انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 344/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 344/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1940



وحي الرسالة

من واجب (الرسالة) أن تنشر ما يتفضل به عليها الأدباء الزملاء والأصدقاء من صادق النقد وجميل الرأي في كتاب (وحي الرسالة) تسجيلاً للفضل منهم وللشكر منا

قال الأستاذ مصطفى الصباحي في جريدة (الدستور):

كتاب أخرجه للناس الأستاذ أحمد حسن الزيات، وهو جملة من مقالاته التي كان يصدر بها مجلته (الرسالة) كل أسبوع جمعها بين دفتي هذا الكتاب؛ فكان كأنما انتقى من روضة مونقة الربيع أزهاراً ذات أرج خاص في باقة واحدة علم رغبة الناس في تنسم عبيرها، فيسر عليهم سبيل اقتنائها وتشممها والإفادة بما يستروحون له من عبقها دون كبير سعي أو عظيم جهد

وللأستاذ الزيات أسلوب يتميز به على كثير من كتاب العصر، وسياقة لن تجدها لكاتب من أهل العصر، وتفتقدها من لدن ازدهرت اللغة وعمت آدابها في العصر العباسي حتى الآن، فلا تجد إلا نفحات مبعثرة في تاريخ أدبها لا صلة بينها وبين بعضها، فذلك كاتب وقعت له عبارة جزلة، وهذا خطيب أنفق له معنى فحل، وغير هذين جمعت له بعض ألوان من فنون العبارة أو بلاغة المعاني

ولكن قلما وقعت على كاتب وفق في الغابتين فامتلك ناصية العبارة وبرز في خلق المعاني

فأنت إذن حين تقرأ للزيات إنما تجتمع لك طلاوة العبارة وجمال المعاني، وتلك هي الغاية التي تنتهي عندها آداب الكتاب وتقف دونها ملكات المبرزين من أرباب الأقلام

وفي زماننا هذا قل أن يعني الكاتب والقارئ إلا بما وراء اللفظ، فإذا برز إنسان في إيراد المعاني الجليلة واتفقت له سلسلة من الآراء والأفكار القويمة تجاوز النقاد من أهل العصر عن ركاكة عبارته وفساد سياقته

ولقد كنت أعجب للتيار الذي نساق إليه هذه الأيام من إهمال الجانب الأدبي في التحرير، وكنت أرجو أن تنقشع تلك الغمة التي دعيت (تجديداً) وهي ليست من التجديد في شيء. . . إذ قنع المنشئون بمحاكاة أهل الغرب في أخيلتهم والأخذ عنهم في إيراد الأحاديث وتقليدهم في الأوصاف ونحوها من فنون الكتابة دون إعارة أصول الأدب العربي شيئاً من عنايتهم، حتى ذهب كبير من أعلام دولة القلم يتحدث إلي في مجلس خاص فيقول إن اللفظ للمعنى كالثوب على الرجل، فهو إن كان رجلاً فاضلاً لم ينتقص خلق ثوبه من فضله، وإن الرجل مهما يكن لباسه شريفاً ولكن نفسه فقيرة من الفضل وقلبه خلى من العلم لا ينفعه اللباس في شيء!

وعلى الرغم مما في ظاهر هذا القول من تعبير حق عن جوهر الموضوع فإن اللفظ الشريف يزيد المعنى الجليل شرفاً، كما يسبغ الثوب الكريم على الرجل العظيم مهابة ويزيده توقيراً ويكون أدعى إلى احترامه لدى غشيانه المجلس

فإن أول ما يطالبك من الرجل لباسه، وأول ما يفاجئك من المعنى ظاهر لفظه. ورب معان كريمة ضاعت لسوء صياغتها وركاكة أسلوبها. ورب مقالة خلدتها الرواية لطلاوة السياق وبلاغة الإيراد ورقة الحاشية

والزيات كاتب جمعت له إلى رصانة الأسلوب ووضوح السياق حلاوة المعنى، وبلاغة العبارة. ولعله في ذلك متميز بالجمال في الناحيتين. ذلك الجمال الذي تلمس منه ميلاً إليه في شتى صوره وتفصيلاً له في جميع معانيه. فأنت أول ما تطالع من كتابه الجديد مقالة (في الجمال)، فهو يحدثك في هذه المقالة عن الجمال حديث الشاعر الملهم، والكاتب الصادق الحس، ورجل الفن الذي استغرق الفن مشاعره واستجاب لحاسته الفنية الدقيقة.

فهو بهذه الصفات كلها يقولك:

(الطبيعة والفن إنما يحدثان أثرهما في النفس، إما بالفكرة وإما بالعاطفة وإما بالشعور الصادر عن آلات الحس، ومن ذلك تنوع الجمال، فكان عقلياً وأدبياً ومادياً).

هذا مذهب يذهب إليه الرجل وهو يتحدث لا بعقله وحده وإنما بحسه أيضاً، ذلك الحس الذي يشعر بالجمال ويقدره، يشعر به جمالاً عقلياً وأدبياً ومادياً لا يخطئ في الشعور به ولا يغفله في أية صورة ظهر أو خفي. . . وآية ذلك أنه يقول بفعل ذلك الإحساس وحده: (وجمال المرأة يحتفظ بدوامه وسحره مادامت له روح العاطفة تشع في نظراتها، وتنسم في بسماتها، وتشيع في قسماتها، وتنشر أضواءها السحرية على أعصاب الرجل - وهو بطبعه ولوع - فيتمتع بنعمة اختياره ولذة إيثاره، ويجد في الضعف الذي يستسلم ويستكين، الحب الذي يطول ويحكم. .

ثم إن الأستاذ الزيات يتحدث إليك بعد هذه المقالة عن (الربيع) فإذا هو يقول (ففي الربيع يشتد الشعور بالجمال والحاجة إلى التجمل، فترى الشباب بجنسيه يستعير ألوان الرياض وعبير الخمائل ومرح الطيور، ويحتشد في دور الملاهي وصدور الشوارع، فيخلع على الوجود وضاءة الحسن، وعلى الحياة رونق السعادة)

وفي المقالة الثالثة يتحدث الأستاذ عن العيد فيقول: (والأعياد الأجنبية التي تشهدها مصر في ذكرى الميلاد ورأس السنة غاية في نعيم الروح والجسم، وآية في سلامة الذوق والطبع، وفرصة ترى فيها القاهرة - وهي منفرجة - كيف تفيض الكناس بالجلال، وتزخر الفنادق بالجمال، وتشرق المنازل بالأنس. . . الخ)

ألا ترى أن في ولوع الأستاذ الزيات بالحديث عن الجمال وتحليل مذاهبه وترديد أوصافه ما يهديك إلى سر ذلك الأسلوب الرائق الجميل وتلك الديباجة الموشاة البديعة؟

ثم ألا ترى في طريقة أخذه الموضوعات أخذاً منطقياً يشرف به الأسلوب ما يدل على ملكة مطواعة وبديهة مواتية ومقدرة على الترسل فذة عجيبة!

وصل (وحي الرسالة) إلى يدي أمس وكنت قد طالعت فصولاً مما احتوى نشرت قبل في الرسالة، وفيه فصول فاتتني قراءتها، وإني لشديد الحرص على ألا تفوتني، ولكنني تعجلت إرسال هذه الكلمة إيماء إلى فضل الكاتب وعظيم يده على الأدب العربي في العصر الحديث. والكتاب يعد جوهرة نفيسة دائمة الإشراق لا تخلق ديباجتها ولا يخبو بريقها؛ فهي ذخر مقتنيها ومتاع روحه

مصطفى الصياحي