انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 610/النابغون في أوطانهم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 610/النابغون في أوطانهم

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 03 - 1945



حديث عن البحتري

محمود عزت عرفه

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

. . . وللبحتري في هذا الشأن حديث عجيب.

فقد كان أحد الذين ارتفعوا بشعرهم من حضيض الجهالة والخمول إلى ذروة النباهة والمجد. ولسنا نجد في ديونه على ضخامته ما يشير به إلى حياته الأولى في موطنه (مَنْبج) سوى ما ينص عليه من عداوة بعض أهله له، برغم ما يعود به عليهم - وعلى سواهم - من فضل المال والجاه، والشفاعة لدى الخلفاء، ورفد العفاة وفك العانين. . وذلك حيث يقول في قصيدة له:

ومن الأقارب من يُسر بميتتي ... سفهَاً، وعز حياتهم بحياتي

إن أبقَ أو أهلكْ فقد نلت التي ... ملأت صدور أقاربي وعداتي

وَغنيتُ ندمانَ الخلائفِ نابهاً ... ذكرى، وناعمة بهم نشواتي

وشفعت في الأمر الجليل إليهمو ... بعد الجليل، فأنجحوا طَلباتي

وصنعت في العرب الصنائع عندهم ... من رِفْد طلاَّبٍ وفك عُناةِ

وحضي البحتري عند المتوكل بأرفع المراتب وأسنى الدرجات فكان شاعره المقرب الأثير لا تندُّ عنه في الحياة رغبة أو تبعد دونه أمنية. . ولكن شاء القدر مع ذلك إلا تزال نفسه تهفو إلى عُرض ما، فكن ينتابه القلق ويساوره الحنين إلى الإلمام بوطنه منبج، ولا ينفك بالمتوكل مستحثاً إياه على قصد هذه البلاد كلما قصد إقليما أو غشي موضعاً:

لو كنت أحسد أو أنافس معشراً ... لحسدت أو نافست أهل الموصل

غشى الربيع ديارهم وغشيتها ... وكلاكما ذو عارض متهلّل

فأضاء منها كل فج مظلم ... بكما، وأخصب كل واد ممحل

فمتى تخيم بالشآم فيكتسي ... بلدي نباتاً من نداك المسبل؟!

وكأنما شاء القدر - مرة أخرى - أن يلوح للبحتري بتحقيق أمنيته. فاضطرب حبل الأمور على المتوكل في سامراء بسبب اتساع نفوذه الأتراك واستفحال خطرهم، ولم يكن ليخضد من شوكتهم في شيء قتله إيتاخ عام 235هـ، وكان المدبر لفتنتهم والمتولي كبر هذا الأمر فيهم. فصح عزم المتوكل على تغيير عاصمة خلافته والانحياز إلى دمشق ليكون بمنجاة من كيدهم وتطاوله. . وغدا عليه البحتري - مستحسناً محبذا - يقول:

إن دمشقاً أصبحت جنةً ... مخضرَّة الروض عَذَاة البرق

هواؤها الفضفاض غض الندى ... وماؤها السلسال عذب المذاق

والدهر طلق بين أكنافها ... والعيش فيها ذو حواش رقاق

ناظرة نحوك مشتاقةٌ ... منك إلى القرب ووشك التلاق

وكيف لا تؤثرها بالهوى ... وصيفها مثل شتاء العراق؟!

وأنفذ المتوكل عزمه في عام 243هـ، فشخص إلى دمشق ونقل إليها دواوين الخلافة، ووطن نفسه على المقام بها. فلم يكن عجيباً حينذاك أن نسمع البحتري يقول في قصيدة له، وكأنما هو يتنفس الصعداء بعد طول اللهفة وفرط الانتظار:

قد رحلنا عن العرا ... قِ وعن قطبها النكدْ

حبذا العيش في دمش ... ق إذا ليلها برد!

حيث يُستقَبل الزما ... ن ويستحسن البلد

سفرةٌ جدَّدتْ لنا ال ... لهوَ أيامه الجدد

عزم الله للخلي ... فةِ فيه على الرشَدْ

ويقول في موضع أخر وهو يحاول تحسين الشام في عين المتوكل، وحضه على موالاة المقام بدمشق:

أما دمشق فقد أبدت محاسنها ... وقد وفي لك مطريها بما وعدا

- ولعله يقصد نفسه بهذا المطري الوافي بما وعد -

إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن، وزمان يشبه البلدا

يمسى السحاب على أجبالها فرقاً ... ويصبح النبت في صحرائها بددا

فلست تبصر إلا واكفاً خضلا ... أو يانعاً خضراً أو طائراً غردا

كأنما القيظ ولىَّ بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعدما بعدا وذلك ضمن قصيدة فاخرة مطلعها:

العيش في ليل (داريّا) إذا بردا ... والراح تمزجها بالماء من (برَدىَ)

على أن السياسة ليست شيئاً يخضع لأهواء الشعراء، فما تلَّبث المتوكل بعد استقراره بدمشق إلا ريثما يعد عدته للرجوع إلى سرَّ من را، بعد أن شغب عليه الأتراك فيها وتحركوا في طلب أرزاقهم، وكانوا قد أوجسوا خيفة من انحيازه إلى الشام، وتوقعوا أن يستعين عليهم بسلطان العرب هناك. . .

عاد المتوكل يزعم أنه استوبأ دمشق، وفي صدره مما جرى غصة؛ وانهارت آمال أبى عبادة حتى ليبدو من المفارقات الغريبة أن نراه يهيئ المتوكل بهذا الهود، ويستحسن مْاتم من إنفاذه فيقول:

لعمري لقد آب الخليفةُ جعفرٌ ... وفي كل نفس حاجة من قفولهِ

دعاه الهوى في سرَّ من رَاء فانكفا ... إليها انكفاء الليث تلقاء غيله

على أنها قد كان بُدَّل طيبُها ... ورَّحل عنها أنسُها برحيله

وإفراطُها في القبح عند خروجه ... كأفراطها في الحسن عند دخوله

وقد لبست بغدادُ أحسن زيَّها ... لإقباله، واستشرفت لعُدوُله

ويثنيه عنها شوقه ونزاعه ... إلى عرض صحن الجعفري وطوله

وقد أصبح قسارى أمل البحتري بعد هذا الحادث أن يلم بموطنه في زيارات قصيرة خاطفة، يواكبه فيها من ألطاف الخليفة ومبراته ما يرضي غروره، ويظهر لقومه منزلته وجاهه. وإنه ليخاطب المعتز في ذلك، وكان من أحظى الناس عنده، فيقول:

هل أطلعنَّ على الشآم مبجَّلاً ... في عز دولتك الجديد المونقِ؟

فأرمَّ خلة ضيعةٍ تصف اسمها ... وألمَّ ثمَّ بصبية لي دردق؟

شهران إن يسرت إذنيَ فيهما ... كفلا بألفة شمليَ المتفرق

وإن المعتز ليعرف هذا الشعور من نفس البحتري فيبره ويكرمه، ويحمله على الجرد العتاق إلى موطنه منبج، حيث يلقى هنالك أهله، ويتعرف رجال ضيعته (الضائعة) كما يقول. والخليفةُ يصحبه الطرف والهدايا تحملها عشرة من خيل البريد وفيها بدر المال وخلع الديباج، وجوادان أصيلان: كميت وأبلق وسيف صقيل في إهدائه تشريف وتنويه. .

وفي ذلك يقول أبو عبادة:

تجانف بَي نهجُ الشآم وطاعَ لي ... عنانٌ إلي أكناف منبج مطلقُ

أسرُّ صديقا أو أسوء ملاحياً ... وأنشر آلاءً بطولك تنطق

حملتَ على عشرٍ من البْردِ مركبي ... عجالاً عليهن الشكيم المحلق

وأكثرت زادي من بدورٍ تتابعت ... لجُودك فيهن اللجيْنُ المطرق

ومنتسبانِ للوجيه ولاحقٍ ... كميتٌ يسر الناظرين وأبلق

ومن خلع فازتْ بلبسك فاغتدي ... لها أرج من طيب عَرفك يعبق

عليها رداءٌ من حمائل مرهفٍ ... صقيل يزلُّ الطرف عنه فينزلق

وبوفاة أبى عبد الله المعتز عام 255هـ أفل نجم البحتري من سماء الخلافة في سر من رأى. إذ لم يكن موضعه لدى المهتدي أو المعتمد - وقد خلفا المعتز على التتابع - بالموضع الذي يرضي طموحه، أو يكافئ سابق منزلته لدى المتوكل وابنه. وكان الذي جرى من الأحداث على عهد المتوكل والمنتصر ثم المستعين والمعتز قد خلف في نفس الشاعر أثراً من اليأس عميقا، وجعله قليل الثقة بالناس وبالحياة. . يقول الشعر في مناسباته لأنه من واجبه أن يقوله لا لأنه متأثر بما يدور حوله، وبدت عليه في أخريات أيامه نزعة قوية إلى الانزواء في بلدته يراقب منها تيار الحوادث في صمت واعتبار. استمع إليه يخاطب أبا الصقر إسماعيل ابن بلبل - الذي وزر للمعتمد بين عامي 272 و 278هـ - فيقول:

بقيت، فكائن جئت بادئَ نعمة ... يقلُّ السحاب أن يجيء رسيلها

وأعطيتَ طلاَّب النوافل سُؤْلهم ... فمن أين لا تعطي القصائد سولها؟

ووليت عمال السواد، فولني ... قرارة بيتي مدة لن أطيلها!

. . وهكذا لا يتشهّى البحتري من جاه الولايات الذي يسبغه الوزير على خلصائه؛ إلا أن يدعه يلوذ بقرارة بيته، متجانفاً بنفسه عن مزالق السياسة وفتنها بعد أن طال في ذلك حبه وإيضاعه. وإنه في موضع آخر ليطلب إلى الوزير أن يعتق (رقبته) بصرفه إلى بلده.

وقد شمل امتنانك كل حي ... فهل مَنٌّ يُفك به أسيرُ؟

وأعتقت الرقاب فمر بعتقي ... إلى بلدي، وأنت به جدير! وما كان اعتزال البحتري في منبج إلا شراً أجاءه إليه ما هو شر منه. ذلك أنه كان ودع أرغد عيشه وأطيب أيام حياته بتوديع عهد المتوكل الذي شهد بعينيه مصرعه الرهيب. .

وكانت فترة (المعتز) في حياة البحتري أشبه شيء بخفقة المصباح الأخيرة حين يصارع الظلمات ولما تخمد منه الأنفاس.

ولعل أشد الأشياء على نفسه ما كان يعالجه من جفاف الحياة في منبج بعد أن نعم بالمقام الطيب سنين متطاولة في بغداد وسر من رأى؛ ثم جلوسه إلى حاكمها مجلس (الرعية) من الراعي، بعد أن كان لا يرى إلا جليس خليفة أو وزير أو أمير خطير. . .

وكانت أيام المتوكل ونجيه الفتح - وأمثالهما ممن بسطوا على البحتري ظلال نعمائهم - تبدو له كأحلام سعيدة تمتع بها حينا، ثم انقشعت عن حسرة في نفسه وشجى. وإنه ليعبر عن شعوره بذلك أصدق التعبير حين يقول ضمن قصيدة بعث بها إلى أبي الصقر -

مضى جعفر والفتح بين مرمَّل ... وبين صبيغ بالدماء مضرَّج

أأطلب أنصاراً على الدهر بعدما ... ثوى منهما في التراب أوسي وخزرجي؟

أولئك ساداتي الذين برأيهم ... حلبت أفاويق الربيع المثجج

مضوا أمماً قصداً وخلفت بعدهم ... أخاطب بالتأمير وإلى (منبج)

وتوفي البحتري في منبج، بداء السكتة، عام 284هـ.

وكان قد أربى من عمره على الثمانين.

(قوص)

محمود عزت عرفه