انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 598/شعر البارودي في منفاه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 598/شعر البارودي في منفاه

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 12 - 1944



(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

كان البارودي في أول عهده بالنفي متحفزاً متوثباً، بل كان ثائرا مهددا، يرى إنه لم يقترف ما يستحق النفي من أجله، غير إنه دافع عن دينه وعن وطنه، وليس ذلك ذنبا يستحق أن يحاسب عليه ويغترب، وهو لذلك غير نادم على ما قدم، وغير خاطئ فيما فعل، وحسبك أن تقرأ هذه الأبيات لترى فيها الثورة النفسية العنيفة:

ومن عجائب ما لاقيت من زمني ... أني منيت بخطب أمره عجب

لم اقترف زلّة تقضي علي بما ... أصبحت فيه فماذا الويل والحرب

فهل دفاعي عن ديني وعن وطني ... ذنب أدان به ظلما وأغترب

فلا يظن بي الحساد مندمة ... فإنني صابر في الله محتسب

أثريت مجدا فلم أعبأ بما سلبت ... أيدي الحوادث مني فهو مكتسب

إني امرؤ لا يرد الخوف بادرتي ... ولا يحيف على أخلاقي الغضب

وما أبالي ونفسي غير خاطئة ... إذا تخرص أقوام وإن كذبوا

بل إن شعره الذي قاله في تلك الفترة الأولى ليدل على إنه كان يؤمل قيام ثورة تعيد إليه مجده، وكان قوي الثقة في أن أنصاره سيرغمون خصومه بقوة السيف على أن يعود البارودي إلى السلطة التي ترضاها العلا، نرى ذلك حين يقول:

قحتّام نسري في دياجير فتنة ... يضيق بها عن صحبة السيف غمده

إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت ... عليه، فلا يأسف إذا ضاع مجده

ومن ذَلَّ خوف الموت كانت حياته ... أضر عليه من حمام يؤدّه

وأقتل داء رؤية المرء ظالما ... يسيء ويتلى في المحافل حمده

علام يعيش المرء في الدهر خاملا ... أيفرح في الدنيا بيوم بعده

وإني امرؤ لا أستكين لصولة ... وإن شد ساقي دون مسعاي قيده

ولابد من يوم تلاعب بالقنا ... أسود الوغى فيه وتمرح جرده

يمزق أستار النواظر برقه ... ويقرع أصداف المس تدبر أحكام الطعان كهولة ... وتملك تصريف الأعنة مرده

قلوب الرجال المستبدة أكله ... وفيض الدماء المستهلة ورده

أحمل صدر الفصل فيه سريرة ... تعد لأمر لا يحاول رده

فإما حياة مثلما تشتهي العلا ... وإما ردى يشفي من الداء وقده

غير أن الانتظار قد طال ولم تصل إليه أنباء تقوى فيه هذا الأمل، فسمعناه يستنجز الوعد، ويحث الصحب قائلا:

فيا سراة الحمى ما بال نصرتكم ... ضاقت علي وأنتم سادة نجب

أضعتموني وكانت لي بكم ثقة ... متى خفرتم ذمام العهد يا عرب

والبيت الثاني يحمل كل معاني الألم وخيبة الأمل.

وقد اختلفت بذلك نظرته إلى السيف، فبعد أن كان يهدد بامتشاق الحسان، وشن الثورة على الخصوم، رأى - وقد خذله ناصروه - أن سيفه ليس له غناء في يده ولا قيمة، ولننصت إلى ما دار بين الشاعر وسيفه من حديث حين قال:

ولا صاحب غير الحسام منوطة ... حمائله مني على عاتق صلد

أقول له والجفن يكسو نجاده ... دموعا كمرفض الجمان من العقد

لقد كنت عوناً لي على الدهر مرة ... فمالي أراك اليوم منثلم الحد

فقال: إذا لم تستطع سورة الهوى ... وأنت جليد القوم ما أنا بالجلد

وهل أنا إلا شقة من حديدة ... ألح عليها القين بالطرق والحد

فما كنت لولا أنني واهن القوى ... أعلق في خيط وأحبس في جلد

فدونك غيري فاستعنه على الجوى ... ودعني من الشكوى فداء الهوى يعدي

فهذا السيف الذي كان سبب مجده الحربي يراه الآن قطعة من الحديد ضعيفة واهنة القوى، لا تستطيع أن تقدم له يدا، ولا أن تساعده.

لم تنزل بالبارودي نفسه فيلحف في الاعتذار، ويلح في الاسترحام كما فعل سواه، ولعله طلب أن يعود إلى وطنه موفور الكرامة، متبرئا من تهم ألصقها به حاسدوه، كما يمكن أن نلمح ذلك في قوله:

يا غاضبين علينا، هل إلى عدة ... بالوصل يوم أناغي فيه إقبالي قد كنت احسبني منكم على ثقة ... حتى منيت بما لم يجر في بالي

لم أجن في الحب ذنباً استحق به ... عتبا، ولكنها تحريف أقوال

ومن أطاع رواة السوء نفره ... عن الصديق سماع القيل والقال

ولكن شعره الثائر وما عرف عنه من حب المجد والسعي إلى العلا، لم يكونا مما يدفع ولاة الأمر إلى الصفح عنه والمغفرة، فاستسلم إلى حكم القدر، وسلم نفسه لله، ولجت به الرغبة في زيارة الرسول الكريم، وأنشأ الشعر في مدح النبي والثناء عليه، ولكنه مع ذلك لم يسل يوما مجده ووطنه، بل أخذ يبث شعره شوقه إلا ملاعب شبابه وصباه، وما كان له من سلطان وجاه، فهو لا ينفك ذاكرا الماضي مشتاقا إليه، يحن إلى ملاعب الروضة وحلوان، وكان كلما تقدمت به السن، خلف الشباب وراءه، فتلفت يبكي هذا العهد السعيد الذي قضاه في وطنه ممتعاً بالأهل والأصدقاء والأحباب والسلطان، ويوازن بينه وبين ما صار إليه من ضعف وهوان، وقد وصف هذه النفسية القلقة المشتاقة حين قال:

أحن إلى أهلي، وأذكر جيرتي ... وأشتاق خلاني وأصبو لمألفي

فلا أنا أسلو عن هواي فأنتهي ... ولا أنا ألقى من أحب فأشتفي

أو حين تحدث في لهفة وشوق قاتل إلى النيل قائلا:

فهل نهلة من جدول النيل ترتوي ... بها كبد ظمآنة ومشاش

أو حين يذكر الماضي متأسفا على حاضره:

لله أيام بهم سلفت ... لو إنها بالوصل تأتنف

إذ لمتي فينانة ويدي ... فوق الأكف وقامتي ألف

أجري على إثر الشباب ولا ... يمشي إلى ساحاتي ألجنف

إن سرت سار الناس لي تبعاً ... وإذا وقفت لحاجة وقفوا

فالآن أصبح طائري وقع ... بعد السمو وصبوتي أسف

بل لقد انتهى به الأمر إلى أن أصبح يتمنى العودة إلى الوطن ولو عاش فيه فقيرا مملقاً.

أما حزنه على الشباب وبكاؤه عليه وألمه من الشيب وما ناله فيه من الضعف ففي كثير من قصائد منفاه، وهاهو ذا يصور لنا نفسه في عزبته شيخا أخلق الشيب جدته، ولوى شعر حاجبيه على عينيه، وضعف بصره فصار يرى الشيء كأنه خيال، وإذا دعي لم يتبين مصدر الصوت، وإن أراد النهوض قعد به الضعف فلا يستطيع.

كيف لا أندب الشباب وقد ... أصبحت كهلا في محنة اغتراب

أخلق الشيب جدتي وكساني ... خلعة منه رثة الجلباب

ولوى شعر حاجبي على عيني ... حتى أظل كالهداب

لا أرى الشيء حين يسنح إلا ... كخيال، كأنني في ضباب

وإذا ما دعيت حرت كأني ... أسمع الشيء من وراء حجاب

كلما رمت نهضة أقعدتني ... ونية لا تقلها أعصابي

كان البارودي كثير التأمل في حوادث حياته، ما مضى منها وما حضر، وكثيراً ما كان يفكر فيما آل إليه أمره، فيسلي نفسه حيناً بأن الحظ يلعب دوراً كبيراً في النجاح، ولا ذنب له إن جافاه الحظ فلم ينجح، وحيناً يعود باللائمة على الحياة الدنيا، فهي لئيمة قلّب، لا تحسن اليوم إلا لتسيء غداً، وأحياناً يسوق الأمثال والحكم ليجلب إلى نفسه الهدوء والراحة، فالسيادة لها تكاليفها والمغامر تقوى هموم قلبه، وطالب العلا يعرض نفسه للحلو والمر إلى غير ذلك، مما تجده منثوراً في قصائد منفاه، وإذا ذكر ثروته وكيف جرد منها قال:

أثريت مجداً فلم أعبأ بما سلبت ... أيدي الحوادث مني فهو مكتسب

لا يخفض البؤس نفساً وهي عالية ... ولا يشيد بذكر الخامل النشّب

وكان يسبغ على نفسه الرضا والطمأنينة راحة ضميره وإيمانه بأن سيرته ليس فيها ما يزري أو يغض من قيمته:

راجعت فهرس آثاري فما لمحت ... بصيرتي فيه ما يزري بأعمالي

وأنه لم يبع ضميره بالمال ولم يفرط فيما يعتقد إنه واجب عليه، مؤمناً بأن التاريخ سينصفه، وسوف يبين الحق يوماً للناظرين، قال في إحدى قصائده:

ولو رمت ما رام امرؤ بحياته ... لصبحني قسط من المال غامر

ولكن أبت نفسي الكريمة سوأة ... تعاب بها والدهر فيه المعاير

وسوف يبين الحق يوماً لناظر ... وتنزو بعوراء الحقود السرائر

كان نفي البارودي إلى جزيرة سيلان ومعيشته بين القوم الذين وصفناهم له هذا الثر الحزين في كل شعره الذي قاله في منفاه، ولم تستطع طبيعة هذه البلاد - وقلبه مليء بالحزن والأسى - أن توحي إليه بشعر فرح إلا قصيدة واحدة يصف فيها روضة بكندي، ويوماً قضاء مع رفقة بتلك الروضة، وتلمح في هذا الوصف إنه وصف حسي لم يشارك القلب فيه الحواس، بل أن لسانه لم يتحرك بقول هذا الشعر إلا بعد أن سأله رفقاؤه أن يخلد ذكرى يومهم في شعره. وأما وصفه لكندي فمع قلته تشيع فيه روح الألم والحزن

برغم كل ما قاساه البارودي في غربته لم يفقد الأمل في أن يعود يوما إلى وطنه، فهذا الأمل وطيد لا يمكن أن يزول:

ولي أمل في الله تحيا به المنى ... ويشرق وجه الظن والخطب كاشر

وطيد يزل الكيد وتنقضي ... مجاهدة الأيام وهو مثابر

وقد حقق الله له هذا الأمل. ففي (17 مايو سنة 1900) أصدر الخديو عباس حلمي الثاني أمره بالعفو عنه، فعاد البارودي إلى وطن طالما حن إليه وشرب ثانية من ماء النيل الذي لم يرو بماء غير مائة فارقه حتى عاد إليه.

(حلوان)

أحمد أحمد بدوي

مدرس بحلوان الثانوية للبنين