انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 712/ليس هذا هو الطريق يامسيو ديهامل!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 712/ليس هذا هو الطريق يامسيو ديهامل!

مجلة الرسالة - العدد 712
ليس هذا هو الطريق يامسيو ديهامل!
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 02 - 1947



للأستاذ عبد المنعم خلاف

فرنسا تحس وتعلم غاية العلم أنها فقدت كثيراً مما كان لها في العالم العربي من أمكنة ومكانات، وضيعت كثيراً من هيبتها وسمعتها لدى العرب، وأن الثقة القديمة بالروح الفرنسي والثقافة الفرنسية أصابها كثير من الزلزلة والشك والهزال بعد تلك الصدمات التي طوحت بفرنسا وسحقتها في معترك الأقوياء الذين أحاطوا بها من الشرق والغرب، وبعد تلك المواقف غير المشرفة التي وقفتها في سوريا ولبنان ولا تزال تقفها في المغرب العربي الواقع تحت حكمها القاسي الجامد المتغافل عن تيارات الحريات التي تحيط بالناس وتفتح أعينهم على عالم جديد وتكتسح العوائق والسدود.

فرنسا تعلم ذلك وتقدر ماله من نتائج على مستقبلها بل على حاضرها وتريد أن تتخذ الحيطة للاحتفاظ بما بقى لها من تلك السمعة المتداعية ولإنمائها إذا أمكن ذلك حتى تعود إلى المكانة السامية التي لم تكن تدانيها فيها حتى إنجلترا ذات السيطرة الرسمية وذات العلاقات الوطيدة في كثير من البلاد العربية. . لكن فرنسا من سوء حظها تخطئ في التماس الوسائل إلى إعادة سمعتها ومكانتها وتصطنع تلك الأساليب السطحية التي أصبحت لا تتصل بصميم ضمير الشعب العربي ووعيه ولا ترضى طبيعته التي شبت عن الطوق ولم تعد تنطلي عليها تلك الدعايات التي تتصل بالترف الذهني والعلاقات الكمالية وإرضاء بعض الطبقات الموشكة على الانقراض في الحياة المصرية، طبقات الصالونات والأندية التي تعيش بمعزل عن غمار الحياة اليومية المصرية والقومية العربية.

فإذا كانت فرنسا تريد أن تسلك السبيل القريبة إلى صداقة القومية العربية الناهضة التي أصبحت حقيقة سياسية ملموسة يحسب لها حساب في الحاضر والمستقبل القريب والبعيد، والى صداقة المصريين الحقيقيين بنوع خاص فعليها أن تلتمس لذلك وسائله العملية وتترك أمر الدعايات الكلامية والسفارات الأدبية التي تجند لها بعض مفكريها وأُدبائها كمسيو جورج ديهامل الكاتب الشهير وتحملهم مشقة السفر وعناء الرحلة والحديث المكرر المملول عن فرنسا وخدماتها للثقافة ثم لا يكون من وراء ذلك طائل كبير ولا تبقى آثاره إلا ريثما ينقضي الحفل وتنفض سوامر الصالونات ولا يرسب من ذلك شئ في أعماق المجتمع المصري يصح أن يكون ذخيرة أو خميره لبناء صداقه عربيه فرنسيه تخدم الحضارة وتكون عاملاً من عوامل الاستقرار والتفاهم والتوازن في البحر الأبيض المتوسط الذي يحتل العرب الجزء الأكبر منه. فعلى فرنسا إن كانت تريد عملاً لا كلاماً أمور هامة نرشدها إليها لأننا أعرف من فرنسا بما يفتح قلوبنا لها:

عليها أن تتغير أولا نظرتها (الصليبية) بالنسبة للعرب والمسلمين التي حملتها على احتقار المغاربة والعرب عموماً والتنكيل بهم، وأن تتحرر من ذلك التوجيه الحاقد الذي يستمد حقده من تلك الظلال والأشباح السوداء التي كان يثيرها المثيرون المتعصبون في القرون الوسطى على العرب ويجعلونهم أمام الجماهير حلفاء الشيطان ويتخذونهم وسيله لأثارة ذلك الشعور الذي كان يسمى (الحقد المقدس)!

ولتعلم فرنسا وخصوصاً مفكريها الذين تجندهم للدعايه، أن نظر العالم لم يعد يطيق ذلك اللون السخيف الذي يبدو في محاولات المستعمرين الفرنسيين في شمال أفريقية لفتنة البربر والعرب المسلمين عن دينهم، وضرب الحصار على أبنائهم ليحال بينهم وبين التعرف على قوميتهم ولغتهم إلى صحبتهم منذ فجر التاريخ.

إن هذا منكر غليظ ورجعيه عمياء لا تريد أن ترى طبائع الأشياء وتحاول فصل ما ربطته مشيئة الله التي نوعت الناس أجناساً ولغات لأمر عظيم على جانب من الخطر في عالم الفكر وعالم العمل!

وعلى فرنسا أن ترفع يدها عن ضرب ذلك السور الحديدي حول تونس والجزائر ومراكش، ذلك السور الذي لا يسمح لداخل غريب أن يدخل ولا لخارج أن يخرج ولا يسمح لعيون الناس أن يروا آثار حكمها السعيد! في حياة هؤلاء الأرقاء التعساء الذين ابتلوا بأن يعيشوا في أوطانهم كأنها سجون، الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود؛ فإن هذا أعجوبة الأعاجيب في القرن العشرين، حتى ولو كانت هذه البلاد مستقلة استقلالا تاماً ومحكومة ذلك الحكم بأيدي فريق من أبنائها لكان ذلك النوع من ضرب الحصار الحديدي عليها أسلوباً عجيباً في هذا العصر!

وعلى فرنسا أن تقلع عن سياسة الإفقار والتجهيل التي تفرض بها البؤس والجهل على سكان هذه البلاد وتعزلهم بذلك عن حياة العالم وتفنيهم الفناء الأكبر بحرمانهم من وسائل العلم العصري الذي يجعلهم أبناء حقيقيين لزمانهم يساهمون في خدمة المعارف الإنسانية وفي إمداد شعلة الحضارة ومد نورها على ديارهم وهم من أذكى الناس وأشدهم جلداً على التعلم والعمل. وإذا نسى التاريخ مخازي الأمم فلن ينسى لفرنسا أنها تتخذ سياسة تجهيل المغاربة عمداً وترسم لذلك الخطط وتستفتي مفكريها ليهدوا فريقاً من الناس إلى طريق الجهالة العمياء، ويصرفوهم عن طريق المعرفة البيضاء! إن هذا أكبر عار يلحق بفرنسا، وإنه لأكبر (ارتداد) عن رسالة العلم، وإنه لجدير أن يخزي وجهها يوم يستعرض عملها أمام هيئة الأمم المتحدة وينشر عل رءوس الأشهاد في يوم آت قريب.

وإنني لا أذكر لفرنسا هذا الموقف المخزي إلا أشعر سخط الإنسانية كلها لا القومية العربية وحدها يثير في دمي القشعريرة والاشمئزاز! وعلى فرنسا أن تسير مع الزمن في علاقاتها السياسية بشمال أفريقية وأن يتطور غيرها في ارتباطاتها بالشعوب العربية التي بينها وبينها مصالح، وأن تعلم أن الفجر الدولي قد سطع على العالم وكشف أوكار الرجعية والاستبداد ولن يخفى على العيون ما تفعله فرنسا في أفريقية مهما خيل إليها أنها ستصل إلى غاياتها الظالمة في غفلة عن الرقباء، وأن تقلع عن خرافة سلخ أي جزء من المغرب ومن جسم العروبة لضمه إليها فإن ذلك لن يكون لها يوماً ما، لأنه ينافي طبيعة التكوين وحقائق السياسة العالمية الراهنة فيما مسيو ديهامل! إن كان عليك لوطنك واجب فعليك للإنسانية مثله والمفكر المخلص إنسان تملكه الإنسانية كما تملكه وثنية الوطن.

فإن كنت تريد أن تعيد مجد فرنسا لامعاً واسمها عالياً كما كان فسخر قلمك للدفاع عن الحقائق الإنسانية العليا الأبدية التي تحتل الحرية فيها مكان الصدارة واجعل فرنسا أم الحرية في زعمكم لا تنكس لواء الحرية ولا تمرغه في الوحل والدم في الجزائر ومراكش وتونس.

وإذا كانت فرنسا في حياتك - كما حاضرت المصريين - فاجعل حياتك هذه صوره مما ينشد فكرك الحر وأدبك الحار وقلبك العامر لا كما ينشد الفرنسيون الرجعيون الحاقدون والسماسرة والدجالون والجاهلون اللاعبون بالشعوب الذين لا يدركون سير الحياة بالأحياء ولا يعرفون منطق هذا العصر الذي يعيشون فيه بثياب المتحضرين وجلود الآدميين بينما قلوبهم هي قلوب القردة ووحوش الغاب. .

وإنها لرسالة لك في فرنسا إذا أردت: أن تعود إليها رسول آلامنا من اجل بني قومنا المثخنين بجراح بني قومك! وقد أرسلتك إلينا (السياسة) التي لا قلب لها لشأن من شئونها الخادعة، فارفض أيها الكاتب ان تخدع. وعد إليها رسول الآلام الإنسانية التي عانت فرنسا مرارتها وحرارتها فترات مظلمة من الزمان البعيد قبل الثورة التي حولت مرارتها حلاوة وحرارتها نداوه، وفترة مظلمة من الزمان القريب الذي لا يزال وقع الحذاء الألماني فيه على أرض فرنسا يصخُّ آذان أحرارها!

يا مسيو ديهامل! أيها الأديب الكبير إننا هنا في الشرق ندعو أن يثور المفكرون عل الواقع السيئ الذي يسيطر عليه العوام وان تحرر الرءوس من سلطان الأقدام، والجامعات من منطق الشوارع. . لأننا نرى في هذه المدينة الحالية مدنيه الحرية والعلم نبوه شيوعية من لم يؤمن بها فقد صبأ عن الإنسانية، ومن سخرها بغير أهلية لها فقد الحد فيها، مع أننا لا نزال في دور فتح العيون على فجرها ولم نأخذ منها ما أخذتم معشر الغربيين، وليست منسوبة إلينا، بل تنسبونها أنتم إليكم. فلماذا لا تدافعون عن سمعتها وعن حقائقها دفاع أنبياء إسرائيل الشرقيين القدماء عن حقائق الأيمان والنبوات الأولى؟ لماذا لا تذوقونها بأرواحكم وقلوبكم بدل ذواقها بجيوبكم وخزائنكم؟! لماذا تجعلون رسلها إلى بلاد المتخلفين هم من السماسرة والمتغطرسين والحاقدين والمتعالين؟

إن اللوم في ذلك واقع على أرباب الفكر الذين يرون هذا ولا ينكرونه، ويرضون لأقلامهم وألسنتهم أن تسخر وراء القطيع الذي لم يدرك أمانة الفكر وحراسة شعلة الحضارة في الروح قبل الجسد.

وما أظنك ترضى لو علمت أن أربعين ألفاً من العرب الجزائريين قتلوا في (سطيف) بالجزائر، لأنهم طالبوا بحريتهم في أيام الاحتفالات بعيد النصر سنة 1945؟

إن صراخ دم هؤلاء الضحايا يجب ان يؤرق نومك ويمد قلمك بمداد من نار لتثأر من قتلة هؤلاء الأحرار الذين طالبو بالحرية التي يمجدها قلمك وأقلام أخواتك وإلا كنت غير مخلص لرسالة الفكر

وما أظنك أن يعيش خمسة وعشرون مليوناً من النفوس محرومين من عصارة فكرك وفكر أمثالك ومعارف الدنيا لأجل أن يكونوا سوائم بلهاء تحرث أرضها وتحلب ضرعها لتستولي عليها عصابات المستعمرين الرأسماليين في فرنسا؟

واعذرنا إذا كنا نتهكم ونسخر مما تقول ويقول أمثالك عن فرنسا وروحها الحر وميراث ثقافتها، ما دمنا نرى أن هذه كلها بضاعة تستهلك في فرنسا ولا تصدر إلى الخارج. .

هذه كلمات صادقه أردت أن تخلص إليك من بين مجاملات الصالونات، وأنا اعلم أن واجب مثلك ان يحرص على سماع الصدق الصريح.

عبد المنعم خلاف