذا اختيار كثير من أهل السنة بل من الأشعرية فقد نص عليه ابن بطال في شرح البخاري في شرح هذا الحديث فأصاب في وجه وأخطأ في وجه أما صوابه ففي تنزيهه الله تعالى مما توهمه غيره جائزا على الله سبحانه وأما خطأه ففي إيهامه أن الحديث صحيح وهو مقلوب بغير شبهة وإنما خفي ذلك عليه لأنه لم يكن من أئمة الحديث وإنما كان من علماء الفقه والكلام وإما أن يكون الله تعالى خلق للنار خلقا مستأنفا فكلفهم بعد خلقهم فكفروا فاستحقوها كما ورد في بعض أحاديث الاطفال وفي هذا مباحث قد استوفيت هنالك وإما أن يكون خلق لها خلقا لا يتألم بها أو يتلذذ بها أو من الجمادات كما قال الله تعالى وقودها الناس والحجارة وجاء فيها بضمير العقلاء لأنهم بدل منهم كما قال يوسف E إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين أو لغير ذلك ومع الاحتمال بعض هذه الوجوه في بيان غلط بعض الرواة الذي قامت الأدلة على غلطه كيف يعدل إلى ظاهره ويسمى صحيحا ويحتج به مثل المهلب وصاحب القواعد وغيرهما فالله المستعان
ومن ذلك قالوا الاسباب والدواعي خلق الله فلو كان الله لا يفعل إلا لها لم يخلقها إلا لمثلها داع وسبب وأدى هذا إلى التسلسل أو إلى تعجيز الله تعالى من خلق شيء بغير داع
والجواب أن هذا من أفحش الوهم والغلط فان المرجع بالأسباب والدواعي والحكم إلى الله تعالى بذلك وما كان من المخلوقات خيرا محضا فانه يراد خلقه لنفسه لا لمعنى آخر ولا لسبب ثان وما كان شرا فانه يراد لخير فيه أو خير يستلزمه أو يتعقبه لما اجتمعت عليه الفطر وأقرته الشرائع من قبح ارادة الشر لكنه شرا وأما تعجيز الرب تعالى فأعظم فحشا في الوهم وأين نفى القدرة من نفي الفعل وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله تعالى بيده الملك وهو على كل شيء قدير ولم يقل وهو لكل شيء فاعل فنحن لم نقل أن الله لا يقدر على العبث ولا اللعب ولا الظلم وإنما قلنا أنه لا يفعلها ومدحناه بذلك كما مدح به نفسه في كتابه الكريم ولو لم يكن قادرا على ذلك لم يكن ممدوحا بتركه كما أن الجمادات غير ممدوحة بترك ذلك وهي لا تفعله وإنما لم تمدح بتركه مع عدم فعلها له لعجزها عن فعله وتركه وهذا شيء تفهمه العرب في جاهليتها والعوام في أسواقها وباديتها والعجب من قوم ادعوا كمال المعرفة بالحقائق والغوص على لطائف الدقائق ثم عموا أو تعاموا عن هذه الأحكام الظاهرة والأدلة الباهرة نسأل الله العافية لنا ولجميع المسلمين
وأما بيان أن القول بحكمة الله تعالى أحوط في الدين من النفي لها والتأويلات المتعسفة فلا شك فيه لوجوه
الوجه الأول أن وصف الله تعالى بالحكيم معلوم ضرورة من الدين متكرر النص عليه في كتاب الله تعالى تكرارا كثيرا ومعلوم أن الرسول وأصحابه والسلف المجمع عليهم ما تأولوه ومعلوم تمدحه سبحانه وتعالى
بالحكمة كما قال الله تعالى ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر وأمثالها وهي مانعة من تأويلهم الحكيم بأنه ذو الأحكام في المخلوقات لا ذو الحكمة فيها ولا شك أن إثبات الحكيم بأنه ذو الأحكام في المخلوقات لا ذو الحكمة فيها ولا شك أن إثبات الأحكام لها والحكمة فيها أكثر مدحا وأنه تعالى أولى بكل مدح
الوجه الثاني أنه لا بدعة في إثبات الحكمة لله تعالى وعدم تأويل الحكيم بالاجماع لأن البدعة احداث ما لم يعهد في عصر النبوة والصحابة وما كان منصوصا في كتاب الله تعالي فهو موجود في عصرهم ضرورة وإنما الذي لم يوجد في عصرهم نفي ذلك أو تأويله والقول بأنه صفة ذم أو يستلزم ذلك
الوجه الثالث أنه يخاف الكفر بجحد ذلك لما قررناه من أنه معلوم ضرورة وكذلك يخاف الكفر في تأويله وإن كنا لا نكفرهم احتياطا للاسلام وأهله لما سيأتي ولمعارضة الأدلة الموجبة لاسلامهم كما تقدم ولأن قصدهم إنما هو حسم مواد الاعتراض علي الله تعالي لكنهم أساؤا النظر بالتزام مثل ما فروا منه وأما القول بذلك فلا وجه لخوف الكفر فيه أبدا حتي عند نفاة الحكمة لأن الكفر هو جحد الضرورات من الدين أو تأويلها ولم تأت في نفيها آية قرآنية ولا حديث آحادي فضلا عن متواتر وأما مخالفة غلاة المتكلمين في دقائقهم فلم يقل أحد أنها كفر وإلا لوجب تكفير أكثر أهل الاسلام بل خيرهم
وإنما أوضحت هذا لأتي بنيت هذا الكتاب علي لزوم الأحوط في الدين مهما وجدت اليه سبيلا وترك كل ما يخاف من القول به العذاب أجارنا الله تعالي منه وعلي تقديم عبارة القرآن ونصه ولفظه لقوله تعالي إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وقوله تعالي اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ولأنه لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد
ولأنه أشرف وأبرك وأصح وأنجي وأولي وأحري وأعلي وأهدي بالاجماع
فان قبل تجويز بعض ما يستقبح في عقول العقلاء لحكمة لا يعلمونها يستلزم تجويز بعثة الكذابين والكذب والخلف في الوعد والوعيد ونحو ذلك لحكمة لا يعلمها إلا الله تعالي
قلنا هذا ممنوع لوجهين الوجه الاول أن تقبيح العقول ينقسم إلى قسمين ضروري وظني ونحن ما جوزنا أن يصدر من الله تعالى كل قبيح على الاطلاق لحكمة خفية إنما جوزنا ذلك في القسم الذي التقبيح فيه ظني يقع في مثله الاختلاف بين الجاهل والعالم وبين العالم والاعلم ولا شك أن اختيار الكذب وبعثه الكذابين بالمعجزات والخلف في الوعد بالخير ممن هو على كل شيء قدير وبكل غيب عليم وترجيحه على الصدق وبعثة الصادقين مع أن قدرته عليهما على السواء قبيح قبحا ضروريا قبحا أشد القبح في عقول العقلاء أما أن لم يجوز في ذلك خير فظاهر وأما أن جوز فيه شيء من الخير فلا شك أن الصدق وبعثة الصادقين أكثر خيرا ودفعا للفساد والمفاسد وجلبا للصلاح والمصالح وتجويز خلاف ذلك يؤدي إلى أن لا يوثق لله تعالى بكلام ولا لأحد من رسله الكرام في دين ولا دنيا ولا جد ولا هزل ولا حلال ولا حرام ولا وعد ولا وعيد ولا عهد ولا عقد ولا أعظم فسادا مما يؤدي إلى هذا بحيث أن كثيرا من السفهاء والظلمة والمفسدين لا يرضون لنفوسهم بمثل ذلك
الوجه الثاني إن الذي يحسن حينئذ لبعض القبائح لبعض العقلاء إنما هو الاضطرار إلى عدم الخلاص من أحد قبيحين فيختار حينئذ الأهون منهما قبحا كما قيل حنانيك بعض الشر أهون من بعض مثاله من لم يستطع حقن دم معصوم أو مسلم مظلوم إلا بكذب أو خلف وعد أو نحو ذلك حسن منه دفع الشر الأعظم بالشر الأقل ومثل هذا لا يتصور في حق الرب جل جلاله لما ثبت من أنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم وأما الخلف في الوعيد فليس هو في مرتبة القبيح الضروري لشهرة الخلاف فيه بين العقلاء وصحة تسميته في اللغة عفوا لا خلفا كما قال كعب بن زهير في قصيدته المعروفة
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
ولم يقل والخلف عند رسول الله مأمول وفي الصحيح من حديث جماعة من الصحابة ابن عباس والخدري وأبي ذر وأبي رزين العقيلي لكن حديثه عند أحمد ولقيط بن صبرة وحديثه عند الطبراني وعبد الله بن أحمد وله مسندان مسند ومرسل ورجال المسند ثقات ذكره الهيثمي في باب جامع في البعث وعن سلمان عند البزار برجال مختلف في بعضهم ذكر في باب حسن الظن بالله تعالى من مجمع الزوائد أن الله تعالى يقول الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو ويشهد لذلك حديث معاذ الذي فيه دعهم يعملوا
وعن علي عليه السلام نحوه في فضل قتال الخوارج ومثل حديث إبراهيم الخليل عليه السلام في التعرض يوم القيامة للشفاعة لأبيه آزر وقول النبي وقد سئل عن أمه أن ربي وعدني مقاما محمودا وأمثال ذلك مما قد جمع في غير هذا الموضع
ويشهد له من كتاب الله تعالى قول الخليل فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم وقول عيسى عليه السلام إن تعذيهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم لكن عارض هذه الادلة قوله تعالى ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد وقوله تعالى وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ولله تعالى من كل حسن أحسنه فلما كان العفو بعد الوعيد حسنا كان العفو قبل الوعيد القاطع أحسن كان الاحسن أولى بالله تعالى من الحسن لكنا نقول أن الله تعالى قد اشترط عدم العفو في الوعيد في آيات كثيرة وفي أخبار كثيرة والشرط الواحد في آية واحدة وحديث واحد كاف في الخروج من ذلك مثاله قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك من يشاء وقوله تعالى خالدين فيها إلا ما شاء ربك والأحاديث المتقدمة وكلام الخليل والمسيح عليهما السلام
وأما المرجئة وغيرهم من أهل السنة فقد أجابوا عن قوله تعالى ما يبدل القول لدي بأنها عموم مخصوص بقوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية وأمثالها كما أن قوله تعالى لا مبدل لكلماته مخصوص بها وعضدوا ذلك في قوله تعالى ما يبدل القول لدي بأنها في خطاب الكفار كما هو معلوم من الآيات التي قبلها قالوا وتعدية ما له سبب إلى غير سببه ظنية بالاجماع لكن يقوي ويضعف على حسب القرائن والأحاديث المتقدمة وكلام الخليل والمسيح قرائن تقوى عدم التعدية والجمع بذلك بينهما أولى من الطرح وعضدوا ذلك بأن التبديل لم يقبح لذاته ولا لأنه تبديل قول مطلقا لأنه تبديل قول مخصوص فقد قال تعالى فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وقال ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها والنسخ من تبديل القول لقوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية وقد بدل الله ذبح اسماعيل بالكبش وضرب امرأة أيوب بالضغث وبدل صورة عيسى بمثلها مرتين في الدنيا وفي يوم القيامة وبدل استقبال بيت المقدس بالكعبة وذم من قبح ذلك وسماهم سفهاء حيث قال سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها
يوضحه النصوص المتفق على صحتها والاجماع من أهل العلم المشاهير من جميع المذاهب على أن من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها فالمستحب له أن يفعل الذي هو خير ويكفر عن يمينه استحبابا لا وجوبا وهي مسألة اخلاف الوعيد بعينها فتأمل ذلك يوضحه أحاديث لم تمسه النار إلا تحلة القسم وقوله فيها واثنان بعد قوله ثلاثة فدل على أن التبديل المذموم تبديل مخصوص لا كل تبديل يوضحه أنه قد ثبت أن عذاب الكفار راجح قطعا للاجماع على عدم تجويز العفو المطلق عنهم ولما فيه من حقوق الأنبياء والمؤمنين ونصرهم عليهم وشفاء غيظ قلوبهم منهم ولم يثبت مثل ذلك في عذاب المسلمين لقوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
وللاحاديث المخصصة للعمومات المتواترة عند أهل الحديث ولأن الأنبياء والمؤمنين شفعاؤهم لا خصماؤهم وأما قصة قوم يونس فتأتي في مسألة الوعيد
فان قيل إنما يحسن الخلف في الوعيد منا للجهل بالغيب مع نية الصدق فاما عالم الغيب فلو أخلف لم يصح ارادة الصدق عند الوعيد لعلمه بالعاقبة فلو أخلف كان كذبا قبيحا وهذا السؤال قوي إلا أن قوة التباسه بالانشاء هو الذي غرهم فالأولى ترك تجويز ذلك ولسنا نحتاج في هذه المسألة إلى تجويزه لا سيما وهذا الكتاب مبني على الأسلم والأحوط فقس ذلك على هذه القاعدة ولا تعدها فمن نهج السلامة نال السلامة وكثيرا ما يلتبس التخصيص بالخلف على من بعد عن تأمل السمع فأفرق بينهما فهو واضح
والكلام في هذه المسألة طويل وموضعه مسألة الوعد والوعيد وهو يأتي في آخر هذا المختصر إن شاء الله تعالى ومع ما قدمته من وقوع الشرط في الوعيد لا يحتاج إلى هذا ولا يمكن تقبيح العفو من أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين عن أحد من الموحدين والحمد لله رب العالمين لكنه لا سبيل إلى الأمان لأنه وسيلة إلى الفساد والطغيان والله أحكم من أن يؤمن المفسدين من تبوء الجزاء في الآخرة كما لم يسمح لهم الحدود في الدنيا بل أوجب قطع يد السارق في ربع الدينار لحفظ الأموال ومصلحة الخلق في ذلك وهو الحكيم العليم الحميد المجيد الفعال لما يريد
وبهذا السؤال وجوابه تعلم سبب الخلاف في دوام العذاب فمن توهمه من المرجوحات الضرورية في عقول العقلاء وحكمة الحكماء رجح الخصوص الذي هو قوله تعالى إلا ما شاء ربك على عمومات الوعيد بالخلود ومن ذهب إلى أنه من المرجوحات الظنية المستندة إلى مجرد الاستبعاد رجح العمومات وعضدها بتقرير أكثر السلف لها على ما تكرر أن ما لم يتأولوه فتأويله بدعة ولما كان تأويلهم لذلك في حق المسلمين متواترا عنهم وأدلته متواترة عند البعض صحيحة شهيرة عند الجميع كان هو المنصور وسيأتي في موضعه الوجه في أنه أحوط الأقوال والله سبحانه أعلم
الكلام على مسألة الارادة وفيها مباحث
البحث الأول في معناها وهي الأمر الذي يقع به فعل الفاعل المختار على وجوه مختلفة في الحسن والقبح وعلى مقادير مختلفة في الكثرة والقلة وسائر الهيئات والأشكال من السرعة والبطؤ وموافقة الغرض ومنافرته في أوقات مختلفة في التقديم والتأخير وهذا هو القدر المجمع عليه في معناها وبقية المباحث فيها في علم اللطيف وكلها مما لا تكليف في الخوض فيه ولا حاجة اليه بل هو يؤدي إلى محارات أو محالات
البحث الثاني في معرفة ما ورد في السمع مما يتعلق بالارادة ويظن فيه أنه متعارض وبيان أنه غير متعارض وأن اتباعه أحوط وهو نوعان
النوع الأول وردت النصوص المعلومة بالضرورة من كتاب الله تعالى أنه يكره المعاصي ولا يحبها وذلك واضح قال تعالى بعد ذكر كثير منها كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها وقال والله لا يحب الفساد وقال ولا يرضى لعباده الكفر وقال وإن تشكروا يرضه لكم فهذا النوع من السمع معلوم وقد قال به أهل الأثر وجماهير أهل النظر واتفقت عليه الأشعرية والمعتزلة
النوع الثاني ما ورد من التمدح بكمال قدرة الله تعالى على هداية العصاة خصوصا وعلى كل شيء عموما والتمدح بنفوذ ارادته كقوله تعالى ولو شاء الله ما أشركوا ولو شاء الله ما فعلوه فلو شاء الله لهداكم أجمعين وما شاء الله كان وجودا وعدما وهو المعلوم من القرآن ويلزم منه إن شاء لم يكن وهو أصح من قولهم وما لم يشأ لم يكن إلا أن يصح الحديث الذي فيه وفيه أحاديث لم يخرج البخاري
ولا مسلم منها شيئا عاما وإنما خرجا حديث أبي هريرة في قصة يمين سليمان عليه السلام وهي خاصة بتلك الواقعة ولذلك اخترت في العبارة في الاعتقاد ما شاء الله كان وما شاء لم يكن ومعناهما ما شاء أن يكون كان وما شاء أن لا يكون لم يكن وهذا معلوم من السمع وفيه ما لا يحتمل التأويل بالإكراه دون غيره كقوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين وقوله تعالى جوابا على من قال ارجعنا نعمل صالحا ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وغيرهما مما ذكره يطول
وقد أوضحت الوجه في امتناع تأويلهم لهذه الآيات بمشيئة القسر والالجاء في كتاب العواصم وهو لا يخفى على النبيه إن شاء الله تعالى والعقل يعضد السمع في قدرة الله تعالى على ذلك كما أوضحته هنالك وقد رجعت اليه المعتزلة كما سيأتي في هذه المسألة حيث نبين أن الأمة رجعت إلى الاجماع في هذه المسألة العظمى بعد إيهام الاختلاف الشديد وهو اختيار الامام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام أعني قدرة الله على اللطف بالعصاة وأنه غير واجب عليه فتبقى الآيات في التمدح بذلك على ظاهرها ذكره الامام في كتاب التمهيد في أوائل الباب السابع في النبوات واحتج عليه وهو قول الامام الناصر محمد ابن علي عليهما السلام وهو قول قدماء العترة كما ذكره صاحب الجامع الكافي ويعتضد بوجهين أحدهما قوله تعالى فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله وحديث كل مولود يولد على الفطرة ومذهب المعتزلة مبني على أن اللطف إنما تعذر في حقهم لأن الله بناهم بنية لا تقبل اللطف وثانيهما أن تجويز خلق الله لهم على هذه البنية يناقض إيجابهم اللطف بل يجوز فعل المفاسد
وأما قوله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فالجواب عن الاحتجاج بها على مذهبهم من وجوه
الاول أنها في الكافرين الذين قد غيروا الفطرة واستحقوا العقوبة بالخذلان وسلب الالطاف فهي كقوله تعالى صم بكم عمي فهم لا يرجعون ونحوها وكلامنا إنما هو في المكلف في أول أحوال تكليفه وابتلائه وهذا بين
الثاني أنها خبر عن صفتهم التي هم عليها وليس فيها نفي قدرة الله تعالى على تغيير صفتهم بالطافه الخفية وهو اللطيف لما يشاء القائل قل كونوا حجارة أو حديدا الآية المتمدح بأنه لو شاء لجعل منهم ملائكة وجعل الناس أمة واحدة ونحو ذلك والآية تقتضي أن الله ما علم فيهم خبرا لا أنه ما علم أنه يقدر على هدايتهم وكم بين الأمرين وأين أحدهما من الآخر
الثالث أن الآية لهم فيجب حملها على ما يرجع إلى كسبهم الاختياري من الاصرار والعناد الذي يستحقون الذم عليه لا على ما يرجع إلى خلقتهم التي هي فعل الله تعالى يغيرها كيف يشاء ولا ذم عليهم فيها جمعا بينهما وبين جميع ما تقدم من نحو قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة وقوله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقد مر مستوفى
الرابع سلمنا أن الآية تحتمل ما ظنوا وما ذكرنا يمتنع لكن ما ذكروه بسائر الآيات المبينات لقدرة الله تعالى على كل شيء ولكونه ما يضل إلا الفاسقين ولكونه خلق الخلق على الفطرة حتى غيرهم آباؤهم ولا يجوز العدول عن هذه الأمور الثلاثة البينة بمجرد احتمال لا حجة عليه والله أعلم
وهنا ظن بعض الأشعرية أن الآيات التي في نفوذ المشيئة في قوة أن الله تعالى مريد للموجودات بأسرها سواء كانت حسنة أو قبيحة وأنه غير مريد لما لم يوجد سواء كان حسنا أو قبيحا وليس هو تحقيق مذهبهم كما أن عدم قدرة الرب على اللطف بالعصاة ليس هو تحقيق مذهب المعتزلة وإنما قال بعض الاشعرية المعاصي مرادة مجازا لا حقيقة عندهم يعني أن أسبابها التي هي أفعال الله تعالى مرادة لله تعالى مثل القدرة والدواعي فتنزلت المعاصي
عندهم منزلة غرض الغرض وهذا أيضا ليس تحقيق مذهبهم لوجهين أحدهما أن كثيرا منهم لا يجيزون الاغراض على الله تعالى كما ذكر في مسألة الحكمة وثانيهما أن غرض الغرض لا يكون إلا خيرا محضا كالحياة في القصاص والعافية في الفصاد والقبائح أو وقوعها لا يصح أن يكون غرض الغرض لحكيم قط كيف أحكم الحاكمين فلابد أن يكون غرض الغرض في عدم اللطف الزائد بالعصاة هو خير محض وهو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه على التفصيل إلا الله على الصحيح كما تقدم في مقدمات هذا المختصر
ومثال الغرض الأول قول الخضر عليه السلام فأردت أن أعيبها وغرض الغرض هو سلامتها لأهلها من أخذ الملك لها ومن أدب الخضر عليه أفضل السلام إضافة هذا الغرض لنفسه دون الله سبحانه وتعالى
ومثال غرض الغرض هو ما أضافه الخضر إلى ربه تعالى حيث قال فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ومثاله أيضا ما ثبت في الصحيح عن أبي أيوب وأبي هريرة كلاهما عن النبي أنه قال لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم وله شواهد عن جماعة من الصحابة فلم يجعل الذنوب القبيحة غرض الغرض بل جعله مغفرتها بالاستغفار ومن لا يغفر له فقد دل القرآن على أن غرض الغرض في عذابه الانتصاف للمؤمنين من أعدائهم الكافرين ونحو ذلك من المصالح والعواقب الحميدة كما يأتي بيانه والمراد المحقق هو غرض الغرض وهو الثاني في الوقوع والأول في الارادة ألا ترى أن أول ما وقع في همة الخضر عليه السلام سلامة السفينة ثم عابها لتسلم فالمراد المحقق هو سلامتها لا عيبها فاعتبر ذلك في جميع المتشابه من هذا الجنس تجده بينا واضحا ولله الحمد
فهذا كله إذا ثبت أن شيئا من الشر مراد فانه لا يجوز أن يكون الشر مراد الحكيم لكونه شرا فقط وأما الخير فيراد لنفسه لا لشيء آخر فلا يلزم فيه غرض الغرض وإن جاز من غير لزوم لزيادة الخير مثل أن يراد
خير لأنه يؤدي إلى اضعافه من الخيرات ولو أريد لنفسه كان صحيحا
فاذا تقرر هذا فاعلم أن تلك الآيات في قوة التمدح بكمال القدرة لا بارادة القبائح ومرادنا بالقوة هنا هو ما سيقت لافادته وهو المعنى اللغوي الذي يسميه أهل المعاني دلالة المطابقة فقد وهم من ظن أنها في قوة أن القبائح مرادة لله تعالى وأفحش منه غلطا من ظن أنها مرادة لله تعالى وأن المرادة في قوة المحبوب فاطلق القول بأن المعاصي محبوبة لله تعالى
فأما أهل الآثار فلا يقول بهذا منهم أحد لأن المحبة عندهم غير الارادة حقيقة ولا يطلق أحدهما حيث يطلق الآخر إلا بدليل خاص
وأما بعض الأشعرية فقد أجاز ذلك بناء على أنه مجاز لأن المحبة عندهم لا تجوز على الله تعالى إلا مجازا كما تقوله المعتزلة وهذا وإن كان أهون في القبح إلا أنه خطأ وقبيح لوجهين أحدهما أن شرط المجاز هنا مفقود وهو العلاقة المسوغة المقتضية للتشابه ولولا ذلك لصح تسمية البخيل غيثا وبحرا كالجواد والجبان أسدا كالشجاع يوضحه أن المعاصي مسخوطة من حيث كانت معاصي بالاجماع وأهلها إنما يغضب الله عليهم من هذه الجهة المسخوطة فلا يصح أن تكون المعاصي مرضية محبوبة مجازا من هذه الجهة بعينها قطعا باجماع من يعرف المجاز وشروطه المخرجة له عن الكذب والمناقضة وتجويز ذلك خروج عن قانون اللغة وتجويزه يؤدي إلى تجويز مجازات الملاحدة
وقد أخطأ من روى عنهم ذلك على الاطلاق ولم يقيده بانه مجاز عندهم ومن أخطأ في رواية ذلك منهم افحش غلطا في الخطأ والغلط ممن رواه من خصومهم وهذا مع دقته قد وقع فيه بعض المعتزلة بل علامتهم في علم البلاغة والادب الزمخشري ولذلك زعم في تفسير قوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أي أمرناهم بالفسق مجازا فالامر بالفسق مجازا أبعد من الرضا به مجازا وغلط الزمخشري فيه بينته في العواصم والمختار فيه أمرناهم بالتكليف على السنة الرسل كقوله
تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وثانيهما ان قوما من الجهلة الاتحادية قد ظنوا قول بعض الاشعرية ان المعاصي مرادة والمراد في قوة المحبوب فهي محبوبة مرضية على الحقيقة فزادوا على هذا انه يستحيل في المراد المحبوب ان يكون معصية لمن أراده وأحبه فزعموا انه لا يصح وجود معصية لله وان معنى سابقوا إلى مغفرة إلى مغفرة من ربكم أي الى الكبائر والفواحش لان المغفرة لا تتم إلا بذلك وكان بعضهم يقول كفرت برب يعصى وأنشد بعضهم في ذلك
أصبحت منفعلا لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات
وهذا إلحاد في الدين صريح وانما وقع فيه أهله من ترك عبارات الكتاب والسنة وتبديلها بما ظنوه مثلها وليس مثلها
والسر في ذلك أن المراد المطلق هو المراد لنفسه من جميع الوجوه الذي لا يكره من وجه قط والمعاصي ليست من هذا بالاجماع فان كراهة المكلفين لها واجبة وفاقا مع وجوب الرضى عليهم بقضاء الله تعالى ولان الله تعالى يكره المعاصي بالنص فلم تكن المعاصي من هذا الجنس من المرادات ولكن الذين قالوا انها مرادة والمراد بها غيره عنوا نوعا آخر من المرادات التي يراد لغيره ويكره لنفسه فهو مكروه حقيقة والمراد به غير كاليمين الغموس كما يأتي ولما لم يوضحوا ذلك دائما ويكثروا من ذكره وبيانه أوهموا عليه الخطأ ولذلك لم يرد السمع بذلك ألا نصا ولا نص عليه السلف الصالح ألا ترى ان إرادة القبيح ليست صفة مدح بالاجماع بخلاف ما ورد السمع به من نفوذ المشيئة في كل شيء
وقد نص أئمة الاشعرية أن الله تعالى لا يوصف بصفة نقص ولا بصفة لا مدح فيها ولا نقص فارادة القبيح لغير وجه حسن ان لم تكن نقصا كانت مما لا مدح فيه قطعا فيجب ان لا يوصف بها الرب تعالى على قواعد الجميع
وقد بنيت هذا الكتاب على المنع من ذلك لان عبارة الكتاب والسنة ان كانت واضحة فهي أحق أن يعبر بها وأولى ولا حاجة الى تركها وتبديلها بعبارة واضحة مثلها وان كانت خفية لم تبدل أيضا بعبارة واضحة لانه لا يؤمن الغلط في تبديلها الا ترى أن بعض الاشعرية لما بدل ولو شاء لهداكم أجمعين بان المعاصي مرادة بدل بعضهم المراد بالمرضى المحبوب مجازا ثم جاء من بدل المرضي المحبوب مجازا بالمرضي المحبوب حقيقة ثم بالطاعة المأمور بها فحرم التبديل هنا كما تحرم الرواية بالمعنى الجلي حيث يكون المعنى خفيا بالاجماع بل هنا أولى لانه من مهمات الاسلام وذلك في فروعه وأيضا فان الرضاء بمراد الله واجب كالرضاء بفعله ولان كراهة ما أراد مضادة له تعالى ومعارضة وذلك خلاف مقتضى العبودية والرضاء بالمعاصي حرام بالاجماع القاطع من الجميع والنصوص الجمة فيلزم من ذلك ان لا تكون المعاصي مرادة لله تعالى وهذا معيار صدق وميزان حق في مضايق هذه المسائل كما يأتي بيانه في مسألة الأفعال ان شاء الله تعالى
البحث الثالث في كيفية الجمع بين السمع الوارد في هذه المسألة وهو أنواع فنوعان تقدما وهما ما يدل على كراهية الله تعالى للقبائح ومحبته للخيرات وما يدل على قدرته على هداية العصاة ونوعان نذكرهما هنا وهما عام وخاص
أما العام فهو أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وهو معلوم كثير وهو بمنزلة يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء في انهما مجملان قد علم في القرآن بيانهما بالنصوص الكثيرة البينة الواضحة فلله الحمد ومن عجائب أهل التأويل تكلف وجه يحسن ذلك من ابائهم وترك الوجه المنصوص وهو العقوبة كما نذكره الآن وتبديل لفظة بلفظة وهما على سواء في المعنى كتأويل الاضلال بالخذلان لم يبعد ان يبدلوه بلفظ آخر ولا أصح من لفظ القرآن ولا أبرك ولا أطيب
وأما الخاص فمثل قوله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ومنه كذلك حقت كلمة
ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون وقوله تعالى وما يضل به الا الفاسقين وقوله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقوله تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وقوله تعالى ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وقد خلقوا على الفطرة بدليل الكتاب والسنة وفي الرعد نحوها وأيضا فالهدى أعظم النعم وقد قال الله تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون مع قوله انا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا وقوله إن علينا الهدى وقوله ثم السبيل يسره وقوله وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى وقوله وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر فالهداية أعظم النعم وأول الحجج على العبد ومن ذلك قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون وقوله تعالى في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وقوله فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله مع حديث كل مولود يولد على الفطرة وهو متفق على صحته من حديث أبي هريرة ومعه حديث عياض بن حماد المجاشعي أن رسول الله قال في خطبته ألا ان ربي تعالى أمرني عليكم أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني الى قوله حاكيا عن الله تعالى وانى خلقت عبادي حنفاء كلهم وانهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم
وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا الحديث رواه م و س من حديث جماعة عن قتادة عن مطرف بن عبد الله الشخير عنه ومرة عن جماعة ذكر منهم ثقتين عن مطرف عنه قوله تعالى فبما نقضهم ميثاقهم لعنهم وجعلنا قلوبهم قاسية وقوله تعالى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وقوله اذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وقوله فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين وقوله وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم وفيها رد قولهم انها غلف في أصل الخلقة حتى عوقبوا على الكفر واستحقوا العقوبة وقوله أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة وما أحسن هذه العبارة وأبلغها مع تقدم التمكين واقامة الحجة وقطع الأعذار ومن ذلك قوله تعالى ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون وقوله فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ومنه فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع على قلوب الكافرين ومنه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي اليه من أناب ومنه يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين وقوله بعدها ويفعل الله ما يشاء دليل على ان المبين لا يناقض المجمل وهي
كآية الحج بعد السجدة لا تقتضى خلاف ما قبلها قال البغوي ما يشاء من التوفيق والخذلان والتثبيت وعدمه
والوجه فيه عندي أن يفسر اجماله بالآيات البينات في القرآن مثل ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين ان شاء ومثل ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء بعد ذكر الكافرين
ومنه الأحاديث الصحيحة الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو والمعني انه لما قال ويضل الله الظالمين استثنى من ذلك من يشاء أن يتوب عليه وهذا من تفسير القرآن بالقرآن وهو الذي يناسب جلال عدله وجمال فضله وحسن أسمائه وليس لأحد أن يفسره بما لم يشهد له كتاب الله بل بما صرح بتنزيهه عنه من نفي الحكمة في أفعاله وما سمى لعبا وعبثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وأمثال ذلك مما يطول ذكره وبذلك جاءت السنة كما احتج رسول الله على القدر بالآية في سورة الليل المقدمة وهي مصرحة بتأخير التيسير لليسرى عن العصيان حتى وقع التيسير بعد العصيان عقوبة عليه وكما قال في حديث الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه وكل ذلك في البخاري ومسلم وعند مسلم من حديث عياض المجاشعي يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فجاءت الشياطين فاجتالتهم الحديث كما مضى وعنده أيضا حديث أبي ذر فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه وعند مسلم أيضا من حديث علي عليه السلام الخير بيديك والشر ليس إليك وسنده على شرط الجماعة وله شاهد آخر أخرجه الحاكم أحسبه من حديث أبي بكر رضي الله عنه ومعنى ذلك ليس اليك الذم عليه واللوم فيه كقوله ومن وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه فان الله مكن بالقدرة وبين بالعقل والرسل وأزاح العلل وقطع الاعذار
وفي الصحيحين لا أحد أحب اليه العذر من الله تعالى من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل وهذا كله متطابق تطابقا يفيد العلم على أن الله
تعالى لا يريد الشر لكونه شرا وانه عدل حكيم فيما أمر ونهى وما علمنا وما جهلنا كما مضى في مسألة حكيم فيجب أن يبنى العام على الخاص في هذه الآيات كما يبني في آيات الوعد والوعيد ألا ترى أنه قال فيها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ثم فسر من يعذبه بالمشركين ونحوهم ومن يغفر له بالمؤمنين فلم يجز بعد تفسيره أن تخلى المشيئة مطلقة حتى تخاف العذاب على الانبياء ونرجو الرضوان لمن مات مشركا وكذلك في آيات الضلال والهدى الخاص الزائد على الفطرة لما بينها الله تعالى وبين أن هذا الهدى الخاص مثل الثواب يختص أهل الخير بالوعد الحق ومن شاء الله من غيرهم بمحض الرحمة والفضل وان الضلال يختص بمن يستحقه من الأشرار وجب أن يحكم بأن الله تعالى لا يضل المهتدين ولا يضل أحدا إلا الفاسقين كما دل عليه في كتابه المبين والعمل على هذا من قواعد علماء الاسلام المعلومة
وأما كراهة القبائح فعلى ظاهرها وأما ارادتها ومحبتها فلم يرد به سمع منصوص جلي ولا قرآن ولا سنة ولا متواتر ولا آحاد فلا تعارض هنا ألبتة بل جاء في كتاب الله تعالى أن الله لا يريد ظلما للعباد وفي آية أخرى للعالمين وإن كان أظهر التفسيرين أن المعنى لا يريد سبحانه ظلما منه لهم تعالى عن ذلك علوا كبيرا وذلك مثل تمدحه جل جلاله بأنه ليس بظلام للعبيد وقد أوضحت وجهه في العواصم في البحث العاشر من هذه المسألة لكنه يقال أنه تعالى إنما نفي أرادته ظلم العباد لفبح الظلم وقبح ارادته لا لكونه محالا في قدرته لأنه لا معنى للتمدح بترك المحال في القدرة لان المحال لا تنبغي ارادته وصحته وبكل حال فقواعد أهل السنة تقتضي الايمان بهاتين الآيتين وقول من يقول أن الله يريد الظلم الواقع وسائر القبائح يخالف مفهومهما فيتعين تركه احتياطا ومحاذرة من مخالفة مفهوم كتاب الله تعالى الذي لم يعارضة منطوق صريح في العقائد التي لا ضرورة بنا إلى النص فيها على ما لم ينصه الله تعالى ورسوله وسيأتي أن من ادعى أن المعاصي مراده إنما أطلق ذلك مجازا على ما سيأتي من نصوص الأشعرية عليه
والحاصل في الجمع وجوه الوجه الاول دعوى عدم التعارض الموجب للجمع على وجه دقيق وإنما هو من قبيل العام والخاص وهو جلي لا يسمى متشابها لوضوحه
الوجه الثاني التعبير بعبارة الكتاب والسنة عموما وخصوصا وترك الابتداع بالنص في موضع العموم مثاله تقول أن الله تعالى خلق كل شيء على العموم وتترك ما اختلف فيه من خلق القرآن وخلق أفعال العباد لأن الله تعالى لم ينص عليهما وقد قال بكل منهما طائفة وتمسكوا بالعموم والانصاف إن تمتنع من مساعدة كل من الطائفتين على ما ابتدع النص عليه فان النص على جزيئات العام إنما يحتاج اليه في العمليات لضرورة العلم وأما هنا فقد نص علماء المعاني واللغة على أن دلالة المطابقة اللغوية في العموم لا تدل على أبعاضه وجزئياته كما تدل على جملته وأن فهم تلك الأبعاض الجزئية هو من دلالة التضمن وأنها عقلية لا لغوية
فالواجب في مسائل الاعتقاد التي يقع فيها الاختلاف وتجوز المخصصات المانعة لبعض الأجزاء من الدخول في العموم الاقتصار على دلالة المطابقة اللغوية العربية التي قصدها المتكلم قطعا وكم للناس في هذا من الأوهام ألا ترى أن كثيرا من الناس يتوهم أن آيات المشيئة تدل على مذهب الجبرية ما لم تصرف بالتأويل عن ظاهرها مثل فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وليس كذلك وكذلك قولنا ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
بيان أن ذلك لا يلزم إلا لو تبين بدليل آخر أن الله شاء أن يكون العباد مجبورين على أفعالهم لكنه قد ثبت أنه شاء أن يكونوا مختارين فبهما بمشيئتهم لها لقوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ولم يقل وما تشاؤون من غير استثناء كما قالت الجبرية فقد كان الاختيار الذي شاء الله أن يكون العباد عليه لكن بعد مشيئة الله تعالى لذلك ولم يكن الجبر الذي لم يشأ الله تعالى فتأمل غلطهم في ذلك بل قد وهم نوح عليه السلام بسبب عدم النظر إلى احتمال العموم للتخصيص حيث قال إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق فكيف بغيره وقد نقم الله تعالى على المشركين جدالهم لعيسى عليه السلام حين نزل إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون وقال ما ضربوه لك إلا
جدلا بل هم قوم خصمون فليتق طالب الحق أمثال ذلك وليكن منه على أشد حذر
ولذلك تجد هذا الجنس متمسك أكثر أهل الضلالات ولا تجد صاحب باطل ولا تجد في العمومات ما يساعده حتى منكري الضرورات كغلاة الاتحادية فانهم قد تمسكوا بتصديق النبي لقوله لبيد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
وقد اختار هذا صاحب الفقه الأكبر ونسبه إلى الشافعي وهو على مذهب الأشعرية وعقد له فصلا قال فيه لا يقال أن الله تعالى يريد الكفر وسائر المعاصي على الاطلاق لأنه يوهم الخطأ لكن نقول أن جميع ما يجري في سلطانه بارادته إلى قوله ويجب الاحتراز عما يوهم الخطأ كما يجب عن الخطأ نفسه وما أحسن هذا لو لزم عبارة الكتاب والسنة فقال ولو شاء الله ما فعلوه مكان قوله جميع ما يجري في سلطانه بارادته لأن كلام الله تعالى يستلزم كمال العزة والقدرة وكلامه يستلزم ارادة الكفر وذلك عين ما فر منه وهو يستلزم حب الكفر والرضا به أو يوهمه وذلك يستلزم الامر به وإباحته أو يوهمه كما مر تحقيقه في البحث الثاني فراجعه منه وقد صرح بوجوب الاجتناب لما يوهم الخطأ كوجوب الاجتناب للخطأ نفسه ولا شك أن عبارته توهم الذي خافه وفر منه بل يستلزمه تحقيقها وذلك لأنها مبتدعة فلزم ما ذكرناه من ترك البدع ألا ترى كيف ورد النص والاجماع بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ولم يرد أنه لا كفر ولا معصية إلا بالله فبين العبارات أبعد مما بين الارضين والسموات وحديث ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن محمول على ما تمكن مشيئته له ولا تمتنع ولفظه يعطي ذلك
وإنما أحببت أن أنبه عليه وعلى أنه إجماع في صورتين احداهما أنه لا يدخل في ذلك المحال في نفسه كوجود ثان في الربوبية وجعل أنه لا يدخل في ذلك المحال الحوادث بعد حدوثها قديمة ونحو ذلك وثانيهما
أنه لا يدخل فيه ما تمنع منه الحكمة من قلب صدق الاقوال الربانية إلى الكذب وبعثة الرسل كذا بين على ما مر محققا في إثبات الحكمة وان الامة أجمعت على امتناع النقص في كلام الله تعالى وامتناع ارادته وأن ذلك يستلزم امتناع النقص في أفعاله كامتناعه في أقواله
ويوضحه اجتماع الكلمة من الأشعرية والمعتزلة على أن الله تعالى لا يوصف إلا بما يستلزم المدح دون ما يستلزم الذم أو ما لا يستلزم لا مدحا ولا ذما أما الأشعرية فنصوا على ذلك وأما المعتزلة فنصوا على امتناع العبث واللعب على الله تعالى وعلى اعتبار التحسين العقلي وهما يستلزمان ذلك والله سبحانه أعلم
الوجه الثالث من وجوه الجمع توجيه الجمع إلى الوقوع والواقع وهو مثل الفرق بين الوقوع والواقع وهو مثل الفرق بين التلاوة والمتلو والحكاية والمحكي كما أوضحت بيانه في مسألة القرآن وهو قول الامام المنصور بالله عليه السلام وبين ذلك الفرق بين الوقوع والواقع أنه لما ورد الشرع بجواز ارادة اليمين الغموس الفاجرة من جاحد الحقوق الواجبة عليه في الأموال والدماء والقسامة واللعان ونحو ذلك فانه يجوز لصاحب الحق ارادة هذه اليمين من حيث أنها حق له واجب وان كان يعلم أنها يمين فاجرة معصية لله تعالى ومع ذلك فلا يجوز له أن يحبها ويرضاها من حيث أنها قبيحة معصية لله تعالى
فتبين أن هذه اليمين ذات وجهين وجه جازت منه ارادتها ووجه وجبت منه كراهتها فالوجه الذي جازت منه ارادتها وقوعها من خصمه الظالم من حيث هي حق له على من ظلمه على جهة العقوبة للظالم والوجه الذي وجبت منه كراهتها هو ذاتها الواقعة معصية لله تعالى فافترقت الجهتان اللتان يتوهم عدم افتراقهما بذلك فمتى وردت النصوص مختلفة في نحو ذلك أمكن حملها على مثل ذلك
مثال ذلك قوله تعالى في المستحقين للعقوبة دون غيرهم ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وقول رسول الله
في المرحومين من العباد لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون كي يغفر لهم رواه مسلم من حديث أبي أيوب وروى مسلم من حديث أبي هريرة نحوه بزيادة وهي كي يستغفروا فيغفر لهم وله شواهد عن جماعة من الصحابة ذكرتها في العواصم
وهذا القسم أوضح القسمين في الحكمة أعني قسم المرحومين من الخلق فهذه الآية المتقدمة ظاهرها ارادة وقوع الضلال منه مع أنه عبارة عن المعاصي المكروهة بنص قوله تعالى كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها فجعلوا معاصي المعاقبين ذات وجهين كاليمين الغموس الواجبة في الحقوق وهي حرام ووجوبها وتحريمها مجمع عليهما وذلك يوجب صحة اعتبار الجهتين في هذه الأمور لأن الوجوب والقبح ضدان يستحيل أن يتوهما إلى جهة واحدة
والجواب أن الآية غير نص فيما قالوا لاحتمال أن المراد هو جعل صدره ضيقا حرجا وذلك هو فعل الله تعالى وهو حسن لا قبح فيه لأنه عقوبة مستحقة بل ذلك بين فان الاضلال غير المعاصي بل سبب لها وفاعله غير فاعلها لكن ظنوا أنها غرض الغرض وقد مر بطلانه في البحث الثاني وسيأتي أن مذهب أهل السنة أن الارادة لا تعلق بفعل الغير وإنما تتعلق به المحبة وتسمى ارادة مجازا وقد بنيت هذا الكتاب على أنا لا نبدل الظواهر بالنصوص ألا ترى أن اضلاله الذي نص على ارادته لا يجوز أن يفسر إلا بفعل أشياء من أفعال الله الحسنة يقع عندها منهم معاص قبيحة كما ذكره الله تعالى في بسط الرزق في آيات كثيرة وكذلك الحديث النبوي ليس بنص فيما ذكروه لجواز أن المراد مثل ذلك من أفعال الله الحسنة التي تكون وسيلة إلى أفضل أخلاق الدنيا والآخرة وهو العفو بعد الاساءة والاحسان إلى المسيء كما أوضحته واستوعبت ما ذكر فيه في العواصم والحمد لله رب العالمين ومن ذلك ارادة خلق الكفار وبقاؤهم مع كراهته لهم فانهما لم يتناقضا لاختلاف الجهات التي تعلقت بها ومن ذلك أنه حسن من المذنب
المسلم أن يكره عذاب الله تعالى له مع أنه يعتقد حسنه من الله تعالى وعدل الله فيه لكنه لم يكرهه من هذه الجهة إنما كرهه من حيث أنه لا يصبر عليه ولا يقوى له ونحو ذلك فوجه بعض أهل النظر كراهة الله تعالى للمعاصي والقبائح إلى ذواتها الواقعة من العصاة وارادتها إن قدرنا ورود شيء من السمع بها إلى الوقوع لحكمة من عقوبة وسخط على من استحق ذلك أو غير ذلك وهذا جيد في النظر لولا أنا لم نضطر اليه لعدم صحة ورود السمع بارادة المعاصي ولا شيء منها وان ظن ذلك من لم يكثر النظر والتأويل التام لمعاني الآيات القرآنية والله الهادي
وأقرب الآيات منه قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقول موسى عليه السلام ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم ومن الحديث حديث جبريل عليه السلام حيث روي أنه جعل يأخذ من حال البحر فيدخله في فم فرعون خشية أن يقول لا إله إلا الله فتدركه الرحمة وإذا صح ورود السمع بهذا فالدليل على من ادعى قبحه لأن قبحه ليس بضروري بالاجماع
وتلخص أن حسن ذلك أن ورد به النص مشروط بثلاثة أمور أحدها أن يتعلق بالوقوع دون الواقع مثل ما ذكرنا في اليمين الغموس وثانيها أن يكون بعد استحقاق العقوبة لقوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين ونحوها مما ذكرناه وثالثها أن لا يجعل ذلك غرض الغرض الذي هو تأويل المتشابه وإن لاح لنا منه شيء لم نقصر عليه التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى الذي هو المراد على الحقيقة وإنما أراد الله تعالى بما قبله أن يكون سببا له لحكمة الله تعالى في ترتيب المسببات على أسبابها فتأمل ذلك حتى تخلص به من ارادة القبائح وارادة وقوعها جميعا كما تقدم في قول الخضر فأردت أن أعيبها أي أجعل عيبها سبب سلامتها من الملك الظالم وإلا فالمراد المحقق سلامتها لاعيبها
الوجه الرابع أن قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين وما في معناها من آيات هذا النوع كلها أدلة خاصة تدل على أن أول ما يقع من المكلف من الذنوب كائن بالتخلية بينه وبين نفسه لاقامة الحجة حجة العدل عليه وقطع أعذاره الباطلة من دون اضلال من الله تعالى في هذه الحال ولا تيسير للعسرى ولم يبق من الله تعالى في مثل هذا الحال إلا القدرالذي بمعنى العلم والكتابة وارادة العاقبة المستحقة بالعمل وارادة اقامة الحجة على العبد في تلك العاقبة كما يذكر في تفسير قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس فان ارادة الله تعالى عذابهم لم تعلق به إلا حين يكون حقا مستحقا عليهم بذونهم بالاجماع وإنما الخلاف في جواز تقدم الارادة للعقاب المستحق لا في أنها تعلقت بغير مستحق فمن فسر الارادة بالعلم من المعتزلة كالبغدادية وأبي الحسين لا يمكنهم تقبيح تقدمها وكذلك من يجعل تقدمها أمرا واجبا مستحيلا خلافه كالأشعرية
وقولنا أنه لا يجوز الاضلال في أول أحوال التكليف حتى يستحق العبد ذلك بالمعاصي يناسب قول أبي علي بالمنع من الزيادة في الدواعي إلى القبيح التي يعلم الله تعالى عندها أن المكلف يختار القبيح بخلاف أبي هاشم فانه يجيز ذلك كالأشعرية لكن لا يسميه اضلالا إنما يسميه امتحانا وابتلاء لكنا لم نقل ذلك بالنظر العقلي وإنما قلناه بتأمل كتاب الله تعالى وقضينا بأنه محكم القرآن لموافقة العقل والنظر فهو محكم عقلا وسمعا أما العقل فلأنه من قبيل الجزاء والعذاب الاخروي وقد ورد السمع بجواز تقديم بعضه وهو المسمى بالعذاب الأدنى في كتاب الله تعالى ونص على ذلك الامام المنصور بالله من الأئمة وأما أحكامه سمعا فلأنه المنصوص فان قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين نص في ذلك والمعارض له غير صحيح في ارادة الله تعالى وقوع ذنب العبد قبل استحقاقه العقوبة بذلك
وهنا تلخيص جيد مفيد وهو أنه لا خلاف أن الله تعالى لا يعاقب إلا بعد الاستحقاق بالمعصية لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولقوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق
عليها القول الآية فمن فهم من الاضلال أنه من جنس العقوبات لم يجزه إلا بعد الذنوب ومنع أن يقع من الله تعالى ابتداء قبل أول معصية وسمى ما يقع في ذلك الوقت من أسباب المعاصي ابتلاء وامتحانا إن كان ممن يجيزه وهم الأشعرية وجمهور المعتزلة ومن فهم من الاضلال معنى الابتلاء والامتحان اجازه مطلقا قبل الذنوب وبعدها لكن الآيات المتقدمة ظاهرة في الدلالة على أنه من جنس العقوبات مثل قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين وقوله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم إلى سائر ما تقدم والله أعلم
وجميع المعارضات لذلك نوعان أحدهما يختص بغير المعاصي عند التأمل كقوله تعالى ولو أننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى الآية فانها في امتناع الايمان إلا بمشيئة الله تعالى وعونه ولطفه وذلك صحيح ودليل ذلك قوله تعالى في آخرها ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وكذلك قوله تعالى وما تشاؤن إلا أن يشاء الله فانها في مشيئة الطاعة لقوله تعالى في أولها لمن شاء منكم أن يستقيم وفي ذلك قال رسول الله فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه بل قال الله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وقال يختص برحمته من يشاء
فان قيل قوله تعالى وما تشاؤن إلا أن يشاء الله عام في لفظه وخصوص أول الآية لا يستلزم خصوص العام الذي في آخرها كما أن خصوص السبب لا يستلزم خصوص العموم في أحد القولين
فالجواب من وجوه أربعة الأول أنا لا نسلم أن آخرها عام منطوق لأن مفعول يشاء الله تعالى محذوف وتقديره المذكور في أول الآية والمذكور في أولها يختص بالطاعات وهذا جيد جدا فتأمله
الثاني أنا لو سلمنا العموم اللفظي لما سلمنا جواز اعتقاد معناه هنا لأن في العام الوارد على سبب خلافا
قويا في الظنيات العمليات فكيف هذا وهو أولى بالوقف فيه لوجوه ثلاثة أحدها أن هذا في الاعتقاد القاطع في أصول الاديان وثانيها أن خصوص أول الآية أقوى في هذا من مجرد نزولها على سبب خاص وثالثها أن هذا من عموم المفهوم وفيه خلاف الثالث من الأصل أنا لو سلمنا العموم لم يكن لنا اعتقاد هذا لما ذكرنا من أنه من دلالة التضمن لا من دلالة المطابقة اللغوية وقد مر تحقيقه الرابع أنه معارض لقول إبراهيم عليه أفضل السلام لئن لم يهدن ربى لأكونن من القوم الضالين فاكتفى في وقوع ضلاله بفقد هداية الله تعالى وإن لم تحصل ارادة ضلال ولا ارادة قبائح الافعال
ولذلك نظائر في الآيات كقول آدم عليه السلام وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وقول نوح عليه السلام وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ومنه حديث داود عليه السلام في سبب ذنبه وقول الرب تعالى له وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوما فأصابته السيئة ذلك اليوم رواه الحاكم من حديث ابن عباس وصححه فلم يقف خسراننا على ارادته بل على عدم رحمته ونحو ذلك كثير جدا وهو بعمومه معارض بما يستلزم من استلزام الآيات لعمومها لارادة الله القبائح فوجب الوقف في ذلك
وثمرة هذا التحقيق أن القدر المتيقن أن وقوع المعاصي متوقف على عدم القدرة امتحان الفرد بعدم اللطف الزائد لا بارادة ذنوبه ولا محبتها كما ظن أنه مقتضى الآيات وظن أنه قول أهل السنة ولا متوقف على عدم القدرة والعجز كما ظن أنه قول المعتزلة
فان قيل ينتفض هذا بقوله تعالى وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا لأن هذا الكلام كلام نبي مرضي لا يستحق العقوبة بالاضلال وقد جوز أن يشاء الله ذلك فيقع بمشيئته
قلنا لا نسلم ذلك بل هذا من شديد خوف الأنبياء عليهم السلام لأنهم أعلم الخلق بالله تعالى واعلمهم به أخشاهم له كما قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ألا ترى إلى قول الراسخين ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا بل إلى قوله تعالى فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وسبب خوف العلماء أنه قد أخبرنا أنه خلقنا ليبلونا أينا أحسن عملا وكل أحد يبتلي على قدر صبره وحاله وكمال الابتلاء لا يحصل إلا بذلك ولذلك ابتلى ابراهيم الخليل عليه السلام بالامر في المنام بذبح ولده فخاف هذا النبي الكريم أن يكون له ذنب يستحق عليه العقوبة ببلوى توقعه في أعظم الذنوب خوف هيبة وقمع نفس من العجب والأمان لا خوف تجويز كما فسر به خوف الملائكة ويؤيد ذلك أن كلامه خرج مخرج التعظيم لله تعالى في عدم القطع بالنجاة دون مشيئته وعد القطع على براءة نفسه من الذنوب الموجبة للعقوبة بالخذلان فقد عوقب آدم وداود حين وثقا بأنفسهما فأذنبا ولذلك أتبع بذكر التوكل
النوع الثاني مما يتوهم معارضته لقوله تعالى وما يضل به الفاسقين كله عمومات مثل قوله تعالى ولا تقولن لشيء أني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله يوضحه أنها نزلت على سبب غير قبيح وفي العلماء من يقصر العموم على سببه وتناول العموم لغير سببه ظني بالاجماع وأما قوله تعالى ان كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم فلا يرد علينا هنا لأنها في كفار بعد البعثة والتمادي على التكذيب فهم يستحقون الاغواء والاضلال وأما كلامنا هنا في أول ذنب
وأما أحاديث القدر وما فيها من قوله كل ميسر لما خلق له فلا نص فيها على أول أحوال التكليف بل قد جاء بعضها صريحا في أن ذلك يكون عند الخاتمة وهي وقت الاستحقاق للجزاء وحديث كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه يدل على ذلك بل قوله تعالى فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله فيحتمل أن
يكون أراد بالتيسير في العصاة بعد العصيان لقوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين ولآية سورة الليل التي احتج بها رسول الله على القدر فيحتمل أن تكون التخلية تيسيرا لما يقع بعدها باختيار المكلف وحده لما كانت سببا في اختياره فيكون للقدر تفسيران أحدهما عام لكل حال ولكل شيء وهو العلم والكتابة ونحوهما مما تقدم كمشيئة العاقبة المستحقة بالمعاصي على ما سيأتي في قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس وثانيهما الاضلال بعد الاستحقاق له عقوبة من غير اجبار ولا سلب للاختيار وهو خاص بمن قد امتحن حتى عصى عند أهل الجمع بهذه الطريقة
الوجه الخامس أن الارادة دائرة بين معنيين إما أن تكون حقيقة فيهما معا أو في الأول منهما حقيقة وفي الآخر مجازا
المعنى الأول الارادة الملازمة للمحبة للمراد والامر به والتحسين له أو شيئا مما يقارب هذا المعنى وهي الارادة الشرعية للواجبات والمستحبات وهذه هي ارادة الشيء لنفسه من غير معارضة كراهة لها بوجه من الوجوه المتعلقة بذلك الشيء المراد وهذه هي الارادة الحقيقية بالاجماع فالقبائح لا تكون مرادة بهذا المعنى وكان المعتزلة لم يعرفوا أو لم يعترفوا بغير هذا المعنى للارادة ولذلك منعوا تعلقها بجميع القبائح وتقدم في الصفات الدليل على جواز اطلاق المحبة على الله تعالى من غير تشبيه كالارادة
المعنى الثاني للارادة الارادة الدالة على نفي ما يستلزم العجز من وقوع ما يكره الله تعالى وقوعه في ملكه من غير سبق قدر منه أو تخلية مرادة لحكمة أو نحو ذلك وذلك لكمال قدرته ونفوذ مشيئته وعموم ربوبيته وكبرياء عظمته بحيث لا يجوز عليه عدم القدرة على اللطف بالعصاة ولا البداء والرجوع عما قد قدره وقضاه وانه لو شاء لهدى الناس جميعا ولجعلهم أمة واحدة كما تمدح بذلك في كتابه الكريم ولكن حكمته اقتضت تمكين العباد وتكلفيهم وابتلاءهم كما أخبر في كتابه وسبقت أقداره بكل ما هو كائن عن علم لا يتغير وحكمة بالغة وحجة دامغة فوقوع المعاصي بالنظر إلى هذه المعاني هو معنى القضاء والقدر والتقدير عند الجميع وعند طائفة لا مانع
من أن يسمي ذلك الوقوع مرادا حقيقة أو مجازا ولا تسمى المعاصي الواقعة مرادة مثل وقوعها بل تسمى مكروهة حقيقة وارادة وقوع المعاصي المكروهة هذه تسمى عند من يجيزها ارادة ارادة كونية لا شرعية في عرفهم وإنما الشرعية في عرفهم هي النوع الأول المختص بالطاعة
وأعلم أن تمسيتهم لهذه ارادة لم يثبت بالنص وإنما ثبت أن ذلك مقدر ولم يرد النص أن كل تقدير مراد وإن كان ذلك هو الظاهر في بادئ الرأي فالتحقيق في النظر والاحتياط يخالفه أما التحقيق في النظر فان المعاصي بالنصوص مكروهة لانفسها فلا تسمى مرادة لأنفسها لتضاد ذلك وعدم الدليل عليه وإنما يجوز أن تراد لغيرها ومتى أريدت لغيرها كانت هذه العبارة مجازية تحقيقها أن المراد هو ذلك الغير لا هي وحينئذ فلا يجوز أن تسمى مرادة مطلقا لوجهين أحدهما أن ذلك يوهم أنها مرادة لنفسها محبوبة وثانيهما أنها مكروهة لنفسها حقيقة ولا يجوز أن تسمى مرادة إلا لغيرها وتسمية الشيء بوصف نفسه أولى من تسميته بوصف غيره فان سمي بوصف غيره فمع قرينة تشعر بذلك وإلا أدى إلى قلب المعاصي وأما الاحتياط فلما بنينا عليه هذا الكتاب من الوقوف على النصوص كما تقدم
ومن أقرب الأمثلة إلى هذا الذي ذكروه ما حكى الله عن موسى عليه السلام من قوله ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فكره وقوع الايمان منهم عند الغضب عليهم لله تعالى وهو لا يتهم في محبة الايمان بالله في الجملة وابن تيمية كثير التعويل على الفرق بين الارادة الشرعية وبين الارادة الكونية وكلامه في هذا طويل وليس هذا مما تعلم صحته ولا بطلانه بالنصوص الشرعية ولا بالبداية العقلية فالاعتصام بالاعتقاد الجملي أحوط منه وأولى وهو أن الله يكره القبائح ولا يحبها وأنه على كل شيء قدير فلو شاء لهدى الناس جميعا وإن له الحكمة البالغة فيما فعل وترك وقدر وقضى وإن ذلك غير متناقض ولذلك ظهر اعتقاد ذلك الجميع عن السلف من غير إشكال فيه
البحث الرابع اتفق أهل السنة من أهل الاثر والنظر والأشعرية على أن الارادة لا يصح أن تضاد العلم ولا يريد الله تعالى وجود ما قد علم أنه لا يوجد وهذه الارادة التي المقصود بها إيجاد المراد لا إرادة المحبة التي تعلق بالذات لا بايجاد الذات فافهم ذلك
واحتجوا على ذلك بوجوه منها قوله تعالى أتريدون أن تهدوا من أضل الله ولا وجه لإنكار هذه الارادة إلا تعلقها بما لا يقع في العلم ومنها أن امتناع ذلك مدرك عقلي جلي يدرك بالوجدان من النفس كما يدرك الالم واللذة فانا ندرك من أنفسنا امتناعها مثل أن نريد من الله تعالى ما يقدر عليه سبحانه مما نعلم أنه لا يفعله مثل ان لا يذيقنا الموت أبدا وأن يدخلنا الجنة من غير موت ولا حشر مع قدرة الله تعالى على ذلك ومحبتنا لذلك وإنما امتنع أن نريد ذلك من الله تعالى لعلمنا أن الله تعالى قد كتب الموت والحشر على جميع العباد ولا شك أن هذا هو الفطرة ولذلك لا ترى عاقلا في الدنيا يسعى فيما يعلم أنه لا يحصل فلا نرى شيخا فانيا يطلب دواء لعود أيام الشباب ولا نحو ذلك وإنما خالفت المعتزلة لشبهة الامر بخلاف المعلوم فان الله تعالى يأمر بما يعلم أنه لا يقع وصحة هذا إجماع لكن ظنت المعتزلة أن الأمر يلازم الارادة وإنما ظنوا ذلك لأنه الأكثر في الشاهد في حق من لا يعلم الغيب
والتحقيق أن الأمر مع الارادة ينقسم ثلاثة أقسام
القسم الأول الأمر الملازم للارادة وذلك في حق من غرضه بالأمر تحصيل المطلوب وشرط هذا الأمر أن يصدر ممن يعلم أن المطلوب سيحصل أو يكون جاهلا بعلم الغيب
القسم الثاني لا تصحبه الارادة قط ولا محبة المطلوب وهو أمر الاختيار للغير بالعزم على الطاعة مثل أمر الخليل عليه السلام بذبح ولده فان الله تعالى لم يرد ما أمر به من الذبح ولا أحبه وإنما ابتلى خليله بالعزم كما قال فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين
القسم الثالث لا تصحبه ارادة الحصول وتصحبه محبة المطلوب دون ارادة وقوعه من المأمور وذلك مثل أمر الكافر بالايمان مع علم الله تعالى أنه لا يؤمن أبدا مثال ذلك قوله تعالى ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم مع أن الانبعاث معه عليه السلام مأمور به لكن كره من وجه آخر لا من الوجه المأمور به لأجله
وفي هذا المقام يذكر أهل السنة علم الغيب وما ورد في القدر والقضاء وأنهما بمعزل عن الجبر والاكراه ونفي الاختيار وقد تقصيت ما ورد في ذلك فبلغت أحاديث الأقدار وثبوتها مائة حديث وخمسة وخمسين حديثا وأحاديث وجوب اعتقاد ذلك اثنين وسبعين حديثا صار الجميع مائتي حديث وسبعة وعشرين حديثا من غير الآيات القرآنية والقدرية المجمع على ذمهم عند أهل السنة من يقول من قدماء المبتدعة أن الله لا يعلم الغيب ولا يوجد الآن من هؤلاء أحد وسياتي الكلام في تفسير القدرية
البحث الخامس وهو أنفس هذه المباحث ومغن عنها وذلك أن ظواهر عبارات المعتزلة والأشعرية في هذه المسألة في غاية المنافرة وتحقيق مذاهبهم يقضي باجتماع كلمتهم على أن الله تعالى قادر على هداية من يشاء باللطف والتيسير وعلى أن الله تعالى لا يريد المعاصي والقبائح وهذا عجيب لا يكاد أحد يصدق به إلا بعد شدة البحث والتنقير وسبب اجتماعهم في المعنى أن الخطأ منهم الجميع لما فحش من الجانبين لم يخف عليهم وما زالوا ينظرون ويناظرون ويعتذرون عن شنيع العبارات حتى اجتمعوا وهم لا يقصدون ذلك الاجتماع وأنا أبين ذلك من نصوصهم وكتبهم المعروفة
فأما المعتزلة فاعترفوا بقدرة الله تعالى على ذلك عندهم وعلى أصولهم في مسألتين
احدهما أن اللطف إنما امتنع في حق بعض المكلفين لأجل البنية التي خلقهم الله تعالى عليها وهي بنية مخصوصة فيها غلظة وقساوة وهو قادر عند جميع المعتزلة على تغيير بنيتهم وخلقهم على بنية الانبياء والملائكة ذكر ذلك ابن الملاحمي في كتابه الفائق وقد ذكرت الوجه في لزوم ذلك على أصول
المعتزلة من العقل والسمع وتقصيته في العواصم قال تعالى ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وقال تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم وقال تعالى وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم وفيها حجة على ثبوت حكمة الله تعالى فيما تعرف العقول حسنه من هدايتهم وما لا تعرفه من تركها مع القدرة عليها فانها لا تعرف حسن ذلك كما عرفناه الآن إلا بتعريف الشرع كما مضى في مسألة الحكمة لأن كل بنية قابلة للطف أو غير قابلة فانها عارضة يمكن تغييرها لا ذاتية ولأن الاجسام عندهم كلها متماثلة في ذواتها وإنما تختلف بالصفات والأحوال العارضة وتغيير ذلك كله ممكن لله تعالى ولأن قدرة الله تعالى على كل شيء عموما وعلى هداية كل أحد خصوصا منصوصة قطعية معلومة من الدين ومن إجماع المسلمين
قال ابن الملاحمي فان قيل فلم خلقه الله تعالى على هذه البنية التي لا تقبل اللطف قلنا لحكمة لا نعلمها ويكفينا علمنا بأنه أو كما قال وهنا نعلم أن الخلاف لفظي لأن تغيير هذه البنية يسير على من هو على كل شيء قدير وإنما هو تليين تلك القلوب القاسية أو تعليم تلك النفوس الجاهلية ولو أراد الله تعالى قلب جبال حديد ماء عذبا أو هباء منثورا لم يزد على أن يقول لذلك كن فيكون كيف وليس إلا تقليب القلوب القاسية وتليين القساوة وترقيق الطبع الغليظ فثبت أن الله تعالى قادر عندهم على هداية العصاة عند الجميع لكن المعتزلة شرطوا أن تكون هدايتهم بتغيير بنيتهم وسائر الناس قالوا إن ذلك ممكن من غير تغيير بنية
وثانيتهما قالت المعتزلة إلا أبا علي الجبائي أنه يجوز أن يزيد الله تعالى في شهوات المكلفين ويخلق من أسباب المعاصي ما يعلم أن المعاصي تقع عنده ولو لم يخلقه لم تقع وقاسوا ذلك على ابتداء التكليف فان الله تعالى كلف أهل النار وهو يعلم أن تكليفهم يكون سببا لوقوع معاصيهم ولو لم يكلفهم لم تقع منهم المعاصي وعلى هذا يجوز أن جميع المعاصي ما وقعت إلا
لزيادات في الشهوات والدواعي وقع الامتحان بها لشدة الابتلاء ومن ذلك خلق الشياطين عند هؤلاء وحينئذ تجويز أن الله تعالى قادر على هداية من وقعت منه المعاصي بتسبب هذه الزيادات والقدرة ووجه القدرة على اللطف به واضح وذلك أن يترك الله هذه الزيادات وتجويز قدرة الله تعالى على اللطف بهذا المعنى بين فثبت أن تأويلهم لآيات المشيئة بالاكراه ومحافظتهم على ذلك وقطعهم بتعينه وعدم احتمال غيره مجرد لجاج مع الخصوم وزيادة في المراء المذموم والله المستعان
وأما موافقة الاشعرية وأهل الأثر لهم في أن الله تعالى لا يريد المعاصي فان ذلك ثبت بالنص منهم والاقرار لا بالالزام والاستنباط وذلك أن إمام علومهم العقلية صاحب نهاية الاقدام المعروف بالشهرستاني ذكر في كتابه هذا أن ارادة الله تعالى عندهم لا يصح أن تعلق إلا بأفعاله سبحانه دون كسب العباد سواء كان طاعة أو معصية وأن معنى قولنا إن الطاعات مرادة ومحبوبة ومرضية هو أن الله تعالى يريد أفعاله التي تعلق بها وهي الأمر والثناء في الدنيا والثواب والثناء في الآخرة ومعنى قولنا أن المعاصي مكروهة ومسخوطة هو أن الله تعالى يريد أفعاله المتعلقة بها وهي النهي والذم في الدنيا والعقاب والذم في الآخرة وطول في هذا واحتج عليه بأن الارادة هي التي تخصص الفعل بوقت دون وقت وقدر دون قدر ووجه دون وجه قال ويستحيل أن تخصص فعل الغير وأن تقع غير مخصصة فيختلف عنها أثرها وذلك محال ثم قال وأنت إذا عرفت هذا هانت عليك تهويلات القدرية وتمويهات الجبرية وبين أيضا وميز فعل العبد الذي هو كسبه عن فعل الله تعالى الذي هو خلقه كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة الافعال
واعلم أن كلامه في ذلك قوي لأنه لو صح تعلق الارادة بفعل الغير لصح أن ينوي للغير لأن النية ارادة مقارنة وكذلك كان يلزم أن يعزم له لأن العزم ارادة متقدمة
فان قيل فنحن نحس ارادة فعل الغير بالضرورة قلنا تلك محبة لا إرادة لكن المحبة قد تسمى ارادة كما قال الشاعر
يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا
والبيت عربي فصيح من شعر الحماسة وعلى الجملة أن هذا نقل لمذهب الأشعرية من بصير به بل من إمام فيه فقد صح أن هذا مذهبهم سواء كان صحيحا أو باطلا قويا أو ضعيفا وعبارتهم في جميع تصرفاتهم في تأويل الآيات والأحاديث مخالفة لهذا ومصرحة بارادة المعاصي فحين علمنا أن هذا حقيقة قولهم وإن ذلك مجاز لم نوجب حملها على الحقيقة بل لم نجوز ذلك كما أن الزمخشري قال إن الله يأمر بالفسق مجازا في تفسير قوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ومع ذلك لا يحل لمسلم أن يحمله على الحقيقة لما كان قد نص على أن ذلك مجاز فكذلك هؤلاء ولكن هذا منهم مجرد لجاج وشدة مراء وجدل قابلوا به ما وقع من خصومهم من مثل ذلك وقد نهى الله تعالى عن التفريق بنص القرآن وإجماع المسلمين فواجب على كل من عرف هذا من الفريقين ترك هذه العادة المكروهة في ابتداع العبارات المفرقة بين الجماعة والمخالفة للطاعة ولذلك نهى الامام ابراهيم بن عبد الله بن الحسن عن تسمية الفرق بهذه الاسماء المبتدعة وأمر أن يسموا بالمسلمين فانهم إذا اجتمعوا في ذلك بهذه الاسماء المبتدعة وأمر أن يسموا بالمسلمين فانهم إذا اجتمعوا في ذلك كان أدعى إلى محو آثار الحمية وترك التعادي والعصبية ولذلك أثنى الله تعالى على الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم
وقد كنت هممت أن أقتصر على هذا البحث في هذه المسألة ثم رجوت أن يكون في ذكر سائر المباحث مزيد فائدة وإلا فهذا أنفعها وأجلها وهو يكفي صاحب الجمل إن شاء الله تعالى وقد بالغ في تحريم التفرق وترك التكفير بالاختلاف في مسائل الكلام محمد بن منصور الكوفي محب أهل البيت وصنف فيه كتاب الجملة والالفة فأجاد رحمه الله تعالى ونقل فيه القول المفيدة عن كبراء أهل البيت عليهم السلام باختيار ذلك ونقل صاحب الجامع الكافي منه جملة شافية في آخره ينبغي معرفتها ذكرها في مسألة القرآن ومذاهب الناس فيه
وهنا تحقيق بالغ وهو أن مراد أهل السنة في مسألة الارادة أن يكون الله تعالى غالبا غير مغلوب كما قال تعالى والله غالب على أمره ولم يصادم هذه القدرة المعتزلة إنما خالفوا في العبارة حيث قالوا إن الله تعالى إنما أراد مجرد تعريض الاشقياء للخير فقد حصل مراده الذي هو التعريض فلم يكن مغلوبا على مراده كما مضى وما يرد عليه قالوا وأراد تمكين العباد مع علمه بأنه يكون وسيلة إلى المعاصي فقد أراد عندهم سببها لعلمه بذلك بل أجاز جمهورهم أن يبتلي الله تعالى المكلفين بعد تمام التكليف بزيادة في خلق الشهوات والشياطين ومضلات الفتن بحيث تقع عندها المعاصي وهو يعلم أنه لو لم يفعل ذلك أطيع وما عصى وهذا هو الاضلال الذي تجيزه الأشعرية وتظن المعتزلة أنها تمنعه وهو الذي قد يسميه بعض الأشعرية ارادة لوقوع المعاصي أولها وإنما اختلفت عباراتهم فانهم الجميع قد اتفقوا على نفي الجبر وعلى ثبوت الاختيار وعلى أن الله تعالى ملك عزيز غالب غير مغلوب وعلى أن الاضلال إن كان من جنس العقوبات لا من جنس الابتلاء والامتحان لم يكن إلا بعد الاستحقاق بالذنوب كعقاب الآخرة لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فلولا اللجاج في المراء وتمكن التعادي في القلوب لكانوا فرقة واحدة واجتمعوا على جهاد أعدائهم من الكفار الملاحدة
وسر هذا التحقيق أنه لا خلاف أن سبب المعاصي مراد وهو خلق القدرة والتمكين والتكليف لكنه ليس بجبر محض بل الظاهر في سبب الشر أنه شر فمن نفى الحكمة قال هو مراد لنفسه ومن أثبتها قال لابد من مراد آخر وهو المسمى المراد الأول وغرض الغرض فمن قال هو الجنة في حق الكفار ورد عليه أن علم الغيب يمنع من طلب حصول ما علم أنه لا يحصل ومن قال هو التعريض لذلك ورد عليه أن التعريض ليس بخير محض مع العلم أنه سبب حصول نقيض المقصود ومن قال المعاصي فهو أجهل لأن سببها لم يكن شرا إلا لأجلها فثبت أنه اقامة الحجة في الظاهر وتأويل المتشابه في الباطن والحق أنه لا يعلمه إلا الله كما تقدم بدلائله
البحث السادس في ذكر الفائدة في التكليف بالأعمال مع سبق الاقتدار وقد يذكر هذا جوابا على من قدح في صحة أحاديث الاقدار من المبتدعة فيقال الفائدة في العمل مع القدر مثل الفائدة في العمل مع سبق العلم إذ كل منهما غير مزيل للقدرة ولا مؤثر فيها ولو كان شيء من ذلك يؤثر فيها لما تعلق جميع ذلك بأفعال الله تعالى وهو متعلق بها وهي اختيارية بالنص والاجماع ألا ترى إلى قوله تعالى كان على ربك حتما مقضيا وأنه سبحانه قد علم وقت وقوع ذلك بعينه وهو موصوف بالقدرة على تقديمه وتأخيره بل على تركه لكنه لا يتركه
وقد قال الرازي أن القول بأن سبق العلم والقدر ينفي الاختيار يستلزم ذلك في حق الله تعالى وذلك يؤدي إلى رفع أثر القدرة وإلى أن تقع الأشياء بالعلم دون القدرة فينقلب العلم قدرة وذلك محال وقد يذكر هذا على سبيل التقوية للايمان الجملي بحكمة الله تعالى وقد ذكرت في ذلك وجوه كثيرة بسطتها في العواصم ولنقتصر على شيء يسير من الوارد في القرآن والسنة وفي الفطرة
أما القرآن فورد بان التكليف في حق الاشقياء اقامة الحجة وقطع العذر قال الله تعالى فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا وقال لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى وهذا المعنى كثير وفيه سر لم أر أحدا تنبه له وذلك أن لله تعالى حججا مناسبة لعرف العقلاء وحكمة مناسبة لعلمه الحق الذي تقصر عنه عقول العقلاء وهذه الآيات التي ذكرناها من القسم الاول ومنه إقامة الموازين القسط ليوم القيامة وإشهاد الملائكة والجوارح وكتابة الاعمال مع الغنى عن ذلك كله بعلم الله تعالى
فأما الحكمة المناسبة لعلمه الحق فهي الحكمة الداعية إلى إظهار هذه الحجج القاطعة للاعذار الباعثة على هذا العدل وهي التي لم يعلمها سني ولا
مبتدع ولا أثري ولا متكلم ومن تعرض لها لم يحظ بطائل وقد يرد القرآن بهذه الحجة الظاهرة المناسبة لعرف العقلاء وحدها مثل آيات الوعيد وقد يرد بما يقتضي التعليل بحكمته الحقيقية المناسبة لعلمه الحق وحدها كقوله تعالى في سورة هود وتمت كلمة ربك لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وكذلك قوله تعالى وان منكم إلا واردها كان ربك على حتما مقضيا فانا نعلم أن هذه لم تكن سدى خالية عن الحكمة وقد يرد القرآن بهما جميعا كقوله تعالى جوابا على من قال فأرجعنا نعمل صالحا قال تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون فجمع بينهما حيث أجاب على الكفار قولهم أرجعنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل استدراكا منهم لما فات فأخبرهم أنه كان قادرا على تحصيل ذلك منهم فيما مضى ولو أرادوه لم يفته حتى يحتاج إلى الملافاة والاستدراك وحين علمنا حكمته في ذلك حسن أن نشير اليها في الجملة من غير بيان معين كما قال سبحانه وتعالى للملائكة إني أعلم مالا تعلمون جوابا على قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها
وأما ما ورد في ذلك من السنة فأنواع
منها حديث لا أحد أحب اليه العذر من الله تعالى من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب
ومنها عملهم بمقتضى قوله تعالى واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وقوله وخذوا حذركم
ومنها حديث أبي خزامة قلت يا رسول الله أرأيت رقي نسترقي بها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هو من قدر الله تعالى رواه الترمذي وابن ماجه من طرق عن ابن عيينة عن الزهري عنه قال المزي في أطرافه وكذلك رواه مالك ويونس بن يزيد وعمرو ابن الحارث والاوزاعي عن الزهري
ومنها أن هذا السؤال مما سئل عنه رسول الله وتولى جوابه كما ثبت في أحاديث الاقدار فقال في الجواب اعملوا فكل ميسر لما خلق له وقرأ قوله تعالى فأما من أعطى واتقى الآيتين والمعنى في الجواب النبوي أن الله تعالى قدر الجزاء وأسبابه وقدر أن تكونه أسبابه اختيارية من أفعال العبد وما قدره الله لابد أن يقع كما قدره فارتفع توهم الاشكال فانا لو لم نعمل مع سبق العلم بعملنا وسبق المقادير لكان محارة للعقول بل محالا فيها فوجب أن لا يكون العمل محارة ولا محالا ولا موضع شبهة فلا اشكال
وأما ما دلت عليه الفطرة من ذلك فهو أن الله تعالى قدر الجزاء في الآخرة مرتبا على أسباب وقدر وقوع تلك الأسباب على اختيارنا في الأعمال وتارة على اختياره تعالى في أسباب الاعمال وفي الآلام ونحوها وذلك كما قدر السبع بالأكل والري بالشرب وهما عملان اختياريان وكذلك قدر الولد بالوطئ وحصول الزرع بالبذر وخروج روح الحيوان بالذبح ذكر ذلك الغزالي مختصرا وابن قيم الجوزية وطوله وجوده هذا المعنى اسماعيل المقرى من علماء الشافعية في قصيدة له وعظية بليغة فقال وأجاد
تقول مع العصيان ربي غافر ... صدقت ولكن غافر بالمشيئة
وربك رزاق كما هو غافر ... فلم لم تصدق فيهما بالسوية
فانك ترجو العفو من غير توبة ... ولست براجي الرزق إلا بحيلة
على أنه بالرزق كفل نفسه ... لكل ولم يكفل لكل بجنة
فثبت أنه يلزم في قضية العقل من احتج بسبق القدر وسبق العلم على
ذنوبه وتفريطه في عمل الخير إن يترك الاكل والشرب والبذر والوطئ والتوقي من الحر والبرد وسائر المضار وإلا فقد فضل الدنيا على الآخرة حيث توكل في الآخرة وما سعى لها سعيها وترك التوكل في الدنيا وسعى لها أكثر من سعيها ثم احتج على ضلاله بالباطل وهيهات
ثم أنه لابد مع التوكل من السعي كما قال الله تعالى وشاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله وذكر الزركشي في شرح جمع الجوامع عن الجنيد رحمه الله أنه قال كلمت يوما رجلا من القدرية فلما كان في الليل رأيت في النوم كأن قائلا يقول ما ينكر هؤلاء القوم أن يكون الله قبل خلقه للخلق علم أنه لو خلق الخلق ثم مكنهم أمورهم ثم رد الاختيار اليهم للزم كل امرئ منهم بعد أن خلقهم ما علم أنهم له مختارون
قلت بل قد أوجب ذلك الرازي بنظر عقلي معناه أن العلم تابع للمعلوم في الرتبة لا في الوجود مثل تبع حركة الخاتم للاصبع فلا يتصور حصول العلم متعلقا بالمعلوم إلا وللمعلوم ثبوت في الذهن لا في الخارج والنكتة في هذا أن الله تعالى غير مختار في علمه إجماعا فان كونه قادرا عالما من صفات الكمال اللازمة الواجبة وإنما يختار سبحانه في كونه فاعلا فان شاء فعل وإن شاء ترك وليس يقال إن شاء علم وإن شاء جهل فكذلك لا يقال إن شاء علم الموجود معدوما والمعدوم موجودا ونحو ذلك إنما يقال لو شاء لجعل ذلك كذلك لكنه لا يشاء خلاف ما علم كما سبق تقريره لكنه يقال إن كان المعلوم أسبق في الرتبة فانه راجع إلى أفعال الله تعالى وهي اختيارية وكان الاختيار تابعا للحكمة فهي أسبق في الرتبة وهذا نفيس جدا فتأمله
وسبق في مسألة الحكمة طرف صالح من الكلام في الحكمة في خلق الاشقياء فيراجع من هنالك ومن ذلك أن يقال انما يلزم في قضية العقل قطع أعذار الخلق في الربوبية وتقديسها عن كل عيب ونقص وظلم وعبث ولعب فمن أنكر شيئا من ذلك قامت عليه البراهين كما تقدم ومن اعترف بهذين الامرين فقد اعترف بان الله حكيم نافذ المشيئة غني كريم فلا يصح منه بعد هذا ان ينازع ربه تعالى في حكمة خفية لوجهين
أحدهما أن علمه الجملي بحكمة ربه كاف شاف وثانيها ان علمه بكمال ربه في جميع أسمائه الحسنى مع نقص العبد في كل معنى وكثرة جهالاته وظلمه وخبث كثير من طباعه وغلبتها عليه يكفيه وازعا عن اتباع سنة الشيطان لعنه الله تعالى حيث نازع ربه تعالى في حسن سجوده لآدم وهذه هي سنة السفهاء من الناس الذين قالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ولو كانت تجب ازاحة كل عذر باطل لازاح الله تعالى اعذارهم حيث قالوا فأرجعنا نعمل صالحا واقتراحهم على الرسول أن يكون ملكا وان يفجر لهم الأنهار تفجيرا ونحو ذلك على ان الله تعالى لم يخل كتابه الكريم من الاشارة الى ما تحمله عقول البشر ويليق بعلومهم من ذلك فنقول بقدر ما وهب الله لنا من ذلك ان الله تعالى خلق الاشياء لحكم كثيرة شاهدة له سبحانه وتعالى بالنزاهة من الظلم واللعب والعبث بل شاهدة له سبحانه وتعالى بالحكمة البالغة والنعمة السابغة والحجة الدامغة فمن قال ان الله تعالى ما خلق الاشقياء الا لعمل القبائح في الدنيا وللعذاب في الآخرة أو كانت عبارته توهم ذلك فما أصاب الحق ولا أحسن الترجمة عن الكتاب والسنة ومن أراد اصابة الحق في ذلك تتبع متفرقات الحكمة المنصوصة بألفاظها وأداها بها والمعقولة بمعانيها وجمعها بل جمع ما يسر الله له منها لا يمكن البشر الاحاطة بجميعها
والذي حضرني منها سبعة أمور تفصيلية لفظية ومعنوية وأمر جملي يعمها
أما الأمر الجملي فما تقرر بالبراهين الجمة سمعا وعقلا من حكمة الله تعالى كما قال للملائكة اني أعلم ما لا تعملون قال في هذا المعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين وأما التفصيلية فانها وان رجعت في المعنى الى أقل من ذلك العد فقد أديت ما أمكنني تأديته بلفظه عسى أن أنال الدعوة النبوية لمن أدى ما سمع كما سمع من الأحاديث الثابتة في ذلك
الأول خلق الله تعالى الاشقياء لعبادته بالنظر إلى أوامره اجماعا ونصا وبالنظر الى محبته للخير من حيث هو خير على الصحيح كما مر في اثبات الحكمة وقد أوضحت هذا في العواصم في تفسير قوله تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون وهو مذهب جمهور أهل السنة في قوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر وقوله تعالى والله لا يحب الفساد فانهم أقروهما وفرقوا بين الرضى والمحبة ومعنى الارادة والمشيئة ولذلك قال السبكي في جمع الجوامع في آخره في الاعتقاد ما لفظه والمحبة غير المشيئة والارادة فلا يرضى لعباده الكفر ولو شاء ربك ما فعلوه ولم يحك خلافا لشذوذه عنده ومن لم يبحث حوافل أهل السنة يظن ان هذا يخالف قواعدهم
الثاني الابتلاء بالنظر الى عدله وحجته كما يظهر من قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا كما مر في الحكمة في العمل مع القدر
الثالث لما يوجب عليهم شكره من احسانه اليهم بعظيم نعمه وسوابع مواهبه بالنظر الى تكليفهم شكر نعمته وقد ذكر غير واحد من الائمة الأذكياء ان فرار الحيوانات من الموت وحرصها على الحياة من أعظم الأدلة على عظم النعمة بها وعلى وجوب الشكر عليها ثم نعمة العافية والتمكين من الخير والمعارف باكمال العقول والاسماع والابصار والأيدي والبنية السوية الصحيحة والانفاس والارزاق الجارية
الرابع لما شاء بالنظر الى عزة ملكه وعظيم سلطانه وقاهر قدرته
الخامس لما لم يحط بجميعه الا هو سبحانه وتعالى بالنظر الى واسع علمه ورحمته
السادس للعذاب المستحق بكفر نعمته وجحد حجته بالنظر الى علمه واختياره وقدرته وقضائه وكتابته
السابع الحكمة المرجحة فيهم بعقابه على عفوه وعدله على فضله الراجعة بعدله الى فضله التي هي تأويل المشابه وهو الخير المقصود بما ظهر للعقلاء من ارادة وقوع ما قبلها من المتشابه وهو الشرور التي لا يعلم فيها خير ان سلم وقوع ذلك
وهذا النوع السابع هو بالنظر الى خفي حكمته منتهى متعلق ارادته ومشيئته الذي هو المراد الاول وهو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه الا هو على المختار كما سبق بيانه ودليله في مقدمات هذا المختصر
وزادت المعتزلة على هذه الامور السبعة ثلاثة انفردت بها دون أهل السنة
أحدها تعريض الاشقياء لدرك ثوابه العظيم وسكون جنات النعيم فان التعريض لذلك نعمة وان لم يقبلوها كما ورد في حديث رواه البخاري عن أبي هريرة كل أمتي يدخلون الجنة الا من أبي قالوا ومن يأبى ذلك يا رسول الله قال من عصاني فقد أبى
وثانيها ارادة وقوع الطاعة منهم لظاهر قوله تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ومنعت هذين الاشعرية وغيرهم كما تقدم
وثالثها مصلحة الخوف لان العقلاء اذا علموا ان الله ما يخلق الا سعيدا غير معذب تجرؤا على الفساد والفسوق ذكرته البغدادية منهم وما هو بالضعيف ولا بالمخالف للقواعد فقد نص الله تعالى على أن بسط الرزق مفسدة للعباد فكيف يرفع الخوف والامان من التبعات في الدارين كذلك نص على أنه تخصيص الكافرين بالتوسيع الكثير في الغنى مفسدة وانه انما تركه لذلك كما في سورة الزخرف ولذلك قال ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فابهم المغفور له ليبقى الخوف وكذلك قال في حق الكفار أيضا في التوفيق للتوبة في الدنيا لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بانهم كانوا مجرمين فلم يقنطهم الجميع ولم يؤمنهم لانهما جميعا مفسدتان وتركهم في محل الخوف والرجاء لانهما جناحا الدواعي الناهضة للعباد الى طاعة ربهم وفيها الحجة الدامغة لمن عصى
منهم وورد في السنة النبوية مع ذلك كله غيره مما لا غنى عن ذكره فان الشيء قد يحسن مع غيره ولا يحسن وحده كما ذكره كثير من أهل العلم في جميع الآلام والمصائب لعظيم الجزاء مع عظيم الاعتبار
فمن أحسن ما ورد في ذلك في السنة حديث فداء كل مسلم من النار بيهودي أو نصراني خرجه مسلم واسناده على شرط الجماعة كلهم وله طرق جيدة كما أوضحته في العواصم والاجادة وغيرهما وأوضحت ما فيه من الحكمة والعدل واجماع العقلاء على نظائره
فمن العدل في ذلك أن اليهود والنصارى عادوا المسلمين في الدنيا وظلموهم وكذبوهم وفعلوا ما أمكنهم من مضارهم ومن لم يستطع ذلك منهم ورد انه تمكن منه وأنه فعله ووالى من فعله من أصحابه وقد ثبت وجوب القصاص بين المسلمين بعضهم من بعض بل بين الشاة الجماء والشاة القرناء فكيف لا ينتصف للمسلمين من أكفر الكافرين المكذبين البغضاء المعتدين والله تعالى يقول إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقد صح في الأحاديث الثابتة ان القصاص بالحسنات والسيئات ان كان للظالم حسنات أخذ منها للمظلوم وان لم يكن حمل الظالم من ذنوب المظلوم بقدر مظلمته وهذا عدل معقول وليس فيه مناقضة لقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى لان المعنى انها تظلم لا بتحميلها وزر الاخرى لا انه لا ينتصف منها بالحق وان شق فما كان على وجه الانتصاف من الظالم للمظلوم لم يكن من تحميل الذنوب من لم يفعلها ظلما وعدوانا بل هو من العدل الوارد في السمع المعلوم لقوله تعالى وأثقالا مع أثقالهم وقول ابن آدم الصالح لأخيه الكافر إني أريد أن تبوء باثمي وإثمك وهذه أدلة خاصة مفسرة لما أجمل من قوله تعالى ولا تزر وازرة أخرى وكذلك وردت الأحاديث الصحاح بأن من سن سنة سيئة كان عليه اثمها واثم من عمل بها من غير أن
ينقص من آثامهم وان على ابن آدم اثم من قتل الى يوم القيامة لانه أول من سن القتل بل قد أشار القرآن العظيم الى هذا الحديث العظيم الى هذا حيث قال تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا وكذلك لا يناقض هذا قوله تعالى وان ليس للانسان إلا ما سعى لانه عموم مخصوص بالاجر على الآلام والاقتصاص من الظالم ويجوز أن يفضل الرب سبحانه وتعالى على من يشاء كما قال ويزيدهم من فضله لان فضله ليس هو مما هو حق لهم حتى يدخل في قوله وأن ليس للانسان إلا ما سعى فهذا ما في فداء المسلمين بالكافرين من العدل
وأما ما فيه من الحكمة ففيه صدق وعيد العصاة من المسلمين بذلك وعدم الخلف كما أشار اليه قوله تعالى وفديناه بذبح عظيم فانه لا معنى للفداء الا انه قد كان لزم ذبحه بالامر لان البداء لا يجوز على الله سبحانه وذبح الفداء يقوم مقام ذبح الذبيح عليه السلام ومنه فداء والد رسول الله بمائة من الابل كما هو مذكور في السيرة النبوية منه قوله تعالى ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل أي فدية لكنها في الكافرين كما قال سبحانه في سورة الحديد في خطاب المنافقين فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا وفي تخصيصهم بالذكر اشارة الى القبول من المسلمين بمقتضي مفهوم الصفة والمسلمون أيضا باقون على الإصل في حسن ذلك كما قرر في موضعه ويأتي منه في هذا المختصر ما فيه كفاية وقد استوفيت مطابقة ذلك لعمل الحكماء والعقلاء من جميع المسلمين بل من جميع الناس أجمعين في كتاب العواصم
ومما جاء في السنة من حكمة الله تعالى في خلق الكافرين في الدنيا ونفع المسلمين بهم ما رواه النسائي من حديث سلمة بن نفيل الكندي قال كنت
جالسا عند رسول الله فقيل أزال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها فاقبل رسول الله بوجهه وقال كذبوا الآن جاء القتال ولا تزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيغ الله قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة الحديث قال المزي في أطرافه رواه النسائي في السير وفي الخيل باسنادين الى أبي علقمة والوليد بن عبد الرحمن الجرشي كلاهما عن جبير بن نفيل عن سلمة
قلت واسناد النسائي جيد قوي رواه أحمد بن حنبل في المسند بطريق أخرى الى الوليد بن عبد الرحمن فصح الحديث ولله الحمد والمنة ويشهد لذلك من كتاب الله تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك ونصيرا وما استأثر الله تعالى بعلمه في ذلك من الحكم والعنايات الحميدة أكثر وأعظم والله سبحانه أعز وأعلم وأجل وأحكم آمنا به وبجميع أسمائه ومحامده وله المنة علينا في ذلك وله الحمد والشكر والثناء
البحث السابع قد ظهر من جماعة من المتكلمين استقباح الظواهر السمعية مثل قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس فأوجبوا تأويلها وأمثالها وشنعوا على من آمن بها من غير تأويل الا التأويل الذي استأثر الله بعلمه على ما تقدم والعجب من المقبحين لذلك من المخالفين أنهم قبحوا خلق أهل النار لها وارادة ذلك لهم في الابتداء مع تحسينهم لفعل ذلك بهم في الانتهاء بل أوجبوا ذلك على الله تعالى في الانتهاء وأوجبوا عليه تخليدهم في النار وقبحوا منه العفو عن أحد منهم فكيف قبحوا ارادة ذلك الواجب عندهم في الابتداء مع ان الارادة لا تزيد على المراد في الحسن والقبح عقلا وشرعا فان كان عذاب الآخرة من الحق الراجح المشتمل على العدل والمصالح كما هو الحق عقلا وسمعا كما يأتي فلا ينبغي تقبيح ارادته ولا تقبيح خلق أهله له في الابتداء لان ما حسن فعله حسنت ارادته فكيف بما وجب
فعله والارادة أهون من التعذيب نفسه وأقل مضرة منه فكيف يعقل أن يكون التعذيب واجبا على الله تعالى وارادته منه قبيحة
فان قالوا انما قبحناها اذا وقعت متقدمة لمعاصيهم لانهم حينئذ غير مستحقين لذلك قلنا انها لم تعلق بهم حينئذ وانما تعلقت بهم حين الاستحقاق لانه لم يرد أن يوقع بهم العذاب قبل ذلك بل بعده والعزم على مثل ذلك من مثلنا حسن عقلا فكذلك الارادة المتقدمة في حقه تعالى وقد ورد السمع بتقدمها والدليل على من ادعى قبح ذلك
والقول بان عذاب الآخرة حق راجح مشتمل على العدل والمصالح التي هي تأويل المتشابه هو قول البغدادية وطائفة كثيرة من السلف والخلف ومن تبعهم من أهل السنة كما نصره ابن تيمة وأصحابه وأجاز ذلك الغزالي في المقصد الاسنى واحتج عليه كما تقدم ويدل على ذلك اقسام الله تعالى في غير آية على وقوعه وتسميته حقا في قوله تعالى ولكن حق القول مني لأملأن جهنم وانما يختلف هؤلاء في قدر العذاب المشتمل على المصالح الراجحة فمنهم من جوز ذلك فيه مطلقا ولو مع الخلود والدوام الذي لا نهاية له ومنهم من جوزه فيه مطلقا الا في الخلود
واختلفوا أيضا هل دلالة السمع على الخلود قاطعة أم لا لورود الاستثناء فيه في القرآن والحديث الا تحلة القسم ولغير ذلك كما تقدمت اليه الاشارة في مسألة الحكمة وهو مبسوط في مواضعه فقد صنفت في هذه المسألة مصنفات مستقلة
والعجب منهم كيف يمنعون تقدم إرادته مع مثل هذه الأقسام المؤكدة السابقة من الله تعالى على فعله وتسميته حقا ولم يبق بينهم خلاف وبين أهل السنة الا في تجويز تقدم ارادته لذلك والنصوص شاهدة لاهل السنة بتقدمها وكذلك العقول
أما النصوص فمثل قوله تعالى واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها
ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وهي واضحة في تقدم الارادة قبل وقت قطع الاعذار والعذاب لا يقع قبل ذلك في حكم الله تعالى لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وكذلك قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وفي آية أخرى وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وفي آية اخرى وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا الاية وفي هذه الآيات الثلاث دلالة واضحة على أن عذاب الاخرة من قبيل الحق الراجح المتضمن للمصالح وهذه العبارات المؤكدة في وقوعه كلام من قد أراد ذلك فكيف يقسم عليه وهو لا يريده
وأما دليل العقول على ذلك فلان الارادة انما تتأخر في حقنا لتأخر العلم بالمرجحات وعدم العلم بانتفاء الموانع والمعارضات ولذلك قال أبو الحسين انها هي الداعي الراجح الراجع الى العلم لملازمة الفعل لذلك ولملازمة الارادة له وذلك منه يفضي الى نحو قول الاشعرية في قدم الارادة وأما الاثري السني فلا حاجة له الى الخوض في ذلك كما تقدم
البحث الثامن ان ارادة الله تعالى نافذة وانه لا راد لما أراد وقد تقدم كثير منها ولكن في هذا البحث فوائد مهمة لم تقدم ولا بأس ببعض التكرار للتأكيد والفائدة ولذلك ورد به كتاب الله تعالى وهو أكثر الكتب حكمة وأحكاما
وهذا البحث مبني على ان الله تعالى على كل شيء قدير وهذا ما لا شك فيه ولكن أكثر المعتزلة زعموا ان الله تعالى مريد لفعل جميع ما يقدر عليه من هداية المكلفين واللطف بهم بل اعتقدوا ان ذلك واجب عليه ولاجل اعتقادهم وجوبه عليه قطعوا حين لم يفعله انه غير قادر عليه تنزيها له من الاخلال بالواجب
وقد صرح الامام يحيى بن حمزة بابطال قولهم في كتابه التمهيد في أوائل الباب السابع من النبوات على ذلك وهو قول جماعة من قدماء محمد بن منصور الكوفي والسيد أبو عبد الله الحسيني في كتابه الجامع الكافي وهو قول غير واحد ممن عاصرت من أئمتهم عليه السلام
وهذه المسألة هفوة المعتزلة الكبرى في مقابلة هفوة الجبرية في نفسى الاختيار وبها تمكن خصومهم منهم ومن سلم منهم من هذه المسألة قارب أهل السنة في مسألة الأفعال بل كان منهم فان أمام الحرمين الجويني ما وافق أهل السنة في مسألة الأفعال الا فيها فعدوه من أئمتهم ولم يختلفوا في ذلك ولا شك في صحة قدرته على هداية الخلق أجمعين باللطف والاختيار عقلا وسمعا ولا شك انه أحوط وأولى من قول المعتزلة فانه يمكن في العقل أن يكون الله تعالى انما ترك ذلك لحكمة استأثر بعلمها مثل حكمته في خلق أهل النار والعقول تقصر عن الاحاطة بجميع حكمة الله تعالى ومعلوماته فيحسن في بعض ما لا تعرف العقول حسنه أن يكون حسنا عند الله لحكمة اختص بعلمها فيجب قصر استقباح العقول على من لم يعلم من الحكم في الغيوب المحجوبة الا ما يعلمه وليس يحسن أن يقال ان الله لا يقدر على شيء لوجه حسن استأثر الله بعلمه ولا نحو ذلك من الاعذار لان عدم القدرة نقص في الربوبية وان مثل الجهل ببعض الامور وأما التحسين والتقبيح فبابه واسع وتفاوت المعارف فيه غير واقف على حد ولا نهاية لانه موقوف على الوجوه والاعتبارات ومعرفة العواقب الحميدة والغاية الغيبية البعيدة
والمرجحات الخفية عند تعارض المصالح والمفاسد وهذا باب واسع يدخله التأويل القريب والبعيد بل قد اختلفوا في هذا أحوال المخلوقين كما أخبر الله تعالى عن موسى والخضر عليهما السلام ولا يزال العالم ينكر على الاعلم كيف الجاهل على العالم كيف المخلوق الظلوم الجهول على علام الغيوب كما تقدم في الحكمة في خلق الأشقياء فكما أن الحكمة في خلق الأشقياء لما خفيت لم يحسن من أحد أن يقول انه تعالى غير مختار في وجودهم ورد أهل الاسلام ذلك على الفلاسفة فكذلك في مسألتنا
ثم ان المعتزلة رجعوا إلى قول أهل السنة في هذا بعد التعسف الشديد في تأويل القرآن والسنة واجتمعت الكلمة في الحقيقة على ان الله تعالى على كل شيء قدير وعلى ما يشاء لطيف وما بقي الا اللجاج في المراء بين أهل الكلام كما أوضحت ذلك في البحث الخامس من هذه المسألة أعني مسألة الارادة
ونزيد هنا وجها لم نذكره هناك وهو ان الله تعالى قد نص على دين الاسلام انه الفطرة قال تعالى فطرت الله التي فطر الناس عليها الا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم واتفق أهل الحديث على صحة حديث أبي هريرة في ذلك وهو قول رسول الله كل مولود يولد على الفطرة وانما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه وقد ذكر البغوي في تفسير هذه الآية عن أكثر أهل السنة أن الآية على عمومها في السعداء والاشقياء واحتج لهم بحديث أبي هريرة في ذلك وغيره وكيف لا يكون كذلك وقوله وانما يهودانه وينصرانه ويمجسانه انما هو في الاشقياء فلزم المعتزلة أن يقولوا به ويتركوا قولهم ان الله بني الاشقياء على بنية علم معها انه لم يبق لهم لطف في مقدوره ولزم أهل السنة أن يقولوا به ولا يعتقدوا ان أحاديث القضاء والقدر مبطلة للاختيار ولا لحجة الله تعالى وفي الحقيقة ان الجميع قد فعلوا بمقتضاه لكن أهل السنة بالنصوص الصريحة الكثيرة والمعتزلة في بعض المواضع كما تقدم في البحث الخامس على ان هذه الآية وهذا الحديث عند المعتزلة مما يصولون به على أهل السنة وليس كذلك بل هما على المعتزلة لا لهم
وانما ظنوا ذلك لانهما حجتان على الجبرية وهم يعتقدون الا العارفين منهم ان أهل السنة كلهم جبرية فهذا سبب وهمهم وأما كونهما على المعتزلة فلقولهم ان اللطف غير مقدور لله تعالى وتعليلهم ذلك بانه تعالى بنى الاشقياء على بنية لا تقبل اللطف ثم ان أهل السنة يلزمونهم تعجيز الرب تعالى بذلك وهم يأبون ذلك ويقولون انه غير قادر على اللطف ولا يوصف بالعجز وانما قالوا ذلك لاعتقادهم أن اللطف بالاشقياء محال كوجود ثان لله تعالى عن ذلك
والقادر على كل شيء لا يوصف بالقدرة على المحالات لانها ليست بشيء والا لزم أن يوصف بالقدرة على لا شيء
وقولهم هذا ضعيف لان الاحالة لم تبين في اللطف بالعصاة ولو تبين ذلك لقبح تكليفهم على أصول المعتزلة فان خلقهم على تلك البنية مفسدة في التكليف وهم لا يجيزون المفسد فيه ولو جوزوها فيه ما أوجبوا اللطف فيه والا لتناقض انما المحال ما لا يمكن تصوره مثل كون الشيء قديما حادثا كما في تقديرهم ان الله لو خلق مثله تعالى عن ذلك لم يكن مثله قط لان المخلوق حادث مربوب بالضرورة والله تعالى رب قديم فقياس هذا باللطف بالعصاة واه لا يرضى في الفروع الظنية
وقد اعتذرت الفلاسفة بمثل عذرهم في هذا في قول الفلاسفة انه ليس في مقدورالله تعالى أحسن من هذا العالم مع انه على كل شيء قدير لانهم زعموا انه لو كان في مقدوره لا وجده على الفور والا كان بخيلا تعالى عن ذلك وأجيب عليهم بمثل ما أجيب على المعتزلة من ان حكمة الله تعالى أعظم من أن يحيط بها خلقه وانه قد بين منها انه يبلو عباده ليميز الخبيث من الطيب كما صرحت به الآيات القرآنية
واعلم ان قول أهل السنة في المشيئة والقضاء والقدر وسبقها للاعمال لا يقتضي الجبر كقول الجميع في سبق العلم بل كثير من أهل السنة فسروا القضاء والقدر بعلم الغيب السابق منهم القاضي عياض في شرحه لمسلم والنووي في شرحه له وابن بطال في شرح البخاري وغيرهم وانما وقع الخلاف فيما تعلق به الارادة السابقة كما تقدم تحقيقه في المباحث المتقدمة وانما مقصود أهل السنة بذلك نفي العجز والقصور عن قدرة الله تعالى فقد وقع الاتفاق على نفيه في الحقيقة ان شاء الله تعالى
وقد وضح بذكر هذه المباحث للخلاف هنا خمس مراتب قد بسطتها في العواصم ولا غنى عن الرمز اليها على سبيل الايجاز الكثير
الخلاف الأول هو الخلاف في قدرة الله تعالى على هداية الله العصاة ما داموا على بنيتهم التي خلقوا عليها حتى يغيرها الله تعالى وهو الذي فرغنا
من ذكره وبيان الحجة على بطلانه وعلى ان المخالف فيه أخطأ في العبارة ووافق في المعنى لا قدرته تعالى على تغيير البنية هي قدرته على اللطف بعينها فارتفع الخلاف ولله الحمد
الخلاف الثاني القول بنفي قدرته تعالى على ذلك مطلقا ادعاه بعض أهل العصر على أصحاب أبي هاشم المعتزلي ولم ينصوا عليه وهو مما لا ينبغي ان يصدق عليهم حتى ينصوا عليه لمخالفته الأدلة الجلية من المعقول والمنقول كما أوضحته في العواصم وانما حمل هذا على دعواه ما رأى في اعتراف المعتزلة بخلافه من لزوم موافقة أهل السنة ففر من موافقة خصومه الى ما هو شر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقد تمدح الرب سبحانه وتعالى بانه لو شاء لجعل منا ملائكة وقال إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون وقال كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة وقد علم من الدين واجماع المسلمين انه تعالى قادر على تغيير صفات الأجسام مثل قلب خبث الحديد فضة أو ذهبا وقلب البهائم ناسا والناس بهائم مثل ما خسف باليهود قردة بقوله لهم كونوا قردة خاسئين فكذلك لو شاء خلق من الاشقياء أنبياء وملائكة وما السر في تغيير شيء منهم الا تليين قساوة قلوبهم كما أوضحته في العواصم فليراجع اذا احتيج الى ذلك
الخلاف الثالث خلاف من منع عقوبة العصاة بالاضلال وقد توهم كثير منهم أن ذلك يؤدي الى الجبر فيتأولونه بالخذلان ولا يعلم أن الاضلال ليس من الجبر في شيء انما هو الخذلان وسلب الالطاف ألا ترى أن من هداه الله تعالى فلم يقهره ولم يجبره على الهدى فكذلك من أضله فلم يقهره ولم يجبره على الضلال انما هو التيسير للعسرى عقوبة كما ان الهدى هو
التيسير لليسرى مثوبة وأما من خالف في هذا فلانه لم يستحسن ارادة وقوع الذنب عقوبة مع كراهة الذنب نفسه وقد تقدم القول فيه مستوفي في الوجه الثالث من المبحث الثالث
الخلاف الرابع خلاف من يخالف في تجويز ارادة وقوع الذنب مع كراهة الواقع ليظهر كثير من اسمائه تعالى الحسنى مثل اسمائه تعالى العفو الغفور التواب الواسع الحليم الرحمن الرحيم وقد صحت النصوص النبوية بما يقتضي هذا كما خرجه مسلم عن أبي أيوب الانصاري وعن أبي هريرة كلاهما عن رسول الله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون كي يغفر لهم وفي حديث أبي هريرة كي يستغفروا فيغفر لهم وروى عن جماعة من الصحابة غيرهما كما ذكرته في العواصم وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وبعد ورود السمع بهذا فالحجة على من ادعى قبحه لان قبحه لا يعلم بالضرورة بالاجماع فإن الاجماع انما ينعقد على مثل قبح الكذب الضار وحسن الصدق النافع أما مثل الكذب النافع والصدق الضار فانه استدلالي والسمع فيه مقدم مقبول
الخلاف الخامس قال أهل السنة وأبو هاشم وجمهور المعتزلة يجوز أن يبتلي الله تعالى العبد في أول أحوال تكليفه قبل أن يعصي ويستحق العقوبة بما يعلم انه يعصي عنده مختارا لحكمة لا يعلمها الا هو كما يحسن ان يكلفه وهو يعلم ان يعصي حينئذ ولو لم تقع منه المعاصي ولم يفرقوا بينهما وخالف في ذلك أبو علي الجبائي من المعتزلة وغيره وهذه مسائل الخلاف بين أبي علي وبين ولده أبي هاشم فانه في هذه وأصحابه مع أهل السنة والمراد بهذا التجويز انه لو ورد به نص لا يحتمل التأويل وجب قبوله ولو ورد به ظاهر يحتمل التأويل لم يجب تأويله بل لم يحل وقيل في هذا ما دل عليه السمع والسمع أقوى الادلة في مثل هذه المحتملات في العقول وقيل انه لا يجوز في هذه الحال من الله تعالى الا التخلية بين العبد وبين نفسه بعد التمكين ومعنى التخلية ترك اللطف والخذلان معا وقد دل السمع على ان العبد لا يختار حينئذ إلا المعصية ودل على ان فعل اللطف حينئذ فضل من الله يؤتيه من يشاء كما يختص برحمته من يشاء بالنص وذلك التخصيص لحكمة بالغة
ويدل على ذلك قول يوسف عليه السلام وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين بل قول الله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وقوله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين وأبو علي يحمل ذلك في الابتداء على فضله العام بخلقه
وروى الحاكم في تفسير سورة ص من حديث ابن عباس ان سبب ذنب داود عليه السلام انه قال اللهم انك تعلم انه لا يمضي ساعة من ليل أو نهار الا وهو يصعد اليك عمل صالح من آل داود يعني نفسه فعتب الله تعالى ذلك عليه وقال أما علمت انه لولا اعانتي لك الحديث وروى نحو ذلك في سبب ذنب آدم عليه السلام وروي الحاكم وأحمد من حديث زيد بن أرقم مرفوعا وان تكلني الى نفسي تكلني الى ضيعة وضعف وذنب وخطيئة وقال الحاكم فيها كلها انها صحاح والقرآن يدل على ذلك ويغني عنه كما تقدم وهذه التخلية في الابتداء لا تسمى اضلالا لقوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين ولقوله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم كما تقدم وانما تسمى ابتلاء كما قال تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا والله تعالى لم يقل انه لا يبتلي به إلا الفاسقين انما قال وما يضل به الا الفاسقين كما انه لا يعذب غيرهم فالاضلال من جنس العقاب وقد دل السمع على ان الله خلق الخلق في الابتداء على الفطرة نعمة ورحمة للأوليائه ونقمة وحجة على اعدائه كما خلقهم كذلك في الخلق الأول في عالم الذر كما جاء في الاحاديث التي لا مانع من صحتها وقد أوضحتها في كتاب العواصم في الوهم الثلاثين منه في تفسير قوله تعالى وله اسلم من في السموات والارض طوعا وكرها ثم دل القرآن على ان الله تعالى يبدأ باللطف ثم يعاقب من يشاء ممن لم يقبل اللطف
قال الله تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا وقال ثم السبيل يسره وقال وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى وقال تعالى في بيان ذلك وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ودل السمع أيضا على انه تعالى يبتدي بالاحسان من غير استحقاق ولا يبتدي بالعقوبة من غير استحقاق بل يمهل بعد الاستحقاق ويحكم ويكرر الحجة ويعذر ويعفو عن كثير كما قال تعالى ثم ينتقم ممن يشاء بالحكمة البالغة ويعفو عمن يشاء بالرحمة الواسعة كما قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير والمصيبة في الدين أعظم المصائب وقد جاء ذلك في أمور الدين منصوصا في قوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وجعلنا قلوبهم قاسية وقوله وأضله الله على علم أي علم باستحقاقه الاضلال وأصرح من ذلك قوله وما يضل به إلا الفاسقين فما كان على جهة العقوبة لم يفعله الله به ابتداء قبل الاستحقاق وما كان على جهة الابتداء الذي لا يصح التكليف إلا به فعله وما زاد على ذلك مما يقع عنده المعاصي فهو مسألة الخلاف
فان قيل إن القول ان العبد يضل في الابتداء باختياره بغير اضلال من الله يؤدي إلى أنه يملك لنفسه نفعا وضرا على جهة الاستقلال وهذا مما يمنعه السمع
فالجواب من وجهين الأول أنه لا يؤدي إلى ذلك إلا لو قلنا أنه الذي خلق نفسه فسواها فألهمها فجورها وتقواها وخلق قدرته وتمكنه وقدر لنفسه أفعاله ومبدأه ومصيره وهداها النجدين ومكنها الأمرين وأما إذا
كان ذلك فعل الله فمن أين له الاستقلال ولله الخلق والأمر واليه يرجع الأمر كله ولكن الله قد استثنى من تعجيز العباد حيث قال قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله وهذا الاستثناء هو الذي رددنا به قول الجبرية حيث احتجوا بقوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله فانهم تمسكوا بنفي المشيئة ونسوا الاستثناء وقد قال رسول الله اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك وقال موسى عليه السلام رب إني لا أملك إلا نفسي وذلك مثل كوننا لا نعلم إلا ما علمنا يؤتي الحكمة من يشاء ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ولم يؤد إلى استقلال العبد في العلم فلا بدعة في القول بأن العبد يملك بعض الامور بتمليك الله له ذلك لاقامة حجته أو سعة رحمته أو خفي حكمته
والقطع بأن ذلك محال غير ممكن يؤدي إلى تعجيز الله عنه ورجوع القهقري من مذهب السنة والمسلمين فانظر إلى الغلو في الأمور كيف ينتهي إلى الوقوع فيما كان الفرار منه فان السني إنما يحاول البقاء على تعظيم القدرة لله تعالى فاذا غلا في مذهب رجع إلى تعجيز الله الذي كان يشنع به على المبتدعة فصار هذا التمليك من الله تعالى لمن يشاء من عباده من جملة أحكام ملكه وعطاياه التي لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع على معنى ما كان يقول رسول الله ليس لنا من أمرنا ما شئنا وإنما نأخذ ما أعطينا فجعل أخذهم ما أعطاهم الله تعالى من فعلهم ليكون فرق بين الحيوان المختار والجماد المسخر وهو فرق معلوم ضرورة وعقلا وشرعا مدرك بالفطرة التي فطر الله الخلق ولن تجد لسنة تبديلا فنسأل الله الاعتدال وترك بدع الجبر والاعتزال وهو حسبنا ونعم الوكيل
الوجه الثاني إن العبد لا يستقل في الخير لقول الله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولحديث أبي ذر رضي الله عنه من وجد خيرا فليحمد الله وأمثال ذلك كثير وأما الشر فسيأتي تحقيقه في مسألة الأفعال والظاهر أن اللطف
ينقسم فمنه لطف هداية ومنه لطف حجة وازاحة عذر فمن وضح له في هذه المرتبة الخامسة من مواقع الخلاف شيء قال به وإلا فالموقف مع القطع بصحة القواعد الثلاث وهي عموم قدرة الله تعالى ونفوذ مشيئته وكمال حجته بالتمكين والبيان
وبالجملة فلله الحجة البالغة على العصاة في الابتداء والانتهاء علمنا تفاصيلها أو لم نعلمها مع ما له عليهم من النعم وله سبحانه وتعالى المنة البالغة على المطيعين في الابتداء والانتهاء علمنا تفاصيلها أو لم نعلمها مع تجاوزه عنهم من الذنوب وكل هذا معلوم من الدين وإنما نسعى في تقريره في القلوب وزيادة اليقين به ونفي الشبهات عنه ورفع الخصومات فيه والله سبحانه وتعالى أعلم
واعلم أن طريق المتكلمين في مثل هذه المشكلات المسارعة إلى القطع بأحد الاحتمالين وان خفي الامر والأولى عندي عدم المسارعة إلى ذلك وعدم الجراءة عليه لما ذكره المؤيد عليه السلام أن الخطأ في ذلك قد ينتهي إلى حد الكفر والخلود في العذاب وهذا خطر عظيم لا يسارع إلى ما يحتمله أدنى احتمال عاقل فان كان لابد من اختيار كان القول المختار أكثر الاقوال ملاءمة للسمع وأكثرها ثناء على الله تعالى وأبعدها من المتشابهات لقوله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وقد ذكرت هذا غير مرة
البحث التاسع في الفرق بين المحبة والرضى والارادة والمشيئة فاعلم أن الفرق بينهما في اللغة واضح فالمحبة والرضى نقيض الكراهة والارادة والمشيئة معناهما واحد وهو ما يقع الفعل به على وجه دون وجه كما تقدم في أول المباحث
بيان ذلك أن الصائم العاطش يحب شرب الماء في حال صومه بالطبيعة ولا يريده بالعزيمة ونحو ذلك فاذا عرفت ذلك فاعلم أن المحبة قد يعبر عنها بالمشيئة والارادة كما تقدم قول الشاعر
يريد المرء أن يعطي مناه ... ويأبى الله إلا ما أراد
أي يحب أن يعطى مناه فتأمل ذلك لتعرف مواضعه حيث يتعارض السمع فانه قد تقدم قول الشهرستاني أن الارادة المحضة التي ليست بمعنى المحبة لا تعلق بأفعال الغير وإنما تعلق من كل مريد بأفعال نفسه وأن الارادة التي تعلق بفعل الغير هي المحبة لكن أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة لا يجيزونها على الله تعالى وأهل السنة والمتكلمون منهم كابن تيمية ومن تابعه يجيزونها مجردة من نقائصها المختصة بالمخلوقين كسائر الصفات صفات الله تعالى اتباعا منهم لنصوص الكتاب والسنة والسلف وقد تقدم طريق أهل السنة في هذا وأمثاله عند الكلام على الرحمن الرحيم وسائر الأسماء الحسنى وإن مجرد الاشتراك في لفظ مع الاختلاف في المعنى لا يقتضي التشيبه
وقد تقدم كلام الغزالي في ذلك المنقول من المعصد الأسنى وهو كلام مجود وأجود منه كلام ابن تيمية في ذلك ومثال ذلك صفة الوجود والحي فانهما يطلقان على الله تعالى على صفة الكمال الذي لا يستلزم صفة نقص وعلى عباده على وجوه تستلزم جواز الفناء والموت والمرض واعتراض الآفات والعلل ولم يستلزم ذلك تشبيها وكذلك محبة الله تعالى ورحمته وسائر ما ورد منصوصا في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف هذه الأمة الصالح وشاع بينهم وذاع وكثر واستمر من غير تأويل ولا تحذير من اطلاقه بغير قرينة الله سبحانه أعلم
وأما موضع الاحتياط في هذه المباحث فانه ملاحظة إثبات صفات الكمال لله تعالى ونفي صفات النقص بتبين وفي الوقف حيث يخفى فمن صفات الكمال البينة المعلومة من الدين ومن إجماع المسلمين أن الله على كل شيء قدير وإن ما شاء كان وانه يهدي من يشاء وأن له الحجة الدامغة والحكمة البالغة ومن صفات النقص المنفية عنه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وليس بظلام للعبيد ولا يريد ظلما للعباد ولا يريد ظلما للعالمين كما قال في ذلك كله وانه لم يخلق السموات والارض باطلا ولا لعبا ولا عبثا بل خلق ذلك وغيره بالحق
وللحق ويقضي الحق ولذلك تسمى سبحانه وتعالى بالحق وكان قوله الحق وحكمه الحق فهو سبحانه وتعالى الحق اسما ومعنى وقضاء وقصصا وفعلا وقولا وخلقا وأمرا وعدلا وفصلا وابتداء وانتهاء ودنيا وآخرة كل ذلك حقيقة لا مجازا ولا تخبيلا ولا استعارة ولا مبالغة وتفاصيل ذلك ما لا يحصيه الحاسبون ولا يجمعه الكاتبون ولا يحيط به الراسخون ولا يبلغه العارفون ولايستقصيه الحامدون
ولذلك قال رسول الله سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فهذا كلام سيد ولد آدم والذي تقدم للشفاعة حين تأخر من تقدم فكيف أيها العقلاء يكون هذا كلامه وهو إمامنا وقدوتنا ومعلمنا ورسوله ثم نتأول ممادح الرب الحميد المجيد نحن ونقول أنها تقتضي بحقائقها الذم وهو الذي لا أحد أحب اليه المدح منه ولذلك مدح نفسه فاتقوا الله وتأدبوا مع كتب الله ولا تضربوا بعضها ببعض ولا تبادروا إلى القدح في ظواهرها والتحكم في تأويلاتها والله سبحانه وتعالى هادينا الجميع وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهذا آخر الكلام في مسألة الارادة ومباحثها على حسب هذا المختصر والحمد لله رب العالمين
ويتعلق بهذه المسألة الكلام في القضاء والقدر وأنه لا يدل على الجبر بالنص والاجماع وقد كثرت الاحاديث في وجوب الايمان به كثرة توجب التواتر فقد ذكرت منها في العواصم أكثر من سبعين حديثا وذكرت مع ذلك نحو مائة وخمسين حديثا في صحة ذلك مما ليس فيه ذكر وجوب الايمان به وذكرت مما ورد من كتاب الله تعالى نحو مائة آية منها قوله تعالى إنا كل شئ خلقناه بقدر وقوله تعالى وكل شيء عنده بمقدار وقوله تعالى إلا امرأته قدرناها من الغابرين وفي آية أخرى قدرنا أنها لمن الغابرين وقوله تعالى
كان على ربك حتما مقضيا وقوله تعالى وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لنفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كثيرا وقوله تعالى وأهلك إلا من سبق عليه القول وقوله قضي الأمر الذي فيه تستفتيان وقوله في هود وفي السجدة لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقوله وكان أمر الله قدرا مقدورا وقوله ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء وقوله تعالى ويقللكم في اعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وقوله تعالى ولو تواعدتم ثم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا وقال تعالى وتمت كلمة ربك لاملأن جهنم وأمثال ذلك وإنما المهم من ذلك معرفة معنى القضاء والقدر وأن أحدا لم يقل أن معناهما هو الجبر وسلب الاختيار وكيف يكون كذلك وقد ثبت تعلق القضاء والقدر بأفعال الله تعالى كما قال كان على ربك حتما مقضيا وهو سبحانه مختار بغير شك ولا خلاف
واعلم أن أكثر الاخبار وأقوال السلف تدل على أن القضاء يرجع إلى كتابة ما سبق في علم الله تعالى وتيسير كل لما خلق له على ما جاء في قوله تعالى فاما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى على ما مضى تفصيله في الخلاف الخامس من المبحث الثامن في الارادة
وقد ذكر الطبري أن الجبر هو الاكراه على الشيء كالمسحوب على وجهه وأن أهل المعاصي يأتونها برغبتهم اليها وهم مستلذون بها بل منهم من يقاتل من دفعه عنها وهذا نقيض الجبر في اللغة وبطلان الجبر معلوم بالضرورة على الصحيح وهو قول أبي الحسين من المعتزلة وأكثر أهل السنة والله سبحانه وتعالى أعلم وسيأتي في مسألة الافعال بيان ذلك إن شاء الله
تعالى ثم أنه ورد النهي عن الخوض في القدر وفي أحاديث عرفت منها عشرة وليس فيها شيء متفق على صحته ولا خرج البخاري ولا مسلم منها شيئا لكن خرج أحمد بن حنبل منها حديثا من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي طريق مختلف فيها اختلافا كثيرا وهو يصلح مع الشواهد وخرج الترمذي منها حديثا عن أبي هريرة وقال غريب وفي سنده صالح المزي لكن خرج البزار له اسنادين آخرين قال الهيثمي رجال أحدهما رجال الصحيح غير عمر بن أبي خليفة وهو ثقة وإن لم يكن من رجال الصحيح وخرج الطبراني في المعجمين الاوسط والكبير والحاكم حديث ابن عباس في ذلك وقال الحاكم صحيح على شرطهما ولا نعلم له علة
قلت رواه السبكي موقوفا ولم يذكر رفعه وإن سلم من الاعلال بذلك كان أصلحها اسنادا ومعنى ذلك إذا صح إن شاء الله تعالى التحذير من مجاراة المبتدعة في القدر والمراء بغير علم على وجه يؤدي إلى إثارة الشر والشك كما هو ظاهر حديث أبي هريرة وأخر الكلام في القدر لشرار أمتي في آخر الزمان فالذي أخر هو ما ذكرته فأما الخوض فيه على جهة التعلم والتعرف لما جاءت به الشريعة ثم الايمان به بعد معرفته على الوجه المشروع فان هذا لم يؤخر لشرار الامة بل قد تواتر أن أصحاب رسول الله سألوا النبي وخاضوا في معرفته وفي وجوب الايمان به فلم يزجرهم عن ذلك القدر ولم يترك الجواب عليهم بالقدر الواجب على بيان ذلك
وقد احتج ابن عبد البر في التمهيد على ذلك بمحاجة آدم وموسى وهو من أثبت الاحاديث وأصح ما قيل في معناه أن لوم موسى لآدم كان على الخروج من الجنة واخراجه ذريته منها على جهة الأسف على فوات هذه النعمة وتلك في الحقيقة مصيبة من فعل الله قدرها بسبب ذنب آدم عليه السلام لحكمته في ذلك ولما قد علمه وقضاه من خلافة آدم عليه السلام في الأرض وإلا فذنب آدم عليه السلام صغير لأنه نبي معصوم عن الكبائر وقد تاب أيضا والمذنب التائب لا تجب عليه العقوبة بالخروج من داره ولا بغير ذلك فاحتج آدم بسبق القضاء في الخروج الحسن لأنه من فعل الله تعالى
ولم يحتج به على حسن ذنبه أبدا وهو الذي قال ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
وقد أجمع أهل الاسلام على أن القدر يتعزى به أهل المصائب ولا يحتج به في المعائب فهذا معنى الحديث ووجهه وقد بسط في موضعه وحديث القدرية مجوس هذه الأمة ضعيف عند المؤيد بالله عليه السلام وعند المحدثين وقول الحاكم أنه صحيح على شرطهما إن صح سماع أبي حازم مع ابن عمر شره في التصحيح فانه لم يصح ذلك وتصحيح كل ضعيف على شروطه معدوم وإن فسر القدر بالعلم ونحوه فالمذموم من نفاه وإن فسر بالجبر والاكراه فالمذموم من أثبته وقد بسط هذا في موضعه
القول في مسألة الأفعال
وهي مسألة خلية عن الآثار وإنما خلت عنها لأن لها طرفين أحدهما جلي وكانوا لا يسألون عن الجلي لجلائه والآخر خفي وكانوا لا يتعرضون لأمثاله تارة لعدم الحاجة اليه وتارة لعدم الوقوف عليه ولأن ما لا يوقف عليه لا يحتاج اليه وهما داخلان في البدعة التي نهوا عنها وكانوا أبعد الناس منها ولأن الاشتغال بتقرير قواعد الاسلام وجهاد أعدائه الطغام وعبادة الملك العلام وأمثال هذه المهمات العظام كانت قد استغرقت السلف رضي الله عنهم وأعاد علينا من بركاتهم وردنا عن الزيغ والغلو إلى الاقتداء بهم
وأنا أذكر إن شاء الله تعالى طرفا صالحا من بيان هذين الطرفين وبيان أقوال الناس في هذه المسألة لفائدتين في الدين احداهما معرفة ما ابتدع في ذلك من الأقوال حتى يجتنب عن بصيرة فربما ظن بعض الناس في بعض البدع أنها سنة لعدم اهتمامه بتمييز السنة من البدعة وعدم تفرغه أو صلاحيته للبحث عن ذلك وثانيتهما ليترك الجاهل التكفير من غير بصيرة حين يعلم
أنه لم يحط علما يقينا بماهية الاقوال أو يحكم بعلم حين يتحقق ذلك والله الموفق وفي حديث ابن مسعود عن رسول الله أنه قال أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم وأعلمهم أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العلم وإن كان يزحف على أسته الحديث خرجه الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على أسته الحديث خرجه الحاكم في التفسير في سورة الحديد وقال صحيح الاسناد وهو كما قال والله سبحانه أعلم
فأما الطرف الجلي الذي لم يبحثوا عنه لجلاله فهو أن لنا أفعالا متوقفة على همنا بها ودواعينا اليها واختيارنا لها ولذلك شذ المخالف لذلك من الجبرية ونسب إلى مخالفة الضرورة ولم يخالف في ذلك أحد من أهل السنة ولا من طوائف الأشعرية بل نسب الرازي الجبرية إلى البراءة من ذلك وانما أراد من تسمى باسم الجبرية من الاشعرية وهو شيء يختص به الرازي وحده فيما علمت فانه يصحح الجبر في كثير من عباراته ويعنى به وجوب وقوع الراجح من الفاعل المختار وصرح ببقاء الاختيار مع تسميته جبرا
وأما الخفي الذي عظم فيه الاختلاف ودق وكثر فهو معرفة حقيقة أفعال العباد على جهة التعيين والتمييز لها عن سائر الحقائق وقد اختلف في ذلك على أربعة عشر قولا أو يزيد للمعتزلة منها ثمانية وللسنية والاشعرية أربعة وللجبرية قولان وهي هذه مسرودة
الأول من أقوال المعتزلة أن الذوات كلها ثابتة في العدم أزلية غير مقدورة لله تعالى ولا بخلقه الاجسام منها والاعراض وذوات أفعال الله تعالى وذوات أفعال العباد أعني ذوات الحركات والسكنات وأنها في العدم والأزل ثابتة ثبوتا حقيقيا في الخارج ثبوتا يوجب تماثلها فيه واختلافها عنه وأن المقدور لله تعالى ولعباده أمر آخر غير الذات ولا وجودها ولا مجموعهما بل جعل الذات على صفة الوجود وقد ادعى الرازي وغيره من أصحاب أبي الحسين من المعتزلة أنه غير معقول فانه لا يتصور إلا برده إلى أحد الأمور الثلاثة وهو أيضا يبتني على ثبوت الذوات في الازل والعدم وعلى الفرق بين الثبوت والوجود وعلى ثبوت الدليل القاطع على أن الوجود أمر
حقيقي زائد على الموجود وعلى أن الأكوان من الحركة والسكون ذوات حقيقية لا صفات اضافية في ذلك كله نزاع طويل كثير دقيق بين العقلاء جملة تم بين المسلمين ثم بين المعتزلة وقد جود أبو الحسين منهم وأصحابه رد ذلك على أصحابهم من البهاشمة في كتبهم
الثاني لهم أيضا أن فعل الله تعالى وفعل العباد هو صفة الوجود لا ذات الموجود وهؤلاء مثل الأولين إلا أنهم اشتركوا في اثبات الامر الرابع الذي عده خصومهم محالا فعينوا مقدور القادر وبقي عليهم سائر ما يرد على أصحابهم وقد ألزموا جميعا أن الله تعالى لا يخلق شيئا قط على أصولهم لأن الشيء عندهم هو الثابت في الأزل والقدم وصفة الوجود عندهم ليست شيئا لأنهم قضوا بالأزلية في القدم للشيء وللذات ولصفاتها الذاتية ولم يبق إلا صفاتها المقتضاة وهي التحيز ثم اختلفوا فيه فمنهم من قضى أنه ثابت في الأزل أيضا حكاه مختار في المجتبى وابن متويه في التذكرة ولم يقبحه على قائله منهم والقائل به منهم جرى على مقتضى دليلهم العقلي وذلك لأن الصفة المقتضاة لا تخلف عن مقتضيها وتخلفها عنه محال ألا ترى أن صفات القادرية والعالمية ونحوها لما كانت مقتضاة عندهم من الصفة الاخص لم تخلف عنها كانت غير حادثة فكذلك هذا لكنهم خافوا أن يتفاحش الامر هنا بلزوم قدم العالم جهارا فاعتذروا بأن هذا التحيز لا يظهر إلا بشرط الوجود والوجود بالفاعل وهو الله تعالى فقد زعموا أن التحيز في الاجسام ليس به تعالى فلذلك لزمهم أن الله غير خالق لشيء ولا مؤثر فيه
وقد حاول ابن متويه الجواب عن هذا في تذكرته بأن خلق الشيء واحداثه هو إيجاده والله هو الذي حصل له صفة الوجود وهذا الجواب غير مخلص لأن معنى الالزام ان اتصاف الشيء عندهم بأنه محدث ومخلوق على قواعدهم مجاز لا حقيقة لأن الشيء عندهم ثابت في الازل غير مقدور لله تعالى وإنما المخلوق المقدور حدوثه ووجوده وليسا بشيء عندهم لأنهما لو كانا شيئا كانا ثابتين في الازل وذلك تصريح بقدم العالم فلذلك قضوا أنهما ليسا بشيء ولذلك صرح الزمخشري في أساس البلاغة أن الله لا يسمى خالقا إلا مجازا وكل هذا مما يعترفون به ويذكرونه في مصنفاتهم
وحكى هذين القولين عنهم ابن المطهر الحلي في شرح مختصر منتهى السؤل في الكلام على الاشتقاق لاسم الفاعل مما لم يقم به وأما قولهم ان ثبوت الأشياء في الأزل حقيقي في الخارج لا في الذهن فذكره منهم الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى في الفصل الرابع من الصفات الذاتية وهو عنهم صحيح وكلماتهم توافقه لكن بغير هذه العبارة
الثالث لهم أنه لا فعل للعبد إلا الارادة قاله الجاحظ وثمامة بن الأشرس
الرابع لهم أن أفعال العباد حوادث لا محدث لها وهذا والذي قبله مع غرابتهما معروفان في كتب المعتزلة من روايتهم عن شيوخهم لا من رواية خصومهم
الخامس أن أفعال العباد لا تتعدى محل القدرة والمتعدي فعل الله تعالى وإنها حركات كلها وأن السكون حركة اعتماد والعلوم والارادات حركة النفس حكاه الشهرستاني في الملل والنحل عن النظام قال ولم يرد بالحركة النقلة وإنما الحركة عنده مبتدأ كل تغير وهو قول المطرفية من الزيدية دون الحركات
السادس مثل الذي قبله لكن قالوا أن المتولدات أفعال لا فاعل لها
السابع مثل الثالث أنه لا فعل للعبد إلا الارادة لكن قالوا فيما عدا الارادة أنها حدث لا محدث لها وأهل الثالث نسبوا ذلك إلى الله تعالى فهم كغلاة الاشعرية الذين يسميهم الرازي جبرية أعني أهل القول الثالث من المعتزلة وهذان القولان السادس والسابع حكاهما الشهرستاني عن ثمامة أيضا فكان له أقوال ثلاثة
الثامن قول أبي الحسين وأصحابه وابن تيمية وأصحابه أن أفعال العباد هي الاكوان أعني الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وأنها ليست أشياء حقيقية وأنها لا ثبوت لها ولا لشيء من الاجسام في الازل والعدم وإن الثبوت والوجود شيء واحد وكذلك الازل والقدم وهو مذهب أكثر أهل البيت قال الشيخ مختار وهو مذهب أكثر المشايخ وممن نص على
اختياره من أهل البيت الامام يحيى بن حمزة وهو الذي في فطرة كل عاقل لم تغير فطرته بتغيير المشايخ والله أعلم
التاسع وهو أول أقوال أهل السنة والأشعرية مثل الذي قبله سواء إلا أن الأكوان عندهم ذوات حقيقية وهو قول الجويني وأصحابه وهو أقرب فوق الأشعرية إلى المعتزلة في هذه المسألة
العاشر القول بمقدور بين قادرين مع عدم تمييزه إلا بالوجوه والاعتبارات
الحادي عشر قول أهل الكسب أن الأكوان ذوات ثبوتية هي فعل الله تعالى وفعل العبد كسب يتعلق بها وهي متميزة منه وسيأتي تحقيقه
الثاني عشر أنه لا فعل للعبد إلا الاختيار فمتى اختار الطاعة خلقها الله عقيب اختياره وكذلك المعصية وسيأتي بيانه أيضا
الثالث عشر قول الجهمية وهم الجبرية وحدهم فانهم زعموا أن للعبد قدرة غير أنه لا أثر لها ألبتة وأفعاله مخلوقة لله وحده ولم يثبتوا كسبا للعبد ولا مقدورا بين قادرين
الرابع عشر أنه لا قدرة للعبد ولا فعل ألبتة وإنما حركته منسوبة اليه مثل نسبة حركة الشجرة اليها وهذا ما حكاه الشهرستاني في الملل والنحل عن غلاة الجبرية وأما الشيخ مختار في المجتبى فأنكر وجود من يقول بذلك
فهذه الاقوال التي عرفت في تفاصيل هذه المسألة لاهل الملة وسيأتي ذكر مذهب الفلاسفة وأهل القول العاشر ومن بعدهم يطلقون على أفعال العباد أنها مخلوقات وإن اختلفوا في تفسير ذلك وتفصيله كما يأتي
وقد ظهر أن تحقيق المقاصد في أكثرها يبتني على مسائل صعبة غامضة من مسائل علم اللطيف كالفرق بين الذوات والصفات والاحوال وبين الحقائق والاضافات وبين الثبوت والوجود وما الذي يصح منهما في العدم الفرق بين الوجود والموجود وبين الارادة والاختيار وهو يتوقف على
معرفة الارادة وأقسامها ومعرفة الاسباب والمسببات والفرق بين الأسباب المؤثرة المولدة وغيرهما
فمدار الخلاف وأصله في أن الافعال هل هي ذوات أو صفات أو أحوال أو مجموع أمرين من ذلك أو أمر رابع غير ذلك أو أسباب فقط مؤثرة كالقتل أو غير مؤثرة كالارادة وهي أسباب ومسببات أو متعدية أو لازمة أو هي تسمى مخلوقة أولا وإذا كانت تسمى بذلك فمن الخالق لها وهل يصح مقدور بين قادرين أو هو محال وإذا كان يصح فهل أفعال العباد منه أو لا وإذا كانت منه فهل أحد الفعلين المقدورين متميز عن الآخر في أفعال العباد وكسبهم مع خلق الله تعالى بالذات أو بالوجود وهل يصح حادث لا محدث له أم لا وإذا صح هل الموصوف بذلك أفعال العباد كلها غير الارادة أم المتولدات فقط أم جميع أفعال العباد من غير استثناء وإذا كانت ذوات فما هي هل هي حركات كلها أو أكون مختلفة وإن كانت صفات فهل هي حقيقية أو اضافية وهل القدرة متقدمة أو مقارنة وتصلح للضدين لا
والقصد بذكرها معرفة البدعة منها ومعرفة بطلانها وذلك لا يصح ممن لم يعرف حقائق مقاصدهم ومن لم يرسخ في علم اللطيف لم يعرف ذلك ومن لم يعرف ذلك كيف يتمكن من معرفة أن هذا القول كفر أو غير كفر وهو لم يتحقق ماهية القول ومعناه
القول في بيان أن مراد من قال أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وانها مع ذلك واقعة على اختيار العباد جملة ثم بيان اختلافهم في القدر المخلوق منها وفي تفسير الخلق وبيان الاحوط في هذه المسألة
أما مرادهم الاول الذي اتفقوا عليه جملة فهو الايمان بمقتضى ما تقدم في مسألة المشيئة من الآيات والأحاديث المصرحة بأن ما شاء الله كان وما شاء أن لا يكون لم يكن وإنه لو شاء ما عصى وإنه يهدي من يشاء باللطف والاختيار
ثم أنه تعارض عند هؤلاء السمع في نسبة كسب الافعال إلى العباد
ونسبة تقديرها إلى الله تعالى هذه معارضة خاصة من الجانبين ثم معارضة أخرى وهي نسبة أفعال العباد بخصوصها اليهم ونسبتها إلى الله تعالى مدرجة في عمومات أن الله تعالى خالق كل شيء وربما تتوهم بعضهم النصوصية في قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون وليس كذلك كما سيأتي فتعارضت عندهم الدلائل السمعية وكذلك الأنظار العقلية فان وقوف الافعال على الدواعي معلوم صحيح البرهان بل وفاقي على الصحيح وهو دليل المعتزلة على أن الله تعالى عدل لا يفعل القبيح والدواعي هي العلوم بالمصالح والمنافع والمضار والظنون لذلك والشهوة والنفرة والمرجع بها إلى فعل الله تعالى تارة بواسطة وتارة بغير واسطة
ويعارض هذا أن الفرق بين حركة المختار وحركة المفلوج والمسحوب على وجهه فرق ضروري وهو يقتضي اختيار العباد وبطلان الجبر بالضرورة وزاد وضوحا أن الجبر في اللغة هو الاكراه الذي ينافي اللذة والشهوة والرضا وأهل المعاصي يفعلونها متلذذين بها مشتهين لها راضين مسرورين وهذا كله يضاد الجبر والاكراه وينافيه بالضرورة قال الله تعالى أئتيا طوعا أو كرها ففرق بينهما والجبر يؤدي إلى عدم ذلك
فأما الجبرية فتركوا الجمع بين الظواهر وركبوا اللجاج الشديد والعناد البعيد وجحدوا الضرورات العقلية والبينات السمعية وأجمع أهل السنة وأهل الكلام من الشيعة والأشعرية والمعتزلة على ضلالهم والرد لقولهم لأنهم نفوا مشيئة العبد والله تعالى لم ينفها مطلقا لكن جعلها بعد مشيئته فقال تعالى وما تشاؤن إلاأن يشاء الله والجبرية نفوها واطرحوا قوله إلا أن يشاء الله وكذلك قولنا ما شاء الله كان يقتضي ذلك لأنه قد شاء وكذلك نفوا أن يكون المكلفون مختارين غير مجبورين فكان ما شاء من اختيارهم
وأما الأشعرية فراموا الجمع بين هذه المتعارضات بنسبة الفعل إلى الله تعالى من وجه وإلى العباد من وجه آخر كالمفسرين بذلك لما ورد السمع به ومن ذلك التعارض المتقدم وأمثاله مثل قوله تعالى انه من عبادنا
المخلصين بفتح اللام وكسرها فالفتح نسبة إلى الله تعالى والكسر نسبة إلى العبد وقوله تعالى وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وقوله فأخرجناهم من جنات وعيون مع أنهما فعل قوم فرعون حقيقة وقوله تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء وقوله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وقول الله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين مع قوله لولا أن رأى برهان ربه وقوله قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وقوله تعالى ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا وقوله تعالى واصبر وما صبرك إلا بالله وقوله تعالى وقال الذين أوتوا العلم والايمان مع نسبة الايمان إلى فعل المؤمنين في آيات كثيرة وهذا باب واسع في السمع وهو صريح في الطاعات كما تقدم تحقيقه وأما في المعاصي فالذي تحقق في السمع أنه لو شاء ما عصى على ما مر ملخصا في الارادة وإضافة أفعال العباد اليهم أكثر وأوضح فأرادوا الجمع بنسبة ما يسى خلقا إلى الله تعالى ونسبة ما يسمى كسبا وطاعة ومعصية إلى العباد ولم يريدوا بكون الافعال خلق الله تعالى نفي كونها أفعال العباد كما لم يريدوا بكونها كسبا للعباد نفي أنها خلق الله
وبالجملة فلم يريدوا نسبتها إلى الله تعالى وحده من كل جهة إذ لم تكن كسبا ولا طاعة ولا معصية فان الطاعة والمعصية من الله تعالى وحده محالان ولا أرادوا نسبتها إلى العباد وحسم لاعتقادهم أنها تسمى مخلوقة وأن الخلق من العباد محال
قال الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى قال صاحب المعتمد يعني أبا الحسين أن الجهم بن صفوان ذهب إلى أن الله تعالى خالق لأفعال العباد فيهم وليسوا محدثين لها ولا مكتسبين لها وذهب النجار والاشعري إلى أنه خالقها وهم يكسبونها وهو المشهور من مذهبهم وبه قال أكثر أهل السنة فنفرد لكل طائفة من الجبرية الخالقية والكسبية مسألة على حدة
والحاصل أن المخالفين كلهم قالوا بقدرة العبد لكن الفلاسفة زعموا أن القدرة هي علة الفعل مع الداعي والاسفرايني زعم أنها جزء من علة الفعل الموجود بالقدرتين والباقلاني زعم أنها علة الكسب والجهم زعم أنها معنى لا تأثير له في الفعل أصلا لكنه يوجد متعلقا به اه . وفيه تحقيق بالغ كما سيأتي بيانه ومثله ذكر ابن بطال في شرح البخاري فانه يسمي الجبرية جهمية ويخص الجهمية بالجبر ويوجه الردود اليهم خاصة كما هو معروف في شرحه لأبواب القدر
وقال الرازي في تفسيره مفاتح الغيب ان اثبات الاله يلجئ الى القول بالجبر واسال الرسل يلجئ الى القول بالقدر بل ههنا سر آخر وهو فوق الكل وهو أنا لما رجعنا الى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا ما استوى الوجود والعدم بالنسبة اليه لا يترجح أحدهما الا بمرجح وهذا يقتضي الجبر ونجد أيضا تفرقه بديهية بين الحركات الاختيارية والاضطرارية وجزما بديهيا بحسن المدح والذم والامر والنهي وذلك يقتضي مذهب المعتزلة فكان هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية وبحسب العلوم النظرية وبحسب تعظيم الله تعالى نظرا الى قدرته وبحسب تعظيمه سبحانه وتعالى نظرا الى حكمته وبحسب التوحيد والنبوة وبحسب الدلائل السمعية فلهذا الذي شرحناه والاسرار التي كشفنا حقائقها صعبت المسألة وعظمت فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق
وقال البيضاوي في كتابه طوالع الأنوار وقد ذكر احتجاج المعتزلة
بالآيات الدالات على أن أفعال الله تعالى لا توصف بصفات أفعال العباد من الظلم ونحوه فيجب الفرق بينهما ثم قال ما لفظه واجيب بان كونه ظلما اعتبار يعرض في بعض الأحوال بالنسبة الينا لقصور ملكنا واستحقاقنا وذلك لا يمنع صدور أصل الفعل عن الباري تعالى مجردا عن هذا الاعتبار
وأعلم أن أصحابنا لما وجدوا تفرقة بديهية بين ما نزاوله وبين ما نحسه من الجمادات وزادهم قائم البرهان عن اضافة الفعل الى العبد مطلقا جمعوا بينهما وقالوا الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد على معنى أن العبد إذا صمم العزم فالله يخلق الفعل فيه وهو أيضا مشكل ولصعوبة هذا المقام أنكر السلف على الناظرين فيه ا ه بحروفه
وأعلم أن تسمية الرازي لمذهب الأشعرية جبرا شيء تفرد به دونهم ودون غيرهم وهو خلاف منه في العبارة فقد صرح في نهاية العقول ببقاء اختيار العبد مع هذا الذي يسميه جبرا والمرجع به عنده إلى وقوع الراجح بالدواعي فانه في النهاية لما ذكر انه يلزمهم قبح المدح والذم والامر والنهي أجاب بان مذهبهم ان الاختيار الى العبد فان اختار الطاعة خلقها الله فيه عقيب اختياره وكذلك المعصية كما تقول المعتزلة في المسببات كلون المداد وصبغ الثياب وازهاق الارواح والسحر ونحو ذلك وقد تطابق الرازي والبيضاوي والشهرستاني على نسبة هذا الى الاشعرية قال الرازي وهو الوجه في توجيه الأمر والنهي اليهم فقد أجمعوا بنقل أئمة مذهبهم هؤلاء على ثبوت الاختيار للعبد وان كان الاختيار واجبا بالداعي قال الرازي مثل ما أجمعت المعتزلة على ثبوت الاختيار لله تعالى وان كانت أفعاله واجبة بالدواعي فانه لا يجوز عليه اخلال بواجب ولا فعل لقبيح قطعا مع ثبوت الاختيار منه في ذلك
واعلم أن هذا القدر كاف في هذه المسألة دون زيادة عليه أعني معرفة اختيار العباد وتمكين الله تعالى لهم وقيام حجته بذلك عليهم مع سبق قضائه وقدره وقدرته على هدايتهم أجمعين وحكمته في ذلك كله
وأما بيان أقوالهم التفصيلية في ذلك فاعلم انهم اختلفوا في القدر المقابل بالجزاء والقدر المخلوق على قولين
القول الأول ان فعل العبد الاختياري كسب للعبد مخلوق لله تعالى
مقدور بين قادرين وكذلك اختياره لذلك الكسب وهو مخاطب بالامر والنهي مجازى على أفعاله بالثواب والعقاب لما له في فعله واختياره من الكسب الاختياري لا لما الله فيهما من الخلق والتقدير السابق من غير تمييز للقدر المكسوب من القدر المخلوق الا بالوجوه والاعتبارات فان الفرق بها ضروري لان معنى ذلك ان العبد فعل ما فعله من ذلك طاعة وعصيانا ولولا انه اوقفه على ذلك بارادته لذلك ونيته لم يوصف بذلك ولا تميزت الطاعة من المعصية والله سبحانه فعل ما فعل من ذلك امتنانا وامتحانا على ما يأتي ولو فعله على الوجه الذي فعله العبد لسمى مطيعا وعاصيا وذلك محال في حقه وانما يسمى بأفعاله خالقا ومحسنا ومبتليا وحكيما وانما قالوا ذلك وتركوا التمييز جمعا بين الأدلة المتعارضة المتقدمة وفرارا من الخوض فيما لم يخض فيه السلف من الفروق الدقيقة بين هذه المعاني على نحو قول أبي علي الجبائي في تلاوتنا للقرآن انه كلام الله تعالى حقيقة وكلامنا حقيقة وأن الله يتكلم مع كل قارئ سواء كان صادق النية مطيعا أو مرائيا عاصيا قال بذلك جمعا بين الادلة أدلة العقل على ان التلاوة فعلنا وكلامنا ودلالة الاجماع على ان كلام الله تعالى هو المتلو في المحاريب المكتوب في المصاحف ولذلك التزم أن كلام الله في المصاحف حقيقة وان الصوت كامن في الحروف كما نقله عنه ابن متوية في التذكرة وغيره فلم تلزمه المعتزلة الجبر بذلك ولا الضلال والكفر فكذلك كثير من أهل الحديث والاثر اعتقدوا مثل ذلك في سائر أفعال العباد على جهة الايمان بأن الله خالق كل شيء
واختار هذا من متكلميهم جماعة وهو ظاهر عبارة البيضاوي في الطوالع والسبكي في جمع الجوامع والغزالي في الاحياء فانه نص فيه على بطلان الجبر بالضرورة وعلى خلق الاختيار والفعل وروى هذا صاحب الجامع الكافي من علماء أهل البيت المتقدمين عن الامام أحمد بن عيسى بن زيد بن علي عليهم السلام وروى فيه عن أحمد بن عيسى انه روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ان رجلا سأله عن أفعال العباد فقال هي من الله خلق ومن العباد فعل لا تسأل عنها أحدا بعدي قال أحمد بن عيسى بعد روايته انما يعذب الله العباد على فعلهم لا على خلقه
قلت رواه منقطعا بغير اسناد ولو صح مثل هذا عن علي عليه السلام أو عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم ما غفل عن تدوينه أهل الحديث قاطبة وظاهر كلام السيد أبي عبد الله الحسني في الجامع الكافي ان هذا مذهب أهل ذلك العصر من أهل البيت وشيعتهم فانه ذكر ذلك عن محمد بن منصور عن أحمد ابن عيسى ولم يذكر خلافا لأحد
فاما الطاعة والخير فلا نكارة في مشاركة الرب لعبده فيه كما قال تعالى اياك نعبد واياك نستعين وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ولكن لا حجة لهم في ذلك على عدم تمييز فعل العبد من فعل الله أصلا بل ظاهر الآيات يعطي التمييز بينهما وأكثر ما يلتبس مثل قول عيسى عليه السلام وأبرئ الاكمة والابرص واحيي الموتى باذن الله ولا شك ان الذي من عيسى عليه السلام انما هو الدعاء الى الله تعالى أو الأمر لهن بذلك كما قال لابراهيم عليه السلام ثم ادعهن يأتينك سعيا بل كما قال عيسى فانفخ فيه طائرا باذن الله فميز فعله الذي هو النفخ في الصورة فقط
وأما في المعاصي فهو المشكل والذي وجهوا فيه انه يمكن من طريق الابتلاء ان يفعل الله من ذلك ما يتم به تمكين العبد من فعل القبيح كخلقه للقدرة عند الجميع لكن عند هؤلاء انه لا يتم التمكين بها وحدها لاستحالة ذلك عندهم عقلا وسمعا فلابد من أمر زائد على خلق القدرة لحكمة الله تعالى في تمام الابتلاء ومثال ذلك قوله في السحر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله وقوله وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وقوله تعالى فأخرجناهم من جنات وعيون وتسمى في المعاصي ابتلاء وامتحانا وفي الطاعات لطفا ومعونة ومثال ذلك عند الجميع فعل
السبب بالنظر الى المسببات التي هي غير مقدورة لنا كالمداد ونحوه وقد يكون عمله قبيحا كالمغصوب وعمله للظلمة وسيأتي الفرق بين قول هؤلاء وبين قول الاشعرية الكسبية في آخر المذهب الثالث من القول الثاني بعد هذا
وهذا القول على انه أقل أفواههم تكلفا لم يصح فيه نص من كتاب ولا سنة ولا اجماع الصحابة ولا قول واحد منهم وقد ادعى فيه اجماع المتأخرين وذلك أبعد فقد خالفهم أبو المعالي الجويني امام الحرمين وأصحابه والشيخ أبو اسحاق وكلاهما من أجل ائمتهم فكيف غيرهم وسيأتي كلام ابن الحاجب الدال على تفرد الاشعري بذلك وعلى انه أول من قال به فلا يسلم هذا المذهب من تسميته بدعة لانه لا معنى للبدعة الا ما حدث من العقائد بعد الصحابة والتابعين ولم يصح عنهم فيه نص
وأما الاستناد الى العمومات ونحوها فلا يكفي في ثبوت السنن والا لاكتفت المعتزلة بقوله خالق كل شيء على ان القرآن مخلوق وان القول بذلك سنة فافهم هذه النكتة فانها نفيسة جدا فان السنة ما اشتهر عن السلف وصح بطريق النصوصية ولولا هذا لكانت البدع كلها من السنن لانه ما من بدعة الا ولأهلها شبه من العمومات والمحتملات والاستخراجات الا ترى أن الاتحادية أبعد المبتدعة من السنة واشنعهم بدعة وافحشهم مقالا وهم مع ذلك يحتجون بقوله تعالى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله وبقوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وبقول النبي ان أصدق كلمة قالها لبيد الشاعر ألا كل شيء ما خلا الله باطل متفق على صحته ونحو ذلك كثير ولو كان في اعتقاد خلق الافعال خير ما سكت عنه رسول الله وآله وأصحابه ولاسبقهم المتأخرون الى اشاعته والزام المسلمين باعتقاده وتعريفهم بوجوبه وكان معدودا في أركان الدين والاسلام المعدودة المنصوصة والله يحب الانصاف وسيأتي بقية ادلتهم والجواب عنها قريبا ان شاء الله تعالى
القول الثاني للاشعرية من أهل الكلام ان فعل العبد المقابل بالجزاء متميز عن القدر المخلوق لله تعالى ومغاير له وهو قول الاشعرية وأكثر متكلميهم ذكروه كما ذكره الشيخ مختار المعتزلي ورواه عن شيخ الاعتزال ابي الحسين البصري واختلف هؤلاء في كيفية تمييز كسب العبد عن خلق الرب على مذاهب
المذهب الأول مقابل للقول الأول هو ما ذكره الشهرستاني في نهاية الاقدام والرازي في نهاية العقول وغيرهما عن امام الحرمين أبي المعالي الجويني انه أثبت لقدرة العبد أثرا هو الوجود يعني ايجاد الحركة والسكون مع اعتقاد الجويني انهما شيء حقيقي وهذا لفظ الشهر ستاني قال وغلا امام الحرمين حيث أثبت للقدرة الحادثة أثرا هو الوجود الا انه لم يثبت للعبد استقلالا بالوجود ما لم يستند الى سبب آخر يعني الدواعي قال وانما حمله على تقدير ذلك الاحتراز عن ركاكة الجبر وقال الرازي في نهاية العقول ان الجويني صرح بذلك في كتابة النظامي ونسبه الرازي أيضا الى الشيخ أبي اسحق
وقال أبو نصر السبكي في جمع الجوامع عن الجويني انه يقول الطاعة مخلوقة والرواية الاولى أصح وأشهر وهي المنصوصة في مصنفاته ففي مقدمات كتابه البرهان التصريح بان الكسب تمويه لان المكلف هو المتمكن وان التكليف لا يكون الا بالممكن وان تكليف ما لا يطاق باطل وأمثال هذا والجويني مع هذا لا يخالف في ان أفعال العباد مخلوقة بمعنى آخر أي مقدرة فان الخلق بمعنى التقدير حقيقة لغوية صحيحة ومع خلاف الجويني هذا لم يكن خارجا من أهل السنة وكذلك الشيخ أبو اسحق بل هما معدودان من أجل أئمتهم والدعاة الى السنة والحماة عنها وذلك لما قدمت في مسألة الارادة ان مدار الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة عليها في مسألة الافعال فمن قال ان مشيئة الله تعالى نافذة وقدرته عامة ولو شاء لهدى الناس جميعا فهو على السنة وان خالف في مسألة خلق الافعال لان القدر المجمع عليه بين أهل السنة أن العبد فاعل مختار مستعين بالله غير مستقل بنفسه طرفة عين على ما يقتضيه قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين وأمثالها كما تقدم وتكرر ذكره
المذهب الثاني لأهل السنة مذهب شيخ الاسلام ومتكلم أهل الآثار أحمد بن تيمية الحراني وهو مثل مذهب الجويني سواء الا أنه لا يرى الاكوان أمورا حقيقية بل يراها صفات اضافية كأبي الحسين البصري والامام يحيى بن حمزة عليه السلام على ما مضى في أول المسألة وهذا أقوى من قول الجويني أدلة لما يرد على مثبتي الاكوان من الاشكالات الصعبة وهو أنسب لمذهب أهل السنة لان صاحبه لم يجعل للقدرة الحادثة أثرا في اخراج شيء حقيقي من العدم إلى الوجود والقول بان الاكوان صفات اضافية قول جماعة من المحققين وعزاه الشيخ مختار في المجتبى الى المحققين وهو يوافق قول الاشعرية كله في هذه المسألة الا قولهم ان الاكوان أشياء حقيقية وهو أقوى هذه التفاصيل وأقربها الى الفطرة وأسلمها من البدعة لانه لا بدعة في اثبات الحركة والسكون ولا في انهما صفتان للاجسام ولا في انهما فعلان للعباد مقدران لهم ونحو ذلك ولم يتوقف شئ من هذا على النظر الدقيق والبحث العميق
المذهب الثالث قول الأشعرية الكسبية وقد اجمعوا على ان القدر المقابل بالجزاء من فعل العبد غير مخلوق لله تعالى وقد جود بيان هذا منهم الشهرستاني في نهاية الاقدام ونقلت كلامه على طول الى العواصم لنفاسته وحسن سياقه وبيانه وهم مع هذا يطلقون القول بان أفعال العباد مخلوقة وانما يريدون ذوات الاكوان التي هي الحركة والسكون مجردين عن الوجوه والاعتبارات وسائر الاحوال التي هي أثر قدرة العباد عندهم والاحوال عبارة عما تختلف به الاكوان المتماثلة ألا ترى أن الحركات متماثلة من حيث أنها حركات وحوادث ثم هي مختلفة في الحسن والقبح والاصابة والخطأ والسرعة والبطئ متمايزة في أنه بعضها حركة كتابة وبعضها حركة صياغة وبعضها حركة غياصة ولاختلاف أحوالها وتمايزها كان بعضها مجونا مضحكا وبعضها هائلا مفزعا وبعضها خارقا معجزا وبعضها محكما متقنا إلى غير ذلك ولا شك أن القدر الذي اختلفت فيه غير القدر الذي اتفقت فيه وهو مجرد الانتقال والحدوث فاضافوا هذه الاحوال المقدورة للعباد اليهم وأضافوا ذات الحركة وحدوثها إلى الله تعالى والذي ألجأهم إلى ذلك أن الحركة
والسكون عندهم من الاشياء الحقيقية مثل الأجسام وأنه لا يقدر على إيجاد الأشياء الحقيقية إلا الله وتأولوا على ذلك قوله تعالى هل من خالق غير الله أي للاشياء الحقيقية ولم يجعلوا من ذلك الأشياء اللغوية المسماة في عرفهم بالاحوال وبالوجوه وبالاعتبارات وبالاضافات وبالمعاصي والطاعات
ولا خلاف بين علماء اللطيف أن الطاعة والمعصية ليسا بشيء حقيقي كالاجسام بل هما معقولان حتى في التروك التي هي عدم الافعال على الصحيح فانا نعقل قبح الترك لقضاء الدين وترك رد الوديعة وترك الصلاة ونعقل حسن ترك المظالم وترك العدوان على المساكين قبل أن نعقل أن الترك كف النفس عن الفعل أو عدم محض فالواقع عندهم بقدرة الله تعالى هو الحركة من حيث هي حركة مجردة ولا قبح فيها من هذه الجهة إجماعا وكذلك لا قبح فيها من حيث هي حادثة فلذلك نسبوا الحركة وحدوثها إلى الله تعالى والواقع بقدرة العبد هو كون الحركة طاعة أو معصية أو حجا أو صلاة أو ظلما أو قتلا أو نحو ذلك من الأحوال
قالوا ولذلك يشتق من هذه الأشياء أسماء الفاعلين لها دون الله تعالى فقد بالغ الشهرستاني في نهاية الاقدام في رد مذهب المعتزلة المتقدم في حكاية الأقوال في هذه المسألة وعارضهم بمعارضات جدلية معارضة عارف لمذهبهم محقق لمقاصدهم من ذلك قال ان الحدوث والوجود صفة غير مطلوبة من العبد ولا ممنوعة ولا محمودة ولا مذمومة من هذه الجهة لأنها مشتركة بين الحسن والقبيح إذ كل منهما حادث موجود قال وإنما ينبغي أن يضاف إلى العبد ما طلب منه أو نهي عنه وهو أمر أخص من ذلك وهو كون ذلك الحدوث طاعة أو معصية وهما أثر قدرة العبد عند الأشعرية وهما المقابلان بالجزاء قال وعند المعتزلة أثر قدرة العبد من أثر قدرة الرب تعالى عند من يطلق أن أفعال العباد مخلوقة ومن الأمثلة التي يظهر فيها المقدور بين قادرين حمل العرش فان الله تعالى قد نسبه إلى حملته من الملائكة من أن الله تعالى حامل لهم ولما استقروا عليه من سماء وأرض والحامل للقرار حامل
لما عليه قطعا فثبت أن العرش محمول لله تعالى مع أنه محمول لحملته عليهم السلام
والفرق بين قول هؤلاء وبين أهل القول الأول أن هؤلاء يجعلون ذات الحركة خلقا لله تعالى وحده وعندهم تأثير قدرة العبد فيها محال مطلقا وعند الطائفة الأولى أن قدرة العبد تؤثر في ذات الحركة مع خلق الله تعالى للحركة لا مستقلا منفردا فالفرق أن الذي اختص الله تعالى به عند هؤلاء هو عدم الاستقلال بالايجاد وعند الأشعرية الكسبية هو الايجاد مطلقا وأما الوجوه والاعتبارات فاتفقوا كلهم على أنها من أثر قدرة العباد فلا يسمى العبد خالقا عند الأولين لعدم استقلاله
فصل
في بطلان القول بأن المعاصي من الله تعالى الله عن ذلك على جميع هذه المذاهب الأربعة عشر مذهبا إلا على مذهب الجهمية الجبرية وهذا أوضح من أن يحتج عليه ويوضح الاجماع عليه أنه لا خلاف بين أحد من أهل الاسلام في وجوب كراهة معاصي الله تعالى ومساخطة من الاعمال ولا في وجوب الرضى والتحسين لجميع ما كان منه سبحانه وتعالى وذلك يوجب أن القبائح كلها ليست منه تعالى كما سيأتي بيانه بعون الله تعالى ولكن فرق أهل السنة الاربع لما كانوا يحتجون مع فرقة الجبرية الجهمية في رد كثير من مذاهب المعتزلة المقدمة في مسألة المشيئة وفي هذه المسألة أخذ بعضهم من عبارات بعض وقل من يدرك التفاوت بين العبارات كما قدمت ذكره مطولا في مقدمات هذا المختصر وكانت هذه العبارة من عبارات الجبرية الجهمية وربما يوجد في كلام بعض السلف أن الخير والشر من الله يعنون به الصحة والسقم والغنى والفقر ونحو ذلك فجاء من بدل ذلك من الجهلة بالطاعات والمعاصي كما يدل ولو شاء الله ما أشركوا بأنه مريد للشرك وبدل مريدا براض محب وبدلت الاتحادية راض محب بآمر مثيب كما تقدم وكم وقع من الضلال العظيم من تبديل العبارات وظن تماثلها ولذلك بنيت هذا المختصر على منع ذلك بالمرة فلما كثر القول من الجهمية بأن المعاصي من الله تعالى ظن كثير من متكلمي السنة أنها في قوة أن المعاصي مقضية مقدرة سابقة في علم الله تعالى وقضائه وقدره الذي لا مرد له مع اختيار العباد في فعلها وقدرتهم عليها خصوصا من لم يكن منهم من أئمة علم العربية الذين ربما زادهم رسوخهم فيه عن مثل هذا الوهم الفاحش
مثل الغزالي فانه اعترف أنه لم يعرف من العربية إلا القدر الذي يميز به شنيع اللحن ولذلك أكثر من التصريح بأن جميع المعاصي والكفر والفواحش من الله تعالى ولولا أنه صرح مع ذلك القول بالكسب وأن الجبر باطل بالضرورة ما استربت في أنه جبري وأكثر المغترون به من أهل السنة وعوامهم من ذلك حتى حملني ذلك على جمع شيء كثير في التعريف ببطلان ذلك وقد أودعته العواصم وإنما اختصرت منه اليسير واذكره هنا لعل الله ينفع به من بقيت فيه بقية من التمييز ولبيان الخطأ في هذه العبارة ذكرت المذاهب والفروق بينها وعنيت في تمييز بعضها من بعض وطولت في تلخيص ذلك ليتضح الحق من الباطل لأنه أعظم ما طلبه الله تعالى من عباده وأكثر ما بعثت له الرسل الكرام كما أقسم الله عليه في سورة العصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وكما قال تعالى بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وكما قال الله تعالى الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ولو لم ينزل في شرف العلم سواها لكانت كافية
أقول وبالله التوفيق الدليل على بطلان ذلك العقل والسمع
أما العقل فلأن القبائح عنده إما أن تكون من الله تعالى وحده تعالى عن عن ذلك علوا كبيرا ولا أثر فيها من العباد فهذا محض الجبر وقد اعترف أن الجبر باطل بالضرورة ولولا ذلك لذكرنا هنا ما يخزي الجبرية ويفضحهم ويعرف بأنهم من سقط المتاع الذين لا يستحقون مناظرة العلماء العارفين والاذكياء البارعين وإنما حقهم أن يجري عليهم أحكام أئمة العدل على حسب آرائهم من تنكيل وتطريد أو قتل فحين اعترف بالحق وناقضه في عبارته لم يكن له بد من أن يجعل لقدرة العبد نصيبا وأثرا وهو قوله فاما أن يجعله الكسب القبيح دون الخلق الحسن الذي هو من الله تعالى كما هو مذهب أصحابه الاشعرية وصح الامر في غلطه في قبح عبارته أو يجعل
نصيب العبد من الفعل وحظه وأثر قدرته أمرا آخر غير المعاصي والقبائح وغير الخلق والايجاد فهذا شيء لا يعقل ولا يتصور فان ظن أن ذلك يصح على المذهب الأول من مذاهب أهل السنة وهو مذهب من لا يميز أثر قدرة العبد بالذات فقد غلط وأفحش في الجهل فقد ذكرنا قبل أنهم يميزون بينهما بالوجوه والاعتبارات وأنهم لا يميزون بينهما بالذات ومعنى ذلك أنهم يقولون أن العبد فعل مقدوره على جهة المخالفة لمولاه غير مستقل بنفسه فكان من هذا الوجه معصية والرب تعالى فعل ذلك المقدور بعينه مستقلا على وجه الامتحان والابتلاء لحكمته البالغة وحجته الدامغة فلذلك يشتق له تعالى من فعله ذلك من الاسماء ما لا يشتق لعبده من نحو الخالق المبدع الحكيم المبتلي في المعاصي المعين في غيرها ويشتق للعبد من ذلك المقدور بعينه ما يستحيل على الله تعالى من الظالم الفاسق العاصي الخبيث العاجز المفتقر ونحو ذلك فلو لم تفترق الافعال بالوجوه والاعتبارات لم تفترق الاسماء المشتقات مع فرض اتحاد الوجوه والذات جميعا فان كان أراد بذلك الترجمة عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله وأصول الأشياء فكان يلزمه الاقتصار على عبارتهما فانها أصح وأشرف وأبرك وأسلم وإن كان أراد الترجمة عن مذهب الأشعرية فقد عظمت جنايته عليهم فان الرجال صرحوا بأن الأفعال لا تضاف إلى الله تعالى إلا خلقا وإيجادا وابداعا وذواتا وأعيانا مجردة عن الوجوه التي تعلق بها قدر العباد ويوقعونها عليها فتكون لأجلها معاصي قبيحة مستلزمة للذم والنقص في المنهيات وللذلة والخضوع في العبادات وللافتقار والحاجة إلى الله تعالى في التمام وقضاء الحاجات ونحو ذلك مما لا يجوز على بارئ البريات فكيف نجعلها من الله تعالى حيث تكون واقعة على هذه الوجوه والاعتبارات ولولا تنزيههم لله تعالى ما تكلفوا القول بالكسب ولا فارقوا أهل الجبر وردوا عليهم وترفعوا عن خسيس مقامهم وشنيع ضلالهم
ولو كانت المعاصي من الله تعالى كان عاصيا وقد تمدح بالمغفرة ولا تصح المغفرة منه لنفسه ولا لمن ليست الذنوب منه قطعا ولذلك قال تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم فمدحهم بذلك وصح في سيد
الاستغفار أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي وأجمع أهل اللغة والغريب أن المعنى أقر واعترف بذنبي ومن المحال أن يكون المعنى أقر واعترف أنه ليس مني فان هذا مناقضة للاقرار والاعتراف
ومن زعم أن المفر المعترف بالذنب هو المتبرئ أن يكون منه ألبتة لم يكن أهلا للمناظرة ألا ترى أن المستغفرين إذا قالوا اللهم اغفر لنا ما كان منا كانت عبارة صحيحة بالاجماع بل بالضرورة ولو قالوا اللهم اغفر لنا ما كان منك كانت عبارة باطلة بالاجماع بل بالضرورة بل قد صرح القرآن بذلك في الطاعات التي تحسن اضافتها إلى الله تعالى كما يحسن منه تعالى أن يتفضل بالهداية اليها قال الله تعالى حكاية عن الخليل والذبيح عليها السلام ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ولم يقل ربنا تقبل منك وأمثال هذا كثير فكيف باضافة الفواحش والمخازي إلى السبوح القدوس بهذه العبارة جل وعز وتبارك وتعالى عن ذلك وتقدست أسماؤه الحسنى وله المثل الأعلى
وقد تتبعت القرآن والسنة النبوية والآثار الصحابية فلم أجد لما أدعوه في ذلك أصلا بل وجدت النصوص في جميع هذه الاصول رادة لهذه البدعة فمن القرآن قوله تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر فمن خاف من موص جنفا أو إثما فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله قل هو من عند أنفسكم وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأما قوله تعالى قبلها قل كل من عند الله فلأن المراد بالسيئة عقوبة الذنب وبالحسنة المثوبة على الحسنة ولذلك قال ما أصابك ولم يقل ما اصبت ولكنها تضاف إلى العبد اضافة المسبب إلى فاعل السبب كقول أيوب إني مسني الشيطان بنصب وعذاب لما كان عقوبة على ذنبه وقوله
تعالى ذوقوا ما كنتم تعملون وفي آية تكسبون فالسيئة التي هي كسب العبد لا تضاف إلا اليه والسيئة التي هي عقوبة تجوز اضافتها الله تعالى وإلى فاعلها وإنما رد عليهم بقوله قل كل من عند الله اضافتهم العقوبة على الشرك إلى رسول الله حين تشاء مؤابة فلم يضيفوها إلى خالقها سبحانه وتعالى ولا إلى فاعل سببها
ومن الآيات في الباب الذي نحن فيه حسدا من عند أنفسهم ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم إلا بحبل من الله وحبل من الناس ففرق بين ما هو من الله وما هو من الناس إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وهذا الحلال كيف الحرام ولا تزال تطلع على خائنة منهم وإما تخافن من قوم خيانة ولكن يناله التقوى منكم كبرت كلمة تخرج من أفواههم فإن أتممت عشرا فمن عندك وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فتصيبكم منهم معرة بغير علم لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وهاتان الآيتان الاخيرتان مصدرتان بأنما التي تفيد الحصر وقصر هذا على أنه من الشيطان دون غيره على جهة الذم لما كان منه والكراهة له والبراءة منه من ذمه وخبثه وشرعه والامر به
بل من كل وجه إلا ما اقتضته الحكمة من خلق المختارين له واقدارهم عليه وتقدير وقوعه منهم للحكمة البالغة والحجة الدامغة
وفي القرآن الكثير مما يقوم مقام هذا لكن بغير لفظ من كقوله تعالى فانه فسوق بكم ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقد ذكرت في العواصم من ذلك خمسة وعشرين نوعا وذكرت هناك من الأحاديث الصحيحة الشهيرة قدر خمسة عشر حديثا ونسبتها إلى رواتها من الصحابة ومن خرجها من الأئمة مثل حديث التثاؤب من الشيطان وحديث إن تقليب الحصى وقت الخطبة في الجمعة من الشيطان وحديث إن تفرقكم في الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان وحديث الاناة من الله والعجلة من الشيطان وحديث كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه وحديث الرؤيا الصالحة من الله تعالى والحلم من الشيطان رواه الجماعة عن أبي قتادة ولمسلم مثله بل أبين عن أبي هريرة وروى البخاري والنسائي مثل ذلك عن أبي سعيد الخدري وقال إنما هي من الشيطان بالحصر وخرج ابن ماجة وابن عبد البر في التمهيد مثل حديث أبي هريرة عن عوف بن مالك وكلها مرفوعة إلى النبي وإنما تواترت النصوص في الرؤيا أكثر من غيرها لأن الأمر يشتبه فيها هل هي من الله تعالى أو من الشيطان ولا يتميز إلا بالنص وأما الفواحش والقبائح الصادرة من المنهيين عنها المذمومين عليها فلم يشتبه الامر في ذلك حتى يرتفع الاشتباه فيه بالنصوص ولو وقع في ذلك غلط في ذلك العصر لتواترت النصوص في الرد على صاحبه
وإنما أوضحت رواة أحاديث الرؤيا وحدها كيلا يتوهم أنه حديث واحد ومن ذلك حديث المستحاضة وقوله فيه إنما ذلك ركضة من الشيطان قال ابن الأثير في نهايته والمعنى أن الشيطان قد وجد سبيلا إلى التلبيس عليها في أمر دينها ذكره في خرف الراء مع الكاف وعندي فيما قاله نظر لأنه لو أراد ذلك لقال إنما ذلك من الشيطان ولم يذكر أنه ركضة من ولا مانع من تمكينه من ركضته بعض العروق حتى تنقطع ليلبس بذلك عليها أمر دينها
فانه يجري من ابن آدم مجرى الدم مثل ما جاء أنه ينفخ في الدبر فلا ينصرف أحدكم حتى من صلاته حتى يجد ريحا أو يسمع صوتا فكما لا يتأول نفخه فكذلك لا يتأول ركضه
ومن ذلك لا تأكل الشريقة فانها ذبيحة الشيطان فيه حديثان حديث عن ابن عباس وحديث عن أبي هريرة كلاهما في مسند أحمد وفي حديث لابن عباس ماتت زينب بنت رسول الله فبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه فأخذ رسول الله بيده وقال مهلا يا عمر إنه ما كان من العين والقلب فمن الله تعالى وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان رواه أحمد وابن تيمية في المنتقى
فهذه نحو خمسة عشر حديثا عن أبي هريرة منها ستة وعن ابن عباس حديثان وبقيتها عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعائشة وأبي ثعلبة وسهل ابن سعد وأبي قتادة وأبي سعيد الخدري وعوف بن مالك وحمنة بنت جحش من غير الآثار الموقوفة على أكابر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم كما نوضح الآن طرفا منه
فمن ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال ابن سيرين لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر وإنها نزلت به فريضة لم يجد لها في كتاب الله أصلا ولا في السنة أثرا فقال أقول فيها برأيي فان يكن صوابا فمن الله تعالى وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله رواه الحافظ العلامة ابن حجر الشافعي في القضاء من كتابه التلخيص الكبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير وذكر سنده عن عبد الله بن مهدي عن حماد بن زيد عن محمد بن سيرين به كما تقدم قال وأخرجه قاسم بن محمد في كتابه الحجة والرد على المقلدين
قلت ورواه البغوي في تفسيره في آية الكلالة وجعل كلام أبي بكر رضي الله عنه الذي قاله هو القول عنده في الكلالة وجاء بذلك البغوي من طريق الشعبي عن أبي بكر فازداد قوة لاختلاف طرقه وكذلك رواه الدامغاني في رسالته المشهورة في المذاهب
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصرح من ذلك وأبين وأوضح وذلك ما رواه ابن حجر في كتابه المذكور وأسنده إلى الحافظ البيهقي أنه رواه من طريق الثوري عن السفياني عن أبي الضحى عن مسروق قال كتب كاتب لعمر هذا ما أراه الله تعالى أمير المؤمنين فانتهره عمر وقال بل أكتب هذا ما رآه عمر فان كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فمن عمر قال الحافظ ابن حجر اسناده صحيح وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في ترجمة عمار بن ياسر من كتاب النبلاء ما لفظه الاعمش عن حبيب بن أبي ثابت قال سألهم عمر عن عمار فأثنوا عليه وقالوا والله ما أنت أمرته علينا ولكن الله أمره فقال عمر اتقوا الله وقولوا كما يقال فوالله لأنا أمرته عليكم فان كان صوابا فمن قبل الله وإن كان خطأ أنه لمن قبلى اه . بحروفه والاعمش وحبيب من رجال البخاري ومسلم وسائر الجماعة
قلت رضي الله عن عمر ما كان أصدعه بالحق وأخشنه فيه وأغيظه للشيطان وأعرفه بما ينافيه وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه نحو ذلك ذكره ابن حجر في كتابه وأحال ألفاظه الشريفة إلى كلامه عليه السلام في حكم أم الولد ولم أجد ألفاظه في ذلك ولو وجدتها لسطرتها وصدرتها فمن وجدها فيلحقها وهذا المعنى عنه عليه السلام مشهور كثيرا وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قصة بروع بنت واشق أقول فيها بجهد رأي فان كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء رواه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في مسند الجراح بن أبي الجراح من المسند وأبو داود والترمذي والنسائي وهذا لفظه ولفظ أبي داود بريئان ورواه ابن ماجه وابن الأثير في جامعه في كتاب الصداق والحافظ أبو الحجاج المزي الشافعي في أطرافه في مسند معقل بن سنان وإمام الشافعية ابن النحوي في كتابه الشهير المسمى بالبدر المنير وقال صحيح ورواه أحمد والأربعة وابن حبان والحاكم في صحيحيهما وقال الحاكم على شرط مسلم وقال ابن حزم لا مغمز فيه لصحة
قلت وهذا الكلام كله في المرفوع أما كلام ابن مسعود المقدم في أن الخطأ من الشيطان فهو صحيح بالاتفاق على شرط الجماعة كلهم رواه الكبراء والنبلاء من أئمة التابعين ومن بعدهم منهم الشعبي وابراهيم التيمي ومنصور ابن المعتمر وزائدة وهشام ويحيى القطان ويزيد بن هارون وابن مهدي وخلاس بن عمرو وأبو حسان وداود بن أبي هند وعلي بن مسهر وعلي بن حجر وعثمان بن أبي شيبة وغندر وسفيان الثوري وشعبة وبندار وعبد الرزاق وكلهم رجال البخاري ومسلم معا إلا اثنين فانفرد مسلم بهما وكل هؤلاء رووه ولم ينكروه ولم يشككوا على معناه ولم يتأولوه ولم يحذروا من ظاهره
وفي ظهور هذه الأخبار والآثار بين السلف من غير مناكرة أوضح دلالة على إجماعهم رضي الله عنهم على ذلك هذا ولم يوجد مخالف لهم توجب مخالفته الاكثار من صدور النصوص منهم في الرد عليه
وذكر الامام العلامة إمام أهل السنة أبو عمرو بن الصلاح عن أبي القاسم الصيمري أنه قال وكان بعض السلف إذا أفتى يقول إن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني قال وهذا معنى كره في هذا الزمان لأن فيه إضعاف نفس السائل وإدخال قلبه الشك في الجواب اه بحروفه وقرره ابن الصلاح فلم يقل أحد منهم أن ذلك ترك لأن الحقيقة أن الخطأ من الله تعالى الله عن ذلك وأجمعوا على نقل ذلك عن بعض السلف من غير مناكرة بين السلف والخلف في حسن ذلك وصحته ولو كان مخالفا في ذلك ما تركوا ذكره وقد تعرضوا لجميع أقوال علماء الاسلام في ذلك واليهم المنتهى في معرفة الخلاف والوفاق والسنة والبدعة ولذلك لم يتعقبهم أحد وينسبهم إلى التقصير والحمد لله ذكره ابن الصلاح في كتابه في المفتى والمستفتى في المسألة السادسة من القول في كيفية الفتوى وآدابها وأبو القاسم الصيمري شيخ أبي الحسن الماوردي صاحب الحاوي ذكره ابن الصلاح وتلميذ أبي
حامد المروزي وسماه ابن الصلاح الامام أبا القاسم الصيمري في المسألة الثالثة عشرة من هذا الباب وقال في مقدمة الكتاب أنه أحد أئمة الشافعية
وأما قولهم أن ذلك كره في هذا الزمان فانه متعقب من وجهين أحدهما أنه لا يسلم صحة الكراهة من بعض الخلف لما فعله بعض السلف وسكت عنه بقية السلف لا سيما إذا كان الفاعل من قدمنا من خلفائهم وكبرائهم والاجماعات المروية عنهم ما تزيد على هذا شيئا كما تقدم تقريره وقولنا فيما هذا حاله أنه مكروه بدعة مكروهة لما فيه من نسبتهم إلى المكروه كما لو قال أنه بدعة وهم أعرف بالمكروهات والمحذورات وثانيهما أنهم لم يقولوا ذلك في مواقع النصوص بل في مواقع الرأي التي ينبغي فيها إشعار المستفتي بها ليأخذ لنفسه بالوثيقة من الاحتياط فان ترخص تضرع إلى الله تعالى في المسامحة والقبول واستغفر وينبغي اشعار المستفتى بما هذا حاله كيلا يكون على ظن ضعيف مختلف فيه وهو معتقد أنه على أثر معلوم من الدين فانه طالب للهداية لا للعماية والله تعالى يحب الانصاف وكان أقل الأحوال في أدب الخلف مع السلف أن يقال في فعلهم ثم ترك ولا يقال كره مع أن الاولى بالخلف التسليم للسلف والمتابعة ولا معنى لمذهب أهل السنة إلا ذلك
فان قال قائل إن هذا كله محمول على مجرد الادب في حسن الخطاب كقول الخليل عليه السلام وإذا مرضت فهو يشفين وكما لا يقال لله تعالى يا رب الكلاب والخنازير
فالجواب أن هذا ليس مثل ذلك لوجوه
الوجه الأول إن خلق الله تعالى للكلاب والخنازير معلوم ضرورة من الدين ومن إجماع المسلمين وأنه لا نقص فيه على الله تعالى فلم يكن في حسن العبارة مع حسن الاعتقاد قبح ولا مخاطرة ولا بدعة في الدين لأن البدعة هناك مأمونة ويمكن أن يكون قبح ذلك من أجل مفهوم اللقب فانه يقتضي نفي الربوبية لما سواها حيث يخصص بالذكر من غير وجه ظاهر
للتخصيص ولذلك قال به الدقاق والصيرفي وبعض الحنابلة وغيرهم وربما كان قبح هذه الصورة وأمثالها من أدلتهم على ذلك بخلاف ما نحن فيه وأيضا فأسماء الله وصفاته توقيفية شرعية وهو أعز من أن يطلق عليه عبيده الجهلة ما رأوا من ذلك فلا يجوز تسميته رب الكلاب والخنازير ونحو ذلك من غير إذن شرعي وإنما يسمى بما سمى به نفسه ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه وأما الآلام فيمكن أن تكون عقوبات على ذنوب فتحسن نسبتها إلى المذنب كقول أيوب عليه السلام إني مسنى الشيطان بنضب وعذاب وقال تعالى وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون وفي آية أخرى ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون فسمى عقوباتهم كسبا لهم وعملا وقال ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون إلى غير ذلك مما تقدم في آخر الكلام في الاسماء الحسنى وهذا يدل عليه كثير من الكتاب والسنة كقوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وفي قراءة فبما كسبت أيديكم وجاء ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في تفسير قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به جاء من وجوه شتى قاله أبو عمر بن عبد البر في التمهيد وقد طولت في هذا وجودته في العواصم وهو صحيح فقف عليه هنالك وعلى ما فيه من الآيات القرآنية الكثيرة فلكلام الخليل حينئذ وجه لطيف غير مجرد حسن الخطاب وأما إضافة المعاصي إلى الله تعالى وتسميته خالقها فهو عكس ذلك كله من كل وجه ولا هو معلوم من ضرورة الدين ولا من إجماع المسلمين ولا من الأدلة القاطعة ولا من الأدلة الظاهرة ولا البدعة فيه مأمونة بل ولا هو من المسكوت عنه حتى تكون البدعة فيه لغوية والدلالة ظنية بل مصادم النصوص كتابا وسنة وإجماعا من خير الامة وكونه نقصا مضادا للمادح الربانية ظاهر منه غير خاف فيه فوجب فيه لزوم عبارات
الكتاب والسنة والسلف وعدم التمحل لتأويلاتها البعيدة المتعسفة المشكرهة
الوجه الثاني أن الدلالة على بطلان الجبر قاضية بصحة ما ذكرنا من إضافة القبائح والفضائح إلى فاعلها الراغب فيها المختار لعارها وما فيها من الذم والخزي وقبح اضافتها إلى السبوح القدوس المحرم لها الناهي عنها الكاره لها البريء من لومها وذمها ونقصها أصح البراءة ظاهرا وباطنا وحقا وصدقا لا كأكاذيب المداهنين للظلمة المطرين لهم بالممادح الكاذبة فان ذلك إلى الذم أقرب منه إلى المدح لما فيه من التذكير بصحيح القدح ولذلك قيل شعرا
إذا أثنى عليك المراء يوما ... بما هو ليس فيك فذاك هاجي
فكيف برد تمدح الرب تعالى بالبراءة من ذلك ونسبته إلى أعدائه وتسميته بالسبوح القدوس إلى نحو ذلك
الوجه الثالث إنا قد قررنا غير مرة أن العادة تحيل وقوع مثل هذا وظاهره الخطأ والقبح ولا يظهر تأويله ولا تعارض فيه الاقوال وذلك إن كل ما كثر وتكرر من كلام السلف ولم تعارض فيه الاقوال ولم ينبهوا على تأويله ولم يحذروا من ظاهره ومفهومه وجب أن يكون على ظاهره كأحاديث الاقدار وآيات الارادة ونفوذ المشيئة ومن ذلك كون المعاصي والقبائح والفواحش والفضائح من عبيد السوء المذمومين بها في الدنيا والموعودين بالجزاء في الآخرة عليها
الوجه الرابع إن في ما ذكرناه عن السلف الصالح التصريح بنفي القبائح عن الله تعالى في قول ابن مسعود رضي الله عنه وإن كان خطأ فمن الشيطان والله ورسوله منه بريئان وذلك دليل الحقيقة ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال على جهة الادب أن الكلاب والخنازير ليست من خلق الله تعالى ولا هو ربها وخالقها ومن قال ذلك كفر باجماع المسلمين وهو نظير قول ابن مسعود والله ورسوله منه بريئان أترى ابن مسعود يكون كافرا ويصرح بالكفر بين خير أمة أخرجت للناس وهم سكوت ثم يدونه أئمة المسلمين مقررين له غير منكرين له وابن مسعود هو الذي رضي رسول الله لأمته ما رضي لهم والذي قال فيه عليه السلام إن الله أجاره من
الشيطان على أنا لم نقل أن المعاصي من العباد على جهة المغالبة لارادته وإنما قلنا أنها منهم أفعال وذنوب وسوء اختيار كما اجتمعت عليه كلمة أهل السنة والمعتزلة كما علمنا نبينا أن نقول في حديث أبي ذر الذي خرجه مسلم وغيره في الصحاح فيه فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه ولكنا لا نقول كما تقول المبتدعة أنه لا يقدر على هداية أهل الضلال بل نقول كما قال الله تعالى قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين كما تقدم مبسوطا في مسألة المشيئة
الوجه الخامس ان ذلك ان كان أدبا حسنا وثناء مناسبا لاسماء الله الحسى كان نقيضه حراما فقد تقرر عند الأشعرية أنه لا يضاف إلى الله تعالى إلا المدح والثناء دون ما فيه نقص أو ما ليس فيه نقص ولا ثناء وليس في ذلك ثناء ولذلك اعترفوا بأن الأدب تركه وتجنبه وكل ما كان كذلك حرم ولا معنى للادب باللسان دون الجنان وقد تقدم أن ذلك خلاف مذهب الأشعرية وجناية عليهم ولا يجوز خلاف ذلك إلا بدليل صحيح بخلق الكلاب والخنازير على وجه لا يوهم الخطأ
الوجه السادس أن تأويل ذلك على الادب مع الله تعالى لا يحتمل إلا فيما صدر من الرسول ومن أصحابه رضي الله عنهم على أنا قد ذكرنا ما يمنع من ذلك في حقهم أيضا لكن على تسليمه فانا قد ذكرنا من كلام الله تعالى في كتابه الكريم اثنتين وعشرين آية ولا يجوز حملها على ذلك لأن الادب من خواص العباد ولذلك ولا يجوز أن يسمى الله تعالى أديبا كما لا يسمى الادب من خواص العباد ولذلك لا يجوز أن يسمى الله تعالى أديبا كما لا يسمى عاقلا ولا فاضلا بالاجماع فانه أرفع وأعلى من ذلك جل وعلا
الوجه السابع أنه انعقد اجماع المسلمين على وجوب الرضى بما كان من الله تعالى وعلى تحريم الرضى بالمعاصي ووجوب كراهتها وهذا على الحقيقة لا يمكن حمله على الادب وهذا الوجه كان شاف في هذه المسألة وقد اعترف الغزالي به وهو أعظم حجة عليه وقال إنما يجب الرضى بالقضاء بالمعاصي لا بالمعاصي وطول فيه في باب الرضى بالقضاء
فصل في تفسير خلق الافعال والاختلاف في ذلك وبيان الأحوط فيه لطالب السنة
اعلم أنا قد بينا فيما تقدم أن السنة هي ما صح واشتهر واستفاض في عهد رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم وتابعيهم وبلغنا متواترا أو مشهورا من غير معارضة ولا شبهة مثل الايمان بالاقدار لتواتره في الأخبار والآثار فليس خلق أفعال العباد من هذا ولا هو قريب منه فلا وجه لكونه من السنة لأن رسول الله حين علم أركان الاسلام والايمان والاحسان لم يذكره ثم لم يصح فيه حديث واحد ولا أثر وأما أخذه من خالق كل شيء فهو خلاف الاحتياط في مواضع الخطر حيث لا ضرورة وهو مثل أخذ المعتزلي من ذلك أن القرآن مخلوق وأمثال هذا مما لا يحصى ويوضح ذلك وجوه
الوجه الأول إن الخلق لفظة مشتركة وأشهر معانيها التقدير ولا نزاع في ذلك والافعال مخلوقة بهذا المعنى بلا نزاع كما هو قول الامام الجويني والشيخ أبي إسحاق واصحابهما من أهل السنة بل هو قول المعتزلة والشيعة ولم يذكر الجوهري في صحاحه للخلق معنى فيما نحن فيه إلا التقدير وكذلك ابن الأثير في نهاية الغريب فانه قال أصل الخلق التقدير ثم فسر خلق الله الاشياء بعد أن لم تكن وانه تعالى يسمى الخالق باعتبار تقدير وجود الأشياء منه أو باعتبار الايجاد على وفق التقدير هذا مع توسعه في النقل وعدم تهمته بعصبية ولا جهل فانه نقل كتابه من ستة عشر مصنفا لأئمة اللغة وهم أبو عبيدة والمازني والاصمعي والقاسم بن سلام وابن قتيبة وثعلب
وشمر به حمدويه والأنباري وأحمد بن الحسن الكندي وأبو عمرو الزاهد والخطابي والهروي والأزهري والزمخشري والأصفهاني وابن الجوزي قال وغير هؤلاء من أئمة اللغة والنحو والفقه ولكن لا معنى لتسمية الافعال مخلوقة بهذا المعنى أعني إيجاب اعتقاد ذلك على كل مسلم وإيهام اختصاص أهل السنة به لوجهين أحدهما أنه لا ثمرة له لا خلافية ولا وفاقية وإنما هو مثل تسميتها معلومة ومكتوبة وثانيهما أن عبارات الكتاب والسنة هنا وردت بألفاظ بينة المعاني غير مشتركة بين ما يصح وما لا يصح وقد أجمعت الامة على أنه لا تجوز الرواية بالمعنى والتبديل لألفاظ المعصوم إلا عند الاستواء والمعلوم باليقين حتى لا يجوز تبديل الخفي بالجلي ولا العكس ولا الظاهر الظني بالنص القاطع ولا ما لا اشتراك فيه بالمشترك ولا العكس
الوجه الثاني ما تقدم الآن من اعتبار ما تجب كراهيته ويحرم الرضى به في دقائق هذه المسألة ومضائقها فانه ميزان حق ومعيار صدق وأنت إذا اعتبرته هنا وضح لك الصواب وانكشف لك الارتياب فانه يجب الرضى بخلق الله تعالى الذي هو فعله بالاجماع فلو كانت المعاصي من حيث هي معاص خلقا له وفعلا وجب الرضى بها وفاقا لكن الرضى بها حرام بالنصوص الجمة والاجماع المعلوم من الجميع وهذا وجه واضح لا غبار عليه ولا ريب فيه والحمد لله رب العالمين
الوجه الثالث إن أهل السنة كلهم قد وافقوا على أن أفعالنا لا تسمى مخلوقة من حيث نسبت الينا وإنما تسمى بذلك من حيث نسبت إلى الله تعالى ففارقوا الجبرية في المعاني مفارقة بعيدة وقاربوهم في العبارات مقاربة كثيرة حتى غلط عليهم خصومهم بسبب ذلك ونسبوهم إلى الجبر فينبغي منهم وممن ينصر مذهبهم تجنب العبارات التي توهم مذهب الجبرية ليتم بذلك نزاهتهم منه حتى لا يحتج عليهم بتلك العبارات جبري ولا معتزلي ولا يغلط بسببها عامي ولا سني فقد وقع بسببها خبط كثير وغلط فاحش وقد قال الله تعالى لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا لما وقع في أحد اللفظين من المفسدة دون اللفظ الآخر فلنتكلم مع كل فرقة من فرقهم
فأما إمام الحرمين والشيخ أبو إسحاق ومن تابعهم فقد وافقونا بحمد الله تعالى
وأما الجبرية الجهمية فليس هم من فرق أهل السنة على الحقيقة ولكن نتكلم معهم لنستقصي القول في هذه المسألة فنقول لهم قولكم أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وحده لا يشركه العبد فيه خلاف الضرورة العقلية والسمعية ويلزمكم على هذا أن لا تصح تسميته فاعلا ألبتة وذلك يستلزم أن لا يكون مطيعا ولا عاصيا لأن كونه مطيعا وعاصيا فرع على كونه فاعلا والالزم أن يكون اليهود الممسوخون قردة مطيعين بكونهم كانوا قردة هذا على جهة النافلة وإلا فالمختار عدم مناظرة من بلغ في الجهل والعناد إلى هذا الحد
وأما الاشعرية الذين قالوا أن فعل العبد الذي هو كسب متميز من فعل الله الذي هو خلق فان الحجة عليهم واضحة وذلك أن الأصل المعلوم أن لا يضاف إلى كل فاعل إلا ما هو أثر قدرته ولما كان أثر قدرة الله تعالى عندهم هو الذوات والأعيان وأثر قدرة العبد هو الاحوال والوجوه والاعتبارات لم يصح ولم يحسن أن يضاف فعل العبد إلى الله ولا فعل الله إلى العبد لأنه من قبيل الكذب الصريح المتفق على تحريمه ولو جاز أن يضاف فعل العبد القبيح إلى ربه الحميد المجيد لجاز أن يضاف فعل الله تعالى إلى عبده فيسمى العبد خالقا فأما تسمية أفعال العباد مخلوقة حقيقة فقد تعذروا واستحال على مذهبهم وأما تسميتها مخلوقة مجازا فهو الذي يمكن أن يقع فيه الغلط أو الغلاط والحق أنه ممنوع ودليل منعه وجوه
أولها أن للمجاز شرائط معلومة عند علماء المعاني والبيان من أوجبها الاشتراك في أمر جلي غير خفي يوجب المقاربة أو المشابهة بين الأمرين كاشتراك الشجاع والاسد في قوة القلب والكريم والبحر في كثرة النفع ونحو ذلك ولا مناسبة بين أفعال الرب السبوح القدوس الحكيم العليم وبين أفعال الشياطين والسفلة والسفهاء وأخبث الخلق
وثانيها أن جناب الملك العزيز أرفع مرتبة وأبعد قدرا من أن يجوز لنا أن نتصرف فيه مثل هذا التصرف من غير إذن شريف
وثالثها انا متفقون على أن مثل هذا ممنوع وأن هذا المقام غير مباح ولا مسكوت عنه وذلك من جهتين الجهة الأولى أن البدعة ممنوعة والجهة الثانية أن الله تعالى لا يوصف إلا بما قد تحقق فيه أنه مدح وثناء دون ما فيه نقص أو ما ليس فيه نقص ولا ثناء
ورابعها أن هذا من قبيل اثبات اللغة بالنظر العقلي واللغة لا تثبت إلا بالنقل الصحيح عن أئمتها عند الجمهور في الحقائق الوضعية وعند طائفة في الحقائق والمجاز معا ولم ينقلوا في ذلك شيئا وهذه كتب اللغة موجودة وقد ذكرت فيما تقدم قريبا أن الجوهري لم يذكر في صحاحه للخلق معنى إلا التقدير أعني في هذا المعنى الذي نحن فيه وإن كان قد ذكر معاني أخر كالخلق بمعنى الكذب فافهم هذه النكتة
وخامسها أن أهل اللغة ولو أجازوا شيئا في أسمائنا وأحوالنا فان أسماء الله تعالى توقيفية ولذلك لا يسمى عاقلا ولا فاضلا ولا يجوز نحو ذلك لا حقيقة ولا مجازا بالاتفاق مع أنهما من أجل الاسماء وأحمدها وأشرفها فكيف يسمى خالق القبائح والفواحش والفضائح من غير إذن سمعي ممن لا يجيز عليه أن يوصف بوصف لا ذم فيه ولا مدح وما الملجئ إلى هذا والداعي اليه والله تعالى هو الملك العزيز الذي ليس لعبيده أن يتصرفوا في أنفسهم إلا باذنه فكيف في صفاته وأسمائه
وسادسها أن هذا ممنوع بالبرهان فلا يجوز التجوز فيه كما لا يجوز أن يسمى سبحانه وتعالى ظالما مجازا وذلك البرهان هو إخبار كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عن حسن جميع مخلوقات الله وذلك قوله تعالى ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين وقال تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين فكيف يضاف إلى الحميد المجيد السبوح القدوس الذي تمدح بأنه أحسن الخالقين وأنه أحسن كل شيء خلقه بغير إذن منه أنه خالق جميع من في العالم من كل كذب
وظلم وخبث وكفر وفحش وقد نص تعالى في كتابه الكريم على أن أسماءه كلها حسنى والحسنى تأنيث الاحسن والحسن الراجع إلى الحكمة أنسب أولى بكل مخلوقات الله الحسنة من الحسن الراجع إلى الصورة فما كان من الصورة الحسنة جمع الحسنين كما قال تعالى وصوركم فأحسن صوركم وما لم يظهر فيه حسن الصورة من الحجارة والتراب والجبال لم يخل من حسن الحكمة والله سبحانه وتعالى أعلم
ألا ترى أن جميع عبارات الكتاب والسنة وأهل اللغة في الجاهلية والاسلام والمسلمين من أهل السنة والبدعة من العامة والخاصة والصحابة والتابعين بل والجبرية الجهمية المبتدعة كلهم عبروا عن أفعال العباد بأسمائها الخاصة بها ويكسب العباد لها وفعلهم واختيارهم دون خلق الله تعالى لها فيهم فيقولون إذا زنى الزاني مختارا غير مكره وجب عليه الحد وكذلك إذا قتل وجب عليه القصاص وإذا كفر وجب جهاده ونحو ذلك ولا يقول أحد منهم حتى الجبرية الضلال إذا خلق الله الزنا في الزاني جلد وإذا خلق القتل في القاتل قتل وإذا خلق الكفر في الكافر حورب وهذه كتبهم شاهدة بذلك ولو أن أحدا قال ذلك وحافظ عليه فلم ينطق بمعصية منسوبة إلى فاعلها وبدل نسبة المعاصي إلى أهلها بنسبتها إلى خلق الله تعالى في أهلها في جميع كلامه أو كثير منه لكان ذلك من أوضح البدع وأشنع الشنع وشر الأمور المحدثات البدائع
وأما سائر من قال أن أفعال العباد مقدور بين قادرين من غير تمييز بالذات فالكلام معهم مثل الكلام مع الاشعرية لأنهم وإن لم يفرقوا بين فعل الرب تعالى وفعل العبد بالذات فانهم يفرقون بينهما بالوجوه والاعتبارات وذلك أمر ضروري فانهم لابد أن يقولوا أن العبد فعل الطاعة على وجه الذلة والخضوع والامتثال والتقرب والرغبة والرهبة وإن الله تعالى منزه عن جميع هذه الوجوه وإن الله تعالى فعل ذلك الفعل إما لغير علة كما هو قول بعضهم وإما على جهة الحكمة والرحمة والنعمة أو على جهة الحكمة والابتلاء والامتحان فثبت بهذا أن فعل العبد مركب من أمرين اثنين أحدهما من
الذات التي هي مقدور بين قادرين وثانيهما من تلك الوجوه والاعتبارات التي يكفر من أجازها على الله سبحانه أو سماه بها بالاجماع والله تعالى ما شارك العبد إلا في أجمل هذين الامرين وأحمدهما فكيف ينسب اليه أخبثهما وشرهما وأقبحهما بغير إذن منه وهم إنما فروا الجميع من قول الجبرية لما يلزم فيه من نحو هذه الأشياء فيجب عليهم أن يتموا النزاهة عن خبائث مذهب الجبرية وما يقاربه ويضارعه مما لم ترد النصوص الشرعية بوجوبه على المسلمين ودخوله في أركان الدين
واعلم أنه قد تقرر بالاتفاق أن اسم الخلق لا يطلق على شيء كالتخليق قال تعالى في المضغة مخلقة وغير مخلقة أي مصورة وغير مصورة ولذلك قال أهل السنة أن القرآن لا يدخل في قوله تعالى خالق كل شيء لقوله تعالى ألا له الخلق والأمر وهما شيئان فدل على أن قوله تعالى خالق كل شيء مخصوص بكل شيء يسمى مخلوقا وأن هذه الآية في عالم الخلق دون عالم الأمر فثبت أنه لا حجة لمن سمى الله خالقا لمعاصي العباد في قوله تعالى خالق كل شيء حتى يدل على أنها تسمى مخلوقة في اللغة وكيف وقد اتفقنا على انها تسمى كسبا وعملا وفعلا لا خلقا
ألا ترى أن من جعل العبد من أهل السنة مؤثرا في الذات باعانة الله تعالى لا يسميه خالقا باعانة الله تعالى ما ذلك إلا لأن هذه الذات هي الأكوان وكونها ذوات غير صحيح في لغة العرب وفي النظر الصحيح عند محققي أهل المعقول وتسمية الأشعرية لها خلقا لله تعالى لم تصح لغة يوضحه أن إمام الحرمين الجويني والشيخ أبا إسحاق ومن تابعهما من أهل السنة لم يسموا العبد خالقا مع أنهم يقولون أن قدرته هي التي أثرت في ذات فعله وحدها بتمكين الله تعالى ومشيئته تعالى من غير زيادة مشاركة بينه وبين قدرة الله تعالى في تلك الذات التي هي فعله وكسبه
فثبت أن المعنى أن الله خالق كل شيء مخلوق أي يسمى مخلوقا
في لغة العرب التي نزل عليها القرآن ولم يكن أحد منهم يقول خلقت قياما ولا كلاما ولا صلاة ولا صياما ونحو ذلك ولذلك ورد الوعيد للمصورين المشبهين بخلق الله تعالى فلو كانت أفعالنا خلق الله تعالى لم يحرم علينا التشبيه بخلق الله تعالى وكذلك لعن الواشمات المغيرات خلق الله تعالى ولا شك في جواز تغييرنا لكثير من أفعالنا ووجوب ذلك في كثير منها وكذلك قال الله تعالى بعد ذكر مخلوقاته من الاجسام وتصويرها وسائر ما لا يقدر العباد عليه من الاعراض هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه وإنما يعرف الخلق في اللغة لايجاد الاجسام ويدل على ما ذكرته ما حكاه الله تعالى وذم الشيطان به من قوله ولآمرنهم فليغيرن خلق الله فدل على أن التغيير الذي هو فعلهم ليس هو خلق الله تعالى بل هو مغاير له ولذلك نظائر كثيرة ذكرتها في العواصم
وقد احتج البخاري في جامعه الصحيح بمثل هذا على أن الكلام لا يسمى مخلوقا فقال في باب قول الله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فرغ عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ولم يقل ما ذا خلق ربكم ذكره في آخر كتابه الجامع الصحيح في الباب الثاني بعد الثلاثين من أبواب الرد على الجهمية وقالت البغدادية الخلق اسم يختص الايجاد بغير مباشرة
فان قال جاهل حجة الاشعرية على أن أعمالنا مخلوقة أنها ذوات لا صفات ولا أحوال ولا يقدر على شيء من الذوات إلا الله تعالى
فالجواب من وجوه الأول أوضحها وهو أنهم لا يقولون بذلك بل يقولون أن أفعالنا هي الاحوال والوجوه والاعتبارات المتعلقة بتلك الذوات وذلك هو معنى الكسب كما تقدم
وثانيها أنهم منازعون في أن الأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ذوات بل هي صفات أو أحوال كما ذهبت اليه
الجماهير وأهل التحقيق كابن تيمية وأصحابه منهم وأبو الحسين وأصحابه من المعتزلة ومن لا يحصى كثرة من سائر طوائف الشيعة والمتكلمين وثالثها أنه لا يسلم لهم أنه لا يقدر على شيء من الذوات إلا الله تعالى بل قد خالفهم في ذلك امامهم الكبير أبو المعالي الجويني والشيخ أبو إسحاق وأصحابهما فقالوا أنه يقدر على ذلك من أقدره الله تعالى عليه ومكنه منه وأراده له كما تقدم
إذا تقرر هذا فلنكمل الفائدة بما بقي لهم من الأدلة التي يمكن أن يغتر بها أحد فمن ذلك قول الخليل عليه السلام في مجادلة عباد الاصنام وذلك قوله تعالى حكاية عنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون وقد احتج بها أبو عبيد لهم وأنكر عليه ابن قتيبة كما ذكره في مشكل القرآن وكلاهما من أهل السنة وقال ابن كثير الشافعي في أول البداية والنهاية في قصة إبراهيم عليه السلام وسواء كانت ما مصدرية أو بمعنى الذي فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون والاصنام مخلوقة فكيف عبادة مخلوق لمخلوق فأشار إلى مثال الخلاف ولم يتعرض لترجيح
واعلم أن من يتأمل هذا توهم أن الآية من النصوص على خلق الافعال ولذلك يستروح كثير من القائلين بذلك اليها ويستأنسون بها ولو أنصفوا ما استحلوا ذلك فان القول في تفسير كتاب الله تعالى بغير علم حرام بالنص وفيه حديثان معروفان عن ابن عباس وجندب بن عبد الله ولا خلاف في أن في الآية اجمالا واشتراكا بالنظر إلى لفظة ما تعملون فانها محتملة أن تكون بمعنى الذي تعملون كقوله تعالى في سورة يس ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم فجعل ما عملته أيديهم مأكولا وكل مأكول مخلوق لله وحده لا عمل للعبد فيه ألبته وقد سماه معمولا لأيديهم لمباشرتهم له وأن تكون مصدرية بمعنى وعملكم ولما كان ذلك كذلك ولم يحل أن يتقول على الله تعالى إلا بوجه صحيح وإلا وجب الوقف ورد ذلك إلى الله تعالى لقوله ولا تقف ما ليس لك به علم لكن هنا وجوه ترجح أنها بمعنى الذي تعملون وهو الاصنام التي خلقها الله تعالى حجارة وعملونا أصناما
فهي معمولة مصنوعة حقيقة وقد يسمى المعمول عملا مجازا وحقيقة عرفية ولا حاجة بنا إلى ذلك فكونها معمولة كاف في ذلك
وأصل ذلك أن فعل العبد ينقسم إلى ما يكون لازما في محل القدرة مثل حركة يد الصانع وإلى ما يتعدى إلى مخلوقات الله تعالى مثل تصوير الصانع الذي يبقى أثره في الحجارة وغيرها وهو الذي منع ثمامة المعتزلي والمطرفية أن تكون فعلا للعبد فالآية تحتمل بالنظر إلى لفظها ثلاثة أشياء أحدها أنه تعالى خلق جميع أفعال العباد على العموم كما قال المخالف الثاني أنه خلق الاصنام التي هي معمولات العباد ومصنوعاتهم لما فيها من أثر تصويرهم وتشكيلهم
الثالث أنه خلق الاصنام التي فيها عملهم وتصويرهم وعلى هذا الثالث يكون التقدير وما تعملون فيه والثاني من هذه الاحتمالات هو الراجح لوجوه
الوجه الأول أن الله تعالى ساق الآية في حجاج الخليل عليه السلام للمشركين وأورد حجته عليهم في بطلان ذلك وتقبيحه وليس في كون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى حجة على ذلك من هذه الجهة قط وفي كون الاصنام مخلوقة لله تعالى ذواتا وأعيانا معمولة للعباد نحتا وتصويرا أوضح برهان على بطلان ربوبيتها
الوجه الثاني أن الله تعالى نص على هذا المعنى في غير هذه الآية والقرآن يفسر بعضه بعضا وذلك في قوله تعالى في سورة الفرقان واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون وقال في سورة النحل والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون
الوجه الثالث أنه قد ورد في حديث رسول الله ما يقتضي ذلك وقد أجمع أهل التفسير ومن يحتج به من الجماهير إلى الرجوع إلى مثل ذلك في مثل هذه المواضع المجملة من كتاب الله تعالى وذلك ما أخرجه الحاكم أو عبد الله في المستدرك في أول كتاب البر منه فقال أخبرنا
أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الاصبهاني أخبرنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل أخبرنا إبراهيم بن يحيى بن محمد المدني السجزي حدثني أبي عن عبيد بن يحيى عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه رفاعة ابن رافع وكان قد شهد بدرا مع رسول الله أنه خرج وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة فلما هبطا من الثنية رأيا رجلا تحت الشجرة إلى قوله قلنا من أنت قال انزلوا فنزلنا فقلنا أين الرجل الذي يدعي ويقول ما يقول فقال أنا فقلت له فاعرض علي فعرض علينا الاسلام فقال من خلق السموات والجبال فقلنا الله فقال فمن خلقكم قلنا الله قال فمن عمل هذه الاصنام قلنا نحن قال فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق فأنتم عملتوها والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه قال الحاكم هذا حديث صحيح الاسناد فسماها رسول الله مخلوقة لله ومعمولة للعباد حيث قال إن الخالق أحق بالعبادة من المخلوق وقال إن الله أحق بالعبادة من شيء عملتموه فناسب حجة أبيه ابراهيم عليهما السلام وماثلها ففرق بين الخلق والعمل وجعل الاصنام مخلوقة من حيث هي من الجبال التي قد قرر عليهم أنها مخلوقة وجعلها معمولة من حيث أنها لا تسمى أصناما إلا بعد تصويرهم وتشكيلهم لها
الوجه الرابع أن المعنى إذا كان على ما ذكرنا حصل منه تنبيه المشركين على أنهم مثل الاصنام في كونهم مخلوقين وليس ينبغي أن يكون العبد والرب من جنس واحد لا سيما والعابد منهما أشرف من المعبود بالضرورة من جهتين الجهة الأولى أنه حي والصنم جماد والثانية أنه الذي عمل صورة معبودة من الأصنام ونحته وشابه صورته بخلق الله تعالى وهو من هذه الجهة يسمى معمولا له ومصنوعا كما يقال هذا السيف صنعة فلان وعمله وما أشبه ذلك من تصرف الصناع في خلق الله تعالى في الحلى والاصباغ وسائر المسببات وهي حقائق عرفية ولم ينكرها إلا ثمامة والمطرفية على ما تقدم بيانه
الوجه الخامس أن قرينة الحال وصيغة البيان تقتضي أن يكون قوله وما تعملون موافقا في المعنى لقوله تعالى ما تنحتون في أولها لأنه
صدر الآية الكريمة بانكار عبادة المنحوت ثم أكد ذلك الانكار بكون العبادة له وقعت في حال خلق الله له لكنه سماه في آخر الآية معمولا وفي أولها منحوتا لكراهة تكرير الألفاظ المتقاربة في بلاغة بلغاء العرب كما خالف اللفظ في قوله فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين مع أن المسلمين في آخر الكلام هم المؤمنون المذكورون في أوله والذي يدل على ذلك أن الواو حالية في قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون فالمعنى كيف غفلتم عن قبح عبادتكم لها والحال هذه
وأنت إذا نظرت في طباق الكلام وسياقه لم يحسن قط أن يكون المعمول غير المنحوت ووجب أن يكون هو إياه أما أنه لا يحسن فلان الجملة الحالية تقتضي شدة النكارة في مثل هذا الموضع ولن يصح أن تقتضيها إلا بذلك كما تقول أتجفو زيدا وهو أبوك فلا يجوز أن يكون الأب غير زيد كما لا يجوز أن تقول أتجفو زيدا وأبوك خالد حيث لا يكون بينهما ما يوجب زيادة النكارة ولو كان المعمول غير المنحوت لم يكن الشرك معه أقبح إذا كان المعمول هو المنحوت كان الشرك معه أقبح وكذلك يكون الشرك أقبح مع عدم خلق الأعمال بخلاف الشرك مع خلق الاعمال فانه ليس بأقبح منه مع عدم خلقها بل يلزم أن لا يقبح وأما أنه يجب أن يكون المعمول هو المنحوت فلما في ذلك من زيادة قبح الشرك لأنه لا يخفي على عاقل أن أقبح الشرك أن يجعل العبد المخلوق شريكا لربه الخالق له وذلك الشريك مخلوق لربه باقرار العبد ولا سيما وذلك الشريك المخلوق جماد مسخر للعبد مصنوع له ينحته ويكسره ويشكله ويطمسه ويضعه ويرفعه ويدنيه ويقصيه ويتصرف أنواع التصرف فيه
الوجه السادس أن الآية الكريمة نزلت في خلق المفعول به المنفصل عن محل قدرة العبد لا في الفعل نفسه لقوله تعالى ليأكلوا من ثمرة وما عملته أيديهم ولا خلاف بين المعتزلة والأشعرية أنه مخلوق لله تعالى وكذلك صنعة المداد وسائر الاصباغ والمسببات مثل ازهاق الأرواح
بالجراح والتغريق والتحريق ومثل السحر وآثاره ولذلك احتج الشهرستاني وغيره بهذه الصورة على المعتزلة حين أنكروا مقدورا بين قادرين مع اختلاف الوجوه على أنه لا يصح عنهم انكار مثل ذلك ومع نزول الآية في هذا بالاجماع كما ذكره ابن كثير بل كما هو معلوم فلا وجه للقطع بتعديتها بل لا يصح ظهور ذلك على جهة الظن لما في عموم ما من الخلاف ولما في تعدية العموم على غير ما نزل فيه من ذلك ولما في خلاف ذلك من المرجحات ولذلك وأمثاله لم تكن الآية نصا ولا ظاهرا بين الظهور في هذه المسألة
الوجه السابع أن النص على أن أعمالهم مخلوقة لله تعالى ينافي توبيخهم عليها والاستنكار الشديد لصدورها عنهم لأنه لا يخلو إما أن يكون ورد على مثل الشهرستاني والباقلاني من أئمة الأشعرية الذي عرفوا الكلام في اللطيف واعتقدوا صحة مقدور بين قادرين وأن أفعال العباد لا تنسب اليهم وحدهم لنقصان قدرتهم عن الاستقلال ولا إلى الله وحده لكمال حجته عليهم وقدسه عن نقائصهم فهؤلاء لو ورد عليهم النص على خلق الاعمال لم يشكل عليهم ظاهره ولكن يكون ذكره في هذا الموضع غير مناسب للبلاغة لأن الكلام البليغ لابد أن يناسب مقتضى الحال ومقتضى الحال هنا زيادة التقبيح والتوبيخ وهو لا يزيد على هذا التقدير ولكن هذا التقدير معلوم البطلان عند الجميع واما أن يكون الخطاب بهذا النص على خلق الاعمال ورد على أجهل العوام الطغام الذين عبدوا لشدة غباوتهم الاصنام فانهم إذا خوطبوا بأن أعمالهم مخلوقة لله تعالى لا يسبق إلى أفهامهم إلا أنه سبحانه وتعالى مستقل بها غير مشارك فيها وحينئذ ينقص ذلك التقبيح أو يبطل أو يتناقض الكلام وينفتح باب الاعتراض على الخليل عليه السلام حينئذ لاعدائه ويرفع الشيطان رأسه إلى الهامهم الزام الاحتجاج على الرسل بالقدر وافحامهم بذلك كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في غير آية وكل عاقل يريد افحام خصمه أو ارشاده لا يورد عند جداله أعظم شبه الخصم في حال الصولة عليه بالحجة القاطعة فلم يكن الخليل عليه السلام يلقنهم في هذه الحال أعظم شبههم التي ضل بها كثير من المسلمين بعد الاسلام ودق النظر عن جوابها على كثير من العلماء الاعلام مع ما أوتي الخليل
عليه السلام من حسن العبارة وإيضاح الحجة ألا ترى إلى قوله عليه السلام فيما حكى عنه من حجاجهم في سورة العنكبوت إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا كيف عقب بطلان ما هم عليه ما يدل على سوء اختيارهم في اختلافهم الافك افتراء من عند أنفسهم فهذا هو المناسب لحال المناظرة ألا تراه لا يصلح أن يقول عوض قوله وتخلقون افكا والله الذي خلق هذا الافك فيكم وأراده منكم لأنه يكون بذلك كالمعتذر لهم في حال النكير عليهم فيكون مناقضا لقصده فكذلك لو جعلنا الخلق بمعنى انشاء العين في قوله والله خلقكم وما تعملون والقرآن يفسر بعضه بعضا كما قال المفسرون في تفسير قوله تعالى كتابا متشابها أي يشبه بعضه بعضا في معانيه وأحكامه فهذه الوجوه ترجح أن ما تعملون بمعنى لذي تعملون على أحد وجهين إما أن تجعل الأصنام هي المعمولة لأنها لا تسمى أصناما الا بعد عملهم أو على أن تجعل معمولا فيها ولولا ما شهد لذلك من القرآن والسنة والمرجحات الضرورية ما رضيت أن أتكلم في كتاب الله تعالى بغير علم وأقصى ما في الباب أن يكون الذي ذكرته محتملا غير راجح فكيف يجوز القطع بأنه غير مراد الله تعالى والقطع على أن نقيضه هو المراد والاحتجاج بذلك على مسألة كبرى قطعية من مهمات مسائل الاعتقاد التي أوقعت الفرقة بين المسلمين والعداوة والله تعالى يوفق الجميع إلى ما أمرنا به ربنا سبحانه وتعالى من الاجتماع ويعصمنا عما نهانا عنه من التفرق ولن يوجد إلى ذلك سبيل أوضح من ترك ما لم يتضح والرجوع إلى ما استبان من الكتاب والسنة والتقديم له على ما وقع فيه الاحتمال والاختلاف والله عند لسان كل قائل ونيته وهو حسبنا ونعم الوكيل
وقد أوضحت في العواصم بقية المباحث وبطلان دعوى الاجماع على خلق الأعمال إلا بمعنى التقدير وسبق القضاء وجفوف الاقلام كما قد ورد في كتاب الله تعالى وعن رسول الله واتفقت الامة المرحومة المعصومة على صحة معناه أنه لا يقتضي افحام الرسل ولا يناقض كمال
حجة الحكيم العليم على ما عصاه من عباده وذكر ذلك كله هنا يخرجنا عن قصد الاختصار بالمرة
ولا نزاع في أن الأفعال مخلوقة بمعنى مقدرة وأما بغير ذلك المعنى فان سلمنا أن ذنوبنا تسمى مخلوقة لله تعالى في اللغة بغير ذلك المعنى مع صدورها منا باختيارنا على وجه تقوم الحجة به علينا فلا وجه لادخال ذلك في مسائل الاعتقاد وأركان الاسلام وواجبات الايمان ولا حجة على ذلك ولا شبهة ولا حرج على من لم يؤمن بذلك لجهله به فليس كل حق يجب أن يدخل ذلك من وجود الموجودات وعدم المعدومات وقد علمنا نبينا محمد ديننا كما علمه ربه تعالى وحصر لنا أركان الاسلام وعلمنا الايمان والاحسان فما عد فيه خلق الافعال وإنما عد فيه سبق الاقدار كما تواتر في الاخبار ولذلك لم يذكره مالك في الموطأ كما ذكر القدر وغيره في أواخره ثم انظر مع تسليم نفي الجبر وتسليم قيام الحجة لله تعالى بخلق القدرة وتمكين المكلفين أي ثمرة تبقي لاعتقاد أن الأفعال مخلوقة وإنما حافظ على ذلك في الأصل من يقول بالجبر ثم ظن كثير من أهل الكلام والحديث بعد ذلك أنه من لوازم عقائد السنة فقالوه مع نفي الجبر ولذلك ذكر ابن الحاجب في مختصر المنتهى أن الأشعري ألزم من قوله بذلك القول بتكليف ما لا يطاق وفي كلامه هذا دلالة على أن القول مما يختص بالأشعري وحده في أول الأمر والله أعلم
وعلى تسليم ذلك كله فاعتقاد أنها مخلوقة بمعنى مقدرة يكفي وهو صحيح بالاجماع كما تقدم وفيه الحيطة والعصمة عن تعديه إلى مواقع الخلاف ومظان البدعة ولكن يعبر عنها بأنها مقدرة لأنها صريح عبارة الكتاب والسنة والصحابة والتابعين ولا يعبر عنها بأنها مخلوقة لأنها توهم خلاف الصواب ولأنها عبارة الجبرية وأهل الكلام المتأخرين عن عصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ولأنها مختلف فيها وقد نهينا عن الاختلاف واختياره مع التمكن من تركه وقد نهى الله تعالى عن قولهم راعنا وأمر أن يقولوا مكانه انظرنا لمصلحة يسيرة كيف ما نحن فيه والله الهادي والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم
المسألة الرابعة أن الله تعالى لا يكلف ما لا يطاق
وهو قول الجماهير من جميع طوائف المسلمين وإجماع العترة والشيعة والمعتزلة ورواه ابن بطال في شرح البخاري عن الفقهاء أجمعين ونسب السبكي المنع منه إلى الغزالي والشيخ أبي حامد والشيخ تقي الدين الشهير بابن دقيق العيد وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني والآمدي على تفصيل ذكره في الفرق بين المحال لذاته ولغيره
واعلم أن هذا ما لا شك فيه ولا ريب وإنما يتعجب من وقوع الخلاف الشاذ في ذلك وأي شك في ذلك والله تعالى قد نص في كتابه الكريم على ذلك في غير موضع كقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وفي آية أخرى لا نكلف نفسا إلا وسعها بالنون وفي آية أخرى إلا ما آتاها ومنه أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ومنه قوله تعالى ولقد مكناهم في الأرض وفي آية ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة الآية وأمثال ذلك مما لا يحصى
والمراد بالاحتجاج بهذه الآيات ونحوها أنها شاهدة على اعتبار ما يسمى حجة في عرف العقلاء وامتناع نقيض ذلك على أحكم الحاكمين وأن هذا معلوم ضرورة من كتب الله تعالى وأديان رسله عليهم السلام ونص على ما يستلزم ذلك مما لا يحصى كثرة من سعة رحمته وظهور عدله وعظيم فضله وعدل أحكامه وظهور حكمته وشمول نعمته وقوله من أتاني يمشي أتيته أسعى ومن تقرب إلي شبرا تقربت اليه ذراعا بل سمح سبحانه من الوسع الممكن المقدور ما لا يحصى ونص على ذلك فقال تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج وقال يريد الله
بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فسمح سبحانه وتعالى مما يطاق الكثير الذي لا يعلم مقداره إلا هو ولم يبق من التكاليف إلا ما جعله سببا لرحمته وفضله وكرامته كما جعل البذر في الدنيا سببا للزرع الذي لا ينميه ويتمه سواه وبشر سبحانه ويسر ونهى عن التعسير والتنفير وجاء على لسان نبيه نبي الرحمة أنه المبعوث بالحنيفية السمحة وتلقى ذلك علماء الاسلام بالتصديق والاشاعة وعملوا في الاحكام بحسب ذلك واحتجوا به وشاع فيما بينهم وذاع وانعقد على عدم انكاره الاجماع ولم يعارض ذلك عقل ولا شرع ولا نص ولا ظاهر وناسب هذا كله تمدح أصدق القائلين بأنه أرحم الراحمين وخير الراحمين وأكرم الأكرمين ولا يختص المؤمنين من رحمته تعالى إلا كتابتها ووجوبها لهم ونحو ذلك دون سعتها فانها لكل شيء كما تبين في قوله تعالى ورحمتي وسعت كل شيء الآية ومن حرمها فذلك لاستحقاقه ولحكمه بالغة وهي تأويل المتشابه على ما نص على أن الخصوم جوزوا تكليف المؤمنين المرحومين بما لا يطاق عقلا وسمعا بل جوزوا عقلا عقابهم بذنوب أعدائهم المشركين بل جوزوا ذلك في حق الأنبياء والمرسلين والله تعالى تمدح بضد ذلك وبأن له الأسماء الحسنى وله أعظم الحمد والمجد والشكر والثناء دع عنك العدل في الحكم والجزاء وعضد ذلك الثناء العظيم من رسوله الكريم بأنه لا أحد أحب اليه العذر منه سبحانه وتعالى من أجل ذلك أرسل رسله إلى العالمين وأنزل كتبه على المرسلين وجعل رسله تترى إلى خلقه مبشرين ومنذرين ومعلمين ومحتجين وميسرين غير معسرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
والعجب ممن يدعي الفقه والفهم بل الامامة العظمى في العلم كيف لم يعلم أن مراد الله تعالى هو أطيب الثناء وأحسن الأسماء وأجمل الحمد وأتم العدل وأحمد الأمور كلها أو قد فهم هذا كله ولكن ظن أن تكليف ما لا يطاق وطلب تنجيزه من العبد الضعيف وعقوبته عليه أشد العقوبة وأدومها هو أنسب بأطيب الثناء والممادح الربانية والمحامد الرحمانية من
عكس ذلك كأنه لم يعرف القرآن والسنة قط قال سبحانه وتعالى في ذلك ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى وقال تعالى أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين وقال في الزمر أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت الآيات إلى قوله بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وقال تعالى ذكري وما كنا ظالمين وقال تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم فجعل القسط الذي هو العدل مما هو لازم لتوحيده في الالهية ومما هو قائم به ومما شهد به لنفسه وشهد له به خواص خلقه وأهل معرفته والعدل هو ضد الجور والعنف والعسف وذلك كله دون تكليف ما لا يطاق فانه قد وصف بذلك كثير من ملوك الجور ولم يوصف أحد منهم قط بتكليف ما لا يطاق كما يأتي تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أفلا يخاف المخالف أن لا يكون من العلماء الذين شهدوا لله بهذه الشهادة إلى غير ذلك
وأوضح من ذلك أنه سبحانه وتعالى كتب الاعمال في الكتب وأشهد على خلقه ملائكته الكرام ثم نصب الموازين القسط ليوم القيامة وأنطق الجلود والاعضاء بعد شهادة الملائكة وصالحي خلقه بعد رسله عليهم السلام كل ذلك ليقيم الحجة حجة عدله وعظيم فضله ويقطع اعذار المعاندين والجاهلين والمتجاهلين وكم احتج الله تعالى بذلك وتمدح به في كريم كتابه كقوله تعالى ثم السبيل يسره وقوله تعالى وهديناه النجدين وقوله عز سلطانه إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا بل نفى سبحانه وتعالى ما يستلزم ذلك أو يقاربه
كما قال سبحانه وتعالى أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون فأوضح أنه لم يبق لهم عذرا يتعللون به إذ لا معنى لنفي المغرم الثقيل مع وجود التكليف الممتنع لذاته المستحيل ثم تمدح سبحانه وتعالى بالقضاء الحق يوم القيامة في غير آية
فالعجب ممن لم يفهم أن ذلك ينافي تكليف ما لا يطاق ويضاده ممن يدعي الانصاف وفهم الدقائق والغوص على غوامض الحقائق وأنه في رتبة الذب عن الاسلام ونحو ذلك كثير جدا في كتاب الله تعالى فكيف يقدم على هذا كله مفهوم ظني مرجوح مختلف في معناه كما ذكره الغزالي في قوله تعالى حاكيا عن عباده ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به والله تعالى يقول واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم ويقول فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذي هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ولا شك في وضوح الآيات في نفي ذلك وحسنها سمعا وعقلا وفضلا وعدلا
وأما الآية التي احتج بها فقد ذكر البغوي وغيره من هل السنة اختلاف المفسرين في معناها وفيها احتمالان لا دافع لهما وأيهما كان تفسيرها فالثاني تفسير التي قبلها فافهم أحدهما أن يكون المراد التكاليف الشاقة مع دخولها تحت القدرة وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة رضي الله عنه خرجه مسلم في الصحيح وغير مسلم وفيه أن رسول الله سئل عمن يصوم الدهر فقال لا صام ولا أفطر فقيل كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما قال أو يطيق ذلك أحد إلى قوله فيمن يصوم يوما ويفطر يوما وددت أني طوقت ذلك
وقد نص ابن الأثير في النهاية على أنه لم يعجز عن ذلك لضعف
وأعظم من ذلك نفي رسول الله أن يطيق أحد على صوم يومين وفطر يوم وذلك واضح في أنه فسر الطاقة هنا بما لا مشقة فيه ولا حرج فدل على أن الشاق يسمى غير مطاق في عرفهم ولا أصح من اثبات اللغة بالسند الصحيح بل المتفق على صحته من طريق تلقتها الامة بالقبول وادعى الاجماع على صحتها باطنا وظاهرا عدد كثير من أئمة الاسلام وعادة اللغويين والمفسرين الاكتفاء في مثل ذلك برواية بعض أهل اللغة بغير سند ولا توثيق
الاحتمال الثاني أن يكون من تحميل عقوبات الذنوب في الدارين مثل المصائب في الدنيا وعذاب القبر في البرزخ وعذاب النار في الآخرة ومن ذلك قوله تعالى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى وهذا صريح في هذا المعنى والحمد لله رب العالمين وكذلك قوله تعالى ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء
ومنه حديث عبد الملك في ابن الزبير وددت أني تركته وما يحمل من الاثم في هدمها وبنائها ذكره ابن الأثير في نهاية الغريب في مادة ح م ل وهو معنى صحيح فصيح وقد فسر بهذا المعنى العلامة المتفق على علمه وجلالته عبد الملك بن جريج فقال هو مسخ القردة والخنازير رواه البغوي عنه في تفسير هذه الآية فجعله من قبيل ما لا يطاق من عقوبات الذنوب وجعله كثير من المفسرين من الاول أعني الشاق فقال مجاهد هو الغلمة وقال ابراهيم هو الحب وقيل شماتة الأعداء وقال محمد بن عبد الوهاب العشق وقيل هو الفرقة والقطيعة ذكر ذلك كله البغوي ولم يذكر قط عن أحد من المفسرين أنه تكليف المحال وهو من أهل السنة فكيف يرى هذا المعنى المتسع لمثل هذه الاحتمالات والمعاني المختلفة يقدم على النص الجلي الذي أثنى الله تعالى به على نفسه وتمدح به من قوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وما في معناها وما في معنى ذلك من أسماء الله الحسنى وما ذكرناه من الحديث ولا سيما ونزول قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها كل ذلك مع قوله تعالى ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة
لنا به في آية واحدة وفي وقت واحد فلا يجوز أن يتناقض فيكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا وكونهما نزلا معا أمر ثابت في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن أبي هريرة كلاهما عن رسول الله على أنا لو سلمنا لمن احتج بها ما توهمه من أن المراد لا تحملنا ما لا نطيقه من التكاليف المحال وقوعها لما سلمنا أن الدعاء بذلك يستلزم جواز وقوعه من الله تعالى فقد دل الدليل على جواز الدعاء بما لا يجوز على الله تعالى خلافه كقوله تعالى قال رب احكم بالحق فانه دعاء إلى الله تعالى بما لا يقع سواه وكذلك قوله تعالى قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين فانه معلوم أن الله تعالى لا يجعل رسوله الكريم عليه الحبيب اليه مع خصومه المكذبين به المعاندين له فيه وكذلك استغفاره من ذنوبه فانه مأمور به في سورة النصر وهي نزلت بعد قوله تعالى في سورة الفتح ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فهو سؤال لما لا يقع وكذلك قال لعلي عليه السلام ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك مع أنه مغفور لك رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديثه عليه السلام فيكون الدعاء حينئذ عبادة يحصل بها الثواب والتشريف للعبد والتقريب وتحصيل المسؤول بسببين لما لله تعالى في ذلك من الحكمة فأولى وأحرى قوله تعالى ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وهذا أمر شهير كثير جدا ومنه قول القائل
وهذا دعاء لو سكت كفيته ... لأني سألت الله ما هو فاعل
وأعجب من ذلك قول الغزالي في الاحياء أن ذلك وقع جازما به محتجا عليه بتكليف أبي لهب بالإيمان مع قوله تعالى سيصلى نارا ذات لهب وقد رد هذا ابن الحاجب في مختصر المنتهى بأنه مثل خبر قوم نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن قلت بل هو والعلم السابق سواء والكل مسألة واحدة وهي المعروفة في علم الأصول بالممتنع لغيره لا لذاته والتكليف بذلك جائز بالاجماع ولا يسمى محالا وفاقا
وقد بين الحلي المعتزلي الشيعي في مختصر المنتهى ذلك هو الذي جوزه الغزالي وابن الحاجب لا المحال لنفسه قلت بل ذلك جائز عند المعتزلة وجميع المسلمين أجمعين إلا من زعم أن الله تعالى لا يعلم الغيب ممن يدعي الاسلام من الغلاة في نفي القدر وقد بين ذلك العلامة ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة في شرح قوله عليه السلام اقتلوه ولن تقتلوه فكيف أوهم الغزالي في الاحياء أنه يجوز التكليف بالمحال مطلقا وأوهم أن ذلك وقع
وقد قال السبكي في جمع الجوامع والحق وقوع الممتنع بالغير لا بالذات وتسميتهم لهذا الجنس بالممتنع من قبيل المجاز وهو مما لا يجوز إلا مع البيان لأن العلم غير مانع بنفسه عند جميع المحققين
وقد نص الشهرستاني من كبار الأشعرية على أن العلم غير مؤثر بالاجماع وصحح ذلك غير واحد منهم دع عنك المعتزلة واحتج الجويني على ذلك بأنه لو كان العلم يؤثر في المعلوم لما تعلق العلم بالقديم نفسه سبحانه وتعالى لأنه لا يصح أن يؤثر في الله تعالى شيء
واحتج الرازي على ذلك بوجوه كثيرة منها أن ذلك يؤدي إلى نفي قدرة الله تعالى وذلك كفر بالاجماع وإنما كان يؤدي إلى ذلك لأن علم الله تعالى متعلق بجميع أفعاله وتروكه فكان يلزم أن ما علم الله أنه يفعله في وقت لم يوصف بالقدرة على تركه ولا تقديمه ولا تأخيره وما علم أنه يتركه لم يوصف بالقدرة على فعله وذلك يستلزم استقلال العلم بالتأثير واستغناء العالم عن القدرة وذلك يستلزم انقلاب العلم قدرة وانقلاب الفاعل المختار غير مختار وذلك محال
وذكر ابن الحاجب أن مثل هذا يؤدي إلى أن التكاليف كلها تكليف بالمحال قال وذلك خلاف الاجماع وقال أيضا أن الممكن لا يخرج عن امكانه بخبر أو علم انتهى
واعلم أنهم إنما أرادوا أن العلم لا يؤثر تأثير القدرة في إيجاد المعلومات وفعل المأمورات ولم يريدوا نفي كل تأثير للعلم مطلقا فان العلم يؤثر تأثير الدواعي والصوارف مثاله أن من علم أن العقاب يحصل على ترك الصلوات والثواب العظيم يحصل على فعلها كان علمه ذلك مرجحا لفعلها على تركها مؤثرا في وقوعها من العالم بذلك ألا تراه لا يتركها مع أن تركها أسهل ما ذاك إلا لترجيح العلم نعم وقد ذكرت في العواصم غير هذه الوجوه في أن العلم غير مؤثر تأثير القدرة وكذلك الشيخ مختار في المجتبى جود الكلام في ذلك وذكرت في العواصم وجها حسنا في افحام من يحتج على الله تعالى بالعلم من المبتدعة والملاحدة وذلك أنا لو سلمنا تسليم جدل أنه مؤثر ومانع من خلافه منع استحالة لزم أن تكون حجة الله تعالى على عذاب العصاة لأن العلم بأفعال الله تعالى كما يتعلق بأفعال عباده إجماعا فكما أنهم لا يستحسنون من الله تعالى يوم القيامة أن يقول إنما عذبتكم لسبق علمي بذلك فكذلك لا يحسن منهم أن يقولوا إنما عصيناك لسبق علمك بذلك وإن حسن ذلك منهم كان من الله أحسن
ويلحق بهذه أمور يشتد تعجب العاقل منها
أحدها أن مذهب الغزالي نفسه أن التكليف بالمحال لذاته لا يجوز على الله وهو مشهور عنه في شرح المنتهى وجمع الجوامع وغيرهما حتى ذكروا أن حجته على ذلك هي حجة ابن الحاجب وإنما أراد الغزالي بالوصية بذلك في إحياء علوم الدين الموافقة لعقيدة الاشعرية على أن ذلك لم يصح قط عن الاشعري ولا لذلك عنه أصل صحيح كما أوضحته في العواصم ولذلك صدر ابن الحاجب المسألة بأن التكليف بالمحال لا يجوز ثم قال ونسب خلافه إلى الاشعري على صيغة ما لم يسم فاعله ثم ذكر أن ذلك نسب إلى الأشعري على جهة الالزام له لا أنه نص على ذلك ثم تعصب أصحاب الاشعري له على توهم أنه مذهبه وقدموه على نصوص كتاب الله تعالى ونصوص رسوله وعلى البراهين العقلية فانا لله وإنا إليه راجعون
وثانيهما أن الغزالي ذكر في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد تأويل ذلك بما يخرجه عن محل النزاع ويقتضي جمع الكلمة على نفيه عن الله سبحانه
وتعالى فلله الحمد وذلك أنه ذكر فيه أن المراد بذلك مجرد اعتقاد المكلف أنه مخاطب بذلك لا أنه مطلوب منه لكن خوطب به ليعتقد توجه الطلب اللفظي اليه لا أنه أريد منه فعله ولا يجب عليه إلا مجرد ذلك الاعتقاد
قلت وهذا على نحو قول الله تعالى للمصورين يوم القيامة أحيوا ما خلقتم للتعجيز لا لطلب ذلك منهم ومنه حديث من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة وقد أشار إلى هذا الجويني في مقدمات البرهان فقال إن كان المراد ورود صيغة الامر لا حقيقته فذلك جائز كقوله تعالى كونوا قردة خاسئين فان معناه كوناهم قردة فكانوا كما شئنا وإن كان المراد تحصيل المأمور به فذلك ممتنع قلت قد صرح الغزالي في الاقتصاد أن الأول هو المراد وعلى هذا فلا يكون اعلام أبي لهب بأنه سيصلي نارا ذات لهب بعد كفره العظيم محل النزاع لوجوه
الوجه الأول إن النزاع إنما هو في تكليف يقع عليه الجزاء والعقوبة وحده كما لو كلف أعمى بنقط مصحف على الصواب ولم يكلفه الله تعالى بغير ذلك ولا عاقبة على سواه وكان الاعمى يود أنه تمكن من ذلك وامتثل ثم يخلد في عذاب النار بترك ذلك فهذا ما لم ينسبه أحد إلى معبوده من جميع العقلاء بل هذا ما لم ينسبه إلى أحد من رؤساء المخلوقين حتى تفاحشت البدع ورذلت حتى تكلم في مهمات قواعد الإسلام بالآراء والأوهام وضربت فيها المقاييس والأمثال وتجارى فيها أهل الاهواء مجاراة المتنافسين وتجاروا على ذلك مجاراة المتعادين فظن بعضهم أن هذا ليس بصفة نقص عقلا مع موافقتهم على أن الكذب صفة نقص عقلا والكذب دون هذا النقص بكثير لا سيما الكذب النافع ثم تجاسروا بعد ذلك على تجويزه على الله تعالى ثم ادعوا وقوعه من الله تعالى
واعلم أنه لا استبعاد أن يعاقب الله تعالى بذلك في الآخرة من جوز عليه التكليف بالمحال الذي لا يطاق كما صح أن يقال للمصورين يوم
القيامة أحيوا ما خلقتم وأن الكفار يؤمرون بالسجود ويحال بينهم وبينه فلا يستطيعون بل مجوز ذلك على الله تعالى في دار التكليف أولى بهذه العقوبة لما ثبت عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما أن الله تعالى يقول أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء ولما ثبت من مناسبة العقوبات للمعاصي حتى أن من تردى من جبل فهو يتردى في النار من جبل ومن طعن نفسه بحديدة فهو يطعنها في النار بحديدة وحتى رأى رسول الله وآله امرأة حبست هرة حتى قتلتها والهرة تنهشها في النار وحتى ثبت أن الله تعالى يقول أليس عدلا مني أن أولى كلاما تولى فيقول الخلق بلى فيرى كل عابد لغير الله معبوده ويأمره باتباعه حتى يوردهم النار ويمثل لمن عبد عيسى صورة عيسى عليه السلام وأمثاله من الصالحين كذلك وحتى قيل للمصورين أحيوا ما خلقتم وحتى يكفر من قال الآخر يا كافر وليس كذلك ويعفى يوم الخميس والاثنين عن كل مسلم إلا المتهاجرين حتى يصطلحا لأنهما أختارا عدم العفو مذهبا ونحو ذلك فليحذر من هذه العقوبة الخاصة مع سائر أنواع العذاب صاحب هذا المذهب بل يحذر من أهون من هذا وهو أن يناقشه الله تعالى الحساب على جميع ما أقدره عليه ومكنه منه ولا يسامحه في قليل ولا كثير ويقول له أنت جوزت مني تكليف ما لا يطاق وظننت ذلك في فلا أقل من أن أحاسبك على التكليف الذي لا يطاق ولا أسامحك بشيء منه وفي ذلك هلاكه كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله وآله أنه قال من نوقش الحساب عذب وشواهده معلومة وكفى بقول الله تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وفي آية أخرى ما ترك عليها
الوجه الثاني أن الله لم يعلم أبا لهب بذلك بالنص ولا ظاهر القرآن يقتضي ذلك أيضا وإنما أعلم رسوله وآله بذلك فمن أين أن أبا لهب علم ذلك يقينا والله قادر على أن لا يعلمه ذلك لتزداد الحجة عليه وقد ذكر هذا ابن الحاجب وقال أنه مثل إعلام نوح عليه السلام أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
الوجه الثالث أنه وإن علم ذلك فانه خارج مخرج الوعيد لا مخرج الاخبار المحض والفرق بينهما واضح فان الوعيد مشروط بعدم التوبة مثل وعيد جميع الكافرين
الوجه الرابع أنه لا مانع من أن يكون الخبر والقضاء والقدر والكتابة في مثل ذلك مشروطة ويكون مما يجوز أن يدخل في قوله تعالى يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ويدل عليه حديث لا يرد القضاء إلا الدعاء رواه الحاكم وفي الباب عن معاذ وعائشة وأبي هريرة ذكرها الهيثمي وروي عن أبي قلابة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول اللهم إن كنت كتبتني في أهل الشقاء فامحني وأثبتني في أهل السعادة وقال رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا قلابة لم يدرك ابن مسعود وهذا باب واسع وقد ذكره الغزالي وغيره في الجواب على ما من قال ما فائدة الدعاء والعمل مع سبق الاقدار وجوده ابن قيم الجوزية في الجواب الكافي ونقلته في العواصم وزدت عليه زيادات مفيدة
الوجه الخامس أنه ليس في الخبر أنه لا يؤمن فيجوز أبو لهب في نفسه حين يسمعه أن يكون لو آمن من المؤمنين العصاة وأن يدخل النار بذلك ويطمع في العفو بعد دخولها على الاصل في حسن ذلك عقلا أو لسماعه أن السمع ورد بذلك فانه لا مانع من ذلك فاذا جوز أبو لهب ومن في حكمة هذه الأمور أو بعضها قامت عليه الحجة والعذر الحق الذي هو سنة الله تعالى في عدله وحكمته يوم القيامة فكيف مع هذه الأمور واحتمالها يجوز للعاقل أن يقطع على أن تكليف المحال قد وقع والتقول على الله بما لم يقل كالكذب عليه والتوصل إلى ذلك بالشبه الواهيات صنيع المخذولين من أهل الضلالات فان الاجتراء على الابتداع في الدين ذنب عظيم وربما أدى صاحبه إلى الكفر والعياذ بالله وهل ذلك إلا كالاحتجاج على تجويز الولد بقوله تعالى قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين مع وجود النصوص الجمة على بطلان ذلك وتعظيم تقبيحه بنحو قوله تعالى
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا الى آخر الآيات ولو سلمنا أن النصوص تعارضت في مثل هذه المسألة كان الواجب على العالم أن يرجح منها المحكم الموافق الاكثر ثناء على الله تعالى ومدحا لله تعالى ومناسبة لاسمائه الحميدة المحكمة الحسنى لقوله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم وقوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب فما الموجب لترجيح تشبيه أفعال أحكم الحاكمين بأفعال المجانين والاطفال حين لاح لذلك أدنى خيال وتقديم أضعف الأوهام وأبعد الاحتمالات والجزم بوقوع ذلك دون نقيضه الذي هو منطوق به في نصوص القرآن الصادعة معلوم احكامه واثباته في البراهين القاطعة داخل في الأسماء الحسنى غرة في الحمد والمدح والثناء وأعجب من ذلك كله المحافظة من الغزالي على الوصية باعتقاد ذلك لأهل الجمل في الاعتقاد من المتعبدين والزهاد والذين لم يعرفوا الخلاف في دقائق الكلام مع نهي الغزالي عن علم الكلام وذكر مساويه وما يؤدي اليه الخوض فيه لأنه ذكر هذا في الرسالة القدسية من مقدمات الاحياء الذي بالغ فيه في ذم علم الكلام لما جر اليه من البدع فاي بدعة بديعة ومحدثة شنيعة أبدع وأشنع من وصية الزهاد والصالحين من عوام المسلمين باعتقاد ذلك في أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وإيهامهم أن اعتقاده من الفرائض المؤكدة في دين الله تعالى وان من لم يعتقد ذلك كان على أعظم خطر من عذاب الله ولقد مضى أكثر عمر الدنيا على مالا يحصى من الظلمة والفجرة والفسقة والكفرة والخلفاء والسفهاء فما علم أن أحدا منهم فعل ذلك على الوجه الذي جوزه المخالف على الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإنما كانوا يعاقبون من لا ذنب له لحاجتهم إلى تحصيل الاموال أو لدفع المضار أو لمجموعهما أو تشفيا من عدو مضر انتصافا منه ونقما للثأر ونحو ذلك مما ألف وعرف من عادات الفجار وهذا أيضا غير تكليف المحال إنما هذا أنزل المضار ممن لا يستحقها وأما ان أحدا من جميع ما ذكرناه من أنواع الاشرار
وجد مريضا ليس بينه وبينه عداوة ولا له في تعذيبه حاجة ألبتة ولا غرض له ولا داعي ولا له ذنب ولا عليه حجة فأمر بتكليفه حمل الجبال أو ما لا يطيق من الاحمال ومسابقة الرياح والحيل السابقة فان لم يفعل ما لا يطيق من ذلك عذب أشد العذاب وعوقب أفحش العقاب فما كان هذا من فاجر ولا كافر ولا خليع ولا سخيف ولا يجوز أن يكون منهم ولو فعل مخلوق لكان الله تعالى هو الذي يشتد عليه غضبه وسخطه ويتولى عقوبته وملامته وإذاقته أعظم الخزي الهوان والمقت والفضوح فكيف ينسب جواز ذلك بل وقوعه وتجويز أفحش ما يكون من جميع أنواعه الفاحشة إلى الملك العلي الحميد الصمد المجيد السبوح القدوس الذي كره ذلك وسخطه وحرمه ويعادي على أقل منه كل جبار عنيد وقال في كتابه المجيد وما ربك بظلام للعبيد وقال على لسان رسوله وآله يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظلموا كما رواه مسلم في الصحيح عن حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
ومن الشبه في ذلك قوله تعالى فاذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني قالوا فحرم عليها الخوف والحزن في هذه الحال وكلفها اعدامهما عن قلبها وهي لا تستطيع ذلك
والجواب أن النهي هنا لم يرد للتحريم فقد ذكر السبكي في جمع الجوامع للنهي ثمانية معان أحدها بيان العاقبة كما في هذه الآية الشريفة وذلك أن النهي فيها إنما ورد للبشرى بوقوع ما لا ينبغي عنده الخوف والحزن فانه مقام تكريم لا مقام تكليف ولذلك عقبه بقوله إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين وهاتان بشارتان عظيمتان ممن علمت صدقه في كل خبر وقدرته على كل شيء واحاطة علمه بكل غيب فهي تقابل ما في طبعها البشري مع ما ذكره الله تعالى بعد ذلك من ربطه على قلبها
يوضحه أنه مقام لطف وتشريف لا مقام تحريج وتعنيف ولو سلمنا أنه نهي تحريم لوجب في حكمة الله تعالى وعوائده مع عباده المؤمنين
أن يمكنها من مفارقه ما نهاها عنه كما ذكره وابن عباس رضي الله عنه في تكليف الواحد بقتال عشرة أنهم لو صبروا عليها لطوقوها رواه البخاري ولو سلمنا أن ظاهر التحريم توجه إلى ما لا يطاق لوجب تأويله لوضوحه لأنه متشابه على ما يوافق المحكم الذي هو أم الكتاب كما ثبت في تحريم النياحة أنه لا يؤاخذ بما كان من العين والقلب فثبت أن سلمنا أنه للتحريم أن المراد النهي عن الاسترسال مع الطبيعة البشرية ومقابلتها ومدافعتها بما علمنا الله تعالى من نحو قوله وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وتذكير عظيم ثوابه وخفي ألطافه وصدق مواعيده وأنه كاشف الكروب علام الغيوب وما يحصل به الرضا لدون أم موسى
وقد ذكر بعض المفسرين نحو هذا الوجه الثالث في تفسير خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون فقال أنهم أقدروا ومكنوا من مدافعه الطبيعة المخلوقة فلذلك نهوا عن الاستعجال وقد خلقوا على هذه الطبيعة كما أن المخلوق على طبع الشح مأمور باخراج الزكاة ممكن من ذلك فانه يتصرف في شهواته أضعافها
وإنما ذكرت مثل هذه الأشياء على جهة التقرب إلى الله وإلا فجوابها لا يخفى على أهل الممارسة للجمع بين المتعارضات ورد الفروع الى الأصول والمظنون إلى المعلوم
ومن العجب صدور هذا من قوم تعلموا صنعة الكلام وحذق الجدل لكي يجيدوا في الذب عن الاسلام ويفحموا الملاحدة الطغام وتسموا بالسنية واتسموا بحماتها من أهل البدعة فسلموا لاعداء الاسلام نسبة كل قبيح مذموم إلى الله تعالى وأنه منه لا من غيره وإن ذلك وجميع أفعاله صدرت منه لغير حكمة ولا عاقبة حميدة وأنه لا يعاقب العصاة لأجل المعصية ولا يثيب المحسنين لأجل الاحسان بل تصدر أفعاله عنه كما تصدر المعلولات عن عللها الموجبة لها وإلاتفاقيات الاختياريات من الصبيان والمجانين وإنه قد وقع منه تكليف المحال وإنه ليس هو أولى به من تكليف الممكن وأمثال هذا مما لم تكن الملاحدة تطمع أن يمضي لهم طرفة عين فقد صار ذلك من آكد عقائد هؤلاء الحماة عن السنة والاسلام يوصون به في
المختصرات عموم المسلمين فيوهمون أن ذلك من أركان الاسلام فلولا أن هذا قد وقع منهم ما كان العاقل يصدق بوقوعه ممن هو دونهم فنسأل الله تعالى العافية
وإنما أوضحت هذا الكلام أيها السنى لتغتبط بعلم القرآن والاثر ولتصونه عن شوبه بأمثال هذا من بدع أهل الدعاوى للحذق في النظر فقد صارت أقوالهم في الركة أمثالا وعبرا لمن اعتبر وجميع ما يرد على هذا من الأسئلة وأجوبتها تقدم في المسألة الأولى في إثبات حكمة الله تعالى فخذه إن احتجت اليه والحمد لله رب العالمين
خاتمة تشتمل على فائدة نفيسة
وهي أن هذه المسألة وأمثالها مما بالغت في نصرته مثل اثبات حكمة الله تعالى وتعظيم قدرته تعالى من قبيل الثناء الحسن بحيث لو قدرنا الخطأ في شيء منها ما كان يخاف منه الكفر والعذاب قطعا وأما أضدادها فانه يخاف ذلك عند تقدير الخطأ فيها لاستلزامها ما لا يجوز على الله تعالى من النقص المضاد لاسمائه الحسنى التي هي جمع تأنيث الاحسن من كل ثناء لا جمع تانيث الحسن كما مر تقريره فاعرض هذه الفائدة النفيسة على كل عقيدة لك وشد عليها يديك في كل ما لم يعارض المعلوم ضرورة من الدين والله الموفق والهادي إلى الصواب
المسألة الخامسة أن الله تعالى لا يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ولا بغير ذنب وهذه من فروع اثبات الحكمة وهي أخت التي قبلها وهو مذهب جماهير الاسلام بل لم يعرف فيه خلاف بين السلف فانهم كانوا مجمعين على عدل الله تعالى وحكمته في الجملة والاجماع على ذلك يتقضي المنع من كل ما يضاده وممن صرح باختيار هذا البخاري في صحيحه والنووي في شرح مسلم وقواه واحتج عليه ونسبه إلى المحققين وكذلك اختاره علي بن عبد الكافي الشهير بالسبكي في كتاب جمعه في هذه المسألة وهما من عيون أئمة السنة والطائفة الشافعية وكذلك اختار ذلك العلامة أبو
عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد وهو من أئمة السنة واختاره غير واحد منهم دع عنك خصومهم في ذلك من الشيعة والمعتزلة
واحتج النووي وغيره على ذلك بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وبما رواه البخاري في صحيحه عن سمرة في حديثه الطويل وفيه ذكر رؤيا النبي وآله وفيها ما لفظه والشيخ في أصل الشجرة ابراهيم عليه السلام والصبيان حوله أولاد قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين وهذا نص في موضع النزاع من أصح كتب الاسلام عند أئمة الحديث وأما كونه رؤيا فلا يضر لوجهين أحدهما أن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي وحق ولذلك عزم الخليل عليه السلام على ذبح ولده بسببها وهذا إجماع وثانيهما أن هذا السؤال عن أولاد المشركين وجوابه كان في اليقظة لا في الرؤيا
وقد أوضحت في العواصم أنه لم يصح في تعذيب الأطفال بغير ذنب منهم حديث قط ولا صح ذلك عمن ينظر اليه من أئمة السنة وإنما قالت طوائف منهم بأقوال محتملة منها أن الله تعالى يكمل عقول الصبيان ويكلفهم في عرصة من عرصات يوم القيامة بتكيلف يناسب ذلك اليوم مثل ما روى أنه يخرج لهم عنقا من النار فيأمرهم بورودها فمن كان سعيدا في علم الله تعالى لو أدرك العمل وردها فكانت عليه بردا وسلاما ومن كان شقيا في علم الله تعالى لو أدرك العمل امتنع وعصى فيقول الله تعالى لهم عصيتموني اليوم كيف رسلي لو أتتكم أو كما ورد
وسبب مصير من صار منهم إلى هذا القول أحاديث كثيرة وردت بذلك منها عن أبي سعيد وأنس ومعاذ والاسود بن سريع وأبي هريرة وثوبان وروى ذلك أيضا أحمد بن عيسى بن زيد بن علي عليه السلام عن جده زيد بن علي ذكره صاحب الجامع الكافي وقال السبكي في كتابه في ذلك أن أسانيد هذه الأحاديث صالحة
قلت وفسروا بهذه الاحاديث حديث الله أعلم بما كانوا عاملين وهو الذي اتفق على صحته في الباب وسنة الله في إقامة الحجج على خلقه
لا تحيل هذا احالة قاطعة كما تحيل تكليف المحال ولا حجة واضحة على أن هذه الاحاديث موضوعة يجوز الجزم بتكذيبها وقد قال الله تعالى يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون فأثبت تكليفا بذلك السجود يوم القيامة وصح وتواتر أن الميت يمتحن في قبره في المسألة عن الشهادتين وأن المؤمن يثبت فيقولهما والكافر والمنافق يتلجلج أو يقول لا أدري
وفي الصحيحين من حديث البراء أن قوله تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة نزلت في ذلك وكذلك أجمع أهل السنة على أن للبرزخ حكما بين حكم الدنيا والآخرة ومنه أن موسى عليه السلام كان يصلي في قبره رواه مسلم ومنه ضمة القبر ونحوها فنكل علم تلك الاخبار إلى الله ولا نجوز على الله تعالى ظلما لأحد من عباده ولا عبثا ولا لعبا ولا مباحا لا يستحق عليه الثناء والحمد وإنما نجوز عليه ما يستحق عليه الثناء والحمد سواء علمنا وجهه أم لا وكذلك لا نجوز عليه تعذيب الميت ببكاء أهله عليه من غير حكمة ولا ذنب ولا عوض لكن قد روى ذلك ابن عمر عن النبي وآله وردته عليه عائشة رضي الله عنها ورواه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم غير ابن عمر فاحتمل تأويله على أحد وجوه
الوجه الأول أن يكون الميت أوصى بذلك وعلى ذلك حمله البخاري وغيره لأن ذلك كان عادتهم وهي قرينة قوية لهذا التأويل
الوجه الثاني أن يكون العذاب مستحقا للميت على ذنوبه لما ثبت في الصحيح أن من نوقش الحساب عذب وأن أحدا لا يدخل الجنة بعمله وإنما يدخلها برحمة الله تعالى وإن الباء في قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون باء السبب لا باء الثمن جمعا بين النصوص وهو من حمل المشترك على أحد الحقيقتين بالحجة لا من صرف الظاهر إلى
المجاز والعقول والفطرة ترجح ذلك فان سبحان الله تملأ الميزان والله أكبر تملأ ما بين السماء والارض بل قد صحت النصوص قرآنا وسنة أن السيئة بمثلها أو يعفو الله عنها والوحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء والصبر والصوم بغير حساب
فاذا تقرر ذلك جاز أن يكون البكاء المحرم المغضب لله تعالى سببا لمؤآخذة الميت بما يستحقه من العقوبة على ذنوبه التي قدمها ونسب التعذيب إلى البكاء لهذه السببية مع حسن تعذيبه لو لم يبك عليه بذلك ويكون هذا التعذيب والاخبار به زاجرا عن الاصرار على سنة الجاهلية المستحكمة في طباعهم المقوية للدواعي إلى إظهار الجزع ولطم الخدود وشق الجيوب وحلق الشعور وإن لم يبكوا امتثالا لأمر الله عفا الله عن ميتهم وترك تعذيبه المستحق بذنوبه مع ثوابهم على امتثالهم ويكون هذا العفو والاخبار به داعيا ومرغبا ولطفا في فعل هذه الطاعة
الوجه الثالث أن يكون عذاب القبر مثل الآلام الدنيوية للعوض والاعتبار مثل ما صح من ضمة اللحد ويكون مع بكاء فقط وإن ترك البكاء لم يزد على ضمة اللحد وهذا أشار اليه الذهبي وذكر أن للبرزخ حكما بين حكم الدنيا والآخرة وأنه ليس مثل الحال بعد اقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار والحجة في ذلك من الكتاب والسنة كما مضى وادعى الاشعري أنه اجماع أهل السنة ذكره ابن كثير في البداية والنهاية والله أعلم
المسألة السادسة في التحسين العقلي ويدل عليه قوله تعالى أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والارض وما بينهما بالحق وتقدم طرف من ذلك في المسألة الأولى في إثبات حكمة الله تعالى ونزيد هنا فنقول اختلف الناس في ذلك اختلافا ظاهره التباعد الكثير ومع تلخيص محل النزاع والتوسط يسهل الامر ويقرب من الاتفاق فقد ذكر الرازي وغيره من متكلمي الأشعرية أنه لا خلاف فيه باعتبارات ثلاثة
أحدها باعتبار الشهوة والنفرة وثانيها باعتبار جلب النفع ودفع الضر وثالثها باعتبار صفة النقص كالكذب والجهل وصفة الكمال كالصدق والعلم وعنوا بالكذب الذي لم تدع اليه ضرورة وبالصدق الذي ليس بضار
ومن هنا لم يجوزوا وقوع الكذب في كلام الله تعالى لأنه صفة نقص قالوا وإنما الخلاف في معرفة العقل لوجوب استحقاق الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة على فعل صفة النقص لا جوزها من غير وجوب وكذلك معرفة العقل لوجوب استحقاق الثناء في الدنيا والثواب والثناء في الآخرة على فعل صفة الكمال لا جواز ذلك من غير وجوب ولذلك حكى الزركشي في شرحه لكتاب السبكي المسمى جمع الجوامع أن قوما توسطوا فقالوا إن القبح واستحقاق الذم عليه ثابت بالعقل وأما العقاب فمتوقف على الشرع قال وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا الشافعية وأبو الخطاب من الحنابلة وذكرته الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة قال وهو المنصور لقوته من حيث الفطرة وآيات القرآن المجيد وسلامته من الوهن والتناقض اه
وقد تقدم في المسألة الأولى أن تسليم هذا القدر من التحسين العقلي يوجب الموافقة على إثبات الحكمة في أفعال الله تعالى وأنه لا فرق في التحسين بين الأقوال والأفعال وقد ثبت وقوف الأقوال على الحكمة حيث وجب القطع بأن الله تعالى يختار الصدق على الكذب في جميع كلامه وكتبه والموجب ذلك هو بعينه يوجب مراعاة الحكمة في الأفعال وهذه فائدة مهمة وحجة بينة ينبغي التعويل عليها في دعاء من ينكر الحكمة إلى الحق والله الهادي
وقول الزركشي أن ذلك هو المنصور لموافقته الفطرة وآيات القرآن المجيد قول صحيح وأراد بآيات القرآن المجيد ما ورد في ذلك مثل ما قدمنا من قوله تعالى أولم يتفكروا في أنفسهم الآية ومثل قصة موسى والخضر عليهما السلام فانها صريحة في ذلك والحجة فيها من وجهين
أحدهما أن موسى عليه السلام إنما أنكر ذلك بالفطرة العقلية بدليل أن الله تعالى قد كان أعلمه أن الخضر أعلم منه والتفاضل إنما هو في الشرعيات ودقائق العقليات فلما كان ما أنكره موسى من جليات العقليات حسب موسى أنه لا مفاضلة فيها إذ كانت معرفتها بالبصيرة مخلوقة مثل خلق الاسماع والابصار أو حسب أن تفضيله لم يكن في ذلك لأن موسى لم يدع أنه أعلم الناس بالعقليات والحجة من هذا الوجه تحتمل النزاع البعيد
وثانيهما وهي الحجة القاطعة أن الخضر لم يحتج على موسى بمجرد ورود أمر الله تعالى بذلك وان الامر الشرعي هو المحسن بذلك بمجرده وأن تقبيح العقول لما يقبحه باطل بل جعل الجواب الشافي عن ذلك الرافع للريب عن موسى عليه السلام هو بيان الحكمة الخفية المناسبة لمقتضى العقول في الموازنة بين المضار والمصالح وتقديم ما ثبت من ذلك أنه الراجح وتحسين المضار متى اشتملت على المصالح الراجحة وأدت إلى الغايات الحميدة وهذا عين مسألتنا ومحل النزاع ولكن العقول أقل وأجهل وأدنى وأحقر من أن تحيط بجميع حكم الله تعالى وأسراره وغايات ارادته في قضاياه وأقداره فلا يمكن الجزم بقبح شيء معين من أفعال الله تعالى لأن أفعاله سبحانه وتعالى واضحة الحكمة بينة النفع والصلاح للمتفكرين في ذلك وما كان منها متشابها وهو القليل فهو محتمل للحكم الخفية وليس في أفعاله سبحانه وتعالى ما هو معلوم القبح للعقول بالضرورة ألبتة
وبيان ذلك أن المعلوم قبحه بالضرورة هي المضار التي لا نفع فيها بوجه من الوجوه ولا فيها احتمال لذلك عاجلا ولا آجلا ألبتة وكيف يمكن أن تحيط العقول بذلك في شيء من أفعال الحكيم العليم وهو سبحانه وتعالى يقول وعيسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون وقد صرح الزمخشري بهذا المعنى في تفسير قوله تعالى هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم
مؤمن ومثال القبيح بالضرورة الذي لا يجوز على الله بعثة الكذابين لما فيه من الفساد المتفاحش وهو عدم الثقة بكلام الله تعالى وكلام جميع رسله عليهم السلام لا في دين ولا في دنيا ولا في حد ولا في مهم ولا ترغيب ولا ترهيب وهذا هدم للمصالح كلها والصلاح أجمع ولذلك كان الله أصدق القائلين وكان من أبغض الخلق اليه الملك الكذاب لأن الذي قد يهون قبح الكذب في بعض المواضع ويعارض ما فيه من الفساد هو الضرورة الملجئة اليه كخوف المضار ونحو ذلك والملوك أبعد الناس منها لقدرتهم على دفع المضار وإن كانت قدرتهم قاصرة فكيف بملك الملوك الذي هو على كل شيء قدير وعن كل شيء غني وإنما يجوز عليه ما تخفى فيه الحكمة على الخلق لقصور علومهم من الامور المحتملة مثل ما سألت عنه الملائكة عليهم السلام من الحكمة في خلق آدم وذريته لظنهم أنهم كلهم أشرار لا خير في أحد منهم والشر المحض الذي لا خير فيه ألبتة لا عاجلا ولا آجلا قبيح في العقول وأما الشر المشتمل على الخير والغايات الحميدة أو المجوز فيه شيء من ذلك فلا مجال للعقول في القطع بقبحه ولذلك أجاب عليهم بقوله تعالى إني أعلم ما لا تعلمون ولم يقل إنه يحسن مني كل ما تستقبحون وكل ما تستقبحه العارفون ولو كانت أفعال الله معطلة من الحكم لم يكن لذكر علمه وزيادته على علمهم معنى في هذا الموضع لأن الحكمة على قول الخصم ممتنعة الامكان في حق الله تعالى فلم يتعلق بها علمه كما لا يتعلق برب ثان مشارك له في الربوبية ومن ثم أظهر الله تعالى بعد ذلك فضل آدم بعلم الاسماء ولو كان كما زعموا من تعطيل أفعاله من الحكم لفضله بغير سبب فدل على أنه أراد ببيان شيء من الخير الذي أحاط به علمه في خلق آدم عليه السلام وذريته ولم يحيطوا بشيء من الخير في ذلك فبين لهم أن فيه خيرا كثيرا وبان بذلك أن الشر المحض لا يكون من أفعاله تعالى بخلاف الشر المشتمل على الخير فيكون فيها ويكون ذلك الخير هو المقصود وهو المسمى تأويل المتشابة في لسان الشرع وغرض الغرض في لسان الحكماء ولذلك قال تعالى لهم بعد ذلك إنه يعلم غيب السموات والأرض ويعلم ما لا يعلمون وهذا يدل على ما قيل أن العالم كله كالشجرة وأهل الخير من الخلق هم ثمرة تلك الشجرة ويدل عليه
قوله تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون أي ليعبدني العابدون منهم على أحد التفاسير كما قررته بشواهده في العواصم
يوضح ذلك حديث الخليل عليه السلام وفيه نهيه عن الدعاء على من رآه يعصي الله وفيه ان الله تعالى قال له إن قصر عبدي مني إحدى ثلاث إما أن يتوب إلي فأتوب عليه أو يستغفرني فأغفر له أو أخرج من صلبه من يعبدني رواه الطبراني ثم الهيثمي في مجمع الزوائد وهذه الاشارة مع الفطرة تكفي بحسب هذا المختصر إن شاء الله تعالى وتقدمت بقية المباحث في المسألة الأولى في إثبات حكمة الله تعالى
المسألة السابعة في الوعد والوعيد والاسماء الدينية وليس في هذه المسألة تكفير ولا تفسيق باتفاق الفريقين فيما علمت إلا ما يأتي ذكره في إحدى صورتين لا يقع فيهما أحد من أهل العلم والخير وهما التكذيب بعد التواتر وتجويز الخلف على الله تعالى في الوعد بالخير لأن الفريقين متفقون على وجوب صدق الله تعالى وإنما اختلفوا عند تعارض بعض السمع في كيفية الجمع بين المتعارضات والترجيح لبعضها على بعض فيما يصح فيه الترجيح أو الوقف عند عدم التمكن من الجمع والترجيح وقد صح بعض الاختلاف بين الملائكة عليهم السلام كما دل عليه قوله تعالى ما كان لي من علم بالملإ إلأعلى إذ يختصمون كما تقدم شواهده في مسألة اثبات الحكمة وورد في الحديث الصحيح اختلاف الملائكة في هذه المسألة بعينها وذلك حيث اختلفوا في حكم النادم المهاجر بعد قتل مائة نفس حتى جاءهم ملك فحكم بينهم فكانت الاصابة لملائكة الرحمة ولله الحمد والمنة والحديث طويل رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري ولا يصح تأثيم أحد منهم بالاجماع لأن الذين أرادوا عذابه إنما اشتد غضبهم لله تعالى والذين أرادوا نجاته إنما رجوا له سعة رحمة الله تعالى فكذلك علماء الاسلام في هذه المسألة إنما خاف بعضهم من مفاسد الامان وخاف بعضهم من مفاسد القنوط ومن مفسدة تكذيب البشرى ومفسدة ثقة الانسان بنفسه وحوله وقوته وعلمه ونحو ذلك ومن نظر بعين التحقيق وجد القول الحق الوارد في السنة خاليا من جميع هذه المفاسد
ولا شك أن رسول الله وآله مبين لكتاب الله تعالى أمين على تأويله وأن المرجع في بيان كتاب الله تعالى إلى السنة الصحيحة فليس في كتاب الله تعالى من تفاصيل الصلاة والزكاة والصوم والحج وأمثالها إلا اليسير ولا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول إما على جهة الجمع ولا شك في جوازه وصحته وحسنه والاجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الامة وخلفها بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح فان تعذر الجمع فالترجيح فان وضح عمل به وإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن بعد الانتصاف منه للمظلوم والقطع على أنه فاسق ملعون واجب قتله والبراءة منه والقطع أن جزاءه جهنم خالدا فيها كما قال الله تعالى على ما أراد وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في العواصم لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية هل بين جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء أو بين جزاءه الذي تخير له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول والله سبحانه أعلم
فمن رجح الجمع بين وعيد القاتل وبين قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وسائر آيات الرجاء وأحاديثه قال بالاول ومن رجح وعيد القاتل في هذه الآية وفي الاحاديث المخصصة لقتل المؤمن بقطع الرجاء كما أوضحته في العواصم رجح وعيد القاتل ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجبا ولا اليه ضرورة رجح الوقف والله عند لسان كل قائل ونيته
ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه وعليه عمل علماء الاسلام في أدلة الشريعة ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع واضطر إلى التحكم والتلون من غير حجة بينة وقد أجمع من يعتد به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي متى كان أهل الصغائر من المسلمين ولم يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها فكذلك
سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى وذلك باب واحد ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين ولم ينكرها أحد بل رواتها أكابرهم وأئمتهم
وفي العواصم من ذلك عن علي عليه السلام بضعة عشر أثرا بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد على أن الخلف عند جماعات كثيرة لا يكون إلا عدم الوفاء بالوعد بالخير وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه وأجمعوا على أنه يسمى عفوا كما قال كعب ابن زهير
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
وإنما اختلفوا مع تسميته عفوا هل يسمى خلفا أم لا ومن منع من ذلك منع صحة النقل له لغة واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماع اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد وقد تقدم زيادة في هذا في مسألة الحكمة فلينظر هناك
ويستثنى من هذا كل وعيد جعله الله تعالى نصر للانبياء والمؤمنين ووعدهم به فانه يكون حينئذ وعدا لا يجوز خلفه كما قال صالح عليه السلام لقومه تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ولذلك سماه وعدا
وأما قصة يونس عليه السلام فقد تقدم الكلام عليها في مسألة الحكمة وكذلك اختلفوا في قوله تعالى ما يبدل القول لدي هل هي خاصة فيمن نزلت فيه من الكفار وهل فيها شيء من ذلك لقوله تعالى انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
أم لا فمن قال بعمومها لم ينظر إلى سبب نزولها في الكفار وجعلها كقوله تعالى وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ومن قصرها عليهم نظر إلى الجمع بين هاتين الآيتين وبين قوله تعالى وإذا بدلنا آية مكان آية وقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وخاصة إذا جوز أن نفي التبديل مقيد بيوم نقول لجهنم هل امتلأت وأنه ظرف له فهؤلاء فهموا من مجموع الآيات أن التبديل ينقسم إلى مذموم ومحمود فالمذموم ما كان من خير إلى شر والمحمود ما كان من شر إلى خير أو من خير إلى خير أفضل منه أو مثله وجعلوا العفو خيرا من العقوبة في حق المسلمين لما ورد في الاحاديث في هذا بعينه وفي من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها وأجمعت عليه الأمة في من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها
وينبغي هنا تحقيق النظر في الفرق بين الوعيد والخبر المحض عن الواقع في المستقبل وذلك أن الوعيد يحسن ممن لا يعلم الغيب بخلاف الخبر المحض وإذا لم يفعله لتوبة أو رحمة لم يعد في لغة العرب من الكذابين المذمومين فكيف إذا كان إنما بين مراده ولم يرجع عنه لأنه عند هؤلاء في خطاب المسخوطين خاصة كقول يوسف معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ولو كان له رغبة في رحمتهم وإسعادهم وجد اليه السبيل والله سبحانه أعلم وأحكم
ومن أمثلة ذلك الحالف على أن لا يفعل ما يستحب فعله فان كان له حكمة مرجحة لتركه وهو يخفيها كان له في اليمين عذر وإن أحب أن يفعل المستحب كان له فيه المخرج ولله تعالى من ذلك كله أجمله وأحسنه وأكثره حمدا وثناء
وقد ذكرت في العواصم من أحاديث الرجاء المبينة للمراد في عمومات الوعيد أكثر من أربعمائة حديث من دواوين الاسلام المعروفة مع ما شهد لها من الآيات القرآنية ومن أعظمها بشرى حديث معاذ المتفق عليه وفيه
أنه قال أفلا أبشر الناس قال دعهم يعملوا فدل على أنه على ظاهره وعلى أن جانب الرجاء مكتوم للمصلحة يوضحه حديث من مات له ثلاثة لم تمسه النار قالوا واثنان قال واثنان فقد كان أوهمهم بمفهوم العدد أن الرجاء يختص بالثلاثة ولم يبدأهم بالبشرى بالاثنين لمصلحة التخويف ومنه قوله في ذلك لم تسمه النار إلا تحلة القسم فدل على أن القدر الواجب المقسم عليه مجرد الورود في حق المسلمين ولله الحمد
ومن ذلك أحاديث خروج من دخل النار من الموحدين برحمة الله تعالى ثم بشفاعة رسول الله وآله وشفاعته من رحمة الله تعالى والذي حضرني الآن من الأحاديث المصرحة بخروجهم من النار أحاديث كثيرة جدا عن أكثر من عشرين من كبار أصحاب رسول الله وآله من ذلك في علوم آل محمد وآله عن علي بن أبي طالب عليه السلام في باب ما يقال بعد الصلاة وفي مسند أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وأبي هريرة وفي البخاري وحده عن عمران بن حصين وفي صحيح مسلم وحده عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وفي مستدرك الحاكم عن أبي موسى عشرتهم عن رسول الله وآله بذلك بألفاظ صريحة ضرورية لا تحتمل التأويل
وفي مجمع الزوائد مثل ذلك عن عشرة من الصحابة غير هؤلاء الذين ذكرتهم ذكرتهم في العواصم والتواتر يحصل بهذا بل بدون ذلك ولا يشترط في رجاله العدالة كيف وقد اجتمعا غالبا وما زالوا يروون ذلك في عهد رسول الله وآله وبعده لا ينكره منكر ولا يزجر عنه أحد ثم وافقهم جماعة كثيرة على هذا المعنى لكن بغير لفظ الخروج من النار وذلك كثير جدا منهم من روى أن الشفاعة نائلة من مات لا يشرك بالله شيئا كعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبي ذر الغفاري وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك وأبي هريرة وابن عباس ومعاذ وأبي موسى وأنس وأبي أيوب وأبي سعيد ومنهم من روى حديث شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي كما ثبت ذلك من حديث جابر بن عبد الله
وأنس بن مالك وابن عمرو رواه الحاكم في المستدرك من حديث جعفر ابن محمد الصادق عن أبيه الباقر عن جابر وفي حديث ابن عمر حرب بن شريح وثقه جماعة وفيه خلاف يسير ينجبر بالشواهد وروى عنه نحو ذلك بغير لفظه من طريق النعمان بن قراد وهو ثقة رواهما الهيثمي في مجمعه ولفظ حديث النعمان أن شفاعتي ليست للمؤمنين المتقين لكنها للمذنبين الخاطئين المتلوثين وروى الهيثمي نحو ذلك عن أم سلمة وعبد الله ابن بسر وأبي أمامة ومنهم من روى أن الله يفدي كل مسلم بكافر كما رواه مسلم من حديث أبي موسى بأسانيد على شرط الجماعة
ومن ذلك ما ورد فيمن كان آخر كلامه لا أله إلا الله وقد تقصاها الحافظ ابن حجر في تلخيصه في كتاب الجنائز ثم ما ورد في الرجاء لأهل الأمراض والفقر والمصائب وفي موت الاولاد والاصفياء وفي هذا النوع وحده عن ثمانية عشر صحابيا ثم ما جاء في فضائل الايمان والاسلام والوضوء والصلوات والصدقة والصلة والجهاد والشهادة والاذكار وسائر الاعمال الصالحة مع ما شهد لذلك من سعة رحمة الله تعالى المنصوصة في الكتاب والسنة وأنها الموجبة دخول الجنة لا العمل في أربعة عشر حديثا ويشهد لها أن الله تعالى سمى الجنة فضله في غير آية وأن المائة الرحمة أعدت ليوم القيامة في عشرة أحاديث ويشهد لها قوله تعالى كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه وما دل على جواز ورود ذلك من آيات القرآن الكريم وهي أنواع كثيرة
منها قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وهي أبين آية في الوعد والوعيد وقد جودت الكلام عليها في العواصم بحمد الله تعالى
ومنها قوله تعالى بعد ذكر المتقين والفراغ منه ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا
ومنها قوله تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن في أربع آيات فانها أخص وأبين من وصف المؤمنين بعمل الصالحات إذ لا يمكن إحاطة الواحد منهم بها كلها كما اعترف بها الزمخشري وإن المعنى في عملها عمل بعضها فأما قول الكوفيين إن من قد تكون زائدة في الاثبات فلا يقطع الرجاء لو سلم لأن الاكثر أنها فيه للتبعيض عند الجميع ومجرد تجويز أنها للتبعيض يوجب الرجاء لو كان نادرا كيف وهو الأكثر إذ لا يجوز القطع في موضع الاشتراك بغير قاطع فثبت الرجاء على كل تقدير ويعضده الوعد على الواحد منها كقوله تعالى ومن يوق شح نفسه و إن تقرضوا الله قرضا حسنا مع شهادة السنة لذلك مثل حديث أربعين خصلة وحديث اتقوا النار ولو بشق تمرة وقد بسط في العواصم
ومنها قوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وقد أوضحت هنالك وفي الاجادة أن الاستثناء من الشر للنقصان ومن الخير للزيادة لقوله في أهل الحسنى لهم الحسنى وزيادة وفي آية لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد وفي أخرى ويزيدهم من فضله
وفي دواوين الاسلام الصحاح من غير طريق يقول الله الحسنة بعشرة أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو رواه ابن عباس وأبو سعيد وأبو ذر وأبو رزين أربعتهم عن رسول الله وآله ولذلك قال الله تعالى بعد الاستثناء من خلود أهل الجنة عطاء غير مجذوذ فأشار إلى أن الاستثناء فيها للزيادة كما ثبت في سائر الآيات والأحاديث وكما
قال بعد ذكر ثواب المؤمنين بالجنة ورضوان من الله أكبر ويشهد لذلك قوله تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله ولم يقل هنا إلا هو كما قال في كشف الضر وهذا من لطف هذا الباب وأوضح منه قوله تعالى ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ولم يقل ليجزي الصادقين إن شاء كما قال في العذاب وفي سورة الليل تخصيص الحسنى وهي الجنة بالوعد على التصديق بها والوعيد على التكذيب بها وفي الصحيح المتفق على صحته حديث لم تمسه النار إلا تحلة القسم وفيه مأخذ قوي في معرفة القدر المقسم عليه منه والله أعلم
ولهذا شواهد في القرآن والسنة يحصل بمجموعها قوة كثيرة ومما قيل أنه وقع من ذلك قصة يونس لقوله تعالى الا قوم يونس الآية والوقوع فرع الصحة وأدل منها فكم من ممكن لم يقع ولا يقع ويستحيل فيما وقع أن يكون غير ممكن وقد جود القرطبي الكلام في قصتهم في تذكرته وقال إن توبة الله عليهم محض التفضل لأنهم قد كانوا مضطرين إليها بمشاهدتهم العذاب الذي وعدهم به يونس صلوات الله وسلامه عليه والله سبحانه أعلم لكن يعارض ما ذكره قصة فرعون فانه لم يقبل إيمانه حينئذ بل قال الله تعالى له آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين
والحق أن الله لا يخلف الوعيد الا أن يكون استثنى فيه وليس كل من شاهد العذاب اضطر إلى الايمان لأنه قد يشك في أنه عذاب من الله أو من مصائب الدنيا كما كان من ابن نوح فانه قال بعد مشاهدة الغرق الخارق والوعيد به : سآوي إلي جبل يعصمني من الماء فدل علي
اختلاف أحوال الخلق في ذلك وبعد فالاضطرار فعل الله تعالي بالاتفاق فلا ينكر أنه يفعله لبعض دون بعض
وأصح التفسير تفسير القرآن بالقرآن ثم بالحديث فاذا اجتمعا وكثرت الأحاديث وصحت كان ذلك نورا علي نور يهدي الله لنوره من يشاء وكل ذلك رجاء مقرون بالخوف مقطوع عن الامان لجهل الخواتم ولقوله تعالي لمن يشاء بعد قوله ويغفر ما دون ذلك ولقوله في الصالحين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون وفي آية إن عذاب ربك كان محذورا فلا يقتضي شيء من ذلك الاغراء والفساد لأن الشفاعة إنما هي شفاعة من النار بعد دخولها وذلك من أعظم الصوارف عن المعاصي مع ما يقع بسبب المعاصي في الدنيا والقبر ويوم القيامة من المؤاخذة علي ما شهدت به الآيات والأخبار وكفي بقوله تعالي في مصائد الدنيا وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وفي قراءة فبما كسبت أيديكم
وقد ذكرت في العواصم في التخويف أكثر من عشرين آية من كتاب الله تعالي مما يختص بعصاة المسلمين وذكرت هنالك أيضا حديثا كثيرا في التحذير من مكر الله وشديد عقابه أعاذنا الله منه وختمت بذلك الكلام في الرجاء كيلا يظن الجهال أن المقصود بالرجاء هو الامان والتفريط وتضييع الاعمال واطراح التقوي وقد جود الكلام في هذا المعني الشيخ العلامة الشهير بابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه الجواب الكافي فليطالع فانه مفيد جدا
والجمع بين الخوف والرجاء سنة الله وسنة رسله عليهم السلام وسنة دين الاسلام والاولي للانسان تغليب الخوف في حق نفسه إلا عند اقتراب الاجل الاقتراب الخاص أعني عند ظهور امارات الموت في المرض الشديد
وإلا فالموت قريب غير بعيد وذلك لما صح أن الله تعالي يقول أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ولهذا الحديث لم يكن تقديم عمومات الوعيد أولي من تقديم خصوص آيات الرجاء وأحاديثه مع ما عضد هذا الحديث من نحو قول الملائكة عليهم السلام للخليل عليه السلام فلا تكن من القانطين وقوله في جوابهم ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون مع ما ورد في كتاب الله تعالي من شواهد ذلك كقوله تعالي يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون الذين لا يعلمون هذه الآية تفسير قوله إنما يخشي الله من عباده العلماء لأنه قصر الخشية عليهم حيث علموا الدار الآخرة دون الكافرين كما دل عليه أول الآية ولم يقصرهم علي الخشية دون الرجاء كما دل عليه وصفهم برجاء رحمة الله تعالي في غير آية وقوله تعالي لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وقوله تعالي أولئك يرجون رحمت لله والله غفور رحيم وقوله تعالي يرجون تجارة لن تبور وقوله تعالي مالكم لا ترجون لله وقارا وقوله تعالى والذين أطمع أن يغفر لى خطيئتي يوم الدين وقوله تعالي وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين إلي بما قالوا وقوله تعالى وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين فأكد الطمع بقوله إن رحمت الله قريب من المحسنين وهم المخلصون لإيمانهم من النفاق كما قرر في موضعه وقوله تعالى ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين فأكد الرهب بذكر الخشوع فبين أنه المقصود لا القنوط
وقول الخليل عليه السلام ومن عصاني فانك غفور رحيم وقول عيسي عليه السلام وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم وفي الخوف أكثر من ذلك كقوله ولمن خاف مقام ربه جنتان وقوله تعالي ذلك لمن خشي ربه وقوله تعالى إنما يخشي الله من عباده العلماء وقوله تعالي في الملائكة يخافون ربهم من فوقهم وقوله تعالى في الصالحين إن عذاب ربهم غير مأمون وقوله تعالى وفي نسختها هدي ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقول رسول الله وآله والله إني لأخشاكم لله وأمثال ذلك مما يطول ذكره
والجمع بين الرجاء والخوف من وجهين أحدهما أن يرجو حين يذكر صفات ربه ويخاف حين يذكر صفات نفسه لقوله تعالى من خشي الرحمن فسماه بالرحمن في حال خوفه وثانيهما أن يخاف على نفسه ويرجو لغيره وتأمل قول الخليل عليه السلام في خوفه على نفسه والذين أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ولم يقل والذي يغفر لي كما قال والذين هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين وكذا قوله عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا وقال عليه السلام في حق غيره ومن عصاني فانك غفور رحيم فانظر ما أشد خوفه على نفسه وأوسع رجاءه لغيره وهذا عكس ما عليه الاكثرون والله المستعان
فان قيل هذا الكتاب مبني على الاحتياط ومذهب الوعيدية أحوط فكيف لم تلتزمه في هذه المسألة
فالجواب أن الاحتياط باق مع الرجاء والخوف لوجهين أحدهما أن المفسدة إنما هي في الأمان لكن من لم يتأمل لم يفرق بين الامان والرجاء والفرق بينهما واضح ولذلك قيل من رجا خاف ومن خاف رجا ومن قديم ما قلت في هذا المعني هذه الأبيات
عذلي عابوا رجائي ... عذلي جاروا وتاهوا
كيف لا أرجو الذي لا ... يغفر الذنب سواه
جاء في القرآن منصوصا ... وكل قد رواه
وهو أعلي رتب المجد ... بعفو هو ما هو
قصر المدح عليه ... فانظروا ذا المدح ما هو
هو حق أو محال ... أو صحيح أو سواه
لا ومن لا يغفر الذنب ... وإن جل سواه
إنه للحق صدقا ... وصدوق من رواه
وسعيد من تلقا ... بصدق ورجاه
وظلوم من يسميه ... مني خاب مناه
الاماني رده الحق ... اجتهادا بهواه
أو يري أهدي من ... القرآن نهجا ما رآه
ويري الباطل في ... مفهومه مهما تلاه
غير أن الله للعبد ... بخوف ابتلاه
لصلاح فيه لا يغني عن الخوف سواه ...
نحمد الله علي الخوف ... فمولانا قضاه
لو محا الخوف رجائي ... لمحا الخوف قضاه
من رجا خاف من الله ... ومن خاف رجاه
ولذا اختص أولو العلم ... ومن قد اصطفاه
بمزيد الخوف لله ... مع وعد رضاه
لو رجا الكافر أوخاف ... وقاه وكفاه
ذا رجائي فيه وإلا ... رجاء زور لا أراه
فاعرف الارجاء تعلم ... أن رجواه سواء
وثانيهما أن الاحتياط إنما هو بالعمل الصالح فان العمل الصالح هو موضع الاحتياط فاما مجرد الاعتقاد فلا يمكن أن يكون أحد الاعتقادين
أحوط ههنا لأنه من قبيل التصديق وهو واجب في الموضعين بل هو في الرجاء أوجب اجماعا وإنما يمكن اعتقاد الاصح ولذلك اختلفت الملائكة عليهم السلام وكان الصواب مع من رجا منهم كما تقدم في أول هذه المسألة
ويدل علي ذلك وجوه
الوجه الأول أن المقتضي للرجاء تقديم الخاص على العام عند تعارض السمع في ذلك وذلك واجب ولا يمكن أن يكون ترك الواجب أحوط لأن تركه حرام وارتكاب الحرام يناقض الاحتياط وينافيه فلم يمكن الاحتياط إلا في العمل فان زعموا ان العموم في مسائل الاعتقاد قطعي فلا يجوز تخصيصه فالجواب من وجوه أولها أنه يلزمهم مثله في عمومات الوعد بالمغفرة كقوله تعالى يغفر لمن يشاء وقوله تعالى إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم وقوله تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن في ثلاث آيات وقوله تعالى يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا وقوله تعالى أعدت للكافرين وفي الجنة أعدت للذين آمنوا بالله ورسله وغير ذلك مما يطول ذكره وتقدم بعضه بل المحافظة على الصدق في الوعد أوجب لأن الخلف فيه قبيح ضرورة وإجماعا وفي الوعيد لا ضرورة فيه ولا إجماع وثانيها ان المخصصات قواطع كقوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقوله تعالى أعدت للكافرين وقوله إن العذاب على من كذب وتولى وقوله لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وغير ذلك وقد بسطت الردود على مطاعن المخالف في الاحتجاج بها وغايتها ظواهر مثل عموماتهم فان وجب الجزم على ما يفهم من عموماتهم لعلة وجب الجزم على ظواهر هذه لتلك العلة بعينها بل البعد عن الخلف في الوعد أوجب لما تقدم وإن جاز حمل هذه على غير ظاهرها لدليل منفصل جاز في عمومات الوعيد مثل
ذلك وكانت هذه هي الادلة المنفصلة وإن لم يسلموا أنها قاطعة كانت معارضة توجب الوقف وأحاديث الشفاعة المصرحة بخروج الموحدين من النار قاطعة في معناها بالاجماع وهي قاطعة في ألفاظها كما أوضحناه فيما تقدم لورودها عن عشرين صحابيا أو تزيد في الصحاح والسنن والمسانيد وأما شواهدها بغير لفظها فقاربت خمسمائة حديث فيها كثير من طريق أهل البيت عليهم السلام كما مضى ورابعها أنه لا يمكن القطع على تكذيب رواتها خاصة ومنهم جماعة من أهل البيت عليهم السلام ومتى لم يمكن حصل التجويز ومتى حصل وجب قبول الثقة وخامسها أن المخالف وافق على قبول الآحاد في مثل ذلك حيث يحتاجه كما قبلوا استثناء الدين من المغفرة للشهيد وهي قرآنية واستثناء علي عليه السلام من قوله تعالى فإن لم تفعلوا في آية النجوى وغير ذلك وسادسها أنهم أهل الدعوى والحجة عليهم وليس بأيديهم إلا ظواهر معارضة بأمثالها وفي الموضع الثاني من الفصل الثالث من الجوهرة في أقسام الخصوص أنه لا وجه للمنع من تخصيص الاخبار مع القرائن والاحتجاج على الجواز بالعقل والسمع
قلت ومن الأدلة قوله تعالى في ريح عاد ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وقوله تعالى فيها تدمر كل شيء بأمر ربها مع قوله تعالى فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم فخص مساكنهم
وقال في سورة القمر إلا آل لوط نجيناهم بسحر وخص امرأته من هذا العموم في الحجر والنمل خصوصا منفصلا وأمثال ذلك كثير
وأما الاشعار الجملي بأن هذا العموم مخصوص فلو كان لوجب أن ينقل عادة لكثرة العمومات المخصوصة فلما لم ينقل ألبتة علم بالعوائد أنه لم يكن فلم يبق إلا أن كثرة وقوع التخصيص بعد العموم في اللغة والشرع تنزل منزلة الاشعار بأن صيغة العموم ظنية لا يجوز استناد الاعتقاد القاطع
اليها وكان هذا بمنزلة القرينة الصارفة عن القطع كما فهمت ذلك الصحابة على ما شرح مطولا في العواصم لذلك جعلوا الاسباب في كثير من المواضع قرائن قاصرة للعموم بل لأجل هذه الكثرة في تخصيصه قال المرتضى الموسوي أنه مشترك بين العموم والخصوص ومتى لم يجد الوعيدي شفاء في هذه الادلة فلينظر في عمومات الوعد التي هي أوجب صدقا من عمومات الوعيد وكيف أجتزئ فيها باليسير من هذا ولم يجتزأ منه بشيء في حق خصمه فيعرف طبيعة العصبية الغالبة فربما خفيت على المنصف حتى يتأملها حق التأمل والله الهادي وفي الموضع الرابع في وقت بيان الخطاب من الفصل الثاني في الكلام في المجمل والمبين من الجوهرة أيضا أن ذلك يعني تجويز تخصيص الاخبار يؤدي إلى الاغراء بالقبيح واعترضه القاضي في تعليقه بما حاصله أن الجزم في موضع الظن خطأ من المكلف وقع منه باختياره القبيح ولا ملجئ اليه وإن كان يكفيه اعتقاد أن ظاهر ذلك العموم حقيقة لا مجاز ما لم يرد مخصص مع اعتقاده أيضا لاحتمال العموم حين ورد للتخصيص كما هو مقتضى اللغة التي نزل علها القرآن وكما هو معتقده في عمومات الوعد وقد بسط هذا بسطا شافيا في العواصم في مقدار مجلد كبير لمن أحب التوسع في معرفة ما ورد في هذه المسألة
الوجه الثاني من الأصل أن المرجح له الاحتراز من تجويز الخلف على الله تعالى في الوعد بالخير لأنه متفق على المنع منه عقلا وشرعا وإجماعا من الامة الاسلامية وسائر الملل والرجح للوعيد المحافظة على الصدق في الوعيد بالعقوبة وقد تقدم ما فيه من الخلاف والاحتمال والتعارض في الأدلة وأنه قد يسمى عفوا لا خلفا وأنه من التبديل إلى ما هو خير ونحو ذلك مع أنه قد اقترن به ما يمنع أن يكون خلفا وفاقا من شرط المشيئة ومن الفداء لكل مسلم بكافر ونحو ذلك ولا شك في ترجيح الأول على الثاني لأن من تعمد القول بتجويز الخلف على الله في الوعد بالخير فقد كفر بالاجماع والخطأ فيما عمده كفر بالاجماع أشد قبحا والاحتراز منه أوجب عقلا وسمعا وقد قال الله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من
ربكم وقال فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ولا شك أن تغليب جانب الرحمة وما يناسبها أكثر ثناء على الله تعالى ولذلك كتبها على نفسه وتمدح بها وكثر اسماءه المشتقة منها ومدح العافين والكاظمين كما يجيء في الوجه السابع إن شاء الله تعالى
الوجه الثالث أنه قد ورد الوعيد الشديد على سوء الظن بالله تعالى وعلى عدم قبول البشرى كما تقدم قريبا في نهي الملائكة للخليل عليه السلام عن القنوط وفي جوابه عليهم وقال الله تعالى في ذلك والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم فخص الكافرين باليأس من رحمته وتوعدهم عليه بأليم عقابه وقال تعالى أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وقال إنا كنا من قبل ندعوه أنه هو البر الرحيم بفتح أنه وهي قراءة وبذلك وردت السنة الصحيحة المفسرة للقرآن فصح عن رسول الله وآله أنه قال يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء وحديث الأمر بقبول البشرى وفيه أن النبي وآله قال لأعرابي أبشر فقال قد أكثرت علي من أبشر فأقبل على بعض أصحابه وقال إن هذا رد البشرى فأقبلا أنتما رواه البخاري وفي المستدرك ومسند أحمد من حديث عكرمة بن عمار عن صمضم بن جوسي اليمامي عن أبي هريرة سمعت رسول الله وآله يقول كان في بني إسرائيل رجلان كان أحدهما مجتهدا في العبادة وكان الآخر مسرفا على نفسه وكانا متآخيين فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب فيقول يا هذا أقصر فيقول خلني وربي أبعثت علي رقيبا قال إلى أن رآه يوما على ذنب استعظمه فقال له ويحك أقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبا فقال والله لا يغفر لك فبعث الله اليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده فقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي
وقال للآخر أكنت بي عالما أكنت على ما في يدي قادرا اذهبوا به إلى النار قال فوالذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أذهبت دنياه وآخرته اه . ويشهد له أحاديث ذم التألي على الله تعالى والنهي عن ذلك كما ذكره ابن الأثير في النهاية ويعضده الحديث الصحيح صدفة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته
وقد جمعت في هذا المعنى مصنفا مفردا سميته قبول البشرى وشرط الاحتياط أن لا يكون فيه مخافة وفي القنوط واليأس من رحمة الله تعالى وتقنيط الناس منها مع نصه على أنها كالعلم في سعتها أعظم مخافة فامتنع أن يكون ذلك وما يستلزمه أو شيء منه أو يقاربه هو الاحوط خصوصا وقد ينتهي ذلك إلى الكفر في صورتين أحدهما أن يرد ذلك أحد بعد التواتر له ومعرفته بتواتره عنادا لخصمه ويقرب منه من يكذب مع تجويزه أنه صدر من رسول الله وآله فانه لا يؤمن مع صحته أن يكون كفرا على اعتبار الانتهاء كمن يستخف بمصحف وقد أخبر أنه مصحف وهو يجوز صدق من أخبره ولأن فيه مضارعة للاستهانة بأمر النبوة حين أقدم على التكذيب من غير ملجئ اليه مع تجويز أنه كلام رسول الله وآله ولذلك حرم تكذيب ما يجوز صدقه من أخبار أهل الكتاب لكن لا يقطع أنه كفر لا مكان أن يكون الحق اعتبار الابتداء دون الانتهاء أو يسامح فيه لعدم تحققه
الوجه الرابع أنه لو اعتبر الاحتياط على ما توهمه السائل لكان الاحوط هو مذهب الخوارج من الوعيدية لأنهم يجعلون الصغائر المتعمدة كبائر ويجعلون جميع المعاصي كفرا إلا لسهو ونحوه وبه فسروا الصغائر وبعضهم يستثنى من ذلك ما فيه حد لأن الكفر لا يجب معه حد لكن الأدلة قامت على بطلان قولهم والنصوص تواترت بمروقهم والامر بقتلهم فصح أن الأحوط اتباع البراهين الصحيحة دون مجرد التشديد
أحاديث الرجاء في كتب أهل البيت وجميع فرق الاسلام كما تقدم واختلفت الملائكة فيها وكان الحق فيها مع ملائكة الرحمة كما مضي
الوجه السادس أن الرجاء شرع للمصلحة الدينية لا للمفسدة وما شرع للمصلحة الدينية لم يكن تركه أحوط وتلك المصلحة هي قوة دعاء الرغبة الممدوح في قوله تعالى ويدعوننا رغبا ورهبا وتضعيف مفسدة القنوط المذموم بالنص والاجماع وعدم الكبر على العصاة المذموم بالنص في تفسير الكبر والتخلق بأعدل الاخلاق وأدلها على الانصاف وهو تغليب الرجاء على الخوف في حق الغير وتغليب الخوف على الرجاء في حق النفس وهذا هو معظم المصلحة فيه وإنما يلزم الفساد لو عكسنا ذلك وجعلناه وسيلة إلي المعاصي وأما مع إثبات الخوف وترجيحه في حق النفس فهو سبب الصلاح للأخلاق والاعمال وسنة الانبياء والأولياء
بيان ذلك أن الخليل عليه السلام جادل عن قوم لوط على جهة الرجاء لفضل الله ورحمته لعله يمهلهم حتى يتوبوا اليه أو غير ذلك مما كان يسوغ ويحتمل في شريعته عليه السلام فمدحه الله تعالى بذلك وقال في ذلك إن إبراهيم لحليم أواه منيب مع خوفه على نفسه كما تقدم حيث قال والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ولم يقل والذي يغفر لي وكذلك قال عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا وكذالك قال عيسى عليه السلام فيمن أشرك بعبادة عيسى إن تعذبهم فانهم عبادك وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم وقال إبراهيم عليه السلام أيضا ومن عصاني فانك غفور رحيم فدل على أن سعة الرجاء للخلق مع التجويز لا تخالف الاحوط وأنه لا ذم فيه ولا شبهة لأنه لا أبعد من الذم والشبهة من مثل خليل الله وروحه عليهما السلام ولذلك قال علي عليه السلام الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم مكر الله تعالى
الوجه السابع : إن الرجاء مقتضي اسماء الله تعالى وممادحة الغالية السابقة المكتوبة الواجبة أسماء الرحمة المحكمة والفضل العظيم التي هي
أم الكتاب والمقصود الأول باجماع الحكماء والسلف الصالح كما تقدم في إثبات حكمة الله تعالى وإن الخبر هو المراد لذاته والمراد الأول كما بسط في أواخر حادي الأرواح فينظر فيه فانه من أنفس المصنفات في ذلك والخوف إنما وجب لأمر عارض وهو خوف فساد العبد وغلبة هواه عليه فجعل وازعا له عنه أو صارفا ولذلك كره عند أمان المعصية عند النزع وترقب لقاء الله تعالى وقال وآله لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه فعلى قدر الخوف من الوقوع في المعاصي يحسن تقوية الخوف من العذاب ولا شك في غلبة الهوى للابتلاء فيجب تقوية الخوف واللجأ إلي الله تعالى في ذلك وهو نعم المعين
ثم إن هذه المسألة مما لا تجب معرفتها على كل مكلف لكن من عرف الحق فيما لا يجب لم يحل له جحده ولا يصح أن يسمى جحده احتياطا وإن كان قد سوغ كتمه في هذه المسألة في بعض المواضع حيث يخاف منه مفسدة كما ورد في بعض الاخبار ولا يجوز أن يقال أنه مفسدة مطلقا لأن ذلك يكون ردا على الله تعالى وعلى رسوله وآله وقد سمعه أصحابه والتابعون من أصحابه ولم يفسدوا به بل قد بشر بالجنة منهم جماعة بأسمائهم فلم يفسدوا بذلك فمن فسد فبسوء اختياره ونسبته لفساده إلي بشرى الله ورسوله وحسني أسمائه جناية أعظم من جنايته وذلك بمنزلة من يقول من الخوارج إن اثبات الصغائر مفسدة أو يمنزلة من يقول إن قبول التوبة مفسدة
فان قيل إن الرجاء يؤدي إلي تجويز أن الايمان قول بلا عمل وأن الجنة ترجى بغير استحقاق لها بالعمل ولاول مذموم عند الجمهور والثاني خلاف النص في قوله تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون
فالجواب أن هذا غلط فاحش لأن القول من الاعمال نصا وإجماعا إذ لا خلاف معتبر إن النار لا تدخل بغير عمل ونصوص القرآن في ذلك لا تحصى وإن الشرك بالقول عمل موجب لعذاب النار فمن قال بذلك كيف يستطيع ان ينكر أن يكون التوحيد عملا مثل ما ان الشرك عمل هذا مع ما ورد في الحديث الصحيح أن لا إله إلا الله أفضل العمل وأجمعت
الامة على ذلك حيث يموت من قالها عقيب قولها وعلى أنه لا يرد عليه هذا السؤال بل هو معلوم ضرورة من دين الإسلام وأما قول القائل أن الجنة لا تدخل ألا بالاستحقاق بالعمل بالنص فهذا كلام من لم يعرف النص لأن شرطه عدم الاشتراك والاشتراك في معنى الباء معلوم فقد تكون للثمن وللسبب وهو أولى هنا للحديث المتواتر ولتسمية الجنة فضل الله في كثير من الآيات كما بين في موضعه فالخلاف إذا في كيفية الجمع بين الآيات ونحوها
فصل في ذكر من يقول بالرجاء ومن يقول بالارجاء والفرق بينهما
ثم إن القول بالرجاء مشهور في كل مذهب ذكره الحاكم في شرح العيون عن جماعة من المعتزلة وذكر أن المعتزلي ليس هو الذي لا يقول بذلك ونسب ما يقتضي ذلك إلى زيد بن علي عليه السلام في ترجمة له غير ترجمته المبسوطة وتقدم شهرة ذلك أو تواتره عن علي عليه السلام لروايته عنه من بضعة عشر طريقا
وفي تذكرة القاضي شرف الدين الحسن بن محمد النحوي عن زيد بن علي ما يدل على ذلك وهو قوله بالصلاة على الفاسق وفي اللمع في الصلاة على الملتبس حاله إن المصلي عليه يقول في الدعاء له اللهم إن كان محسنا فزده إحسانا وإن كان مسيئا فأنت أولى بالعفو عنه وهذا تجويز للعفو عنه بل تحسين له وترجيح لا يوافق قول الوعيدية بل هو عين الرجاء ولذلك اعترضه بعض الوعيدية المتأخرين وفي التذكرة أيضا أن الارجاء ليس بكفر ولا فسق ذكره حيث ذكر أن المبتدع بما لا يتضمن الكفر والفسق مقبول الشهادة ومثل ذلك بالارجاء مع أن الارجاء غير الرجاء فان الارجاء عند أهل السنة مذموم وإن لم يصح في ذمه حديث
وقال الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى في الكلام في التكفير في المسألة السابعة ما لفظه لم تكفر شيوخنا المرجئة لأنهم يوافقونهم في جميع قواعد الاسلام لكنهم قالوا عني الله بآيات الوعيد الكفرة دون بعض الفسقة أو التخويف دون التحقيق وإن ذلك ليس بكفر اه . وذكر نحو ذلك الحاكم في شرح العيون وذكره نحوه القاضي عبد الله بن حسن الدواري في
تعليقه على الخلاصة وقيل في توجيه ذلك أن معناه أنه لا خلاف أن الوعيد مشروط لكن عند الوعيدية أنه مشروط بعدم التوبة من المعاصي لا سواء وعند أهل السنة بعدم التوبة أو عدم العفو وعند المرجئة بعدم الاسلام ولا قائل منهم بتجويز الكذب ألا ترى أن علماء التفسير وعلماء الاسلام قد يختلفون في بعض ما أخبر الله عنه أنه يفعله لاختلافهم في توقف ذلك الخبر على شرط منفصل كما اختلفوا في انزال المائدة مع قوله تعالى إني منزلها عليكم من غير تجويز كذب على الله تعالى كما اشتملت عليه كتب التفسير والله تعالى أعلم بل قد وعد الله الداعين بالاجابة في كتابه ووردت السنة بشروط في ذلك منها أن لا يعجل الداعي ويقول قد دعوت فلم أجب ونحو ذلك
وكذلك أجمعوا على أن الوعد يتوقف على شرط في كثير كوعد من أقرض الله قرضا حسنا بالمغفرة والمضاعفة فانه لابد فيه من شرط الموت على الاسلام اجماعا فلذلك لم يكن القول بتوقيف الوعيد على شرط منفصل كفرا لأنه ليس فيه نسبة قبيح إلى الله تعالى
ويدل على قول أهل السنة أن الوعيد مشروط بعدم التوبة وعدم العفو جميعا قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وهي أخص من قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به وأبين فيجب تقييدها بعدم العفو مثل تقييدها بعدم التوبة سواء وخاصة مع ما ورد بتفسيرها بذلك من حديث علي عليه السلام وفي تفسير من يعمل سوءا يجز به من حديث أبي بكر رضي الله عنه وما صح وتواتر من قول الله تعالى الحسنة بعشرة أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو والله أعلم
وممن روى عنه الارجاء من المعتزلة في كتب المعتزلة محمد بن شبيب وغيلان الدمشقي رأس الاعتزال ومويس بن عمران وأبو شمر وصالح قبه والرقاشي واسمه الفضل بن عيسى والصالحي واسمه صالح بن عمرو والخالدي وغيرهم ذكرهم القاضي في تعليق الخلاصة وزاد الشهرستاني
مع هؤلاء من المعتزلة بشار بن عتاب المريسي والغياثي وقال القاضي في تعدادهم ومن الفقهاء القائلين بالعدل سعيد بن جبير وحماد بن سليمان وأبو حنيفة وأصحابه وأبو القاسم البستي من أصحاب المؤيد بالله وهو مذهب الامام الداعي إلى الله تعالى من أئمة الزيدية ذهب اليه واعترض عليه به
ورواه عنه السيد صلاح ابن الجلال رحمه الله تعالى وكذلك غير الامام الداعي من الزيدية مثل الفقيه محمد بن حسن السودي الصالح والسيد العلامة داود بن يحيى والفقيه العلامة علي بن عبد الله بن أبي الخير وغيرهم ممن عاصرته وأدركته
وفي الجامع الكافي على مذهب الزيدية عن محمد بن منصور في هذه المسألة أنه قال المؤمن المذنب لله تعالى فيه المشيئة إن غفر له فبفضله وإن عذبه فبعدله قلت فهذا رجاء لا ارجاء والرجاء مذهب أهل السنة والسلف وفي كتب الرجال نسبة الارجاء المذموم إلى جماعة من رجال البخاري ومسلم وغيرهما من الثقات الرفعاء منهم ذر بن عبد الله الهمداني أبو عمرو التابعي حديثه في كتب الجماعة كلهم وقال أحمد هو أول من تكلم في الارجاء وأيوب بن عائذ الطائي حديثه خ م ت د وسالم بن عجلان الافطس في خ د س ق وكان داعية إلى الارجاء وشبابة بن سوار أبو عمرو المديني وكان داعية وقيل أنه رجع عنه وابن عبد الرحمن أبو يحيى الحماني الكوفي حديثه عند خ م ت ق وكان داعية إلى ذلك وعثمان بن غياث الراسبي البصري في خ م د س وعمرو بن ذر الهمذاني الكوفي من كبار الزهاد والحافظ وكان رأسا في الارجاء حديثه في خ ت د س وعمرو بن مرة الجملي أحد الاثبات من كبار التابعين حديثه عند الجماعة كلهم وابراهيم بن طهمان الخراساني أحد الائمة حديثه عندهم وقيل رجع ومحمد بن خازم أبو معاوية الضرير أثبت أصحاب الاعمش حديثه عندهم وورقاء بن عمرو الكوفي اليشكري حديثه عندهم ويحيى بن صالح الوحاظي الحمصي حديثه عند خ م ت د ق وعبد العزيز بن أبي رواد الحمصي خرج له الاربعة واستشهد به البخاري فهؤلاء ممن ذكره ابن حجر في مقدمة شرح البخاري والذهبي في الميزان فكيف لو تتبع سائر الرواة من كتب الرجال الحافلة فلقد ذكر الذهبي في ترجمة هشام ابن
حسان من الميزان على هدبة بن خالد أحد رجال البخاري ومسلم أنه يقول عن شعبة بن الحجاج على جلالته أنه يرى الارجاء دع عنك الرجاء بل ذكر الذهبي في ترجمة الفضل بن دكين عن ابن معين أن الفضل إذا قال في رجل كان مرجئا فانه صاحب سنة لا بأس به وإذا أثنى على رجل أنه جيد فهو شيعي قال الذهبي هذا القول من يحيى يدل على أنه كان مائلا إلى الارجاء وهو خير من القدر بكثير
قلت وهو يحتمل ان ابن معين يعني أن الفضل كان يسمي الرجاء ارجاء تحاملا على أهل السنة أو عدم معرفة بالفرق بينهما كما هو عمل كثير من المتأخرين بل هذا الاحتمال أقوى والالزم أن يكون ابن معين يعتقد أن الارجاء مذهب أهل السنة كلهم وهذا باطل بالضرورة فقد رد كل واحد من أهل دواوين الاسلام الستة على المرجئة في كتبهم المشهورة
وأما أول من تكلم فيه فقيل ذر بن عبد الله كما تقدم عن أحمد وقيل الحسن بن محمد بن الحنفية كما في الملل والنحل وفي تهذيب المزي وفي غيرهما وفي البخاري ومسلم عن ابن مسعود ما يقتضي أنه تكلم فيه فان فيهما عنه قال رسول الله وآله كلمة وقلت الثانية قال من مات يشرك بالله دخل النار وقلت من مات لا يشر بالله دخل الجنة وفي رواية فيهما أنه يرفع ذلك إلى رسول الله وآله ذكرهما ابن الأثير في جامعه ونسب ذلك الشهرستاني إلى سعيد بن جبير وجماعة غير من ذكرت هنا والله أعلم من يصح عنه الارجاء ومن غلط عليه في تسمية الرجاء ارجاء فان الرجاء هو القول بان الله تعالى لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء على الاجمال في المغفور لهم لا في المغفور كما أوضحته في العواصم وجودت الكلام على هذه الآية في أكثر من كراس كبير
وأما الارجاء فهو القول بأن الله تعالى يغفر ما دون ذلك لأهل التوحيد قطعا وحملوا وحملوا الأحمال على أنه جاء لاخراج مغفرة الكبائر التي دون الشرك للمشركين فانه لو لم يجمل ذلك بالشرط المذكور لزم ذلك وزعموا أن بيان ذلك ورد في السنة وأن الخوف صحيح ولكن زعموا أنه لسوء الخاتمة
وخوف الموت على غير الاسلام وهذا القول الذي قالوه اسراف في القول ويخاف منه أن يقوي جانب الامان كما أن قول الوعيدية يخاف منه أن يقوي جانب القنوط وخير الأمور أوساطها والذي جاء في السنة مما يقتضي مذهب الارجاء معارض بأحاديث الشفاعة وفيها التصريح بدخول عصاة الموحدين النار ثم بخروجهم منها بالشفاعة والجمع بينها وبين تلك الأحاديث مذكور في العواصم فقد جاءت هذه المسألة فيه في مجلد ونسأل الله تعالى أوفر حظ ونصيب من خوفه ورجائه وطاعته وفضله العظيم ورحمته الواسعة السابقة الغالبة التي كتبها على نفسه أنه هو الغفور الرحيم
المسألة الثامنة في الولاء والبراء والتكفير والتفسيق وما يتعلق بذلك على طريق الاختصار قال الله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون وهي من قواعد هذا الباب والدواعي إلى المحافظة عليه وقال تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون وصح بلا خلاف حديث المرء مع من أحب وشواهده وطرقه كثيرة
وفي سنن أبي داود من حديث أبي ذر مرفوعا أفضل الاعمال الحب في الله تعالى والبغض في الله تعالى وللحاكم من حديث عائشة مرفوعا الشرك في هذه الامة أخفى من دبيب النمل وأدناه أن يحب على شيء من الحور ويبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض رواه الحاكم في تفسير آل عمران من المستدرك وقال صحيح الاسناد وفي مسند البراء من مسند أحمد حدثنا اسماعيل هو ابن ابراهيم بن علية قال حدثنا ليث عن عمرو بن مرة عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء ابن عازب قال كنا جلوسا عند النبي وآله فقال أي عرى الاسلام
أوثق قالوا الصلاة قال حسنة وما هي بها قالوا الزكاة قال حسنة وما هي بها قالوا صيام رمضان قال حسن وما هو به قالوا الحج قال حسن وما هو به قالوا الجهاد قال حسن وما هو به قال إن أوثق عرى الاسلام أن تحب في الله وتبغض في الله تعالى
وفي هذا فروع مفيدة الاول أن هذا كله في الحب الذي هو في القلب وخالصة لأجل الدين وذلك للمؤمنين المتقين بالاجماع وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل اسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة كما يأتي وأما المخالفة والمنافعة وبذل المعروف وكظم الغيظ وحسن الخلق واكرام الضيف ونحو ذلك فيستحب بذله لجميع الخلق إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة فلا يبذل للعدو في حال الحرب كما اشارت اليه الآية لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين كما يأتي وأما التقية فتجوز للخائف من الظالمين القادرين وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز وهو المنافعة وربما عبر عنه بالمداهنة والمداراة والمخالفة وما كان من أمر الدين فهو الرباء الحرام ويأتي ما يدل على ذلك في الأدلة المذكورة في هذه المسألة
ومن كلام الامام الداعي إلى الله تعالى يحيى بن المحسن عليه السلام في الرسالة المخرسة لأهل المدرسة لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه لأن كثيرا من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك فتولى الناصر الكثير منهم وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق وصلى الحسن السبط على جنائزهم وأقام علي بن موسى الرضا مع المأمون وكثر جماعته وتزوج ابنه محمد ابنة المأمون وغير ذلك والوجه فيه أن الفعل لا ظاهر له فتأويله ممكن وذكر الامام المهدي محمد بن المطهر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالاجماع هي موالاة الكافر لكفره والعاصي لمعصيته ونحو ذلك
قلت وهو كلام صحيح والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك
أشياء كثيرة منها قوله تعالى في الوالدين المشركين بالله وصاحبهما في الدنيا معروفا ومنها قوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء بعد آيات التحريم رواه أحمد والبزار والواحدي وتأخرهما واضح في سياق الآيات وقرينة الحال مع هذا الحديث ومع حديث ابن عمر الآتي ولو لم يصح تأخر ذلك في هذين الحديثين وغيرهما فالخاص مقدم على العام عند جهل التاريخ عند الجمهور ورجحه ابن رشيد في نهايته بالنصوصية على ما هو خاص فيه ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليها من حديث علي عليه السلام في قصة حاطب على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعا فان رسول الله وآله قبل عذره بالخوف على أهله في مكة والتقية بما لا يضر في ظنه
فان قيل القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره
قلت إنما قبل عذره في بقائه على الايمان وعدم موالاة المشركين لشركهم ولذلك خاطبه الله بالايمان فقال يا أيها الذين آمنوا والعموم نص في سببه فاتفق القرآن والحديث وأما ذنبه فانه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا باذن أميرهم لقوله تعالى وإذا جاءهم أمر من الخوف أو الأمن إذاعوا به الآية ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع ومع إذنه يجوز فقد أذن في أكثر من ذلك لرسول الله وآله حيلة في حفظ المال فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه وآله فدل
على أن ذنب حاطب هو الكتم لما فيه من الخيانة لأنفس الفعل لو تجرد من الكتم والخيانة والله أعلم
ويدل عليه قوله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم وقوله تعالى فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون فأمره بالبراءة من عملهم القبيح لا منهم وكذلك تبرأ النبي وآله مما فعل خالد بن الوليد ولم يبرأ منه بل لم يعزله من امارته ولأن الله تعالى علل تحريم الاستغفار للمشركين بقوله من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم فكل ذنب يستغفر أو نحو ذلك فيه لم تلزم لذنب الشرك في ذلك حتى احتج بها بعضهم على جواز الاستغفار للمشركين قبل أن يموتوا على الشرك وتأولوا عليه حديث اللهم اغفر لقومي فانهم كانوا جاهلين وهو في خ م وحديثا آخر لعلي عليه السلام في تأويل استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه كذلك رواه أحمد ويدل عليه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم عن ابن عباس هم الذين منعهم أهلهم عن الهجرة لما هاجروا ورأوا الناس قد فقهوا هموا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم ومن قال كانوا مشركين فليس بشيء لأنها مدنية وقد كان حرم نكاح الكوافر وفيه نظر ويدل عليه ما تقدم في حديث الحب على شيء من الجور والبغض على شيء من العدل ويدل عليه جواز نكاح الفاسقة بغير الزنا وفاقا ونكاح الكتابية عند الجمهور وظاهر القرآن يدل عليه وفعل الصحابة ومنه امرأة نوح وامرأة لوط وقوله للكفار هؤلاء بناتي هن أطهر لكم
ومن ها هنا أجاز المشددون في الولاء والبراء أن يحب العاصي لخصلة خير فيه ولو كافرا كأبي طالب في أحد القولين وعلى الآخر حب النبي وآله له قبل إسلامه وهو مذهب الهادوية ويدل لهم في المسلم حديث شارب الخمر الذي نهى النبي وآله عن سبه بعد حده وقال لا تعينوا
الشيطان على أخيكم أما أنه يحب الله ورسوله رواه البخاري وكذلك حديث ضمضم عن أبي هريرة في المتآخيين المجتهد في العبادة والمسرف على نفسه كما تقدم في المسألة السابعة بل يدل عليه في حق أهل الاسلام قوله تعالى وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده فجعل الايمان بالله وحده غاية ينقطع عندها وجوب العداوة والبغضاء ومنه استئذانه وآله في زيارة قبري والديه وزيارته لهما وشفاعة إبراهيم لأبيه فان الباعث على تخصيصهم بذلك هو الحب للرحامة ومنه فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ولعلك باخع نفسك لشدة شفقته ورفقه ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه قال كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء قال يعني النبي وآله اني ادخرت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا بعد ورجونا رواه في مجمع الزوائد في موضعين من خمس طرق أحدها صحيح وله شاهد عن ابن مسعود بل أحاديث الشفاعة المتواترة تشهد له والله أعلم
فيه وفي آية الممتحنة فائدة نفيسة هي أن ذلك آخر الامرين إن روى ما يعارض هذه الأدلة وقد ذكرت في العواصم أدلة كثيرة على تأخر ذلك في أول مسألة الوعد والوعيد وهي مفيدة جدا ثم وجدته قد ذكره النووي وقواه في شرح مسلم ويعضده ما نص عليه من العفو عمن فر يوم أحد ومن حديث أهل الافك إلا الذي تولى كبره منهم لأنه عبد الله بن أبي بن سلول وهو منافق ومنه حديث مسطح ونزول الآية فيه ومنه تحريم المشاحنة والمهاجرة بل جعلها كالشرك في منع المغفرة للمتهاجرين حتى يصطلحا كما صح ذلك من حديث أبي هريرة وله شواهد كثير عن أبي بكر وعوف بن مالك وعبد الله بن عمر ومعاذ وأبي ثعلبة وأسامة وابن مسعود وجابر ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد في شحناء الرجل على أخيه والاخ يطلق على المسلم لقوله تعالى فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي إلى قوله إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم فسمى الباغي أخا ولقول رسول الله وآله في المحدود
في الخمر لا تعينوا الشيطان على أخيكم كما تقدم ولأن العمل بذلك في أحاديث الشحناء وحقوق المسلم على المسلم هو الأظهر والأحوط ما لم يؤد إلى الفساد في الدين والتهوين لمعاصي رب العالمين ويخرج من هذا أهل النفاق بالنصوص والاجماع فلذلك قال أهل السنة تجب كراهة ذنب المذنب العاصي ولا تجب كراهة المسلم نفسه بل يجب لاسلامه قلت حبا لا يوقع في معصية ولا يؤدي إلى مفسدة ويكره ذنبه وهو قول أحمد بن عيسى من أهل البيت ذكر معناه عنه صاحب الجامع الكافي في ولاية علي عليه أفضل السلام
الفرع الثاني أن يسير الاختلاف لا يوجب التعادي بين المؤمنين وهو ما وقع في غير المعلومات القطعية من الدين التي دل الدليل على تكفير من خالف فيها والاصل في الامور المختلف فيها هو عدم العلم الضروري الذي يكفر المخالف فيه حتى يدل الدليل على ذلك وفي إثبات مسائل قطعية شرعية لا ظنية ولا ضرورية خلاف والصحيح أنه لا واسطة بينهما مثلما أنه لا واسطة بين التواتر والظن في الاخبار وفاقا وعلى هذا نقل التكفير والتأثيم والذي يدل على أنه معفو عن يسير الاختلاف وجوه
أحدها أنه وقع بين الملائكة عليهم السلام قال تعالى ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون وفي حديث البخاري ومسلم عن الخدري في حديث القاتل مائة نفس أنها اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى أرسل الله ملكا يحكم بينهم
وثانيها ثبت في كتاب الله تعالى حكاية الاختلاف بين موسى والخضر وبين موسى وهارون وبين داود وسليمان وهو صريح ما نحن فيه لأن اختلافهما في حادثة واحدة في وقت واحد في شريعة واحدة
وثالثها ما رواه ابن مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية وسمعت رسول الله وآله يقرأ خلافها فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهة فقال كلاكما محسن ولا تختلفوا فان من قبلكم اختلفوا فهلكوا
رواه البخاري والنسائي وعن عمر بن الخطاب مثله في قضيته مع هشام بن حكيم رواه الجماعة كلهم ولهذا المعنى طرق جمة تقتضي تواتره ذكرتها في العواصم وفي خ م س عن جندب مرفوعا اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فاذا اختلفتم فقوموا عنه فهذا الخلاف الذي نهى عنه وحذر منه الهلاك هو التعادي فأما الاختلاف بغير تعاد فقد أقرهم عليه ألا تراه قال لابن مسعود كلاكما محسن حين أخبره باختلافهما في القراءة ثم حذرهم من الاختلاف بعد الحكم باحسانهما في ذلك الاختلاف فالاختلاف المحذر منه غير الاختلاف المحسن به منهما فالمحذر منه التباغض والتعادي والتكاذب المؤدي إلى فساد ذات البين وضعف الاسلام وظهور أعدائه على أهله والمحسن هو عمل كل أحد بما علم مع عدم المعاداة لمخالفة والطعن عليه وعلى ذلك درج السلف الصالح من أهل البيت والصحابة والتابعين وصنف محمد بن منصور في هذا كتاب الحملة والالفة وحكى فيه عن قدماء المعتزلة التوالي مع الاختلاف في بعض العقائد بل حكى ذلك عن قدماء العترة أيضا وقد نقلت كلامه في ذلك بحروفه إلى مسألة القرآن من العواصم
الفرع الثالث في التكفير والتفسيق بالتأويل لأنه لا يفيد إلا الظن وفي التكفير بالتأويل أربعة أقوال الأول أنه لا كفر بالتأويل الثاني أنه يكفر به ولكن لا تجري عليهم أحكام الكفار في الدنيا الثالث أن أمرهم إلى الامام في الاحكام الرابع أنه كالكفر بالتصريح فيكون قتالهم إلى آحاد الناس على الصحيح في الكفار بالتصريح واختلف في كفار التأويل من هم على أربعة أقوال أيضا الأول أنهم من أهل القبلة الثاني من ذهب إلى مذهب وهو فيه مخطئ بشبهة يعلم بطلانها دلالة من الدين والصريح بخلافه الثالث من ذهب إلى الخطأ بشبهة والصريح بخلافه الرابع من ورد فيه عن رسول الله وآله أنه كافر والصريح بخلافه
واعلم أن أصل الكفر هو التكذيب المتعمد لشيء من كتب الله تعالى المعلومة أو لأحد من رسله عليهم السلام أو لشيء مما جاؤوا به إذا كان ذلك الأمر المكذب به معلوما بالضرورة من الدين ولا خلاف أن هذا القدر
كفر ومن صدر عنه فهو كافر إذا كان مكلفا مختارا غير مختل العقل ولا مكره وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار وإنما يقع الاشكال في تكفير من قام بأركان الاسلام الخمسة المنصوص على اسلام من قام بها إذا خالف المعلوم ضرورة للبعض أو للاكثر لا المعلوم له وتأويل وعلمنا من قرائن أحواله أنه ما قصد التكذيب أو التبس ذلك علينا في حقه وأظهر التدين والتصديق بجميع الأنبياء والكتب الربانية مع الخطأ الفاحش في الاعتقاد ومضادة الادلة الجلية عقلا وسمعا ولكن لم يبلغ مرتبة الزنادقة المقدمة وهؤلاء كالمجبرة الخلص المعروفين بالجهمية عند المحققين وكذلك المجسمة المشبهة في الذات التشبيه المجمع على أنه تشبيه احترازا عما لا نقص فيه مجمع على أنه نقص مع اثبات كمال الربوبية وخواصها وجميع صفات الكمال وإلا كان كفرا صريحا مجمعا عليه وكذلك القدرية على كلا التفسيرين فان القدران فسر بعلم الغيب السابق فهم من نفاه ونفيه كفر بالاجماع وإن فسر بالجبر ونفى الاختيار عن العباد ونفى التمكين لهم فهم من أثبته كما تقدم بيانه فهؤلاء المشبهة والمجبرة معا اختلف علماء الاسلام في تكفيرهم بعد إجماعهم على تقبيح عقائدهم وانكارها فذكر الامام يحيى في التمهيد أنههم غير كفار واحتج على ذلك وجود القول فيه وذكر الشيخ مختار في كتابه المجتبى عن الشيخ أبي الحسين من رؤوس المعتزلة وعن الرازي من رؤوس الأشعرية أنهما معا لم يكفراهم قال لأن حجة من كفرهم القياس على المشركين المصرحين وهما قد قدحا في صحة هذا القياس دع عنك كونه قطعيا وذلك القدح هو بوجود الفارق الذي يمنع مثله من صحة القياس وهو إيمان هؤلاء بجميع كتب الله تعالى وجميع رسله بأعيانهم وأسمائهم إلا من جهلوه وإنما يخالفون حين يدعون عدم العلم ثم ظهر عليهم ما يصدق من ذلك من اقامة أركان الاسلام وتحمل المشاق العظيمة بسبب تصديق الأنبياء عليهم السلام ولأن القياس عند المحققين من علماء المعقولات لا يكون قاطعا لأن الأمرين إن استويا في جميع الوجوه لم يكن قياسا وإن وجد بينهما فارق جاز أن
يكون مؤثرا في عدم استوائهما في الحكم ولم يقم دليل قاطع على أنه وصف ملغى لا تأثير له وبيان ذلك أنهم قالوا أن المبتدعة حين غلطوا في صفات الله تعالى فقد عبدوا غير الله فيكون قياسا على المشركين فان بعضهم عبد الرب الذي يشبه العباد وهم المشبهة وبعضهم عبد الرب الذي يجبرهم وهم المجبرة ونحو ذلك
والجواب أنهم عبدوا الرب الذي خلق الخلق وغلطهم في بعض صفاته لا يخرجهم عن عبادته ويصيرهم كمن يعيد الاصنام لوجهين أحدهما أن علماء الكلام يختلفون في كثير من الصفات كالمدرك والوصف الأخص والمريد بل كالسميع والبصير ولم يلزم بعضهم بعضا ذلك ولو كان حقا لزمهم وثانيهما أن من شهد أن محمدا رسول الله وغلط في بعض صفات جسده أو نسبه لم يكفر قطعا فدل على أن من غلط في وصف شيء لم يكن مثل جاحده وربما قالوا إن ذلك نقص له فيكون كفرا قياسا على من تعمد انتقاصه بما هو نقص بالاجماع قلنا الخطأ فارق مؤثر شرعا كالاكراه والنسيان كما سيأتي ومن اعتقد حسن القبيح وأضافه اليه لحسنه عنده لا لقبحه لا يكون كمن عكس ودليله اختلافهم في الاعراض وفي الوجه فيها من غير تكفير وبعضهم يلزمه نسبة الظلم اليه وبعضهم يلزمه نسبة العبث اليه تعالى عن ذلك وقد جود الرد عليهم صاحبهم الشيخ مختار في المسألة التاسعة من التكفير من كتابه المجتبى وفيما قبلها وبعدها فليطالع فيه وقد نقلته بألفاظه أو معظمه إلى مواضعه من العواصم
قلت وأما بقية أدلتهم السمعية فلا تخلو من الظن في معانيها إن لم تكن ظنية اللفظ والمعنى معا كما يعرف ذلك النقاد من أهل الأصول الفقه لأنها إما عمومات وظواهر ومعناها ظني وإن كانت ألفاظها قرآنية معلومة ولها أو لأكثرها أسباب نزلت عليها تدل على أنها نزلت في المشركين المصرحين وتعديتها عن أسبابها ظنية مختلف فيها أو نصوص جلية لكن ثبوتها ظني لا ضروري ثم لا تخلو بعد ذلك مما يعارضها أو يكون أظهر في المعنى منها من الأحاديث الدالة على اسلام أهل الشهادتين أو الاكتفاء بهما حتى في أحاديث فتنة القبر مع كثرتها وصحتها وتلقيها بالقبول واتفاق الفرق على
روايتها وقد ذكرت منها كثيرا في آخر العواصم في أحاديث الرجاء ولولا خوف الاطالة لذكرتها هنا وكذلك ما جاء في من آمن بالله ورسله كقوله تعالى في الجنة أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ونظائرها مما ذكرته في العواصم ومثل قوله تعالى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ومثل أحاديث الشفاعة وقد تقدمت الاشارة إلى تواتر معنى ذلك في مسألة الوعد والوعيد في هذا المختصر وبسطتها في العواصم فقاربت خمسمائة حديث مع ما في القرآن العظيم مما يغني عنها لو لم ترد
ويشهد لها بعد ورودها على ما قدرته في العواصم في الكلام على قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فهم الصحابة للبشرى فيها وفرحهم بها وإقرار المتأولين لها برواية ذلك عنهم وذلك يدل على عدم تأويلها ومنهم علي عليه السلام وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وقد جودت الكلام عليها هنالك بحمد الله وحسن هدايته وتوفيقه
ومن ذلك ما جاء فيمن أقام الاركان الخمسة ونحو هذه الأمور وهي أنواع كثيرة جدا معناها متواتر ضروري معارض لما يفهم منه تكفير المبتدعة من هذه الأمور ومن أقبح التكفير ما كان منه مستند إلى وجه ينكره المخالف من أهل المذهب مثل تكفير أبي الحسين وأصحابه بنفي علم الغيب وهم ينكرونه وتكفير الاشعرية بالجبر الخالص الذي هو قول الجهمية الجبرية وهم ينكرونه والله تعالى يقول ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمنا
ومن العجب أن الخصوم من البهاشمة وغيرهم لم يساعدوا على تكفير النصارى الذي قالوا إن الله ثالث ثلاثة ومن قال بقولهم مع نص القرآن على كفرهم إلا بشرط أن يعتقدوا ذلك مع القول وعارضوا هذه الآية الظاهرة بعموم مفهوم قوله ولكن من شرح بالكفر صدرا كما سيأتي بيانه وضعفه مع وضوح الآية الكريمة في الكفر بالقول عضدها حديثان
صحيحان كما احتج بهما الامام المنصور بالله عليه السلام حديث ع عن ثابت بن الضحاك من حلف بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال وحديث مس دق على شرط م عن بريدة من حلف قال إني بريء من الاسلام فان كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الاسلام سالما وعن أنس سمع رسول الله وآله رجلا يقول أنا إذا يهودي فقال وجبت وعن ابن عمر قال وآله من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك وفي مجمع الزوائد لذلك شواهد وفي النسائي عن سعد أنه حلف وهو قريب عهد بالجالية فقال واللات والعزى فقال له أصحاب رسول الله وآله ما نراك إلا قد كفرت فسأل النبي وآله فأمره أن يشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات ثم لا يعود إلى ذلك وهذا أمر بتجديد الاسلام ثم لم يرضوا بجميع ما ذكرنا معارضا لما استنبطوه فتأمل ذلك وعلى هذا لا يكون شيء من الافعال والاقوال كفرا إلا مع الاعتقاد حتى قتل الأنبياء والاعتقاد من السرائر المحجوبة فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص في شخص شخص ولا يدل حرب الانبياء على ذلك لاحتمال أن يكون على الظاهر كقوله فمن حكمت له بمال أخيه فانما أقطع له قطعة من النار
ومع نكارة هذا فالملجئ اليه عموم مفهوم ظني ضعيف يأتي وقد مر اختيار الامام يحيى وأبي الحسين والرازي في ذلك ونكل وهو قول الطبق الادهم من السلف وعلماء الاسلام وأهل الاثار كما رواه السيد أبو عبد الله الحسني في كتابه الجامع الكافي عن محمد بن منصور الكوفي عن سلف أهل البيت عليهم السلام وغيرهم وصنف فيه كتاب الجملة والالفة وهو قول الامام السيد المؤيد بالله في الجبرية نص عليه في آخر كتاب الزيادات
ومذهب السلف الصالح في ذلك هو المختار مع أمرين أحدهما القطع بقبح البدعة والانكار لها والانكار على أهلها وثانيهما عدم الانكار على من كفر كثيرا منهم فانا لا نقطع بعدم كفر بعضهم ممن فحشت بدعته بل نقف في ذلك ولكل علمه والحكم فيه إلى الله سبحانه وذلك لوجوه
الوجه الأول خوف الخطأ العظيم في ذلك فقد صح عن رسول الله
وآله تعظيم ذلك بل تواتر ذلك لأهل البحث عن طرق الحديث حتى تواتر أنه كفر روى ذلك عن رسول الله وآله أبو ذر وأبو هريرة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو سعيد الخدري خمستهم عن رسول الله وآله مع كثرة الطرق عنهم من غير ما لحديثهم من الشواهد الجمة بألفاظ مختلفة مثل ما ورد في الخوارج والروافض وهذا بيان طرف يسير على جهة الاختصار الكثير فنقول
أما حديث أبي ذر فرواه البخاري ومسلم ولفظه ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه أي رجع وأما حديث أبي هريرة فرواه البخاري ولفظه إذا قال المسلم لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما وأما حديث ابن عمر فرواه البخاري ومسلم والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولفظه مثل لفظ حديث أبي هريرة وأما حديث عبد الله بن مسعود فرواه الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد ولفظه ما من مسلمين إلا وبينهما ستر من الله فاذا قال أحدهما لصاحبه هجرا هتك الله ستره وإذا قال يا كافر فقد كفر أحدهما قال الهيثمي رواه الطبراني والبزار باختصار من حديث يزيد بن أبي زياد وحديثه حسن ورجاله ثقات قلت يزيد هذا أحد علماء الكوفة المشاهير وهو من رجال السنن الاربعة وممن قواه شعبة على تعنته في الرجال وبالغ حتى قال لا يبالي إذا سمع الحديث منه ألا سمعه من سواه وقال ابن فضيل هو من أئمة الشيعة الكبار وأما حديث أبي سعيد الخدري في ذلك فرواه ابن حبان في صحيحه وذكره الحافظ ابن حجر في كتابه التلخيص الخبير وسيأتي حديث عن ابن عمر مرفوع نحو هذا ولكن بغير هذا اللفظ قال النووي في شرح مسلم وروى أبو عوانة حديث ابن عمر المتقدم فقال إن كان كما قال والاباء بالكفر وفي رواية فقد وجب الكفر على أحدهما اه
وأما شواهد هذه الاحاديث الخمسة بغير لفظها فكثيرة متواترة منها أحاديث مروق الخوارج من الاسلام وكان دينهم الذي اختصوا به من بين الداخلين في الفتن هو تكفير بعض المسلمين بما حسبوه كفرا فوردت الاحاديث بمروقهم بذلك وتواترت وهي في دواوين الاسلام الستة عن علي
عليه السلام وسهل بن سعد وأبي سعيد الخدري وابن عمر ابن الخطاب وأبي ذر ورافع بن عمرو الغفاري وجابر بن عبد الله الانصاري وابن مسعود وأبي برزه الاسلمي وأبي أمامة وفي حديثه مرفوعا كانوا مسلمين كفارا واسناده حسن ورواها غير هؤلاء بما هو معروف في مجمع الزوائد وكتب الاسلام من المسانيد والتواريخ وغيرها
ومنها أحاديث كفر الروافض وقد رويت من طرق كثيرة على غرابتها وخلو دواوين الاسلام الستة منها فرويت عن علي عليه السلام وفاطمة والحسن عليهما السلام وابن عباس وأم سلمة رضي الله عنهما وروى الامام الهادي عليه السلام منها حديث الحسن عليه السلام في كتاب الأحكام في كتاب الطلاق منه في باب من طلق ثلاثا وقد ذكر الامامية فقال ما لفظه وفيهم ما حدثني أبي وعمي محمد والحسن عن أبيهم القاسم عن أبيه عن جده عن ابراهيم بن الحسن عن أبيه عن جده الحسن بن علي بن أبي طالب عليه وعليهم السلام عن النبي وآله أنه قال يا علي يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يعرفون به يقال لهم الرافضة فان أدركتهم فاقتلهم قتلهم الله تعالى فانهم مشركون اه . بحروفه ولا أعلم في الاحكام اسنادا متصلا مسلسلا بأهل البيت عليهم السلام سواه الا أن يكون مرسلا أو مقطوعا أو مدخلا فيه غيرهم من الرواة
وقد أحببت سياق هذا الاسناد الشريف لهذا المتن لجلالة رواته واختصرت أسانيد سائر الاحاديث فأما حديث علي عليه السلام بمثل ذلك فرواه الهيثمي في مجمع الزوائد وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند والبزار في مسنده وابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس من طريق أبي حباب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي عليه السلام والذهبي في كتابه ميزان
الاعتدال في نقد الرجال من طريق أخرى في ترجمة كثير بن إسماعيل النو ولكن لفظه في الميزان يكون بعدي قوم من أمتي يسمون الرافضة يرفضون الاسلام وأما حديث فاطمة بنت محمد وآله فرواه الهيثمي في مجمع الزوائد وأبو يعلى وصاحب الفصول السبعة والعشرين في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام في الفصل الحادي والعشرين منه والذهبي في موضعين من كتابه الميزان
أحدهما في ترجمة تليد بن عبد الرحمن سليمان الكوفي الشيعي وثانيهما في ترجمة أبي الجارود زياد بن المنذر الشيعي وقال الهيثمي رواته ثقات ولفظ رواية تليد في الميزان نظر رسول الله وآله إلى علي عليه السلام فقال هذا في الجنة وإن من شيعته قوما يلفظون الاسلام لهم نبز يسمون الرافضة من لقيهم فليقتلهم فانهم مشركون ولفظ أبي الجارود أما أنك يا ابن أبي طالب وشيعتك في الجنة وسيجيء أقوام ينتحلون حبك يقال لهم الرافضة فان لقيتهم فاقتلهم فانهم مشركون وأما ابن عباس فمنه حديثان أما أحدهما فرواه الطبراني والهيثمي وقال اسناده حسن وأما الحديث الثاني فرواه أبو يعلي والبزار والطبراني والهيثمي وقال في بعض رجاله خلاف قلت ومثل ذلك ينجبر بحديثه الآخر بل بجميع أحاديث هذا الباب وأما حديث أم سلمة فرواه الطبراني والهيثمي من طريق الفضل ابن غانم وفي ترجمة أبي بكر بن عياش من الميزان أن هارون الرشيد سأله عن صحة هذا الحديث وذلك دليل شهرته فهذه شواهد جميلة لأن معظم ذنوب الخوارج والروافض هو التكفير
وأما الشواهد التفصيلية فكثيرة جدا وهي أنواع مختلفة منها حديث ثابت بن الضحاك مرفوعا وفيه من قذف مؤمنا بكفر فهو كقاتله قال ابن الجوزي في جامع المسانيد خرجاه في الصحيحين قلت وهو طرف من حديثه الطويل فيهما الذي فيه من حلف بملة غير الاسلام وغير ذلك
ورواه الترمذي وقال حسن صحيح فهو يشهد للتغليظ في تكفير المؤمن وأنه أغلظ من السباب المطلق لأنه قد ثبت أن سبابه فسوق وقتاله كفر والقتل أعظم من القتال ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته رواه ابن ماجه في الفتن وهو يستلزم ذلك لأن من كفر ملكا كفر ومن الشواهد على ذلك أحاديث المستبين ما قالا فعلى البادئ منهما فيه عند مسلم وغيره عن أبي هريرة وأحاديث التحذير من فتن يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ومنها ما رواه الحاكم في المستدرك من حديث الاعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود يرفعه لو أن رجلين دخلا في الاسلام فاهتجرا كان أحدهما خارجا عن الاسلام حتى يرجع الظالم وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم فهذا في المهاجرة محمول على الخروج عن الاسلام الكامل فاذا كان مجرد المهاجرة يبلغ هذا الحد في التغليط لم يستبعد أن يكون التكفير كفرا على الحقيقة
ولحديث ابن مسعود شواهد متواترة في تغليظ تحريم المهاجرة وإنها فرنت بالشرك في المنع من العفو عن صاحبها دون سائر الكبائر من ذنوب أهل الاسلام ففي الموطأ لمالك ومسند أحمد من ثلاث طرق وفي سنن أبي داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي وآله تعرض الاعمال في كل خميس واثنين فيغفر الله تعالى في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا وفي رواية إلا المتهاجرين وعن جابر عن النبي وآله تعرض الاعمال يوم الاثنين ويوم الخميس فمن مستغفر فيغفر له ومن تائب فيتاب عليه وترد أهل الفضائل وضغائنهم رواه الطبراني في الاوسط والهيثمي وقال رجاله ثقات وعن ابن مسعود وأسامة بن زيد عن النبي وآله نحو ذلك رواهما الطبراني والهيثمي وعن أبي أيوب الانصاري نحو ذلك رواه الهيثمي ويأتي حديث ابن مسعود في ذلك في الوجه السابع وفيه فأولهما فيأ يكون سبقه بالفيء كفارة له وإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا رواه أحمد باسناد صحيح وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذا كان ليلة النصف من شعبان غفر الله تعالى لعباده إلا ما كان من
مشرك أو مشاحن لأخيه رواه البزار والهيثمي وعن أبي هريرة مثله وعن عوف بن مالك مثله وعن معاذ مثله ورجاله ثقات وعن أبي ثعلبه الخشني نحوه وعن عبد الله بن عمر نحوه فهذه بضعة عشر حديثا في ذلك وفي تحريم المهاجرة فوق ثلاث نحو ذلك ولكن استثنى فيها ما دون الثلاث رحمة للمسلمين لما في الطباع من قوة الداعية إلى ذلك في بعض الأحوال وذلك عند الغفلة من هذا الوعيد الشديد بعدم العفو عن هذا الذنب بخصوصه حين يعفي عن سائر الذنوب وذلك لأن من عدل الله تعالى ولطيف جزائه يوم الدين أن يعامل كل عامل على حسب اختياره واعتقاده ومذهبه فلما كان المهاجر المشاحن قد اختار ترك العفو عن أخيه مذهبا له وحكم بحسنه جوزي بذلك جزاء وفاقا كما يشهد له قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى الآية في قصة أبي بكر مع مسطح ونظائر ذلك كثيرة وصحيحة نسأل الله العافية من ذلك وفي سنن أبي داود باسناد صحيح هجر المسلم سنة كسفك دمه وسيأتي في الوجه السابع ما يناسب هذا من الحث على اصلاح ذات البين وتسمية التفرق والتباغض الحالقة للدين
وفي مجموع ذلك ما يشهد لصحة التغليظ في تكفير المؤمن وإخراجه من الاسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام وتجنبه للكبائر وظهور أمارات صدقه في تصديقه لأجل غلطة في بدعة لعل الكفر له لا يسلم من مثلها أو قريب منها فان العصمة مرتفعة وحسن ظن الانسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلا ولا شرعا بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم والاستحسان لبدعتهم وربما كان أجر ذلك عقوبة على ما اختاروه أول مرة من ذلك كما حكى الله تعالى ذلك في قوله وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم وهي من عجائب العقوبات الربانية والمحذرات من المؤخذات الخفية ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين
وقد كثرت الآثار في أن اعجاب المرء بنفسه من المهلكات كما في
حديث أبي ثعلبة الخشني عند دت وعن ابن عمر مرفوعا ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وعن أنس وابن عباس وابن أبي أوفى كلهم عن النبي وآله مثل ذلك رواها الهيثمي في مجمعه ودليل العقوبة في ذلك انك ترى أهل الضلال أشد عجبا وتيها وتهليكا للناس واستحقارا لهم نسأل الله العفو والمعافاة من ذلك كله
وفي ذلك حديث حذيفة الصحيح عند مسلم المشهور عنه وآله أنه قال تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين أبيض مثل الصفا فلا تضره فننة ما دامت السموات والارض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه فينبغي من كل حازم لبيب إيقاظ خاطره والحذر العظيم عن الامور التي تواترت النصوص من الصحاح وتواترت بأنها كفر وخروج عن الاسلام أو نحو ذلك مما لم يحصل دليل قاطع على أنه متأول من إجماع صحيح أو نص معارض لذلك صحيح وذلك مثل ما قدمنا من تكفير من يجوز أنه مسلم بمجرد الالزامات والتمحلات التي متى سلمت عارضها مثلها أو أقوى منها كما تقدم
فان قيل أليس قد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يكفر من كفر مسلما على الاطلاق
فالجواب أن ذلك صحيح ولكن لا حجة فيه توجب تقديمه على النصوص حيث لم يكن تأويلها إجماعا فقد حكى الخلاف في ذلك الشيخ تقي الدين في شرح العمدة حيث شرح حديث أبي ذر المقدم ذكره في كتاب اللعان فقال وهذا وعيد عظيم لمن يكفر أحدا من المسلمين وليس كذلك وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية وقد اختلف الناس في التكفير وسببه حتى صنف فيه مفردا إلى قوله والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بانكار متواتر فانه حينئذ يكون مكذبا للشرع وليس مخالفة القواطع مأخذا للتكفير وعبر بعض أهل الاصول عن هذا بما معناه
أن من أنكر طريق اثبات الشرع لم يكفر كمن أنكر الاجماع ومن أنكر الشرع بعد الاعتراف بطريقه كفر لأنه مكذب قال وقد نقل عن بعض المتكلمين أنه قال لا أكفر إلا من كفرني وربما خفى سبب هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه قد لمح هذا الحديث الذي قتضي أن من دعا رجلا بالكفر وليس كذلك رجع عليه الكفر وكذلك قال وآله من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما وكأن هذا المتكلم يقول هذا الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين فاذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا وأنا قاطع بأني لست بكافر فالكفر راجع اليه اه وفيه ما ترى من تقرير الخلاف في الأخذ بظواهر النصوص مما يؤمن المكفر لغيره أن يخطئ في نظره في طريق التكفير كما ذلك عادة الفطناء والأذكياء أعني الخطأ في مثل هذه المزالق ولو كان خطأ الأذكياء في ذلك نادرا وأنت منهم لم تأمن أن تقع في ذلك النار كيف وخطأهم فيه كثير غالب وأنت على غير يقين بأنك منهم فأما دفع الكفر بأنه حديث أحادي فانه غرور من وجوه
الأول أنا قد بينا من طرقه ما يدل على أنه متواتر عند أهل الاطلاع والمعلوم لا يكون ظنيا لجهل الجاهلين له
الثاني أن غرضنا الاحتراز على الاسلام مما تجوز صحته في علم الله تعالى وحديث الواحد وإن لم تعلم صحته فقد يكون صحيحا ونحن لا نعمل والصحيح جواز كفر لا دليل عليه كما هو معروف في مواضعه
الثالث أن الفقيه حميدا في العمدة جوز العمل بالحديث الواحد في التكفير من غير اعتقاد وذكر أنه مذهب المنصور بالله والمحققين واحتج بأن النبي وآله هم بالغزو لخبر الوليد بن عقبة فنزلت الآية فامتنع لفسقه لا لأنه خبر واحد والله سبحانه أعلم
ويحتج لهم بقبول الشهادة على الردة والكفر والحدود في الفسق ثم من العبر الكبار في ذلك أن الجمهور لم يكفروا من كفر المسلم متأولا في تكفيره غير متعمد مع أن هذه الأحاديث الكثيرة تقتضي ذلك والنصوص
أصح طرق التكفير فاذا تورع الجمهور من تكفير من اقتضت النصوص كفره فكيف لا يكون الورع أشد من تكفير من لم يرد في كفره نص واحد فاعتبر تورع الجمهور هنا وتعلم الورع منهم في ذلك
فان قيل لم تورعوا هنا مع هذه النصوص الصحيحة المتواترة لصريحة
قلت لوجوه
أحدها ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من عدم تكفير الخوارج مع بغضهم له وبغضه نفاق بل مع تكفيرهم له عليه السلام وهو سيد المسلمين وإمام المتقين وأبعد الخلق أجمعين عما افتراه من ذلك كذبة المارقين وقد ذكر الفقيه حميد في كتابه عمدة المسترشدين أن ذلك هو المشهور عنه عليه السلام وروى هو أنه عليه السلام لما سئل عن كفرهم قال من الكفر فروا ولما سئل عن إيمانهم قال لو كانوا مؤمنين ما حاربناهم قيل فما هم قال اخواننا بالأمس بغوا علينا فحاربناهم حتى يفيئوا إلى أمر الله قال الفقيه حميد وهذا تصريح بالمنع من كفرهم وأقرته الصحابة
قلت ومن ههنا ادعى هو والخطابي وابن جرير قبلهما الاجماع على عدم تكفيرهم وكأن الناس تابعوه عليه السلام في ذلك لشهرته وعدم منازعة الصحابة ولا بعضهم له عليه السلام كما احتج به الفقيه حميد على أنه إجماع قال ولأن من كفر إماما وحاربه لم يكفر اه كلامه
وقد روى ابن بطال في شرح البخاري كلام ابن جرير ودعواه الاجماع على ذلك في الكلام على الخوارج وكان في ابن جرير تشيع وموالاة ذكره الذهبي في الميزان في الذب عنه فقال إن ذلك مروي عن علي عليه السلام من طرق وذكر نحو ما تقدم وزاد في روايته قيل له عليه السلام فمنافقون فقال لو كانوا منافقين لم يذكروا الله إلا قليلا ثم قال روى وكيع عن مسعر عن عامر بن شقيق عن أبي وائل عن علي عليه السلام أنه قال لم نقاتل أهل النهر وان على الشرك اه ومراده على الكفر بالقرينة كحديث
جابر مرفوعا بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة رواه مسلم بهذا اللفظ وكذا ذكره عنه ابن الأثير في جامعه وقبله الحميدي في جمعه بين الصحيحين
يوضحه أن ترك الخوارج للشرك الذي هو عبادة الاصنام وعبادة المخلوقين كان معلوما بالضرورة فلم يكن ليخبر بذلك وإنما خرج كلامه مخرج حديث جابر ومخرج حديث ابن عباس حيث قال إنه رأى النبي وآله يصلي إلي غير جدار أي غير سترة وهذا هو النوع المسمي بالخاص يراد به العام ومنه فلا تقل لهما أف أي لا تؤذهما بذلك ولا بغيره ونظائره كثيرة ويقوي صحة ذلك عنه عليه السلام أنه رد على أهل النهروان أموالهم قال ابن حجر رواه البيهقي من طرق فانضمت هذه الطرق إلى تلك الطرق التي ذكرها ابن بطال وأشار اليها الفقيه حميد
وثانيها : ما أشار اليه البخاري في صحيحه وترجم عليه من أن ذلك فيما إذا كفر أخاه متعمدا غير متأول محتجا بأن النبي وآله لم يكفر عمر في قوله لحاطب أنه منافق ولا معاذا في قوله للذي خرج من الصلاة حين طول معاذ أنه منافق وأمثال ذلك مع التأويل كثيره شهيرة وأشار الفقيه حميد في عمدة المسترشدين إلي اختيار هذا وصرح الغزالي في المستصفى باختياره وطول الكلام فيه ووجهه وجوده ولولا خوف الاطالة الكثيرة لنقلته
وهذه فائدة جيدة تمنع من القطع بتكفير من أخطأ في التكفير متأولا فانا لو كفرنا بذلك لكفرنا الجم الغفير فالحمد لله على التوفيق لترك ذلك والنجاة منه والبعد عنه على أنه يرد عليهم أن الاستحلال بالتأويل قد يكون أشد من التعمد مع الاعتراف بالتحريم وذلك حيث يكون المستحل بالتأويل معلوم التحريم بالضرورة كترك الصلاة فان من تركها متأولا كفرناه بالاجماع وإن كان عامدا معترفا ففيه الخلاف فكان التأويل هنا أشد تحريما فلذلك ينبغي ترك التكفير المختلف فيه حذرا من الوقوع فيه والله المسلم
وثالثها : آن قد جاء كفر دون كفر كقوله تعالى ومن لم
يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون ومنه أن النبي وآله لما وصف النساء بالكفر قال أصحابه يا رسول الله يكفرن بالله تعالى قال لا يكفرن العشير
أي الزوج وهو متفق على صحته فلم يحملوا الكفر على ظاهره حين سمعوه منه وآله لاحتمال معناه ووجود المعارض وهو إسلام النساء وإيمانهن ولم ينكر النبي وآله عليهم التثبت في معنى الكفر والبحث عن مراده به وكذلك تأولوا أحاديث سباب المؤمن فسوق وقتله كفر ولا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض مع الاتفاق على صحتها وكثرتها وللاجماع المعلوم والنص المعلوم على وجوب القصاص ولو كان كفرا على الحقيقة لأسقط القصاص وكذلك تأول كثير من علماء الاسلام حديث ترك الصلاة كفر مع ما ورد فيه من لفظ الشرك في صحيح مسلم وغير ذلك وكذلك حديث النياحة كفر وحديث الانتساب إلى غير الأب كفر قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة في اللعان في هذا بخصوصه إنه متروك الظاهر عند الجمهور وفيه إشارة إلى وجود خلاف فيه وإلا لقال إجماعا ولم يقل كذا في تكفير المسلم أخاه فدل على أن الخلاف فيه ليس بشاذ فاعرف ذلك
ورابعها : ما روي عن النبي وأله أنه قال إذا قال الرجل للرجل يا يهودي فاضربوه عشرين سوطا رواه الترمذي من طريق ابراهيم ابن اسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس وضعفه الترمذي بابراهيم هذا وكذلك ضعفه النسائي والدار قطني بابراهيم وبعض الرواة عنه شك في رفعه ذكره الذهبي في الميزان لكن وثقه أحمد وكان عابدا وهذا الجرح فيه أقوى ويقدم على قول من يقدم الجرح ومن يقول بالترجيح خصوصا مع تلك المعارضات المتواترة عند أئمة الحديث الصحيحة بلا ريب على أن ابن ماجه والذهبى جعلوا متن الحديث من قال لرجل يا مخنث زاد ق بالوطي فاضربوه عشرين سوطا ولم يذكروا السب باليهودية وقال المزي رواية ق أتم رواه ابن ماجه من طريق دحيم الحافظ واسمه عبد الرحمن بن ابراهيم عن ابن أبي فديك ورواه الترمذي عن محمد ابن رافع عن ابن أبي فديك وكانت العبادة أغلب على محمد بن رافع من الحفظ فالبخاري لذلك يتخير من حديثه
القليل ولا يستوعبه ومع هذا الضعف والاعلال لا يعارض ما صح وتواتر ولكن سلك الجمهور مسلك الاحتياط فاقتد بهم في ذلك
فاذا ثبت أن النص على الكفر غير قاطع فما ظنك بغيره فلهذه الوجوه الاربعة لم يعمل الجمهور بظاهر هذه الأحاديث
وأما من كفر أخاه متعمدا غير متأول فاختلفوا فيه من تقدم إلي كفره ووجهه الغزالي بأنه لما كان معتقد الاسلام أخيه كان قوله إنه كافر قولا بأن الذي هو عليه كفر والذي هو عليه كفر دين الاسلام فكأنه قال إن دين الاسلام كفر وهذا القول كفر من قائله وإن لم يعتقد ذلك على أن أبا هاشم وأصحابه من المعتزلة لا يكفرون من تعمد النطق بالكفر من غير إكراه عليه وإن كانا يفترقان في الاثم كما تقدم وهذا بعد كثير من التكفير في هذه الصورة فلو طردوا الاحتياط لتركوا التكفير بالقياس ومآل المذهب لكنهم كفروا بهما وهو أضعف من التكفير بتعمد النطق بالكفر اختيارا بلا إكراه وأما النووي فقال في شرح مسلم في هذا الحديث الذي يقتضي كفر من كفر أخاه هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات فان مذهب أهل الحق أن المسلم لا يكفر بالمعاصي وهذا منها فقيل في تأويله وجوه الاول أنه محمول على المستحل لذلك وبهذا يكفر إن الثاني أن المعنى رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره الثالث أنه محمول على الخوارج ورواه ابن بطال أيضا عن مالك قال فقيل له فيكفرون قال لا أدري اه كلام ابن بطال قال النووي وهو ضعيف لمخالفته الاكثرين والمحققين في كفر الخوارج قال النووي الرابع أنه محمول على أنه يؤول به إلي الكفر فان المعاصي بريد الكفر واحتج عليه برواية أبي عوانة والاباء بالكفر وفي رواية فقد وجب الكفر على أحدهما ا ه والظاهر أن هاتين الروايتين حجة عليه لا له الخامس أن معناه فقد رجع عليه تكفيره وليس الراجع عليه حقيقة الكفر بل التكفير لكونه جعل أخاه المسلم كافرا فكأنه كفر نفسه إما لأنه كفر من هو مثله وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان الاسلام وهذا هو الذي ذكره ابن بطال في توجيه كلام البخاري في الفرق بين العامد والمتأول
وترك النووي القول السادس وهو اختيار البخاري والغزالي والفقيه حميد في تأويل الحديث بالعامد دون المتأول بهذا التوجيه المذكور وترك أيضا القول السابع وهو أن الحديث على ظاهره من غير تأويل وهو الذي حكاه الشيخ تقي الدين في شرح العمدة كما سلف ولا حجة قاطعة مانعة من صحته وعدم الحجة القاطعة المانعة من صحة ظاهره يوجب الاحتياط البالغ بتركه احتياطا للاسلام وتعظيما له عن المخاطرة به وتعريضه لما لا يؤمن أن يبطله ويسلب نعمته العظمى وينظم صاحبه في جمله أهل الكفر والعمى
تنبيه وذلك أن هذا الكلام في التحذير من تكفير المبتدعة الذين لم نستيقن أن بدعتهم كفر مع قبحها وفحشها وكراهتنا لها وأمر تكفير عوام المسلمين لأنهم لم يعرفوا الله تعالى بدليل قاطع على شروط أهل علم الكلام فانه يزداد الامر قوة في كفر من كفرهم لأن الحكم باسلامهم معلوم ضرورة من الدين وتكفيرهم جحد ذلك وقد دل وقد دل القرآن على صحة اسلامهم حيث قال تعالى قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم وقد تقدمت الأدلة على هذا في أول الكتاب هذا فليراجع وهذا لجلائه لا يحتاج إلى بسط وبهذا الكلام تم الكلام في الوجه الاول من مرجحات ترك التكفير
الوجه الثاني من مرجحات ترك التكفير أمر رسول الله وآله بذلك في هذه المسألة بالنصوصية والخصوصية وهذا من أوضح المرجحات وفي ذلك أحاديث منها حديث أنس قال رسول الله وآله ثلاث من أصل الايمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الاسلام بعمل الحديث رواه أبو داود في كتاب الجهاد من السنن ورواه أبو يعلى من طريق أخرى وليس فيها من ضعف إلا يزيد الرقاشي العبد الصالح ضعف من قبل حفظه وقد أثنى عليه الحافظ ابن عدي ووثقه وقال عنده أحاديث صالحة عن أنس أرجو أنه لا بأس به هذا مع الثناء النبوي على عموم التابعين فأقل أحواله أن يقوي طريق أبي داود ويشهد لها الحديث الثاني عن أبي هريرة عن رسول الله وآله نحو حديث أنس
بمعناه رواه أبو داود الحديث الثالث عن ابن عمر عن رسول الله وآله كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب من كفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب رواه الطبراني في الكبير من حديث الضحاك ابن حمزة عن علي بن زيد وحمزة بالحاء والراء المهملتين بينهما ميم قال الهيثمي مختلف في الاحتجاج بهما قلت لكن حديثهما يصلح في الشواهد ويقوى بما تقدم
وفي الباب عن علي بن أبي طالب عليه السلام وأبي الدرداء وأبي أمامة ووائلة وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وعائشة رضي الله عنها وعنهم سبعتهم عن النبي وآله بمثل ذلك لكن في أسانيدها مجاريح لكن بمجموعها مع ما تقدم قوة ولحديث علي عليه السلام شواهد عنه وهو ما تقدم من عدم تكفيره الخوارج من طرق ومن رده لأموالهم من طرق ويعضد ذلك عمل الصحابة فعن جابر أنه قيل له هل كنتم تدعون أحدا من أهل القبلة مشركا قال معاذ الله ففزع لذلك قال هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا قال لا رواه أبو يعلي والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح والحديث إذا اشتهر العمل به في الصحابه دل على قوته وهذه الشواهد السبعة والحديث الذي قبلها كلها في مجمع الزوائد في أوائله
الوجه الثالث أنها قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ والظاهر أن أهل التأويل أخطأوا ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم لأنه من علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الله تعالى قال الله تعالى في خطاب أهل الاسلام خاصة وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وقال تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وصح في تفسيرها أن الله تعالى قال قد فعلت في حديثين صحيحين أحدهما عن ابن عباس والآخر عن أبي هريرة وقال تعالى ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون فقيد ذمهم بعلمهم وقال في
قتل المؤمن مع التغليط العظيم فيه ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم فقيد الوعيد فيه بالتعمد وقال في الصيد ومن قتله منكم متعمدا وجاءت الاحاديث الكثيرة بهذا المعنى كحديث سعد وأبي ذر وأبي بكرة متفق على صحتها فيمن ادعى أبا غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فشرط العلم في الوعيد ومن أوضحها حجة حديث الذي أوصى لإسرافه أن يحرق ثم يذري في يوم شديد الرياح نصفه في البر ونصفه في البحر حتي لا يقدر الله عليه ثم يعذبه ثم أدركته الرحمة لخوفه وهو حديث متفق على صحته عن جماعة من الصحابة منهم حذيفة وأبو سعيد وأبو هريرة بل رواته منهم قد بلغوا عدد التواتر كما في جامع الاصول ومجمع الزوائد وفي حديث حذيفة أنه كان نباشا وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد لذلك خاف العقاب وأما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالا فلا يكون كفرا إلا لو علم أن الأنبياء جاؤا بذلك وأنه ممكن مقدور ثم كذبهم أو أحدا منهم لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل ويعضد ما تقدم بأحاديث أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء وهي ثلاثة أحاديث صحاح ولهذا قال جماعة جلة من علماء الاسلام أنه لا يكفر المسلم بما يندر منه من ألفاظ الكفر إلا ان يعلم المتلفظ بها أنها كفر قال صاحب المحيط وهو قول أبي علي الجبائي ومحمد والشافعي قال الشيخ مجتبى وبه يفتى ولعل هذا الحديث الصحيح بل المتواتر حجتهم على ذلك وهذا خلاف متجه بخلاف قول البهاشمة لا يكفر وإن علم أنه كفر حتى يعتقده
ومما يقوي العفو عن أهل الخطأ أنه قد يكون في الأدلة ومقدماتها ولذلك كان المشهور في القتلى في فتن الصحابة سقوط القصاص كما هو المشهور في سيرة على عليه السلام كما تقدم وروي الشافعي عن الزهري أنه قال أدركت الفتنة الأولى في أصحاب رسول الله وآله وكانت فيها دماء وأموال فلم يقتص فيها من دم ولا مال ولا قدح أصيب بوجه التأويل إلا أن يوجد مال رجل بعينه فيدفع إلى صاحبه
قال ابن كثير في ارشاده وهو ثابت عن الزهري وهو عام في أهل العدل والبغي وإن واحدا من الفريقين لا يضمن للآخر شيئا وهو الذي صححه الشيخ أبو إسحاق من قولي الشافعي فدل على دخول الخطأ في أفعال القلوب كأفعال الخوارج كما هو واضح في قوله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكذلك قوله تعالى في سورة النحل إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم فقوله في هذه الآية الكريمة ولكن من شرح بالكفر صدرا يؤيد أن المتأولين غير كفار لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعا أو ظنا أو تجويزا أو احتمالا
وقد يشهد لهم بذلك كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو الصادق المصدوق في المشهور عنه حيث سئل عن كفر الخوارج فقال من الكفر فروا فكذلك جميع أهل التأويل من أهل الملة وإن وقعوا في أفحش البدع والجهل فقد علم منهم أن حالهم في ذلك هي حال الخوارج وقد بالغ الشيخ أبو هاشم وأصحابه وغيرهم فقالوا هذه الآية تدل على أن من لم يعتقد الكفر ونطق بصريح الكفر وبسب الرسل أجمعين وبالبراءة منهم وبتكذيبهم من غير إكراه وهو يعلم أن ذلك كفر لا يكفر وهو ظاهر اختيار الزمخشري في كشافه فانه فسر شرح الصدر بطيب النفس بالكفر وباعتقاده معا واختاره الامام يحيي عليه السلام والامير الحسين بن محمد
وهذا كله ممنوع لأمرين أحدهما معارضة قولهم بقوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة فقضي بكفر من قال ذلك بغير شرط فخرج المكره بالنص والاجماع وبقي غيره فلو قال مكلف مختار غير مكره بمقالة النصاري التي نص القرآن على أنها كفر ولم يعتقد صحة
ما قال لم يكفره مع أنه لعلمه يقبح قوله يجب أن يكون أعظم إنما من بعض الوجوه لقوله تعالى وهم يعلمون فعكسوا وجعلوا الجاهل بذنبه كافرا والعالم الجاحد بلسانه مع علمه مسلما الامر الثاني أن حجتهم دائرة بين دلالتين ظنيتين قد اختلف فيهما في الفروع الظنية احداهما قياس العامد على المكره والقطع على أن الاكراه وصف ملغى مثل كون القائل بالثلاثة نصرانيا وهذا نازل جدا ومثله لا يقبل في الفروع الظنية وثانيتهما عموم المفهوم ولكن من شرح بالكفر صدرا فانه لا حجة لهم في منطوقها قطعا وفاقا وفي المفهوم خلاف مشهور هل هو حجة ظنية مع الاتفاق على أنه هنا ليس بحجة قطعية ثم في إثبات عموم له خلاف وحجتهم هنا من عمومه أيضا وهو أضعف منه
بيانه أن مفهوم الآية ومن لم يشرح بالكفر صدرا فهو بخلاف ذلك سواء قال كلمة الكفر بغير إكراه أو قالها مع إكراه فاحتمل أن لا يدخل المختار بل رجح أن لا يدخل لأن سبب النزول في المكره والعموم المنطوق يضعف شموله بذلك ويختلف فيه فضعف ذلك في الظنيات من ثلاث جهات من كونه مفهوما وكونه عموم مفهوم وكونه على سبب مضاد لمقصودهم قال قتادة نزلت فى عمار بن ياسر ذكره الذهبي في ترجمته من النبلاء ورواه الواحدي عن ابن عباس فكيف يقدم مع ذلك كله على منطوق لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وإذ قد فعلوا ذلك هنالك لما فيه من أدني احتمال لعدم شرح الصدر من العامد المختار في كلمات الكفر كلها من غير اكراه ولا جهل لا خطأ ولا عذر أصلا فكيف بأهل التأويل الذين علم منهم السعي في تعميم شعائر الاسلام والأنبياء ومحبتهم ومحبة مناصرتهم والمرء مع من أحب وتحمل المشاق العظيمة لله تعالى والاحتجاج الطويل على مخالفي الاسلام حتى قال الرازي في وصيته اللهم إن كنت تعلم إني آثرت هواي على الحق فيما صنعته فلا كذا وكذا ودعا بعدم المغفرة أو كما قال
ولما ذكر الذهبي في النبلاء تجويد الجاحظ في كتاب النبوات ترحم عليه وقال فكذلك فليكن المسلم مع أنه من خصومه وهذا شيء يعلمه العاقل
من قرائن أحوال المتأولين وأقل الاحوال أن يكون هذا محتملا مجرد احتمال مع سعة رحمة الله سبحانه وعظيم عفوه وغفرانه ومع ما ورد في أحاديث الشفاعة المتواترة كما مضى بيانه في موضعه ولذلك ساوى رسول الله بين الخطأ والنسيان والاكراه في أحاديث كثيرة جدا مجتمعة علىا أن الله تعالى تجاوز لأمته عليه أفضل الصلاة والسلام الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وقد تقصيت طرقها وشواهدها من القرآن في ديباجة كتاب العواصم
وقد أجمعت الأمة على العمل بمقتضى النصوص في الاكراه والنسيان فكذلك أخوهما وثالثهما وهو الخطأ أن شاء الله تعالى بل هو أكثر منهما ذكرا وشواهد في الكتاب والسنة والبلوى به أشد والرخصة إنما تكون على قدر شدة البلوى
واما كفار التصريح فلا نسلم أن كفرهم خطأ لوجهين
أحدهما أن مرادنا بالخطأ هو خطأ مخصوص وهو الخطأ في تحري مراد الله تعالى ورسوله فيما ظاهره التعارض والتشابه وكفار التصريح تعمدوا تكذيب الله تعالى الله عن ذلك وتكذيب رسله ولم يقعوا في ذلك خطأ من غير اعتماد
وثانيها أن الله تعالى قد أخبر رسله الكرام بعنادهم واستحقاقهم العداوة والعذاب العظيم ولو في أول مرة كما قال في ذلك كما لم يؤمنوا به أول مرة وقد تقدم ذكر ذلك وكلام ابن أبي الحديد فيه في شرح قول علي عليه السلام الذي شهدت له أعلام الوجود على اقرار قلب ذي الجحود وهذا تصريح بعناد كفار التصريح حين انكروا فطرة الله التي فطر الناس عليها واجتمعت عليها جميع كتبه ورسله وأتباعهم ولم يختلفوا فيها وليحذر من أمن الخطأ وقطع على عدم مسامحة أهله في العقائد من المؤاخذة له فيما أخطأ فيه وعدم المسامحة له كما ذكرته في تحذير من قال بتكليف ما لا يطاق أن يحمله الله تعالى من العقوبات على قولها ما لا يطيقه فان جزاء الله تعالى لعباده من جنس أفعالهم وأقوالهم جزاء وفاقا وكما تدين تدان وقد مر ما ورد في ذلك أو بعضه في التحذير من تجويز التكليف بما لا يطاق على أعدل العادلين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين
الوجه الرابع أن مؤاخذة المخطيء لا تخلو إما أن تكون من تكليف ما لا يطاق أو من أعظم المشاق فان كانت من الأول فهو لا يجوز على الله تعالى كما تقدم القول فيه مبسوطا بسطا شافيا وإن لم تكن منه كانت من أعظم المشاق وقد نفي الله تعالى وجود ذلك في دينه
أما أنه قد نفى ذلك في دينه فالمنصوص فيه كثيرة قال الله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج وقال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وتواتر هذا المعنى في السنة وقد جمعته في مؤلف مفرد ذكرت فيه أكثر من ثلاثين آية من كتاب الله تعالى وأزيد من مائة وثمانين حديثا فلا نطول بذكره لوضوحه
وأما أن ذلك من أعظم الحرج والمشاق فالأمرين
الأمر الأول أن العاقل المعظم لأمر الله تعالى المؤثر لمرضاته لو خير بين أمرين أن يكلف الصبر على القتل عند الاكراه على كلمة الكفر أو الاحتراز من الخطأ بعد تقرير أن الخطأ كفر لا يغفر ويوجب الخلود في النار لاختار الصبر على القتل لأنه يفضي به إلى الجنة وإنما هو صبر ساعة وهو لا يأمن أن يقع في الخطأ الذي يكفر به ولا يغفر له مع عدم العصمة وعدم المسامحة لأن الخطأ قد جربت كثرة وقوعه من الأذكياء والافراد في المعارف الذين ضربت الأمثال بهم في العقل والذكاء والفهم والعلم وذلك عند تعارض الأنظار والآيات والآثار والمتشابهات والمحتملات وتخصيص أكثر العمومات حتى وقع بعض الأنبياء في شيء من ذلك مع العصمة والتأييد الرباني هذا نوح عليه السلام ظن أن ابنه داخل في عموم أهله الذين وعده الله تعالى بنجاتهم ولم يعلم تخصيص هذا العموم ولو علمه ما سأل وقد قيل في الوجه في ذلك أن ابنه كان منافقا وهذا موسى عليه السلام راعه ما وقع من الخضر عليه السلام من المتشابهات حتى عيل صبره وأخلف وعده
الأمر الثاني : أنه لم يتحقق ورود الشرع بعقوبة المخطيء بعد الرغبة في معرفة الصواب وحسن النية في تعرفه وإن لم يبلغ جميع ما يمكن البشر في علم الله تعالى أما مع بلوغه ذلك فلا شك في العفو عنه وأما المشاق
العظيمة فقد يرد الشرع بها نادرا في هذه الشريعة تخصيصا لعموم المسامحة فيما شق حيث تقتضي ذلك الحكمة كما في وجوب الصبر للقصاص في القتل وقطع الاعضاء والرجم في عقوبة الزاني وكان هذا أكثر في شرائع من قبلنا لقوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم ومنه وجوب القتل في توبة بني إسرائيل ونحو ذلك فثبت أن المشاق العظيمة قد تحقق ورودها في الشرائع نادرا حيث يقتضي ذلك المصلحة وإن عقاب المخطيء بعذاب النار لم يتحقق وروده في شريعة من الشرائع فثبت أنه أحق المشاق بأن يسمحه اكرام الاكرمين وخير الغافرين سبحانه وتعالى ولا برهان قاطع على أن المكفرين من أهل التأويل لا يسمون مخطئين ولا على خروجهم من الأدلة الدالة على العفو عن المخطئين
االوجه الخامس : أن أخوة يوسف لما قالوا إن أبانا لفي ضلال مبين وقالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم لم يكفروا بذلك لما كانوا باقين على شهادة أن لا إله إلا الله وأن يعقوب رسول الله معتقدين مع ذلك صحة نبوته ودينه وإنما جوزوا عليه مع ذلك الضلال في حب يوسف لأنه عندهم من الضلال في الرأي ومصالح الدنيا وقد قاربوا الاستهانة وعدم التوقير لولا جلالة بقائهم على الشهادتين وإيمانهم بالله تعالى ورسله فثبت أن للبقاء على ذلك أثرا عظيما فان الامارات لا تقاومه وإن الشرع ورد بتعظيم ذلك وطرح المعارض له ولذلك عظم رسول الله وآله على أسامة بن زيد قتل الكافر الذي ضربه فلما قدر عليه أسلم وعظم على أصحابه الكلام في بعض من كانوا يعدونه من المنافقين وقال أليس يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله ويصلي قالوا بلى ولا شهادة له ولا صلاة قال إني لم أومر أن أفتش على قلوب الناس وأمثال ذلك كثيرة صحيحة
الوجه السادس : أن الخارجي الذي قال لرسول الله وآله اعدل يا محمد والله إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تكلم بكلام من أقبح الكلام وظن ظنا من أسوأ الظنون ولم يحكم النبى بكفره مع ذلك مع أنه لو
كفر لوجب قتله بالردة إلا أن يتوب ولم تنقل له توبة بل جاء في الحديث ما معناه أنها تخرج من ضئضئة الخوارج وإنما لم يكفر والله أعلم لأنه بقي على شهادة أن محمدا رسول الله وآله وإنما جوز عليه أن يذنب كذنوب الانبياء كما قال تعالى وعصى آدم ربه فغوى وهذا يدل على تعظيم حرمة الشهادتين مع عظم الخطأ وكذلك لم يكفر حاطب ابن أبي بلتعة مع خيانته لرسول الله وآله وما نزل فيه أول سورة الممتحنة وقوله تعالى فيه تلقون اليهم بالمودة و تسرون اليهم بالمودة وقد قال تعالى ومن يتولهم منكم فانه منهم ومع ذلك وصفه بالايمان في أول السورة حيث قال يا أيها الذين آمنوا وإنما قلنا أنه داخل فيمن خوطب بذلك لأن العموم نص في سببه بالاجماع ولذلك أدخله الله مع المؤمنين وخاطبه بأجمل الخطاب حيث قال لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وكذلك ثبت أن رسول الله وآله قبل عذره وذلك كله يدل على ما قاله الامام المهدي محمد بن المطهر عليه السلام أن الموالاة المحرمة بالاجماع هي أن تحب الكافر لكفره والعاصي لمعصيته لا لسبب آخر من جلب نفع أو دفع ضرر أو خصلة خير فيه والله أعلم
الوجه السابع : أن الله تعالى نص على تحريم التفرق في كتابه الكريم وجاء ذلك بعبارات كثيرة في الكتاب والسنة ولا أفحش في التفرق من التوصل إل التكفير بأدلة محتملة تمكن معارضتها بمثلها ويمكن التوصل بها إلى عدم التكفير وإلى جمع الكلمة وإنما قلنا أنه لا أفحش من ذلك في التفرق المنهي عنه لما فيه من أعظم التعادي والتنافر والتباين وقد قال رسول الله وآله في حق المحدود في الخمر مرارا حيث لعنوه بسبب ذلك لا تعينوا الشيطان على أخيكم أما أنه يحب الله ورسوله ولا شك أن في التفرق ضعف الاسلام وتقليل أهله وتوهين أمره قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وقال بعدها بآية
واحدة ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقد تقدم في حديث ابن مسعود أن الاختلاف المنهى عنه هو التعادي لا الاختلاف في مجرد الافعال والاقوال مع عدم التعادي وأن بعض ذلك قد وقع بين الملأ الاعلى وبين رسل الله الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام يوضحه قوله تعالى ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذين أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال تعالى ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وقال تعالى وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وفي الحديث أن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم وفيه أن فساد ذات البين هي الحالقة اما اني لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين
وقد تقدم في هذا الباب ما جاء في المشاحنة والمهاجرة من الوعيد الشديد والأحاديث المتواترة منها حديث هشام بن عمار عن رسول الله وآله لا يحل لمسلم أن يهجر مسلما فوق ثلاث فانهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما وأولهما فيأ يكون سبقة بالفيء كفارة له وإن سلم ولم يقبل ردت عليه الملائكة وإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا أبدا رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وقد مر في الوجه الأول من هذه الوجوه ما له من الشواهد المتواترة الرائعة في تحريم ذلك وانه مقرون بالشرك في حرمان صاحبه الغفران وهذا أمر مجمع على تحريمه في الأصل فيجب مراعاة أسبابه ومقوياته فكلما كان أقرب إلى الاجتماع كان أرجح وكلما كان أقرب إلى التفرق وادعى اليه وإلى اثارته كان أفسد وأبطل وكم بين إخراج
عوام فرق الاسلام أجمعين وجماهير العلماء المنتسبين إلى الاسلام من الملة الاسلامية وتكثير العدد بهم وبين ادخالهم في الاسلام ونصرته بهم وتكثير أهله وتقوية أمره فلا يحل الجهد في التفرق بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة ويقوي الاسلام ويحقن الدماء ويسكن الدهماء حتى ينضح كفر المبتدع اتضاح الصبح الصادق وتجتمع عليه الكلمة وتحقق إليه الضرورة مثل كفر الزنادقة والملاحدة الذين أنكروا البعث والجزاء والجنة والنار وتأولوا الرب جل جلاله وجميع أسمائه بامام الزمان وسموه باسم الله تعالى وفسروا لا إله إلا الله أي لا إمام إلا إمام الزمان في زعمهم خذلهم الله تعالى وتلعبوا بجميع آيات كتاب الله تعالى في تأويلها جميعا بالبواطن التي لم يدل على شيء منها دلالة ولا امارة ولا لها في عصر السلف الصالح اشارة وكذلك من بلغ مبلغهم من غيرهم في تعفية آثار الشريعة ورد العلوم الضرورية التي نقلتها الامة خلفها عن سلفها والله يحب الانصاف قطعا
الوجه الثامن : أن الخطأ لما كان منقسما إلي مغفور قطعا كالخطأ في الاجتهاديات على الصحيح وغير مغفور قطعا كالخطأ في نفي البعث والجنة والنار وتسمية الامام بأسماء الله تعالى إلي غير ذلك ومختلف فيه محتمل للالحاق بأحد القسمين نظرنا لأنفسنا في الاقدام على تكفير أهل التأويل من أهل القبلة وفي الوقف عنه عند الاشتباه فوجدنا الوقف عنه حينئذ مع تقبيح بدع المبتدعة لا يحتمل أن يكون كفرا ولا خطأ غير معفو عنه لأنه لا يدل على ذلك برهان قاطع ولا دليل ظاهر بل الأدلة واضحة في العفو حينئذ على تقدير الخطأ كما تقدم بيانه في الوجه الرابع وأما الاقدام على التكفير فعلى تقدير الخطأ فيه لا نأمن أن يكون كفرا أو خطأ غير معفو عنه كخطأ الخوارج لورود النصوص الصحيحة الكثيرة بذلك وعدم الإجماع على تأويلها كما تقدم في الوجه الأول فوجدنا الوقف حينئذ أحوط للدين والدار الآخرة حتى لو قدرنا والعياذ بالله تعالى أن الخطأ في كل واحد منهما ذنب غير مغفور لكان الخطأ في الوقف أهون من الخطأ في التكفير وفي الحديث والعقول دلائل على ذلك كثيرة ولذلك قيل أن للشر خيارا ومنه قولهم حنانيك بعض الشر أهون من بعض
الوجه التاسع أن الوقف عن التكفير عند التعارض والاشتباه أولى وأحوط من طريق أخرى وذلك أن الخطأ في الوقف على تقديره تقصير في حق من حقوق الغني الحميد العفو الواسع أسمح الغرماء وأرحم الرحماء وأحكم الحكماء سبحانه وتعالى والخطأ في التكفير على تقديره أعظم الجنايات على عباده المسلمين المؤمنين وذلك مضاد لما أوجب الله من حبهم ونصرهم والذب عنهم
وقد روى في ذلك من حديث أمير المؤمنين علي عليه السلام ومن حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كلاهما عن رسول الله وآله أنه قال
الدواوين عند الله ثلاثة ديوان لا يغفره الله وهو الشرك بالله تعالى وديوان لا يتركه وهو حقوق المخلوقين وديوان لا يبالي به وهو ما بينه سبحانه وتعالى وبين عبده فالتارك للتكفير إن قدرنا خطأه فانما أخل بحق من حقوق الله تعالى وهو إجراء الاحكام عليهم وهو ههنا لم يتركه إلا لعدم شرط جوازه وهو تحقق الموجب له وأما للكفر إن قدرنا خطأه فقد أخل بحق المخلوق المسلم بل تعدى عليه وظلمه أكبر الظلم وأفحشه فأخرجه من الاسلام وهو يشهد أن لا أله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن جميع رسله وكتبه وما جاء فيها عن الله تعالى حق لا شك فيه ولا ريب في شيء منه على الجملة وإنما أخطأ في بعض التفاصيل وقد صرح بالتأويل فيما أخطأ فيه فان وصف الله بوصف نقص فلاعتقاده أنه وصف كمال وان نسب إليه قبحا فلاعتقاده أنه حسن وان تعمد القبيح في ذلك فمحل التعمد هو القلب المحجوب عنا سرائره والحاكم فيه علام الغيوب وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة وذمت أقبح الذم على تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله تعالى وتعظيمهم لله تعالى بتكفير عاصية فلا يأمل المكفر أن يقع في مثل ذنبهم وهذا خطر في الدين جليل فينبغي شدة الاحتراز فيه من كل حليم نبيل ولأجل هذا الخطر عذر المتوقف في التكفير وكان هذا هو الصحيح عند المحققين كما ذكره الفقيه حميد واختاره في عمدة المسترشدين بل كما قامت عليه الدلائل والبراهين
الوجه العاشر أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لم يكفر
أهل الجمل وصفين لم يسر فيهم السيرة في الكافرين مع صحة قول رسول الله وآله لايحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق والمنافق إذا أظهر النفاق وحارب وكانت له شوكة جرت عليه أحكام الكفار بالاجماع بل قد صح أن سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر فكيف بسيد المسلمين ومولاهم الامام بل خلاف بينهم الواجب محبته وطاعته عليهم
وفي مسند أحمد عن أم سلمة أنها قالت أيسب رسول الله فيكم قيل لها معاذ الله قالت سمعت رسول الله يقول من سب عليا فقد سبي رجاله رجال الجماعة كلهم إلى أبي عبد الله الحدلي التابعي الراوي عنها وهو ثقة ولم يكفرهم عليه السلام مع هذا وأمثاله فدل ذلك على أنه عليه السلام بعد عن التكفير لأجل المعارضات التي أشرنا اليها في حكم أهل الشهادتين أو فيمن قام بأركان الاسلام ولجوازان يراد كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وهذا الوجه مفارق للوجه الأول المتعلق بالحوارج لأن النزاع في كفر الخوارج ممكن أو مشهور وأما هؤلاء فلا خلاف بين أهل النقل والبصر وبالتواريخ أنه عليه السلام سار فيهم السيرة في البغاة على إمام الحق ولم يسر فيهم السيرة في أهل الكفر ولهذا قال الامام أبو حنيفة أنه لولا سيرته عليه السلام في ذلك ما عرفت أحكام البغاة أو كما قال رحمه الله تعالى وإنما كان فعله فيهم حجة على البعد عن التكفير لأنه تركه مع وجود النصوص الصحيحة بكفرهم ونفاقهم كما ذكرناه في الحديثين الشهيرين وشواهدهما بل كما في قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرين وعدل إلى ترجيح معارضتهما ولا معنى للعبد عن التكفير إلا ذلك
الوجه الحادي عشر
أنه قد يدق مراد المخالف ويخفي جدا ويحتمل الوقف فيفسر بما لم يقصده كما تقدم في هذا المختصر في اختلاف الناس في تحقيق فعل العبد إلى بضعة عشر قولا أكثرها غامضة وكما دق مذهب الاشعرية في الرؤية حتى قال الرازي أن مرادهم أنه ينكشف لله تعالى صفة في الآخرة هي بالنسبة اليه كالرؤية بالنسبة إلى غيره وقد ينقل عنه ما لم يقل لتوهم أنه لازم له وليس بلازم كما نسب تكليف ما لا يطاق إلى
الاشعري أو لازم ولكن اللازم الذي لم يقل به بل تبرأ منه ومن لزومه كالذي قاله وكم يختلف أتباع العالم في كثير من مقاصده ويلزم ما لم يقصده كما يختلف في كثير من الآيات والأحاديث وقد تقدم هذا في سبب الابتداع في الدين بتبديل العبارات وعليه بنيت هذا المختصر فاذا تقرر هذا فمن العجب تكفير كثير ممن لم يرسخ في العلم لكثير من العلماء وما دروا حقيقة مذاهبهم وهذه هذه وما يعقلها إلا العالمون
الوجه الثاني عشر
أن في الحكم بتكفير المختلف في كفرهم مفسدة بينة تخالف الاحتياط وذلك اسقاط العبادات عنهم إذا تابوا وإسقاط جميع حقوق المخلوقين من الأموال والدماء وغيرهما وإباحة فروج نسائهم إذا لم يتوبوا وسفك دمائهم مع قيام الاحتمال بشهادة وجود المخالفين الجلة من أئمة الملة ووجود المعارضات الراجحة الواضحة الادلة وقد أشار إلى هذا الوجه شيخ الاعتزال المعروف بمختار في المسألة الثانية عشرة من مسائل هذا الباب في كتابه المجتبى قال فيه وعن بعض السلف أنه كان يكتب في الفتوى في هذا لا يكفر وغيري يخالفني
الوجه الثالث عشر
أن الخطأ في العفو خير الخطأ في العقوبة نعوذ بالله من الخطأ في الجميع ونسأله الاصابة والسلامة والتوفيق والهداية لكنا وجدنا الله تعالى لم يذم من أخطأ في نحو ذلك ألا تراه أثنى على خليه عليه السلام حين جادله في قوم لوط فقال إن ابراهيم لحليم أواه منيب وقال تعالى فيه بعد حكايته استغفاره لأبيه إن إبراهيم لأواه حليم وإنما كان جداله واستغفاره فيما يحتمل الجواز في شريعته لا فيما لا يجوز بالنص فانه منزه عن ذلك ولا فيما يجوز بالنص فانه لا يعاقب في ذلك ولا يحتاج إلى الاعتذار له فيه ونحو هذا من وجه آخر قوله عليه السلام ومن عصاني فانك غفور رحيم وقول عيسى عليه السلام وإن تغفر لهم فانك انت العزيز الحكيم وصلاة رسول الله وآله على عبد الله بن أبي بعد نزول قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وقوله في تفسيرها ان الله خيرني ولم ينهني ولو أعلم انه يغفر لهم اذا زدت على السبعين لزدت
عليها وثبت انه E ما خير بين أمرين الا اختار أيسرهما ما لم يكن اثما وتواتر ذلك من اخلاقه الكريمة كما جمع في مصنف مفرد ويشهد له بذلك القرآن الكريم حيث قال تعالى انك لعلى خلق عظيم هذا مع انا نقف فيمن تفاحشت بدعته وقاربت الكفر ولا نواليه ولا ندعوا له بالرحمة والمغفر الا بشرط ان يكون من المسلمين محاذرة من ان نوالي من هو عدو لله في الباطن وقد أمر رسول الله وآله بنحو هذا في حديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم حذرا من تكذيب الحق وتصديق الباطل فنعوذ بالله من موالاة أعداء الله بل ننكر بدعهم وننهي عنها ما استطعنا ونكرهها ونتبرأ منها ونشهد الله تعالى انا نعادي من عاداه علمناه أو جهلناه فقد دل في الحديث على نفع هذا الاعتقاد الجملي وهو حديث زيد بن ثابت عن رسول الله وآله وفيه اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت وما لعنت من لعنة فعلى من لعنت رواه أحمد والحاكم وقتال حديث صحيح ويشهد لصحته ما تقدم عن ابراهيم الخليل عليه السلام من الجدال عن قوم لوط والاستغفار منه لابيه ولم يكن موالاة منه لهم ولا رضى بذنوبهم ولا ذم به بل بين الله تعالى عذره في بعض ذلك وعده من سعة حلمه في بعضه وهذا كله في حق الكافرين وأما أهل الاسلام المؤمنين الخاطئين فلا نص على تحريم ذلك فيهم فيما علمت وينبغي الاشتراط فيما شك فيه من الدعاء لبعضهم ان يكون موافقا لمراد الله تعالى في الشريعة النبوية
فصل في الفسق
وهو أقسام باعتبار العرف الاول والآخر واسم الفاعل واسم الفعل وباعتبار التصريح والتأويل
فاما العرف الأول في اسم الفاعل فانه يدل ان الفاسق من الكفار من لا حياء ولا مروءة ولا عهد ولا عقد له كما فسره بذلك الزمخشري في بعض الآيات الدالة على ذلك فان الله تعالى يقول في الكفار من اليهود وغيرهم وأكثرهم فاسقون وفي بعض الآيات وكثير منهم فاسقون كما أوضحته في الاول من العواصم مبسوطا بسطا شافيا زائدا على ما يعتاد في ذلك من البسط
وأما باعتبار اسم الفعل ففيه قوله تعالى وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان وقول رسول الله وآله سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر في أحاديث كثيرة متفق على صحتها
وأما العرف المتأخر فالفسق يختص بالكبيرة من المعاصي مما ليس بكفر والفاسق يختص بمرتكبها وعند المعتزلة لا يسمي كافرا ولا مؤمنا ولا مسلما وعند أهل الحديث والاشعرية لا يسمى كافرا وأما اسم الاسلام فان اعتبرنا تمامه وكماله لم نسمه مؤمنا ولا مسلما وان اعتبرنا أقله سميناه مؤمنا ومسلما الا ان تسميته مسلما اعتبارا بالاقل من مراتب الاسلام هو العرف الاكثر بخلاف تسميته مؤمنا وفي ذلك من الآيات والأحاديث ما لا يحتمله هذا المختصر وقد استوفيت الكلام فيه في مسألة الوعد والوعيد في آخر العواصم
وأما انقسام ذلك باعتبار فسق التصريح والتأويل فهو متفق عليه أما فسق التصريح فلا داعي الى ذكره هنا وهو يرجع الى معرفة الكبائر وهي منصوصة في أحاديث كثيرة وفي بعضها زيادة على بعض وقد جمعها ابن الحاجب في مختصر المنتهى وتكلم ابن كثير على طرقها ومنهم من زاد عليها ما هو أكثر منها قطعا عملا بمفهوم الموافقة المسمى فحوى الخطاب
مثاله ان قتل المؤمن كبيرة بالنص فأولى منه بذلك دلالة الكفار على نقب في مصر عظيم من أمصار المسلمين يدخلون منه فيقتلون جميع من فيها ويستحلون المحارم من النسوان والصبيان ونحو ذلك وهذا قسمان منه ما يكون معلوما كما يعلم تحريم ضرب الوالدين من تحريم التأفيف فلا يكون قياسا ومنه قياس واختلف فيما يكون قياسأ فاجازته طائفة منهم الهدوية ففسقوا من غصب عشرة دراهم قياسا على من سرقها ومنعته طائفة منهم المؤيد بالله عليه السلام واحتج عليهم بالاجماع على ان الغاصب لا يقطع ومنهم من قال الكبيرة ما كان فيه حد من حدود الله تعالى أو قال الله تعالى فيه إنه عظيم أو كبير ومنهم من قال ما توعد الله عليه بخصوصه بالعذاب
وأما فسق التأويل فهو الذي أردت أن أذكره هنا واعلم ان ما دخله التأويل مما يتعلق بالكبائر ولم يعلم انه منها سوى قتل المسلمين وقتالهم فانه يصير ظنا من الفروع الاجتهاديات عند جماهير العلماء من الفرق أو عند جميعهم كالربويات المختلف فيها والانكحة المختلف فيها مثال ذلك وأما قتل المسلمين وقتالهم والبغي على أئمتهم العادلين فاختلف فيه فقالت الشيعة والمعتزلة لا يعذر المجتهد ان أخطأ فيه ويكون فاسق تأويل وقيل يعذر مثل التأويل فيما تقدم وسبب الاختلاف أمران
أحدهما تعارض الوعيد على ذلك والوعد بالعفو عن أهل الخطأ وقد تقدم ما في ذلك قريبا في الوجه الثالث في الكلام على تكفير أهل التأويل
وثانيهما اختلافهم هل يوجد دليل قاطع شرعي وليس بضروري من الدين أم لا ومعنى ذلك أن القطعي الشرعي هو المعلوم لفظه المعلوم
معناه فأما العلم بلفظه فلا يكون إلا ضروريا بالاجماع لانه نقل محض ما لم يبلغ مرتبة الضرورة فيه كان ظنيا ولا واسطة فيه بين الضرورة والظن وفاقا فالضرورة هو التواتر والظن آحاد وان كثرت رواته وأما العلم بمعنى القطعي الشرعي فهو محل الخلاف فعند المعتزلة وكثير من الشيعة يدخله القطع من غير ضرورة وعند المخالفين لهم انه راجع الى لنقل المحض إما عن أهل اللغة أو عن أهل الشرع فلا يكون الا ضروريا فيكفر المخالف فيه أو ظنيا فيعذر
وعضدوا هذا بوجوه منها قياس القتل والقتال على سائر ما تقدم مما يتعلق بالكبائر فان هذا حكمها عند الجميع ومنها قياس ذلك على كلام العلماء في مسائل الخلاف في القصاص في النفوس كالحر بالعبد والذكر بالانثى والقصاص بين المسلم والذمي والخلاف في عمد الخطأ وكذلك كلامهم في الحدود التي يجب فيها القتل أو العفو والعقد الاجماع في ذلك كله على عدم تأثيم المخالف مع انه خلاف في سفك الدماء وقتل المؤمنين بالتحري للعدل المأمور به لدفع الفساد قالوا فكذلك من أخطأ من المجتهدين في الفتن وهو على هذه النية ومنها قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا مع أحاديث خاصة وردت في الخطأ في الفتن بخصوصها
وفي ذلك أحاديث
الاول عن سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنهم قال كنا عند رسول الله وآله فذكر فتنة عظم أمرها فقلنا أو قالوا يا رسول الله لئن أدركتنا هذه الفتنة لنهلكن فقال رسول الله وآله كلا ان يحسكم القتل قال سعيد فرأيت أخواني قتلوا رواه أبو داود في الفتن من كتاب السنن عن مسدد عن أبي الاحوص سلام ابن سليم عن منصور بن المعتمر أحد أئمة الكوفة عن هلال بن يساف الاشجعي الكوفي عن سعيد بن زيد وكلهم نبلاء ثقات من رجال البخاري ومسلم وسائر الجماعة الا أن البخاري لم يخرج حديث هلال ابن يساف وحده لغبر طعن فيه فانه لم يذكر في الميزان ورواه أحمد بن حنبل في مسنده بإسناد آخر رجاله كله ثقات الى هلال بن
يساف عن سعيد ولفظه ذكر رسول الله وآله فتنا كقطع الليل المظلم أراه قال قد يذهب فيها الناس أسرع ذهاب قال فقيل أكلهم هالك أم بعضهم فقال حسبهم أو بحسبهم القتل وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ولفظه فقلنا إن أدركنا ذلك هلكنا فقال بحسب أصحابي القتل ورواه الطبراني باسانيد ورجال أحدها ثقات ورواه البزار كذلك
الحديث الثاني عن أم حبيبة عن النبي وآله انه قال رأيت ما تلقى أمتي بعدي وسفك بعضهم دماء بعض فسألته أن يؤتيني شفاعة يوم القيامة فيهم ففعل رواه أحمد والطبراني في الاوسط ورجالهما رجال الصحيح الا أن رواية أحمد عن انس عن أم حبيبة ورواية الطبراني عن الزهري عن أنس رواه في مجمع الزوائد ولم أجده في جامع ابن الجوزي ولكنه لا يستوفى والله أعلم
الحديث الثالث عن طارق بن أشيم انه سمع النبي وآله يقول بحسب أصحابي القتل
الحديث الرابع عن أبي بردة عن رجل من أصحاب رسول الله وآله انه قال عقوبة هذه الأمة السيف رواه الطبراني برجال الصحيح
الحديث الخامس عن أبي بردة عن عبد الله بن زيد انه سمع النبي يقول جعل الله عذاب هذه الأمة في دنياهم
الحديث السادس عن معقل بن يسار مرفوعا نحو ذلك رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عيسى الخزاز
الحديث السابع عن أبي هريرة نحوه رواه الطبراني في الأوسط من حديث سعيد بن مسلمة الأموي وعضدوا هذه الأخبار بما رواه زيد بن أبي الزرقاء عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الاصم قال قال علي عليه
السلام قتلاي وقتلى معاوية في الجنة رواه الذهبي في ترجمة معاوية من النبلاء وجعفر ويزيد من رجال مسلم وزيد من رجال النسائي قال في الكاشف صدوق وكذلك قال في الميزان وفيه عن ابن معين لا بأس به ولم يورد فيه جرحا الا قول ابن حبان انه يغرب وليس ذلك بجرح وقال فيه انه صدوق مشهور عابد وإن ابن عمار قال ما رأيت في الفضل مثله ومثل المعافي وقاسم الجرمي رحمهم الله تعالى
وهذا من أحسن ما في الباب وانما أخرته لانه موقوف ومع ذلك فله قوة المرفوع والله أعلم بصحة ذلك عنه ومنه أحاديث النهي عن مدافعة أهل التأويل ومنها اعتقادهم أن هذه الادلة أخص وأن ادلة المعتزلة والشيعة عامة وهو في الحقيقة موضع النزاع كما سيأتي في ادلة المعتزلة فينبغي تحرير النظر فيه لان الخاص مقدم على العام ومنها عدم ترجيح عدم التفسيق بالمرجحات المتقدمة لعدم التكفير الحكم فيها متقارب وان كان التكفير أخطر
وقد نص أبو ذر رضي الله عنه على رواية ذلك عن رسول الله في حديثه المتقدم فقال من قال لاخيه كافر أو قال عدو الله وليس كذلك الا حار عليه متفق على صحته كما مضى
وأما الشيعة والمعتزلة فاحتجوا على قولهم بانواع من السمع كثيرة منها قوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله وأهل التأويل من البغاة داخلون في هذه الآية وان كان سبب النزول في المصرحين فيما أحسب فالآية عامة عند الشيعة والمعتزلة أو عند أكثرهم ومنها حديث أبي هريرة موفوعا في الفتن ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل ولا يدري المقتول في أي شيء قتل قيل وكيف ذاك قال الهرج القاتل والمقتول في النار أخرجه مسلم وعن عبد الله بن عمرو موفوعا ستكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار رواه أبو داود والترمذي ومنها حديث اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال انه كان حريصا على قتل صاحبه رواه خ و م و د و س من حديث أبي بكرة و س من حديث أبي
موسى ومنها أحاديث سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر ومنها أحاديث لا ترجعوا بعدي كفرا يضرب بعضكم رقاب بعض ومنها بادروا بالاعمال فتنا يصبح الزجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ومنها وهو من أصرحها حديث عمار وهو صحيح متواتر ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار أخرجه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم وقال ابن الجوزي في جامع المسانيد أخرجه البخاري ومسلم وكذلك ابن الأثير في جامع الاصول
قال الحميدي أخرجه كذلك أبو بكر البرقاني وأبو بكر الاسماعيلي قبله وذكره ابن حجر في قتال البغاة من تلخيصه عن اثني عشر صحابيا وذكر عن ابن عبد البر انها تواترت به الاخبار وان أصح الحديث وعن أحمد بن حنبل انه روي من ثمانية وعشرين طريقا وذكر الذهبي في ترجمة عمار من النبلاء كثيرا من طرقه وحكم بصحته بل بتواتره وذكر ان يعقوب بن أبي شيبة الامام الثقة الحافظ سمع أحمد بن حنبل سئل عنه فقال فيه حديث صحيح عن رسول الله وروى الذهبي مع ذلك أحاديث أخر قاتل عمار وسالبه في النار بل ان الله يعادي عدو عمار ويغضب لغضب عمار رضي الله عنه وحديث عمار هذا من اعلام النبوة الكبار ولذلك ذكره جمهور من صنف في المعجزات النبوية واحتجوا على انه معلوم بالضرورة بان معاوية وأهل الشام حين سمعوه لم ينكروه وذكر القرطبي في تذكرته والحاكم في علوم الحديث ان القول بمقتضاه اجماع أهل السنة يعني ان من حارب عليا عليه السلام فهو باغ عليه وانه عليه السلام صاحب الحق في جميع تلك الحروب ومنها ما ورد في تخصيص قتل المسلم وقتاله من الوعيد الشديد وان رسول الله قال ان الله أبي علي في القاتل وفي حديث ابن عمر لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما رواه البخاري وروي من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا من قتل مؤمنا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا قال د في حديث عبادة عن يحيى بن يحيى الغساني في معنى اغتبط بقتله قال الذين يقاتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى انه على هدى لا يستغفر الله تعالى يعني من ذلك والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى
وقد ذكرت في العواصم في مسألة الوعيد أحاديث كثيرة رائعة في تعظيم القتل وذكرها هنا يخرجنا على معنى الاختصار ومنها وهو أقوى من هذه الأشياء انه تواتر عن الصحابة انهم كانوا يعتقدون في الباغي على أخيه المسلم وعلى امامه العادل انه عاص آثم وأن التأويل في ذلك مفارق للاجتهاد في الفروع فانهم لم يتعادوا على شيء من مسائل الفروع وتعادوا على البغي وكذلك أجمعت الأمة على الاحتجاج بسيرة علي عليه السلام في قتالهم وليس المجتهد المعفو عنه يقاتل على اجتهاده ويقتل ويهدر دمه
وأما الاحاديث التي تقدمت في معارضة هذه فلا تبلغ مرتبتها في الصحة والشهرة ولو بلغت لم تعارضها فانها دالة على اثم أهل الفتن وانما فيها انه خفف على هذه الأمة عذابها في ذلك الذنب وجعل عذابها بالسيف في دنياها وهذا أولى أن يكون حجة على تحريم ذلك وعدم قبول الاجتهاد فيه فانه لو قبل منه لم يستحقوا عليه عذابا لا في الدنيا ولا في الآخرة بالاجماع بل يستحقون عليه المثوبة والثناء من الله سبحانه وتعالى
وأما الرجاء والشفاعة للمسلمين فقد تقدم ما فيه من القرآن والتواتر الا في قاتل المؤمن متعمدا ومنها ان النبي سمي فساد ذات البين الحالقة تحلق الدين لا تحلق الشعر ولو كان الاجتهاد فيها سائغا لم يصح ذلك ومنها أن الفريقين اجتمعوا على تهليك الخوارج والنصوص دلت على ذلك
فان قيل انما هلكوا بمجرد اعتقادهم التكفير
قيل لا سبيل الى القطع بذلك بل قد ورد ما يدل على ان القتل أعظم من التكفير وذلك حديث ثابت بن الضحاك مرفوعا وفيه ومن قذف مؤمنا بكفر فهو قاتله وتقدم القول في صحته وشواهده كثيرة قالوا وأما أحاديث النهي عن دفاع المتأولين فليس العلة فيها قبول اجتهادهم ألا تراه يقول فيها كن كخير ابني آدم يبوء باثمة واثمك فيكون من أصحاب النار رواه مسلم من حديث أبي بكرة ولم يكن ابن آدم القاتل لأخيه معفوا عنه والله تعالى يقول عن أخيه إني أريد أن تبوء بإثمي
وإثمك بل هذا من أخص أدلة المعتزلة وأقواها لانه في أهل التأويل بالاتفاق والاثم منصوص
وقد جود ابن جرير الطبري الكلام في هذا الفصل ونقله ابن بطال في شرح البخاري وأما قوله ومن يقتل مؤمنا متعمدا وحديث كل ذنب عسى الله أن يغفره الا الرجل يقتل المؤمن متعمدا فالمراد الاحتراز من خطأ اليد لا خطأ الاستحلال بدليل ما ذكرناه وبدليل سياق الآيات من أولها في قتل الخطأ وكلام المعتزلة مع كثرة شواهده غير نص في محل النزاع فانه يمكن أن يكون هذا الوعيد بالنار في الفتن مختصا بالفتن التي الداعي اليها هو الهوى والكبر وحب الرياسة والمنافسة في الدنيا بل هو الظاهر في كثير من الأحاديث ومن أحوال أهل تلك الفتن ولو اجتهدوا لعرفوا الحق لاهله ومنتهى الامر ان يؤديهم الاجتهاد الى الوقف
وروى الحاكم في المستدرك في مناقب عمار والذهبي في النبلاء في مناقبه أيضا عن ابن عمر ما يدل على ذلك وانما الكلام مفروض فيمن وفي الاجتهاد حقه ولذلك أجمعت الأمة على العفو عن المجتهدين من أئمة العلم في معرفة أحكام الدماء والقتل في الحدود والقصاص في مسائل الفروع المختلف فيها المعمول فيها بأقوالهم كالخلاف في قتل تارك الصلاة وقتل الحر بالعبد ونحو ذلك حيث لم يكن الهوي سبب اختلافهم وظهر منهم التحري في الصواب وبذل الجهد في تعرفه وتوفية الاجتهاد حقه وهذا زبدة ما عرفته من أدلة الفريقين على جهة الاشارة والله الهادي والموفق الى الصواب
خاتمة
في حب من أحبه الله ورسوله وأمر بحبه من القرابة والصحابة وقد دلت النصوص الجمة المتواترة على وجوب محبتهم وموالاتهم وأن يكون معهم ففي الصحيح لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا وفيه المرء مع أحب
ومما يخص أهل بيت رسول لله قول الله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقوله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى كما روى تفسيرها مرفوعا امام أهل الحديث أحمد بن حنبل والملا في سيرته والطبراني في معجمعه الكبير والاوسط من حديث حبر الامة وبحرها عبد الله بن العباس رضي الله عنهما
ويعضد ذلك من كتاب الله تعالى قوله تعالى ألحقنا بهم ذريتهم وقوله تعالى وكان أبوهما صالحا واجماع الامة وتواتر الاخبار بشرع الصلاة عليهم في تشهد الصلاة واختصاصهم به أو بالاجماع على دخولهم فيه فيجب لذلك حبهم وتعظيمهم وتوقيرهم واحترامهم والاعتراف بمناقبهم فانهم أهل آيات المباهلة والمودة والتطهير وأهل المناقب الجمة والفضل الشهير
وقد ذكر مناقبهم امام أهل الحديث والسنة في عصره المحب الطبري وصنف في ذلك كتابه ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ويا له من
كتاب وافق اسمه مسماه وصدق لفظه ومعناه وكذلك دلت النصوص المتواترة على وجوب حب أصحاب رسول الله وآله ورضي الله عنهم وأرضاهم وتعظيمهم وتكريمهم واحترامهم وتوقيرهم ورفع منزلتهم والاحتجاج باجماعهم والاستنان بآثارهم واعتقاد ما نطق به القرآن الكريم والذكر الحكيم من انهم خير أمة أخرجت للناس وفيهم يقول الله تعالى والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود الآية
وفي تعظيم حق أهل البيت يقول رسول الله ستة لعنتهم لعنهم الله وذكرهم الي أن قال والمستحل من عترتي لما حرم الله تعالى رواه الترمذي والحاكم من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها
وفي تعظيم حق الصحابة رضي الله عنهم يقول اذا سمعتم من يلعن أصحابي فقولوا لعنة الله على شركم رواه الترمذي
وكذلك يجب حب المؤمنين علمائهم وعامتهم ونصيحتهم واكرامهم لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى يحب لاخيه المؤمن ما يحب لنفسه وقد تقدم في مسألة الوعد والوعيد فوائد تعلق بحكم الخالطين من المسلمين وخصوص المؤمنين والتحذير من مشاحنتهم واضمار الغل لهم والمحافظة على ذلك والتواصي به على مقتضى ما وصف الله تعالى به المؤمنين من التواصي بالحق والصبر والمرحمة جعلنا الله من العاملين بذلك وهو الهادي لا اله الا هو نعم المولى ونعم النصير له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل
والاولى لكل حازم أن يشترط في كل ما يعتقده من المشكلات المختلف فيها ان يكون موافقا لما هو الحق عند الله تعالى وأن لا يكون فيه مخالفة لشيء من كتب الله تعالى ولا لما جاءت به رسل الله تعالى عليهم أفضل الصلاة والسلام وان كان الوقف حيث يجوز أحزم وأسلم فان العصمة مرتفعة والثقة بالفهم أو الانصاف غير مفيد للعلم الضروري بالسلامة من ذلك
وقد ورد في الحديث ما يدل على نفع ذلك كما تقدم في حديث زيد بن ثابت في آية آخر مسألة التكفير والتفسيق ولو لم يكن الا ان هذا الاشتراط آخر ما في الوسع من طلب النجاة
وأنا أشهد الله تعالى باني مشترط لذلك في كل ما يحسن مني اشتراطه فيه وبكون أحوط لي في ديني وأقرب الى رضوان ربي سبحانه وتعالى مع اختيار الوقف في المشكلات المختلف فيها حيث لا يجب القطع بأحد الاحتمالين تقبل الله ذلك مني وثبتني وهداني ولا وكلني الى نفسي طرفة عين ولا حول ولا قوة الا بالله عليه توكلت واليه أنيب
وهذا آخر هذا المختصر المبارك إن شاء الله تعالى وأما الكلام في الخلافة ومناقب القرابة والصحابة فلا يتسع له هذا المختصر فان الكلام فيه كثير جدا وإفراده بمجلد يحق له بل يقل له عند من يعرف ما ورد في ذلك وما قاله أهل العلم فيه وإنما أوردت في هذا المختصر ما يصلح أن يكون مقدمة من مقدمات تفسير كتاب الله تعالى كما ذكرته في هذا المختصر من أنواع التفسير منه في النوع الأول منها والله تعالى يتقبل مني ما وهب من ذلك ويبارك فيه ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم فانما البركة والخير كله بيده سبحانه ومنه وبه وله فله الحمد كله كما ينبغي لكريم وجهه وله الشكر وله الثناء لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه سبحانه وتعالى
ثم اني أختم هذا المختصر المبارك باني أستغفر الله وأسأله التجاوز عني والمسامحة في كل ما أخطأت فيه من هذا المختصر وغيره فاني محل الخطأ والغلط والجهل وأهله وهو سبحانه وتعالى أهل المغفرة والسعة والمسامحة والغنى الأعظم والكريم الأكرم عن مضايقة المساكين والجاهلين اذ كان تعالى تعالى غنيا عن عرفان العارفين غير متضرر بجهل الجاهلين وآخر كلامي كاف له أن الحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله الطاهرين الطيبين وصحبه الراشدين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم