انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 564/دجلة في الليل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 564/دجلة في الليل

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 04 - 1944



(تهدى إلى أخي الأستاذ علي الطنطاوي شقيق القلب والروح،

والرفيق في الغربة والسفر)

للأستاذ أنور العطار

الليل في بغداد لا ينام سهران تصبى روحه الأنغام ويستبيه

الوجد والهيام واللهو والإيناس والمدام والشعر والأوهام

والأحلام

أنور العطار

أُسكُبِ النور يا قمرْ ... واغمُرِ النهرِ بالصورْ

وأذِعْ فرحةَ الهوى ... وشعْ لذة السمر

واتركِ القلبَ حالماً ... ناسياً روعةَ الغِيَر

يجمَعُ النفسَ كلّيها ... منْ تَشَهِّيهِ في النظر

هاهنا الليل شاعر ... مُلهَمٌ خَيِّرُ الفِكَر

مُستطارٌ إذا انتشى ... مُستثارٌ إذا اذَّكَر

ملْءُ أَفياِئِه السنا ... مِلْءُ أَعطافِهِ الدُّرَر

في وشاحِ مُنَمْنمٍ ... ساحرٍ فتنةِ البصر

والنسيمُ الذي يُطَوِّ ... فُ شِعرٌ لمِنْ شَعَر

ونشيدٌ مُسلسلٌ ... في العَشِيَّاتِ والبُكَر

ما أُحَيْلاَهُ شاجياً ... ما أُحَيْلاهُ إن فَتَر

طافَ بالأعينِ الرُّقادُ ... وما شفَّني السهر

يَتصبُّانيَ النخيلُ ... ويغُرينيَ النهَر

في ثناياهُ صورةٌ ... حُلْوَةٌ كلُّها سِيَر

بأني أَنتَ مَوْرداً ... ليسَ في وِردْهِ كَدَر يتشهَّاك خاطري ... وتسلَّى بكَ الذَّكَر

إن تثنَّيْتَ فالندى ... أو تأوَّدْتَ فالطَرر

أو تَسلسلتَ صافياً ... فأخو الدَّلِّ والخَفَرْ

مرَّ بي طَيْفُكَ الحبيبُ ... وكم طائف سَحَر

في أَساريره فتونٌ ... وفي طَرْفهِ حَوَر

المنى طَوْعُ أَمره ... ما تمنَّى وما أَمَر

والشَّذا منه عابِقْ ... فّاغِمُ العطر منتشر

فعلى الشمسِ عرشُهُ ... وعلى هاِمها استقر

هو ريحانةُ العُلى ... فيه مِنْ عبْقَرٍ أَثر

عُدتُ للغابر البعيدِ ... أُناجى الذي غبر

أَتأسّى بما انطوى ... أَتعزى بما استتر

هاهنا تخشع القلوب ... وتصبو وتنفطر

هاهُنا سيرة الزمان ... وعاها الذي ذكَر

هاهنا الكونُ سابحٌ ... في خِضَمَّ من العِبَر

أَنتَ لي الحبُّ والمنى ... أنت لي القصدُ والوطر

ليسَ لي عنكَ مُبتغُي ... ليس لي عنك مُصطَبَر

أَتناسى بكَ الأسى ... غَمَرَ النفسَ ما غمر

وَاَحنيني إلى الضفافِ ... تزاحَمْنَ بالشجَر

وتسابقنَ بالرُّؤَى ... وتساجلْنَ بالصور

وتلامسْنَ بالهوى ... وتهامسنَ بالسير

وروينَ الذي انقضى ... وأَذعنَ الذي استتر

أَنتَ يا نهرُ عاشقٌ ... منْ صباباتكَ القمر

مَرَّ بالماءِ صورةً ... فَتنتْ كلَّ مَنْ نظر

وينابيعَ حُفَّلاً ... باللآلئ وبالدُّرَر

والنجومُ التيِ ترِفُّ ... إطارٌ منَ الزَّهر وربيعٌ من المنى ... ورياضٌ من الثمر

يتوهْجنَ كاللظى ... يتراقصن كالشرر

فيكَ ما يملأ النُّهَى ... فيك ما يبْهَرُ البشر

آيةٌ أَنتَ للِعُلَى ... رايةٌ أَنتَ للظَّفَر

يَتَثَنَّى بكَ الزمانُ ... ويُزْهى بكَ العُصُر

ويباهِي بكَ الجلاَ ... لُ ويَنْدَي ويَزْدهر

رُبَّ ماضٍ بَعَثْتَهُ ... مثلما يُجْمَع النَّشَرْ

رَفَّ كاُلحلْمِ خاطفاً ... وتوارى وما انتظرْ

لمْ يَنلْ منكَ غابرٌ ... لَمْ يَعبْ حُسنكَ القِصَرْ

أنت كالحبِّ ساربْ ... أنتَ كالعُمْر مختصرْ

أنتَ كوْنٌ من الشُّمو ... ش سنا ضَوْئها بَهَرْ

بِتُّ أَسْتَلهِمُ الرُّؤَى ... بِتُّ أَسْتَقْرئُ الذَّكَرْ

والهوى طائف يجد ... وكم يركب الغَررْ

لا يخاف الرَّدَى الرهيب ... ولا يعرفُ الَحذَرْ

مَرنَ الخوضَ والدُّجى ... أَلِفَ الشَّدْوَ والسَّحَرْ

ليسَ تَثْنيهِ غَمْرَةٌ ... طالَ ذا العُمْرُ أو قصُرْ

هو تِرْبُ المدَى الخفيِّ ... أخو الدَّهر والقَدَرْ

طاف بالغابر الفَصِيَّ ... لياليه والنهُرْ

في تضاعيفه النَّعيمُ ... وفي طيِّهِ سَقَرْ

يا له من مُتَيَّم ... يعشق النأي والسفر

أيها الهاجر الذي ... عذَّب القلب مُذْ نَفَرْ

أَنتَ وحيٌ أُحِبُّهُ ... وَرَدَ الفكرَ أو صَدَرْ

كلُّ ذَنْب جنيته ... هو في الحب مغتفَر

لا تكلني إلى الأسى ... لا تكلني إلى الضجر

حسب روحي الذي مضى ... حسب قلبي الذي عبر قْم نُعدْ سكرةَ الهوى ... فالهوى كله سكَرْ

ونُحَوِّم على الخلودِ ... ودَارَاتهِ الأُخَرْ

فهنا الكون عابق ... أًرجٌ زهوه عَطِرْ

سامح الحِب إن هفا ... واعْف عَنه إذا هَجَرْ

المنى طوع من رعى ... والهوى حظ من صبر

والهوى سلوة النفوس ... وبُحبوحةُ العُمُرْ

كل من ذاقه استعا ... د صباه الذي غَبِّر

وتروَّي من الحياة ... ومن روضها النِضر

لذة العيش في الصبا ... راحة البال في الصغر

كل أحلامه سناً ... كلُّ أًطيافه غُررْ

وأَراجيحُ طُفَّحٌ ... بالألاعيبِ والأكرْ

وأَساطير عُكَّفٌ ... يتمرغن بالسُّررْ

نَذَر القلب أن يحنَّ ... ويا صِدْق ما نَذَرْ

بعثَ الشِّعر سَلسلاً ... كالينابيع تنفجر

أو كما يحَفلُ الغمامُ ... وينهلُّ بالمطرْ

فإذا اهتاجَ فالحمامُ ... وإن حنَّ فالوترْ

فامرحي يا خواطري ... واغنمي الأُنسَ إن حضرْ

وسَلى (دِجْلةَ) الرِّضا ... عن محبٍ بها فَكَرْ

خيرتي أنتِ في الدُّنا ... ليتها تصدق الخِيَرْ

وهوايَ الذي طغا ... والهوى طامعٌ أثِرْ

قد تفرَّدت بالجمالِ ... وبالمجدِ والخطرْ

حبذا منكِ رشفةٌ ... كلُّ منْ عَبَّها سَكِرْ

خطرتْ فَاَّمحي الأسى ... وبدَتْ فانجلىِ الكدرْ

ومشى الحبُّ بي إلى ... عالمِ كله سَمَرْ

جُنَّ شوقي إلى الحِمى ... فهمي الدمع وانتثرْ يا لَقلْبِ مُوَلهٍ ... شفَّه الوجد فاستعرْ

ذِكرياتٌ هي الحياةُ ... وماضٍ هو العُمُرْ

مَنْ رعاه فقد وفى ... مَنْ قَلاهٌ فقد كفرْ

ليس في شِرعَةِ الهوى ... هائم إن نأى غَدَرْ

وأخو الحُبِّ ثابتٌ ... ليس يلويه مُزْدَجَرْ

رُبما عاش بالُمنى ... ربما عاش بالفِكَرْ

هو ذا الزَوْرَقُ الحبيبُ ... على مائِكِ انحَدَرْ

حمل الأُنس والرِّضا ... والمسرَّاتِ والبُشرْ

واستفاضت لحُوته ... تغمر البدْوَ والحَضرْ

هاهنا يَطربُ الثرَّى ... هاهنا يشعر الحجرْ

هاهنا تسلس الطِّباع ... وتستأنس الفِطَرْ

غَنِّنِي أطيب الغناء ... وناجِ الذي خَطرْ

فلقد يثملُ الهوى ... ولقد يَسْكَرُ الوَترْ

إيه (بَغْدادُ) هل يعودُ ... الجلالُ الذي اندثرْ

فأرى تاجكِ النّضيرَ ... على الكون يَنضفرْ

وأرى الأرض كلها ... وهي مهدٌ ومستقرْ

آيةٌ أنتِ فَذَّةٌ ... كل ما فيكِ مبتكرْ

مَنْ تلاها فقد تَلا ... مصحف المجدِ والسُّوَرْ

حَفِظَ الدَّهُر ذِكْرَها ... وروى للغَدِ الخَبْر

(دمشق)

أنور العطار