انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 275/التاريخ في سير أبطاله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 275/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة - العدد 275
التاريخ في سير أبطاله
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 10 - 1938



ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

يا شباب الوادي خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم. . . . .

- 24 -

وأنى للرئيس أن يستمرئ الراحة أو يهفو إليها حتى يفرغ من رسالته؟ لذلك فهو يجعل للعمل وقته جميعاً لا يكاد يدعه لحظة وكان له في هذا الجهاد الأكبر خير عون من عافيته وقوة بدنه، فلقد بنته الغابة كما تبني دوحاتها العظيمة، كأنما كانت تهيئه لهذه العظائم. . .

ولم تكن الحرب وحدها هي كل ما يحمل الرئيس من عبء، فلقد كان له ممن يعمل معهم من الرجال، كما كان له من اختلاف الأحزاب وتبلبل الرأي العام أثقال فوق أثقاله.

وهناك عدا ذلك موقف الولايات الوسطى التي عرفت باسم المحايدة فكان يخشى الرئيس أن تنظم إلى الاتحاد الجنوبي فتزيدهم قوة وعزماً ولن تكون تلك القوة في الوقت نفسه إلا خسراناً لأهل الشمال. . .

ثم هناك موقف أوربا من هذا النزاع. . . وهو أمر له خطره يحسب الرئيس له ألف حساب، وإن كان سيوارد لا يرى له أول الأمر ما يراه الرئيس من خطر.

ولم يترك الناس رئيسهم يعمل لقضيتهم الكبرى فحسب، بل راح الكثيرون يطرقون بابه يرجونه ويسألونه إلحافاً، فهذا ممن ساعدوا الحزب الجمهوري يطلب من طريق خفي أن يكافأ على خدماته. . . وذاك يطلب وظيفة يأكل من راتبه فيها. . . والموظفون في البيت الأبيض يعجبون من هذا الرئيس الذي لا يجعل فرقاً كبيراً بين قاعة الحكم هناك وبين حجرة مكتبه في سبرنجفيلد. .

لقد جعل للناس يومين كل أسبوع يلقاهم فيهما جميعاً لا يوصد بابه في وجهه أحد، وإن ليستمع إلى كل ذي حاجة، فأن استطاع أن يمد إليه يد المساعدة دون أن يجوز بذلك على القانون لم يتردد أو يتأخر. وكثيراً ما كان يجعل الرحمة فوق العدل، إذا رأى نفسه بين أن يعدل فيقسو أو يرحم فيميل بعض الميل. . . ولكنه في ذلك لا يسئ إلى الخلق أو يتهاون في قاعدة جوهرية وحاشاه أن يفعل هذا أو ما هو دونه. . .

ولن يضيق صدره بذوي الحاجات لديه، مع أنهم كانوا يلقونه على السلم، ويقفون أمام غرفته صفوفاً خلف صفوف، بل كثيراً ما كانوا يستوقفونه على الطريق ويزحمونه. . . ولكنه من الكاظمين الغيظ. . ولن يستطيع قلبه الكبير أن ينهر السائل فيزيده بؤساً على بؤسه، وهو الذي عرف اليتم منذ حداثته وذاق الشقاء ألواناً. . .

على أنه مهما بلغ من رحمته وبره بالمساكين، يعرف أساليب الماكرين، فلا ينخدع بما يراه من ادعاءاتهم فيصرفهم بالحسنى وإلا فبشيء من الشدة يشبه التأنيب ويراد به الزجر. . . دخل عليه رجل كسرت ساقه يسأله عملاً إذ فقد رجله في الحرب، فسأله الرئيس أيحمل أية شهادة أو دليلاً على صدق دعواه، ولكن الرجل لا يحمل شيئاً، فصاح به الرئيس قائلاً: (ماذا؟ ليس لديك أي أوراق أو أي شهادات أو أي شيء يرينا كيف فقدت رجلك. . . فليت شعري كيف أتبين أنك لم تفدها في فخ وقعت فيه وقد سطوت على بستان غيرك. . .)

ويعجب القائمون على الحكومة كيف يطيق الرئيس وقد ملأت وقته الأحداث الجسام أن يلقى هؤلاء الناس ويستمع إلى مثل هذه الأمور الصغيرة وكان جديراً به أن يكلها إلى غيره. . . ولكن أليس هو من الناس؟ أليس هو خادم الجميع قبل أن يكون رئيس الجميع؟ وهل يغير المنصب ما فطرت عليه الأنفس الكريمة من كريم الخصال؟. . .

هاهو ذا ابراهام النجار تراه في البيت الأبيض ولم يزل هو هو، وداعة في قوة، وتواضع في عزة، ورقة في وقار. . . ومن وراء ذلك قلب تسع رحمته شكوى الناس جميعاً، قلب لا يتهنأ ولا يفرح إلا إذا صنع المعروف وأدلى الجميل فأفرح القلوب وأدخل عليها الهناءة.

وما كان أعظم الرئيس وأجمل خلقه حين يلقى في الطريق إلى غرفته أحد معارفه ممن لاقاهم قبلُ في مضطرب الحياة، فيقف يضحك وإياه ويده على كتفه ويسأل عن أمره وأمر أسرته. . .

ولقد يأخذه معه إلى قاعة الرياسة فيذكر له الأيام الماضية حتى ما يشعر الرجل أنه بين يدي رئيس الولايات المتحدة

ثم ما كان أعظم الرئيس حين كان الفقراء يستوقفونه في الطريق فيقف ليستمع إليهم وليكلمهم كأنه أحدهم، فلا ترفع ولا كبرياء. ولن يستنكف الرئيس أن يطيل الحديث أحياناً عله يستطيع أن يكفكف بكلامه شيئاً من دموعهم ويخفف بالعطف عليهم بعض آلامهم. . . ولئن كانت هل حيلة إلى أجابتهم إلى ما سألوا فما هو عن ذلك بضنين

ولقد كان ينكر عليه مسلكه هذا بعض موظفي البيت الأبيض. . ولكنهم حين كانوا يزعمون أنه لا يليق ذلك بمن كان في مثل مركزه كان يغيب عنهم أنه لا مسلك غيره لمن كان له مثل قلبه. على أنهم لم يلبثوا أن أكبروا الرئيس وأعجبوا بخلاله، وأصبحوا لا يرون أي مأخذ عليه، وأصبح من المناظر المألوفة عندهم أن يدخل أحدهم ببطاقة للرئيس فيراه ينهض بنفسه إلى خارج الحجرة يلقي مرسلها مرحباً ضاحكاً. . . أو أن يروه يأتي بنفسه إلى الحاجب فينهره حين يسمعه يمنع طالبي الدخول عليه. . .

أما الوزراء وكبار الموظفين وقواد الجيش فقد اعتادوا أن يروا الرئيس يسعى إليهم أحياناً بدل أن يدعوهم إليه. . وكثيراً ما كان يلتفت الواحد منهم فإذا حاجبه مقبل يعلن إليه أن الرئيس على السلم أو في طريقه إليه

ويدخل الرئيس فيجلس إلى مرؤوسه يستفهمه عما يريد وينصت إليه؛ فان كلمه مرؤوسه في أمر فني كلام الأخصائي، لا يستنكف الرئيس أن يستوضحه وكأنه منه التلميذ حيال أستاذه؛ ويعجب المرؤوسون من هذا الرجل الذي لا يدعي أبداً العلم في أمر يجهله، والذي يفهم ما يُبَيَّنُ له في فطنة وسرعة

ماجت واشنجطون بالمتطوعين حتى أصبحت المدينة معسكراً عظيماً، ولكن الرئيس يعوزه القواد. . . وإنه ليطيل التفكير فيمن عساهم أن يصلحوا للقيادة في هذا النضال الهائل. . إن على رأس القوات الآن القائد سكوت ولكنه شيخ كبير ناهز الخامسة والسبعين، والموقف يتطلب قائداً فتياً يبث من روحه في قلوب جنده ويمشي بهم إلى النصر. . . ألا ليت القائد لي لم يرفض ما عرض عليه، ولكن بئس ما فعل لي فلقد أنضم إلى الثائرين وأصبح ن أكبر قوادهم

فكر الرئيس وتدبر. وأخذ يقلب الأمر على وجوهه والرأي العام من حوله يزيد موقفه صعوبة، فلكل حزب رأي، ولكل جماعة فكرة، ولحكام الولايات آراؤهم وإلا توقفوا عن إرسال الجنود. . . والرئيس يهيئ له الناس بسكوتهم الجو ليختار قواده على أساس الكفاية ولكنهم لا يفعلون، وهو لا يستطيع أن يغضب تلك الجهات في هذه الظروف القاسية، بينما هو فيالوقت نفسه لا يستطيع أن يرضيهم جميعاً

ويستعرض الرئيس الموقف الحربي، فيجد القائد ماكليلان قد وفق في أعماله في فرجينيا الغريبة، ويسمع الثناء عليه من جهات كثيرة حتى لقد سماه نابليون الجديد. . . ولذلك يدعوه الرئيس ويعينه قائداً عاماً للقوات في فرجينيا

وتتجه الأنظار كلها إلى القائد ماكليلان فهو شاب في الرابعة والثلاثين؛ وفيه كثير من الصفات التي تحمل الناس على محبته؛ فله حسن السمت وهيبة الطلعة وروح الشباب؛ وله من صغر جرمه ما يشبه به نابليون، وكذلك له من صفات نابليون بريق عينيه ومضاء عزيمته وتوقد حماسته

وسرعان ما تعظم شهرته حتى يجري اسمه على الألسن جميعاً؛ وكم له في الحياة من أشباه ممن قامت شهرتهم على أوهام الجماعات ولكن لعل الأيام تثبت جدارته، فإن الأعين والقلوب متفقة على الإعجاب به

على أن للشباب نزاعاته ونزواته، فهذا القائد يدل بجاهه من أول الأمر، حتى ليعد نفسه الرجل الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ البلاد مما هي فيه. . . ولقد شايعه في هذا الزعم كثير من الناس. . . حتى رجال مجلس الوزراء قد عظمت ثقتهم فيه إلى حد إنهم كانوا يميلون إلى جانبه أحياناً إذا هو رأى ما لا يرى الرئيس والرئيس يتذرع بالصبر ويتغاضى عن ذلك في سبيل ما يعقده من الآمال على ما عساه أن يأتي به ذلك الشاب

وأخذ القائد الشاب يدرب مائتي ألف رجل على حدود فرجينيا، وقام بذلك العمل على خير ما يرجى، ولكنه أطال التدريب وأطاله حتى تسرب الملل إلى الرأي العام فضاق بما يفعل فإن الناس كانوا يستعملون الزحف؛ وكذلك ضاق الرئيس ذرعاً، ولكن ماكليلان يعد الناس أنه ستعد لحركة عظمى سوف تطفئ نار الثورة

وشاع في الناس أسم قائد أخر هو القائد فريمونت، ولقد كانت له مواقف محمودة في الجهات الغربية يومئذ، وكان هذا الرجل من قبل أول مرشحي الحزب الجمهوري للرياسة فله بذلك في الناس منزلته وخطره، وله في قلوب الساسة وأولي الرأي نفوذ كبير

ولن يقل فريمونت عن ماكليلان اعتزازاً وترفعاً، فهو يحيط نفسه بفرقة من الحرس، ويرقي بعض الجند دون أن يرجع إلى الرئيس وهو بحكم مركزه القائد الأعلى لقوات الدولة. . . وكذلك يتباطأ فريمونت في الرد على البريد القادم من العاصمة. . . ولن يقف الأمر عند ذلك، بل تأتى الأنباء أن فريمونت ينوي إقامة اتحاد ثالث في الجهات الشمالية الغربية

ولكن الرئيس لا يصدق هذه الأنباء فهو واثق قبل كل شيء من إخلاص الرجلين لقضية الاتحاد، وإلا فما كان ليضعهما حيث وضع مهما يكن من الأمر

وأحاط فريمونت نفسه أول الأمر بجو من السكوت، ولكنه ما لبث أن أذاع قرارا خطيرا اهتز له الرئيس وتبرم منه وضاق به، وذلك أن القائد أنذر أهل مسوري في أخر شهر أغسطس عام 1861، أي بعد قيام الحرب بنحو أربعة أشهر أنه ينفذ قوانين الحرب في الولاية، ولذلك فهو يحدد منطقة يجعلها محرمة، يعدم كل من يحمل السلاح فيها ضد حكومة الاتحاد وكذلك يعلن القائد أن كل من تحدثه نفسه بالثورة من أهل الولاية جميعاً يكون جزائه مصادرة أملاكه وتحرير عبيده إن كان له عبيد. . .

ارتاع لنكولن للقرار وتربد وجهه وأوشك أن ينفذ صبره، وكان يلاحظ من يرونه غداة هذا القرار علامات الهم الشديد على محياه، ولكنهم كانوا كذلك يلمحون إمارات العزم والصلابة ودلائل الحزم والثبات

انزعج الرئيس لإثارة مسألة العبيد في تلك الآونة، فلقد جعل مبدأ الحرب من أول الأمر المحافظة على الاتحاد، حتى تكون قضية دستورية لا عيب فيها، وبذلك تجد سبيلها إلى القلوب وتستنهض الهمم بما تثيره عدالتها من حماسة ولا تدع سبيلاً لأحد أن يتهم أهل الشمال بأنهم أوقدوا النار ما أجل أغراضهم وعواطفهم في مسألة العبيد. . . وكذلك كان يتحاشى الرئيس إثارة تلك المسألة حتى لا تثور الولايات المحايدة وتنظم إلى أهل الجنوب، ويفقد الرئيس كل أمل في ضمها إلى جانبه، ومن تلك الولايات مسوري نفسها فقد كان فيها كثير ممن يقتنون العبيد، وأهم منها وأعظم خطراً كانت ولاية كنتولي التي ينتمي إليها الرئيس منذ نشأته، فلقد بذل الرئيس كل ما في وسعه للمحافظة على مودة أهلها لتنضم إلى جانبه أو لتبقى على الأقل محايدة، فلموقعها الجغرافي في الحرب شأن أي شأن

ولكن هذه السياسة الرشيدة العاقلة التي جرى عليها الرئيس ما لبثت أن طاح بها ذلك القرار الطائش؛ فسرعان ما هاجت الخواطر في تلك الولايات المحايدة، وسرعان ما جزع كثير ممن يسلمون بنظام العبيد من أهل الولايات الشمالية

وعظم خطر هذا القرار حتى أصبح نقطة تحول جديد في الموقف كله. . . ونظر الرئيس فإذا هو تلقاء عاصفة شديدة من الرأي العام، فأن دعاة التحرير وأعداء نظام العبيد ما لبثوا أن هتفوا بالقائد الجريء الحازم، وراحوا يمتدحون خطته بقدر ما يعيبون على الرئيس تردده وخوره

وانطلقت الصحف تدعوا الرئيس أن يقر فريمونت وأن يحذو حذوه فيعلن قراراً عاماً ينطبق على الولايات الثائرة جميعاً. ولما وجدوا منه الأعراض والغضب، عصفت برؤوسهم النزوات وراح بعضهم يدعوا إلى إرغام الرئيس على الاعتزال ووضع فريمونت في مكانه

ويتطلع الرئيس بعينيه الواسعتين فإذا بوادر الفرقة والتنازع تكاد تقضي على قضية البلاد، إذا العاصفة تشتد وتشتد؛ ولكنه الرجل الذي لم يخلق له الفزع؛ وهل يذكر أنه خاف العاصفة يوماً ما حينما كانت تنطلق عاتية مدوية فتهتز لها أرجاء الغابة، وهو واقف منها موقف المتفرج؛ ذلك الموقف الذي ما كان يطيقه صبي في مثل سنه إلا إذا كان مثله من بني الأحراج الذين ألفوا ملاقاة العواصف؟ ٍ. . .

(يتبع)

الخفيف