انتقل إلى المحتوى

شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل​ المؤلف أبو حامد الغزالي


بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم (وبه استعين) [3 - أ] الحمد لله المسبح بالغدو والآصال، المقدس عن مضاهاة الأمثال، الموصوف بالجمال والجلال، خالق الإنسان من الطين اللازب والصلصال، ومدبر الخلق بين دوري الأدبار والإقبال، وطوري الهداية والضلال، فـ «من يهد [الله] فماله من مضل». و «من يضال [الله] فماله من والٍ». والصلاة على محمد [رسوله] المصطفى وعلى آله خير آل. أما بعد: فإن إلحاحك -إيها المسترشد -في اقتراحك، ولجاجك في إظهار احتياجك، إلى «شفاء الغليل»، في بيان مسالك التعليل: من

المناسب والمؤثر والشبه والطرد والمخيل -صرم لجاجي في التسويف والتساهل، وحل [عقدة] عزمي في المماطلة والتكاسل، فانجررت إلى تحقيق أربك، واستخرت الله تعالى في إسعافك بمطلبك، وأتيت فيه بالعجب العجاب، ولباب الألباب، وكشفت عن وجوه أسراره غمة الحجاب، وقشعت عن مغمضاته غواشي الارتياب. وأنا أنبهك -أيها المسترشد -على شاكلة الصواب، قبل أن أخوض بك في غمرة الكتاب، وأقدم إليك نصيحة مشوبة بخشونة؛

فلا يزوينك عنها مرارة مذاقها، وخشونة ملمسها فنصيحة في تخشين خير من خديعة في لين. وهي: أن هذا الكتاب لن يسمح بمضمون أسراره على مطالع، ولن يجود بمخزون أعواده على مراجع؛ إلا بعد استجماع شرائط أربع: الشريطة الأولى: كمال آلة الدرك: من وفور العقل، وصفاء الذهن، وصحة الغريزة، واتقاد القريحة، وحدة الخاطر، وجودة الذكاء والفطنة. فأما الجاهل البليد، فهو عن مقصد هذا الكتاب بعيد. وهذه شريطة غريزية، وقضية جبلية، وهي من الله تعالى تحفة وهدية، ونعمة وعطية، لا تنال ببذل الجهد والاكتساب، وتنبتر دون دركها وسائل الأسباب. الشريطة الثانية: استكداد الفهم، والاقتراح على القريحة،

[واستعمال الفكر]، واستثمار العقل بتحديق بصيرته إلى صواب الغوامض: بطول التأمل، وإمعان النظر، والمواظبة على المراجعة، والمثابرة على المطالعة، والاستعانة بالخلوة وفراغ البال، والاعتزال عن مزدحم الأشغال. فأما من سولت له نفسه درك البغية بمجرد المشامة والمطالعة: معتلاً بالنظر الأول والخاطر السابق، والفكرة الأولى، مع تقسيم الخواطر، واضطراب الفكر، والتساهل في البحث والتنقير، والانفكاك عن الجد والتشمير -فاحكم عليه بأنه مغرور مغبون، وأخلق به أن يكون من ((الذين لا يعلمون الكتاب إلى أماني وإن هم إلا يظنون)). فصاحب هذه الحالة سيحكم -لا محالة -على لفظ الكتاب بالإخلال: متى استغلق عليه، وعلى معناه بالاختلال: متى لم يبث أسراره إليه.

وكم من عائب قولاً سليماً ... وآفته من الفهم السقيم الشريطة الثالثة: الانفكاك عن داعية العناد، وضراوة الاعتياد، وحلاوة المألوف من الاعتقاد، فالضراوة بالعادة، مخيلة البلادة؛ والشغف بالعناد، مجلبة الفساد؛ والجمود على تقليد الاعتقاد، مدفعة الرشاد. فمن ألف فنا، علما كان أو ظنا: نفر عن نقيضه طبعه، وتجافى عنه سمعه، فلا يزيده دعاؤك إلا فراراً أو نفارا، ولا يفيده ترغيبك إلا إصرارا واستكباراً:

ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريضٍ ... يجد مراً به الماء الزلالا الشريطة الرابعة: أن يكون التعريج على مطالعة هذا الكتاب، مسبوقاً بالارتياض بمجاري كلام الفقهاء في مناظراتهم، ومراقي نظرهم في مباحثاتهم، محيطاً بجليات كلام الأصوليين، محتوياً على أطراف هذا العلم، خبيراً بمنهاج الحجاج، كثير الدربة والمران بمصنفات أهل الزمان، متعطشاً إلى درك أسرارٍ شذت عن المصنفات، متشوقاً إلى الإطلاع على حقائق أخفاها عن بني الدهر طارق الآفات. فإني سقت الكلام في هذا الكتاب، على نهاية الانقباض عن التعرض لما اشتمل عليه كتاب «المنخول، من تعليق الأصول»، مع أنه النهاية في الوفاء بطريقة إمامي فخر الإسلام: إمام الحرمين، قدس الله

روحه. وأنحيت على تقرير أمور خلت عنها هذه الطريقة، وقد أحوج إلى استقصائها كلماتٌ تداولتها ألسنة المتلقفين من كتب القاضي أبي زيد الدبوسي رحمه الله، فغلبت على كلام الخصوم في مجاري الجدال والخصام، وقد انسدل على وجهها جلباب من التعقيد والإبهام، فأورث ذلك على المعترضين خبطاً في الكلام. فوقع الكشف عن عوارها، والتنبيه على غوائلها وأغوارها -من الكتاب - بعض المقصد والمرام. * * *

ولقد أتيت فيه باليد البيضاء، والمحجة الغراء، والحجة الزهراء؛ وسيعترف لي به من له [؟ لم] تحركه رذالة الحسد إلى الطعن والإزراء. ولست تعدم -أيها المسترشد -رهطا يستجمعون الشرائط التي قدمتها، ويستخرجون من هذا الكتاب الأسرار التي إياه ضمنتها وأودعتها، ثم يقابلونه بالجحود، والكتمان والكنود، ويستدرون فوائده باطنا وهم في الظاهر يذمون، و ((إن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)). والمعجب بنفسه إذا لاح له الحق [لا يزداد] ما استطاع في غلوائه إلا غلواً. ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً)): يذمون دنيا لا يريحون درها ... فلم أر كالدنيا: تذم وتحلب

فلا يخذلنك -أيها الطالب - خذلانهم، ولا يغرنك جحودهم وكتمانهم: فالدر الأزهر، والياقوت الأحمر، والزبر جد الأخضر، والمسك الأذفر؛ لا يخشى على أسواقها الكساد، بتهجينات] 4 - أ [الحساد. فنسترزق الله الهدى لسبل الرشاد والسداد، ونعوذ به من دواعي الضلال والعناد. وها أنا أفصل لك من مضمون هذا الكتاب تراجمه، ومن مقاصده معاقده ومناظمه. ولقد قدمت لك مقدمة في صدر الكتاب، على نهاية الإيجاز، في بيان معاني القياس والعلة والدلالة. ثم قسمت مقصود كتاب القياس إلى خمسة أركان: الركن الأول: في طرق إثبات علة الأصل. الركن الثاني: في العلة. الركن الثالث: في الحكم. الركن الرابع: في الأصل الذي عليه القياس. الركن الخامس: في الفرع الملحق بالأصل. فأما الركن الأول: فقد نصلت فيه طرق إثبات العلة: بالتنصيص والتنبيه والإيماء، على نهاية الاستقصاء. ثم ذكرت بعده إثبات العلة، بالتأثير، وذكرت معنى المؤثر.

ثم ذكرت [بعده] إثبات العلة: بالمناسبة، وذكرت معنى «المناسب» وحده وأقسامه، وخيال الفرق بينه وبين المؤثر. وأردفته بيان الاستدال المرسل، وكثفت الغطاء فيه بتكثير الأمثلة. ثم ذكرت طريق إثبات العلة: بالاطراد والانعكاس. ثم انحدرت منه إلى بيان «الشبه» وطريق إثباته. ثم نزلت منه إلى بيان «الطرد» وما يتعلق [منه] بالجدال، وما يرتبط بالاجتهاد. ونبهت على غلطات بني الزمان في الفرق بين الشبه والطرد. ثم أتبعت ذلك بباب في بيان ما تعدد العامة من الشبه وليس منه. وذكرت في هذا الباب تفصيل القول في الشبه في جزاء الصيد، والفرق بينه وبين الشبه المعروف في لسان الفقهاء. وذكرت كيفية النظر في التغليب عند ازدحام مناطين للحكم، أو عند تركب المسئلة من شائبتي مناطين متعددين. وأظهرت وجه لفرق بين الجنسين، ووجه انقطاعهما عن قياس الشبه. واختتمت الباب بيان فن من التصرف، عبرت عنه: بتنقيح مناط الحكم. وذكرت في الباب الأخير أشكال المقاييس، وانقسامها

إلى برهان الاعتلال، وبرهان الخلف، وبرهان الاستدلال. وبينت انحصار طرق الأدلة في الاستدلال بالخاصية والنتيجة والنظير. ورددت برهان الاعتلال -على انتشار أقسامه -إلى مقدمتين ونتيجة، و [بينت] أن النزاع إما أن يقع في المقدمة الأولى، وإما أن يقع في الثانية؛ وأنه إن وقع في الأولى: لم يقع الدليل عليه إلا شرعيا، وإن وقع في الثانية: أمكن أن يكون [الدليل] شرعياً عقلياً ولغوياً. وأما الركن الثاني في العلة، [فقد] ذكرت فيه وجه إضافة الحكم إلى العلة، فأفضى سياق الكلام إلى استقصاء مسئلة تخصيص العلة،

ومسئلة الجمع بين العلتين لحكم واحد، ومسئلة العلة القاصرة، ومسئلة تعليل الحكم في محل النص بالعلة. واختتمت هذا الركن ببيان الفرق بين العلة والمحل، وخرجت] 4 - ب [عليه مسئلة شريك الأب، وشراء القريب، ورجوع شهود الإحصان مع شهود الرجم، وتقديم الكفارة على الحنث، واختصاص المردي عن الحافر بالضمان، وتعليق الطلاق بالملك. إلى غير ذلك: من مسائل يتشعب النظر فيها عن هذا الأصل. وأما الركن الثالث -وهو ركن الحكم -[فقد] ذكرت فيه بيان ما يجوز أن يثبت بالقياس: من الأحكام، وما لا يجوز [وأن نصب الأسباب للأحكام أحكام يجوز تعليلها]، على خلاف ما تشبث به المتلقفون عن أبي زيد، فإن ما ذكروه-: من أن الأحكام تناط بالأسباب،

لا بالحكم -لا طائل له. وذكرت فيه طريق الكلام في النفي الأصلي في الأحكام، وأن القول فيه بقياس العلة محال، وأن المسلك فيه محصور في الاستدلال؛ وأن الطريق فيه إما سبر، وإما دلالة، وإما استصحاب. وذكرت طريق الاستصحاب، ووجه التعلق به. وأما الركن الرابع -وهو ركن الأصل -[فقد] ذكرت فيه شرائط الأصل الذي يقاس عليه. وأنه إذا نبت حكمه بالعقل أو اللغة أو القياس: امتنع القياس عليه. وأن الأصل المعدول به عن القياس كيف يقاس عليه. وما معنى قول الفقهاء: «إن هذه المسئلة خارجة عن القياس؟» وأين يجوز أن يدعى ذلك؟ وأين تمتنع هذه الدعوى؟ وأما الركن الخامس -وهو ركن الفرع -[فقد] ذكرت فيه مسئلتين، أحداهما: تقدم الأصل على الفرع كالوضوء مع التيمم. والأخرى: [في] أن شرطه أن لا يكون منصوصاً عليه، وأن قياسنا في كفارة الظهار في شرط الإيمان، وقتل العمد في إيجاب الكفارة -لا يناقض هذا الشرط. وبه وقع اختتام الكتاب. وسميته: شفاء الغليل، في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل. وسأضيف إليه -إن ساعدوني التوفيق -كتاباً على مذاقه: في طرق التخصيص والتأويل.

واقتصرت الآن على مقاصد القياس. وما أخللته من كتاب القياس: مما لم اتعرض له؛ فهو منقسم إلى ما رأيته جليا يستغنى بكتاب المنخول عنه، وإلى ما لا تمس الحاجة إليه في المناظرات إلا نادراً. فقصرت همي على الأغمض، ثم اجتزيت منه بالأهم. وإني لأرجو أن يعم جدواه، وينكشف للطلبة مغزاه، ويفوح

لهم رياه. وآمل من الله غفراناً لا يدرك أقصاه، وعفوا لا ينتهى مداه، إذا عنت الوجوه وخرست الألسن وجفت الشفاه، وخضعت الرقاب، وجحظت الأعين، وسجدت الجباء! فما أحسن عبد بربه ظنه إلا أرضاه، وآتاه سؤله ووفاه، فهو الجواد الكريم الفرد الصميد الإله. * * *

المقدمة المرسومة قبل الأركان الخمس فلابد من ذكر مقدمة في حد القياس وصورته، [وبيان معنى العلة والدلالة]، وبيان قسمته، والتنبيه على مجاري النظر فيه. أما حده، فقد اختلفت فيه الصيغ والعبارات. ولسنا للتطويل في هذا الكتاب، فيما لا يتعلق به كبير فائدة. والعبارة المعرفة للمقصد المطلوب، أن يقال: «القياس: عبارةٌ عن إثبات حكم الأصل في الفرع، لاشتراكهما في علة الحكم».

فهذا القدر كاف في البيان. وإن أردت عبارة محترزة عن الاعتراضات -[التي تهدف الحدود لأمثالها في عبارة المتكلمين وأرباب الصناعات] في الحدود -قلت: هو: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكمٍ أو نفيه، بالاشتراك في صفة أو انتفاء صفة، أو حكم أو انتفاء حكم. فهذا أحوى لجميع أقسام الكلام، وأحصر لجملة الأطراف. وفي الأول غنية عنه: فإنه مفيد للبيان الذي نبغيه، وهو بيان قياس المعنى، إذ هو المشتمل على بيان علة الحكم. فإن أردت أن تضم إليه قياس الشبه والطرد -عدلت إلى العبارة الأخرى: فإن جميع ذلك على شكل القياس وإن كان ينقسم إلى صحيح وفاسد، فإن الفاسد أيضاً قياس. وعلى الجملة [أيضاً] لابد من التسوية بين الشيئين: لتتحقق صورة القياس، فإن مشتق من قول العرب: قاس الشيء بالشيء، إذا حذا به حذوه وسواه عليه، يقال: قاس النعل بالنعل، إذا سواه عليه.

فإن قيل: فهل من فرق بين القياس والعلة؟ قلنا: نعم؛ فإن العلة في تصورها لا تستدعي أصلاً وفرعًا، ولكن إذا ذكرت السبب المؤثر في الحكم، فقد ذكرت [علة الحكم]. والعلة [في الأصل]: عبارة عما يتأثر المحل بوجوده، ولذلك سمي المرض: علة. وهي في اصطلاح الفقهاء على هذا المذاق. نعم: قد يسمى القياس علة، لأنه يشتمل على علة الحكم، وهي الركن الأعظم من مقصود القياس، كما يسمى القياس: نظراً واجتهاداً ودليلاً واعتلالاً؛ لأنه يستدرك بالنظر والاجتهاد، ويدل على الحكم، ويشتمل على ذكر العلة: فيسمى اعتلالاً. وتسمية العلة بمجردها قياساً، لا وجه له. وإن تسامح بعض الفقهاء بإطلاقه، فذلك لتقسيمهم المسائل -في عرفهم - إلى الخبرية والقياسية؛ فما لا يتعلق منه بالخبر تسمى قياسية: لأن الغالب في المسائل التي ليس خبرية، فيعنون بكونه قياسا: أنه ليس خبريا. فإن قيل: فهي من فرق بين الدلالة والعلة؟ قلنا: نعم؛ فكل علة يجوز أن تسمى دلالة، لأنها تدل على الحكم، فالمؤثر أبداً يدل على الأثر. ولا تسمى كل دلالة علة، لأن الدلالة [قد] يعبر بها عن الأمارة التي توجب: فلا تؤثر، فالغيم

الركم دليل على المطر وعلته أيضاً، لأنه يؤثر فيه. والكوكب دليل على القبلة، وليس علة فيها. فما للدلالة حظ في الإيجاب. والعلة موجبة؛ أما العقلية فبذاتها، وأما الشرعية فبجعل الشرع إياها [علة] موجبة، على معنى إضافة الوجوب إليها، كإضافة وجوب القطع إلى السرقة، وإن كنا نعلم أنه إنما يجب بإيجاب الله تعالى؛ ولكن ينبغي أن نفهم الإيجاب كما ورد به الشرع، وقد ورد بأن السرقة توجب القطع، والزنا يوجب الرجم. ففي هذا تفترق الدلالة والعلة. وسنتقصى [وجوه] الدلالات -التي ليست من قبيل الأقيسة، ولا من قبيل العلل -في الباب الثاني [إن شاء الله تعالى].

أما الأمارة، والآية، والبينة، والحجة، والبرهان -فإنها من الأسامي العامة ولا غرض لنا في بيان اشتقاقاتها وحدودها. وإنما [الغرض و] المقصود تمييز العلة عن الدلالة والأمارة. وأما القياس: فإنه مشتمل على العلة، إذا العلة بعض أجزائه، كالبيت: يشتمل على الجدار ويتضمنه. هذا حد القياس وصورته [وما اتصل به: من الفرق بين العلة والدلالة وغيره]. وأما قسمته، فهي -في غرضنا -تنقسم إلى قياس الشبه، وقياس المعنى. والباب معقود لبيان القسمين، وشرائطهما، ووجه الفرق بينهما. والنظر فيهما في خمسة أركان: الأصل، والفرع، والحكم، والوصف الجامع، وطريق معرفة كون الوصف الجامع علة للحكم. لأنا ذكرنا أن القياس عبارة: عن «إثبات حكم الأصل في الفرع، بالاشتراك في علة الحكم» فتعرضنا لهذه الأمور الخمسة. ولابد من استقصاء النظر فيها.

الركن الأول في طريق معرفة كون الوصف الجامع علة لحكم الأصل حتى يترتب على وجودها الحكم في الفرع فذهب ذاهبون: إلى أن إقامة الدليل على علة الأصل غير واجب. إذ [قد] تحقق صورة القياس بمجرد الجمع؛ والأصل أن كل وصف يذكر في الأصل علة، إلا أن يمنع [منه] مانع. وهذا هذيان لا حاصل له: فإن الأصول تنقسم إلى ما يعلل، وإلى ما لا يعلل. ومع الاتفاق على صحة [تعليل حكم] الأصل، اتفقوا على صحة هذا الانقسام. فيحتمل أن لا يكون الأصل معللاً؛ [وأن كان معللاً: احتمل أن لا يكون معللاً] بهذا الوصف المذكور. فلابد من دليل يميز هذا الوصف عن سائر الأوصاف الموجود في الأصل، لينبني على الاشتراك فيه الاشتراك في الحكم. فإذا تبين أن ذلك لابد منه، فكون الوصف علة لحكم الأصل -يعرف بمسالك: المسلك الأول: النص في جهة الشارع، وذلك: بأن يأتي بصيغة

التعليل، كقوله: العلة كذا، أو الأجل كذا، أو لسبب كذا؛ أو ما يقوم مقامه، ويفيد معناه. فهو صريح في التعليل [به] [وذلك] كقوله تعالى: {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم}، وهذا صريح في التعليل [به]. [و] كقوله عليه السلام في النهي عن لحوم الأضاحي: «إنما نهيتكم لأجل الدافة» وكقوله عليه السلام في الأعرابي المحرم الذي وقصت به راحلته: لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» وهو صريح في التعليل، ولذلك] 6 - أ [نطرده في كل محرم سوى ذلك الأعرابي. ويبطل قول أبي حنيفة رحمه الله: إن ذلك [كان] من

خصائص [ذلك] الأعرابي، إذ اطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حاله، على ما أخبر عنه، لنوع ورع وفضيلة اختصت به. قلنا: ليس الأمر كذلك؛ إذ التخمير والتطييب مأمور به في حق الموتى، ومنهى عنه في حق المحرمين. والذي يسبق إلى الأفهام، أن الموت قاطع للإحرام، وإذا انتفى الإحرام رجع التخمير إلى الأصل المعهود؛ فنهى عن التخمير، وذكر أن علته بقاء الإحرام بعد الموت، فكان التخمير منهيا عنه: لبقاء علته؛ وعرف بقاء العلة [بقوله عليه السلام]: فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا» فإن [الإحرام باق بعد الموت شرعا. وعرف به أيضاً أنه] علل النهي ببقاء الإحرام، ونزل ذلك منزلة قوله -عليه السلام -في الشهداء: «زملوهم بكلومهم

ودمائهم، فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما» فبين أن أثر الشهادة يبقى بعد الموت، وأن المنع من الغسل معلل بتضمنه إبطال أثر الشهادة. وهذا القدر كاف في هذا القسم، فإن صرائح التعليل ليست مما يخفى. ولما كانت العلة الشرعية معلومة بالشرع، ولم تنحصر الطرق الشرعية في البيان والتعريف على النصوص -بل من طرق التنبيهات، ومن طرقه الاستنباط والنظر -: جاز أن يعرف كون الشيء علة بتعريف الشرع بألفاظ وأفعال هي منبهة على العلة وإن لم يكن صريحا [به] وجاز أن يعرف بطرق النظر والاستنباط، كما أن الأحكام في أنفسها لما كانت شرعية: جاز معرفتها بجميع هذه الطرق، فنصب الشيء علة حكم من جهة الشرع، كما أن إثبات الحرمة والحل في فعل من الأفعال حكم [من جهة الشرع] فجاز أن تعرف بكل طريق تعرف به الأحكام. * * *

المسلك الثاني: في إثبات العلل بالتنبيهات من [جهة] الشارع، ووجوهها مختلفة ومراتبها في إفادة الظن متقاربة، وإن كانت لا تنفك عن ضروب من التفاوت في الخفاء والجلاء؛ وهي أنواع: النوع الأول منها: أن يرتب الحكم على الفعل بفاء التعقيب والتسبيب؛ فهو تنبيه على تعليل الحكم بالفعل الذي رتب عليه. كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، وكقوله جل من قائل: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وقوله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطع أن يمل هو فليممل وليه العدل} وقوله عليه السلام: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»، وقوله تعالى {ومن لم يستطع منكم

طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم] 6 - ب [المؤمنات}، وقوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فيتمموا} وقوله عليه السلام: «ملكت نفسك فاختاري» وقوله: «لعن الله اليهود: حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها». فدل ذلك على أن القطع معلل بالسرقة، وأنها سببه. وأن سبب الوضوء الصلاة. وسبب تكفل الولي بإملاء الحق ضعف المولى عليه وسفهه وعجزه. وسبب ملك الموات الأحياء. وسبب إباحة نكاح الإماء العجز. وسبب جواز التيمم فقد الماء. [وسبب التخيير العتق. وسبب اللعنة أكلهم أثمان الشحوم].

فكل ذلك تبنيه على إضافة الأحكام إلى الأسباب، ونصب الأسباب عللاً فيها، حتى يقال: تكفل الولي بالإملاء وإن ورد فيه التداين، فالحكم غير مقصور على التداين، بل يجرى في سائر التصرفات المتعللقة بالمصلحة، لتعدي العلة في أمثال ذلك. ومن هذا القسم: دخول الفاء في كلام الراوي، كقوله: «زنا ماعز فرجم» و «سها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فسجد»، و «رضخ يهودي رأس جارية فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه».

تدل هذه الصيغة من الراوي، على أنه فهم الحكم، وفهم سببه أيضاً. ولو لم يفهم كون الرجم موجب الزنا، وكون السجود موجب السهو، وكون الرضخ موجب الرضخ -: لما جاز له أن يروى على هذا الوجه، ولكان كلامه كقوله: أكل ماعز فرجم، وقام النبي عليه السلام في الصلاة فسجد. فإذا قيل له: كيف ذلك؟ قال: «أكل ماعز فرجم لا لأجل الأكل، ولكن لأجل الزنا. وسجد لا لأجل القيام، ولكن لأجل السهو. ولكن جرى الرجم والسجود عقيب الأكل والقيام، كما جرى عقيب الزنا والسهو». فقال: هذا من هجر الكلام وألغازه. فالصيغة المذكورة موضوعة للتنبيه على التعليل، فاستعمالها لإرادة الجريان عقيبها من غير تعليل -خبط من الكلام لا يصدر إلا من [غرٍ] غبيٍ، أو ممن يؤتى عن حصرٍ وعيٍ. فإن قيل: بم تنكرون على من يقول: مستند معرفة العلل المناسبة والإخالة والإشعار المعنوي، دون التنبيه اللفظي؛ وهذه الأسباب التي ذكرتموها جميعها مناسب لمسبباتها، ففهم التعليل لذلك، لا للتنبيه من جهة اللفظ؟

قلنا: ليس الأمر كذلك. فإن هذه الصيغ للتعليل بالأسباب المذكورة وإن كانت الأسباب لا تخيل، وهذا كقوله عليه السلام: «من مس ذكره فليتوضأ» [فهو] تنبيه على تعليل الوضوء بالمس ونصبه سبباً فيه، وإن كان لا يخيل. وكذلك إذا قال: من أكل شيئًا مما مسته النار فليتوضأ»، و «من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضأ». فكل ذلك لا مناسبة فيه: فإن الأكل والمس لا ينبئان عن الوضوء؛ بل خروج المذي من المنفذ لا يناسب غسل الوجه واليدين، فإنه غسل في غير محل النجاسة؛ ويفهم بالصيغة -من حيث التنبيه -

جعله إياه سبباً. وإن أردنا أن نبعد في التصوير، حتى لا يتشوف موسوس في الفكرة إلى تكللف استنباط مناسبة من هذه الصور، فلو قال: من مس ثوباً أو جداراً أو حجراً فليتوضأ، لفهم من السببية كما يفهم من هذه الصور. فدل أن الصيغة بوضع اللغة منبهة على التعليل، دون المناسبة. ولسنا ننكر أنها إذا كانت مناسبة: كان ذلك أظهر في الظن، وأسبق إلى الفهم، وأجدر باجتلاب طمأنينة النفس. ولكن أصل التعليل لابد من فهمه. النوع الثاني: أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمراً حادثاً، فيحكم عقيبه بحكم. فجريان الحكم عقيبه وجودا، كالترتيب عليه بفاء التعقيب. ومثاله: أن يقول له واحد: أفطرت يا رسول الله، فيقول عليه السلام: عليك كفارة. فذكر الكفارة عقيب معرفته بالإفطار بإخباره: تنبيه على أن علة الكفارة هو الإفطار. وقد قال الأعرابي: «[يا رسول الله] هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان». فقال [له النبي]

عليه السلام: «أعتق رقبة» ففهم منه أنه واجب بالوقاع. وهذا مرتبته دون المرتبة السابقة، إذ لا يفهم التعليل في هذا المقام إلا إذا عرف أنه أجاب به عن سؤاله، وأنه لم يذكر ذلك ابتدأ بعد الإعراض عن كلامه .. إذ الغلام المنصوب لا سراج الدابة قد يقول لسيده: دخل فلان، فيقول السيد: أسرج الدابة، أي اشتغل بشغلك، فمالك وذكر ما لا فائدة لك في ذكره، وليس هو من شغلك؟ وذلك يفهم منه بقرينة الحال. فبقرينة الحال يعلم أن المذكور مسبب ما ذكره المبتدى. وقد تكون المناسبة فيه قرينة ظاهرة. وفي هذا، يفارق ذكر الحكم مرتباً على الفعل بفاء التعقيب؛ فإن الفعل المذكور لو لم يكن سبباً: لاختل نظم الكلام؛ وقد انتظم الكلام من [ذكر] الأمرين جميعاً: الفعل والحكم. والمتقاطعات لا يجوز نظمها وترتيبها على هذا الوجه، كما ضربناه: من مثال

الأكل والرجم، والقيام والسجود] 7 - ب [. فأما إذا لم يذكر الشارع إلا أحد القسمين [فقد احتمل أن يكون جواباً]، واحتمل أن يكون ابتداء منقطعاً عن سؤاله. فهذا وجه التفاوت في الرتبة. وهذا كما أن الرجل إذا قال لزوجته: طلقتك على ألف، فقبلت المرأة [ذلك] فقال الرجل: أرددت طلاقاً على غير ألف، ليكون رجعياً: لم يقبل [منه]، لأنه تعطيل لنظم الكلام المصرح به. ولو قالت المرأة: طلقني على ألف، فقال: طلقتك، ثم قال: أرددت بكلامي الابتداء، دون الجواب-: سمع، وكان الطلاق رجعياً: لأنه يحتمله. فإن قيل: إذا احتمل الابتداء واحتمل الجواب، فهو متردد بين التعليل وعدمه. فكيف يجوز التمسك به، ولا يبعد أن يذكر الذاكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإفطار، فلا يجيبه عنه في الحال، ويقول له: كفر، وهو يعني: كفارة وجبت عليه لسبب سابق عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرفه المخاطب، وذكر ذلك في معرض الابتداء: تجديدًا لأمر سابق، وابتداء بيان وجوب الكفارة بسبب سابق، اعتماداً -في الاقتصار على قوله كفر -على فهم المخاطب، بقرينة [الحال]، وهذا الاحتمال أيضاً لا يندفع بالمناسبة. فليس كل

ما يذكر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -مما ينسب الأحكام -يترتب عليه ما يناسبه. فكم من المناسبات والإخالات [التي] عطلها الشرع، ولم يلتفت إليها، ولم يحكم بموجبها، ولا أقام لها في نظره وزنا؟ قلنا: نعم، المناسبة لا تدفع هذا الاحتمال، ولكنها قد تنتهض قرينة للمشاهد الحاضر. وقد يكون عدم المناسبة معرفاً كونه مبتدئاً غير مجيب، فيبقى قوله: «كفر» في حقه، كما لو ابتدأ بالكلام [و] قال لداخل عليه: كفر؛ فالسامع يعلم أن هذا اعتماداً على فهم المخاطب لأمر سابق. فمن شاهد الحال يحكم عقله وذهنه. وإنما النظر فينا؛ فإنا نعتصم بالمنقول، والقرائن لا تنقل. ومع هذا، يجوز التعلق بمثل هذه الواقعة في التعليل. لأن الراوي شاهد الحال وعرفه؛ فإذا روي لنا: «أن أعرابياً قال: هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان؛ فقال عليه السلام: أعتق رقبة»، فهم من أنه فهم الجواب؛ إذ نقله بهذه الصيغة، وهو: ترتيب كلامه على كلامه بفاء التعقيب.

وإذا قال: «دخل فلان وقال: أفطرت يا رسول الله، فقال عليه السلام: «كفر»؛ أشعر قوله «فقال» إنه قال جواباً فهمه بقرينة الحال، فصار كما لو قال الراوي: «فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: «كفر»، ولو نقل صريح الجواب: لفهم التعليل. فإذا قال: «فقال كفر» نبه على أن ما ذكره جواب ولو لم [يكن] جواباً: لكان نظم الكلام من الراوي] 8 - أ [خبطاً؛ كقوله من يقول ابتداء: من أفطر فعليه كفارة؛ ثم قال: لم أرد وجوب الكفارة بالإفطار. فينسب إلى الخبط في الكلام، والعدول عن الطريق الموضوع المتقرر في الأفهام. فإن قيل: فما وجه الإنكار على أبي حنيفة رحمه الله، إذ قال: «الراوي إذا لم يكن فقيهاً، وروى ما يخالف القياس -لم يقبل وإن كان عدلاً» وما ذكرتموه يقرر مذهبه ويوجهه؛ فإن المناسبة -إذا انتهضت -قرينة؛ حتى لم يكن ذكر الكفارة عقيب ذكر السائل حكاية منام -ضرباً للمثل -كذكره عقيب الإفطار الذي هو جناية جدير بأن يمحى

ويكفر، في فهم الحاضر المشاهد. بل إذا جرى عقيب منام حكاه السائل، فهم [أنه ذكره وابتدأ كلاماً]: اعتماداً على معرفة سابقة بينه وبين المخاطب. وإذا كان مناسباً، فهم أنه جواب. فهذا يختص بدركه الفقيه المطلع على المناسبات الشرعية، والمعاني الملائمة لمعتبرات الشرع، والعادات المدركة منه في مصادر أموره وموارده. فأما العامي: فقد ينخدع بخيالٍ يظنه مناسباً، وليس كذلك. فالعدالة لا تعني في هذا المقام، بل لابد من الفقه والعلم ودرك مآخذ الشرع. فإذا نقله العامي، فلينظر: فإن وجد موافقاً لقياس الشرع عمل به؛ لأنه عدل في النقل، وما أدركناه من موافقة القياس [عدلٌ دل على فهمه] أيضاً، وأن ما فهمه كان على وجهه. وإن خالف القياس: ترك عليه، وتطرقت إليه الشبهة؟. قلنا: أبو حنيفة رحمه الله يطرد هذا فيما ينقله الراوي من تمهيدات الشرع وابتداآته، كقوله عليه السلام: «من اشرى مصراة فهو بخير النظرين» إلى آخره. ولا يجري ما ذكره فيه. فإن حفظ الكلام

ونقله على وجهه، لا يفتقر إلا إلى العقل والحفظ والعدالة المانعة من التغيير، فكذلك الجواب والخطاب. وأما ارتباط أحدهما بالآخر فيفهم بالقرائن، ويشترك في دركها كل من له حس سليم، وعقل مستقيم لا خبل ولا عته فيه. ولسنا ننكر مع ذلك تفاوت الناس في درك الأمور؛ ولكن ذلك أمر لا ينضبط؛ فيتطرق إلى العوام فيما يوافق القياس؛ فإنهم يتفاوتون أيضاً في فهمه، وليست القرائن مقصورة على المناسبات. ويتطرق أيضاً إلى الفقهاء فيما ينقلونه على مخالفة القياس. ولذلك قال عليه السلام: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها؛ فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه». وقوله عليه السلام، أفقه منه: أشعر بكونه فقيهاً في نفسه، وبين أن المعاني يتفاوت دركها من الألفاظ، بتفاوت الناس في مراتب الفقه، مع الاشتراك في أصل الفقه. والظن بالعدل المتدين أن لا ينقل الشيء إلا كما سمعه، وإن غيره فلا يغيره إلا إذا

كان واثقاً بفهم المعنى. فإن تخيل أنه ربما يثق عند نفسه بفهم المعنى -وكل يعتقد في نفسه غاية الفطنة والذكاء -فهذا الخيار جار في حق الفقهاء؛ ولا سبيل إلى رد أقوالهم بالتهم. فهذا هو الوجه في دفع هذا الخيال. النوع الثالث: أن يذكر الشارع في الحكم وصفاً، ولم يصرح بالتعليل به، ولكن لو قدر ذلك الوصف غير مؤثر في الحكم وغير موجب له: لكان خارجاً عن الإفادة، ولم تظهر لذكر ذلك الوصف فائدة. فيكون ذكر الوصف تنبيهاً على أنه العلة. ولهذا القسم أنواع: أحدها: أن يقع السؤال المذكور في معرض الأشكال بذكر وصف.

كما روي: «أنه [صلى الله عليه وسلم دعي إلى ضيافة فأجاب، ودعي إلى أخرى فأمتنع فروجع في ذلك فقال: إن في تلك الدار كلباً، فقيل له: في تلك الدار هرة، فقال]: إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات». فلم لم يكن للطواف والمخالطة في البيوت تأثير في الحكم، لكن كقوله: إنها ليست صفراء، وما يجري هذا المجرى. وقيل: «إنه قال ذلك لأبي قتادة لما تعجب من إصغائه الإناء لها» [فكان ذكر] هذا الوصف في دفع تعجبه، كذكره في دفع الإشكال.

من هذا القسم: أن يذكر وصفاً في محل الحكم لا حاجة إلى ذكره، وإن جرى ابتداء. كما روي: «أنه عليه السلام توضأ بنبيذ التمر وقال: تمرةٌ طيبةٌ، وماء طهور». ولو لم يكن ذلك علة مؤثرة في جواز الوضوء الذي صدر منه، لم يكن له فائدة: إذ علم أن أصل النبيذ تمرة طيبة، وماء ظهور. فلم تكن الفائدة في ذكره تعريف عينه، بل هو تعريف كونه علة الجواز. فإن قيل: عندكم أن الحديث صحيح، وإن التوضوء بنبيذ التمر غير جائز [فكيف يجوز التمسك به]؟. قلنا: التوضوء بما توضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم جائز، والحديث صحيح، ولكن المراد به: ما نبذ فيه تميرات لاجتذاب

ملوحته، على عادة العرب فيما يعدونه للشراب. فدلت هذه العلة على جواز التوضوء به سفراً وحضراً، وعلى جواز الغسل [به] وإن ورد في الوضوء: لاطراد العلة، إذ لو كان المبيح له هو السفر لما استقام هذا التعليل. ولا يحمل على النبيذ؛ إذ وصفه بهذه الصفة كوصف العصيدة بأنها تمرة طيبة وماء طهور. بل نحمله على ما يتميز فيه التمر بعينه عن الماء، ولم تجر بينهما إلا ملاقاة. ومن هذا القسم: قوله عليه السلام: «لعن الله اليهود: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» نبه على أنه علة اللعن، وتنبهنا به على تحريم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. ولو لم يكن كذلك: لم يكن لذكر اتخاذهم [القبور] مساجد معنىً في هذا المقام. ومن الخيال الباطل، أن يقول القائل: أخبر عن لعنهم وهم ملعونون، ولم يذكر سببه: لأن سببه الكفر؛ وأخبر عن اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. فهما خبران عن مخبرين، لا اتصال لأحدهما بالآخر.

وفساد هذا الخيار غير خاف على ذي بصيرة، إذ فهم [منه] الإنكار عليهم باتخاذهم القبور مساجد، ومستند الفهم اللعن السابق ذكره، ففهم أنهم لعنوا بهذه العلة، وإن لعنوا أيضا بعلة الكفر. ومن هذا القسم، الاستنطاق بوصف مع التقرير عليه. كقوله عليه السلام: «أينقص الرطب إذا جف»؟ فلما قيل: نعم، قال: «فلا إذن». وفيه تنبيه من ثلاثة أوجه، أحدها: بالفاء، إذ قال مرتباً على ما ذكر: فلا [إذن] والآخر بقوله: [لا] إذن فإنه للتعليل. والآخر: بالاستنطاق والتقرير على الوصف المنطقوق به. فلو حذف الفاء وحذف قوله: إذاً، وقال بعد قولهم: «ينقص الرطب»: لا، مقتصراً عليه -كان التنبيه باقياً، إذ لو لم يكن النفي المذكور بقوله: لا، معللاً بالوصف المذكور، لم يكن الاستنطاق [به] فائدة. فقد تراكمت وجوه التنبيهات،

فلأجله ظهر حتى لا يسع خلافه لمنصف عاقل، وترقى في الظهور إلى رتبة التصريح والتنصيص. ومن هذا القسم، أنه يجيب على محل السؤال بذكر نظيره، فيعلم أن وجه التنبيه هو العلة في الحكم، إذ لولاه لم يكن ذكر النظير جواباً. وذلك كقوله عليه السلام لعمر رضوان الله عليه -وقد سأل عن قبلة الصائم -: «أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته»، تنبيهاً على أن القبلة مقدمة قضاء [شهوة الفرج]، وليس فيها قضاء شهوة الفرج، كما أن المضمضة مقدمة قضاء شهوة المعدة [وليس فيها قضاء شهوة المعدة]. فعدم قضاء الشهوة سبب عدم الإفطار، لأن سبب الإفطار قضاء الشهوة، فانتفى الحكم بانتفاء سببه. ففهم على الجملة تأثير الوجه الجامع بين محل السؤال والنظير المذكور في الحكم الواقع على الاشتراك.

[وهذا تنبيه من الشارع -عليه السلام]-على أصل القياس في الشرع. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لامرأة سألته عن الحج عن أبيها: أتجزيه لو أدته. فقال عليه السلام: «أرأيت لو كان على أبيك دينٌ فقضيتيه [أيجزيه ذلك] فقالت: نعم، فقال: «فدين الله أحق بالقضاء». فإن قيل: ألاقيس عليه الصوم والصلاة؛ وكل ذلك دين من جهة الله عز وجل ثابت في الذمة، وقد ظهر علة جواز القضاء بزعمكم، وهو: كونه ديناً؟ قلنا: لأنه شبهه بدين عرف من جهة الشرع تطرق النيابة إلى أدائه، وعرف أن الحج أيضاً تتطرق النيابة إلى أدائه، وعرف أن الصوم

والصلاة لا مدخل للنيابة في تبرئة الذمة عنهما؛ فالأدلة المعرفة للجمع والفرق في النيابة تخصص العلة بالحج، وتقطع عنه الصوم والصلاة. وليس في ذلك إبطال العلل. كما أن السرقة خصصت بما فوق النصاب بدليل، ولم يدل ذلك على إبطال العلة. وكذلك كل علة ذكرت في محل واختص المحل بمزيد وصف يؤثر في الحكم، فلا سبيل إلى تعطيل ذلك الوصف. النوع الرابع: أن يفرق الشرع بين شيئين في الحكم، بذكر صفة فاصلة. فهو تبنيه على أن الوصف الفاصل هو الموجب للحكم الذي عرف به المفارقة. وهو ضربان: أحدهما: أن يقتصر في الحال على ذكر أحد القسمين، فيقطعه عن عموم ذكره ومهده. [وهذا] كقوله عليه السلام: «القاتل لا يرث». فإنه

تقرر أن القريب وارث، فإذ أبان أن القاتل لا يرث، علم أن القتل المذكور هو العلة في نفي الإرث، ولولاه لم يكن لإضافة الحكم إليه وتعريف محل الحرمان به، معنى. وليس هذا مأخوذاً من المناسبة. فإنه لو قال: الطويل لا يرث، والأسود لا يرث، لكنا نقول: الطول الفاصل والسواد الفاصل، مناط الفصل، ومتعلق حرمان الميراث. فإن قيل: إذا لم يعقل بين الطول والسواد وبين الحرمان للميراث مناسبة، ولا عرف له تأثير فيه، كيف يقال: إنه علة؟. قلنا: لا سبيل إلى جحد كونه أمارة للحكم ومناطاً له، فإن امتنع ممتنع عن تسميته علة: فلا مشاحة في الاطلاقات؛ والعلل الشرعية أمارات، والمناسب المخيل لا يوجب الحكم بذاته، ولكن يصير موجباً بإيجاب الشرع ونصبه إياه سبباً له. وتأثير الأسباب في اقتضاء الأحكام عرف شرعاً، كما عرف كون مس الذكر وخروج الخارج [من السبيلين] مؤثراً في إيجاب الوضوء وإن كان لا يناسبه، وكما عرف كون القتل والزنا والسرقة أسباباً لأحكامها إلى تناسبها. فإذا كان معرفة الأمارات تنبيهات أو تصريحات: لم يفارق المناسب غير المناسب، إلا أن المناسب أجلى وأسبق إلى الفهم مما لا يناسب.

وقد تكون المناسبة -على تجردها -شرطاً مستقلاً، لكون الحكم المجرد الثابت على وفقها تنبيها على اعتباره والتعليل به -عند فريق من العلماء، دون فريق. فالتنبيه إذا استند إلى مجرد ذكر الحكم، فارق المناسب غير المناسب. فإذا قال الشارع، حرمت عليكم شرب الخمر» فهو تنبيه على أن تحريمه لكونه مسكراً، مزيلاً للعقل: الذي هو ملاك التكليف، ومركب أمانة الشرع، ولا تنبيه على كونه معللاً بحمرتها القانية، ولا برائحتها الفائحة، ولا بتسمية العرب إياها خمراً، لأن هذه الأوصاف لا تناسب، ولا يحصل التنبه عليها بمجرد ذكر الحكم. فهذا مأخذ الفرق لا غير. وكذلك إذا فرق بينهما بذكر الغاية. كقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} لو اقتصر عليه. وكذلك قوله جل من قائل: «ولا جنباً إلى عابري سبيل حتى تغتسلوا}. وكقوله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} فهذا كله تنبيه على أن ما جعل غاية للحكم مؤثرٌ وسببٌ في ارتباطه. وكذلك ما يجري على صيغة الاستثناء، كقوله سبحانه وتعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم

الأيمان» تنبيه على أن للتعقيد تأثيراً في المؤاخذة. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «للراجل سهم، وللفارس سهمان» فهذا يدل على أن المؤثر في التفضيل ما بينهما: من التفرقة. وكذلك لما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بعد العصر والفراغ من فرضه، فقيل له: يا رسول الله، أما كنت نهيتنا عن هذه الصلاة؟ فقال: «هما ركعتان كنت أؤديهما [بعد الظهر] فشغلني عنهما الوفد». [فعلم أنه] ذكره في معرض الفرق بينه وبين

المنهي عنه. فما وقع به التفرقة علة، وهو استنادها إلى سبب أو إلى فوات. فعلم أن كل ما له سبب خارجٌ عن النهي. وليس لقائل أن يدعي اختصاص الاستثناء بركعتي الظهر، إذ شغله عنهما الوفد على الخصوص، فإنه جمود على الصورة، وذهول عن المعقول بالكلية. النوع الخامس: النهي عما يمنع من الواجب، تنبيهاً على أن تحريمه لكونه مانعاً من الواجب. كقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}. فإنه

أوجب السعي، والتعريج على البيع مانع؛ فكان تحريمه لكونه مانعاً. فلا جرم انعقد [البيع] وفارق البيع المنهي عنه لعينه. فإن قيل: وبم عرف هذا، وهلا قيل: السعي إلى الجمعة مقصود بالإيجاب، والمنع من البيع أيضاً مقصود؟ قلنا: فهم ذلك [من] سياق الآية فهما لا يتمارى فيه. فإن قيل: «السياق عبارة مجملة، فما معنى السياق؟ وما مستند هذا الفهم؟ قلنا: المعنى به: أن هذه الآية في سورة الجمعة إنما نزلت وسيقت لمقصد: وهو بيان الجمعة، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم} الآية، وما نزلت الآية لبيان أحكام البياعات ما يحل منها وما يحرم. فالتعرض للبيع -لأمر يرجع إلى البيع في سياق هذا الكلام -يخبط الكلام ويخرجه عن المقصود، ويصرفه إلى ما ليس مقصوداً به. [وإنما يحسن التعرض للبيع إذا كان متعلقاً بالمقصود]، وليس يتعلق به إلا من حيث كونه مانعاً للسعي الواجب؛ وغالب الأمر في العادات جريان التكاسل والتساهل في السعي بسبب البيع، فإن وقت الجمعة يوافي الخلق وهم منغمسون في المعاملات.

فكان ذلك أمراً مقطوعاً به لا يتمارى فيه. فعقل أن النهي عنه: لكونه مانعاً من السعي الواجب، فلم يقتض ذلك فساداً. ويتعدى التحريم إلى ما عدا البيع: من الأعمال والأقوال وكل شاغل عن السعي، لفهم العلة. ومن هذا القبيل، قوله تعالى: {فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما} فإن الآية سيقت لقصد معلوم، وهو: الحث على توقير الوالدين وإعظامهما واحترامهما، والبر والإحسان إليهما. والتأفيف

إيذاء، والإيذاء يناقض الأعظام الواجب؛ فالضرب وأنواع التعذيب يشتمل على مثل ذلك الإيذاء، فهو بمناقضة الواجب أولى؛ فقد وجد فيها العلة وزيادة؛ فكان ذلك اعتباراً بطريق الأولى. ولقد ثار بين الأصوليين خلاف في مستند هذا الفهم، بأن تحريم الضرب بتحريم التأفيف قياس أم لا؟ فقال قائلون: [هو] قياس. وقال آخرون: لا، بل هو مفهوم من نفس اللفظ. وقال قائلون: مفهوم من فحوى اللفظ. وقال آخرون: مفهوم من سياق الآية: وهو الذي كان يشير إليه إمامي رضي الله عنه. وهذه أقاويل محتملة. والذي يتحصل منه أن يقال: تحريم الضرب معلوم من تحريم التأفيف؛ فيحتل أن يحال [به] على دلالة نفس اللفظ عليه، ويحتمل أن يحال على دلالة معنى اللفظ؛ نعني به علة تحريم التأفيف. فإن استند إلى دلالة نفس اللفظ، فلا وجه لتسميته قياساً. وإن استند إلى فهم علة الملفوظ ووقوع المشاركة بين الضرب والتأفيف

في علة تحريمه، حسن تسميته قياساً، ولم يمنع [منه] كونه جلياً، سابقاً إلى الفهم، مستغنياً عن الاستنباط والنظر -بعد وقوع المشاركة. فكون القياس مظنوناً أو مشكوكاً فيه ليس من حد القياس؛ وإنما القياس عبارة عن «إثبات مثل حكم الأصل في الفرع، لمشاركته إياه في العلة». ثم ينقسم إلى معلوم إلى مظنون؛ والمظنون ينقسم إلى جلي وخفي؛ والمعلوم ينقسم إلى أولي بديهي، وإلى فكري نظري. فما كان مقدماته جلياً سابقاً إلى الفهم: لم يفتقر فيه إلى نظر وتفكر؛ وهذا -إن تخيل -استناد العلم به إلى نفس اللفظ، لا إلى فهم علة حكم الملفوظ [به]. ولم يخل إما أن تكون دلالته من حيث اللغة، وإما أن تكون دلالته من حيث العرف؛ وباطل أن يتخيل دلالته من حيث اللغة، إذ قول القائل: لا تقل له أف؛ ليس موضوعا للنهي عن الضرب لغة، إذ يجوز أن يقول الملك -المستولى على [واحد من] الأكابر -لغلامه: لا تقل له أف، ولا تنهره ولا تقطع يده، ولا تفقأ عينه، واقتله»،

والمعنى به، النهي عن الاستخفاف به مع الأمر بالإهلاك؛ فهو بوضع اللسان غير دال عليه. وإنما مظنة الخيال أن يضاف إليه من حيث العرف. فيقال: هذه الصيغة في العرف موضوعة مستعملة للنهي عن الإيذاء، [فالنهي عنه بصيغة تدل على تحريم الإيذاء في العرف]] 11 - أ [فكأنه قال: لا تؤذ والديك ولا تستخف بهما؛ ولو قال ذلك لكان تحريم الضرب مأخوذاً من اللفظ -: لأنه يندرج تحت عموم الإيذاء -لا من القياس، فإن التأفيف أقل درجات الإيذاء، فالنهي عنه بصيغته يدل على تحريم الإيذاء في جنسه من حيث العرف. وهو كقول القائل: ليس لفلان حبة، يدل على نفي ما فوق الحبة عرفاً، وإن لم يتعرض له. وقوله عز وجل {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره} يدل على أن من يعمل مثقال ذرات خير، يره أيضاً، لا بطريق اللغة والتعليل، بل بطريق العرف. وكذلك قول القائل: «فلان مؤتمن على قنطار» يدل بالعرف على كونه مؤتمناً على [دينار] فما فوقه، بطريق العرف، لا بطريق اللغة والتعليل.

فنقول: دلالة [الألفاظ على الشيء] أما أن تكون بطريق التعليل، أو اللغة، أو العرف؛ ولا يحكم بالإحالة على العرف إلا إذا امتنع إحالته على اللغة والتعليل: لأن التنبيه بطريق التعليل من اللغة، كما أنه بطريق الوضع من اللغة. وأما دعوى كونه مستعملاً من جهة العرف [فهذا تحكم] يصار إليه إذا حصل الفهم وامتنع له مدرك وضعي. وفي مسئلتنا، أمكن الإحالة بالتنبيه على التعليل: لظهور [إيجاب التوقير من الآية، وظهور كون التأفيف مناقضاً له بالعقل والعرف، وظهور] كون الضرب مشتملاً على ذلك الإيذاء وزيادة. فهذه مقدمات أولية استند إليها العلم بتحريم الضرب، وهو القياس بعينه. أما قوله: ليس لفلان حبة [فإنه] ينفي ما فوقه باللفظ؛ لأن ما فوقه حبة وحبات، وفي الحبات حبة، فلو كان له حبات، لكان كلاماً خلفاً، فهو من حيث الوضع دل عليه، لا دلالة له على ما دون الحبة. ولكن ما دون الحبة لا يوصف بالملك، فينتفي لذلك لا للفظ.

وقوله عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره}، من هذا القبيل، لأن في الكثير ذرات، وفي الذرات آحاد، ولا تعرض له لما دون الذرة، ولكن ما دون الذرة كأنه خارج عن التقدير والإمكان والتصوير؛ والذرة أقل القليل الذي لا أقل دونه في مقصود هذا الكلام؛ فما دون الذرة أن تصور في التقدير فهو ملحق به بطريق التعليل، وهو: أن السبب هو المجازاة على الحسنة والسيئة، وما دون الذرة حسنة وسيئة، فقد وجد سبب المجازاة، فيجازى. وقول القائل: فلان مؤتمن على قنطار: يتناول ما دون القنطار، إذ هو في القنطار موجود؛ ولا يتعرض لما فوقه، إذ يحتمل أن يكون الرجل أميناً على مقدارٍ نزرٍ، دون مقدار عظيم، فإن عرف بالقرينة أنه يريد ذكر أمانته مطلقاً، ويذكر القنطار للتكثير والمبالغة، فيكون دليلاً من حيث العرف بالقرينة. وقوله: ليس لفلان نقير ولا قطمير، لا يدل بالوضع على نفي الدراهم [والدنانير] ولا بالتعليل؛ إذ ليس في الدراهم والدنانير نقير ولا قطمير. ولا كالحبات والذرات، فإن فيها حبة وذرة، ففي نفي الآحاد نفي الجملة. ولا وجه للتعليل، إذ المنافي للنقير والقطمير

لا ينافي غيره. فما انحسم المسلكان [علم بالعرف أنه عبارة] عن أقل القليل، ثم إذا انتفى القليل فالكثير منتف لا محالة. فإن قيل: وبم تنكرون على من يقول: [إن] قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف}، عبارة عن النهي عن الإيذاء. قلنا: لأنه تحكم [لا مستند] له، إذ حمله على حقيقته -مع فهم علته، وإلحاق غيره به -ممكن، فتحويله إلى غير حقيقته -من غير ضرورة -لا وجه له، بخلاف النقير والقطمير. فإن قيل: لو كان هذا قياساً لامتنع منه من لا يرى القياس [في الشرع]، ولامتنعنا منه: لو ورد الحجر عن القياس. قلنا: إنما لا يمتنع، لأن هذا القياس معلوم، فإن مقدماته معلومة. فلو ورد الحجر عن القياس المعلوم ووجب الجمود على موضع النص، لقصرنا التحريم على التأفيف، وقلنا: الضرب لم يتعرض له النص. ولكنه يكاد يفضي إلى التناقض، إذ عرف وجوب التعظيم،

وعرف تحريم التأفيف: لكونه ضداً، وعلم أن الضرب أقوى منه في المضادة. ولا سبيل إلى دفع [علم] مقدماته معلومة على القطع. هذا تمام القول في طرق التنبيهات، ولا مطمع في حصر الآحاد: فإنها كثيرة، وقل ما يخلو كلام الشارع عن تنبيهات يفطن لها ذوو البصائر، وتكل عن فهما أفهام معظم المتوسمين بالعلم. وما ذكرناه كاف لتنبيه الفطن على أجناس هذه المدارك؛ والبليد لا يغنيه مزيد الاستقصاء، ولو استوعبت له آحاد الصور. وعلى الجملة: لكل صورة من آحاد هذه الصور مذاق مخصوص، وللعقل فيها مجال مضطرب على وجه يخص تلك الصورة. فخصوص النظر في الآحاد ليس من شأن الأصوليين، وإنما [على الأصوليين] ضبط القواعد، وتأسيس الأجناس. ثم إدخال التفاصيل في الجمل من شأن الفقهاء الناظرين في تفاصيل المسائل. وشفاء الغليل في هذه القاعدة، بذكر خيالات وتنبيهات على وجه الكشف فيها، نوردها في معرض الأسئلة والأجوبة، منعطفة على الأمثلة التي أوردناها. فإن قيل: إذا ذكر الشارع وصفاً، وأضاف الحكم إليه، ونبه على

التعليل به من الوجوه التي أوردتموها -فهي صريحة في التعليل بها؟ أم هي ظاهرة يتطرق التأويل إليها، ويجوز تغييرها بمسالك الأدلة؟ قلنا: جملة الصفات المذكورة في الأمثلة -التي نبهنا عليها، وأشرنا إلى إضافة الحكم إليها -صريح في اقتضاء كون الوصف معتبراً في الحكم على الجملة، فأما اعتباره بطريق كونه علة، أو سبباً متضمناً للعلة بطريق الملازمة والمجاورة، أو شرطاً يظهر الحكم [عنده] لسبب آخر أو يعتبر الوصف على تجرده حتى يعم، أو يضم إليه وصف آخر حتى يختص ببعض المحال -فمطلق الإضافة ليس صريحاً فيها، ولكن قد يكون ظاهراً في وجه ويحتمل غيره، وقد يكون متردداً بين الوجهين. والمتبع في ذلك موجب الأدلة، وإنما الثابت بالإيماء والتنبيه كون الوصف المذكور معتبراً على الجملة في إثبات الحكم على وجه لا يجوز إلغاؤه، بحال؛ ثم [ما] لا يجوز إلغاؤه ويتعين اعتباره فله وجوه؛ وليس من ضرورة الإيماء الدلالة عليه، بل قد يدل عليه، وقد لا يدل عليه. وهذا يحرك جملة من أسرار هذا الفصل، لا تتبين بهذا الإطلاق والإجمال، وإنما ينكشف الغطاء عنها بذكر آحاد الخيالات والأسئلة والانفصال عنها.

خيال وتنبيه: فإن قال قائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقض القاضي وهو غضبان» ورأيتم أن ذكر وصف الغضب -بعد ورود الأمر بالقضاء -فاصل بين حالة الإباحة والتحريم، فدل أنه علة التحريم؛ ويتجه [فيه] أن يقال: أن الغضب ليس سبباً للتحرير، ولكن [سبب التحريم] ما يتضمنه الغضب: من اختباط العقل، وما يعتريه: من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر، والاهتداء إلى وجه الصواب. حتى أن الغضب اليسير المنفك عن هذا الأثر لا يحرم؛ وحتى يلحق به الحاقن والجائع والذي توالي عليه ألم مبرح مدهش، وغير ذلك من الأحوال المشوشة لنظر العاقل. وفي ذلك إلغاء الغضب بالكلية، وإخراج له عن كونه علة: إذ الحكم صار منوطاً بغيره، وصار الغضب ساقط الاعتبار نفياً وإثباتاً. فكيف قلتم: إنه صريح في أصل الاعتبار؟.

فالجواب: [أن هذا] المسلك في التصرف غير منقطع عن الصفات المذكورة التي أضيف الحكم إليها، ويطرد ذلك في الأحكام المضافة إلى الأسباب: كالقطع المضاف إلى السرقة، وكذلك: الرجم المضاف إلى الزنا، والكفارة المضافة إلى [قتل الخطأ، وكذلك: الأحكام المذكورة عقيب] الأسباب الحادث، كالكفارة عند إخبارا لأعرابي عن جماعة أهله، إلى غير ذلك من الأمثلة التي أوردناها. وليس فيه تعطيل الإيماء، ولا إخراج الوصف المذكور عن كونه معتبراً في الحكم. فأصل التعليل عقل من الإضافة، ولكن احتمل أن يقال: [التحريم معلل بالغضب] لعينه، واحتمل أن يقال: هو معلل به لمعنى بتضمنه ويلازمه لا لعينه، وهو: ضعف العقل في الغضب. وكذلك روي: أنه عليه السلام «سها فسجد» فهو صريح في إضافة السجود إلى السهو وتعليقه به. ولكنه يتعلق بالسهو لعينه، أو لمعنى يتضمنه، وهو: ترك بعضٍ من أبعاض الصلاة، فتنتقص الصلاة بسببه، حتى يتعدى إلى تركه عمداً؟ فإن علق بالسهو لعينه: لم يتعد إلى العامد، وإن تعلق بالنقصان: تعدى إليه.

وكذلك [الزنا: علق الرجم عليه] لكونه زنا، حتى لا يتعدى إل اللواط: إذا لم تثبت تسميته زنا، أو لمعنى يتضمنه، وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً، محرم قطعاً؟ وكذلك السرقة: مناط الحكم لعينها، أو لمعنى تتضمنه، هو: أخذ مال محترم من حرز مثله، حتى يتعدى إلى النباش، وإن سلم تقديراً أنه لا يسمى سارقاً؟. وكذلك أوجب الكفارة على الأعرابي المجامع -بالجماع لعينه، أو لمعنى يتضمنه، وهو: إفساد صوم رمضان، حتى يتعدى إلى كل مفطر؛ أو إفسادٌ بجهة مقصودة، حتى يتعدى إلى المأكولات والمشروبات، ولا يتعدى إلى ابتلاع الحصاة والنواة، على ما اختلف فيه المجتهدون من الأئمة؟

وكذلك قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، فهو تنبيه على إضافة الإباحة إلى العدم، ولكن [إلى] العدم لعينه حتى يقتصر عليه، أو لمعنى يتضمنه، وهو: العجز الحاصل به، حتى يتعدى إلى من وجد ماء ومنعه [منه] حائل [أو افتقر إليه للسقية] ن أو افتقر في تحصيله إلى تفويت مال [كثير] أو ارتكاب خطر غيره؟ وهلم جراً إلى كل مسلك من مسالك التنبيهات دل على إضافة الحكم إلى وصف، فهذا الوجه من النظر جار فيه، وليس فيه تعطيل. فإنا نقول: الحكم معلل بالغضب، ولكن لا لعينه، بل لمعنى يتضمنه. فأصل التعليل قائم ولكن جعل الغضب -بحكم الدليل -كناية عن ضعف العقل، لأنه يلازمه غالباً. فلم يكن ذكره لغواً، بل كان مفيداً معتبراً بهذا الطريق. وغرضنا أن التنبيه الذي [ذكرناه صريح في أن الوصف] المذكور لا سبيل إلى جعله لغواً، بل لابد من اعتباره. [نعم] لاعتباره طرق، وجعله كناية عن معنى يتضمنه ليس في إلغاؤه، وهذا كما أن النهي عن الشيء مطلقاً صريح في تحريم المنهي [عنه] أو كراهيته؛ ولكن قد يدل

الدليل على أنه لم ينه لعينه، وإنما نهى عنه لغيره، وليس في ذلك إبطال [أصل النهي]. بل النهي في أصله باق، وإنما هو حوالة على معنى يتضمنه. فإن قيل: فإذا ترددت الإضافة [بين جهتين]، فمن المفتقر إلى الدليل؟ الذي يضيفه إلى عينه، أو الذي يضيفه إلى معنى يتضمنه؟ قلنا: الدليل على من يدعي إضافته إلى معنى يتضمنه؛ لأن المنطوق به هو الغضب مثلاً، فالظاهر أنه العلة، فمن يدعي أنه معلل بمعنى يتضمنه الغضب -وهو كالمكنون فيه، وكالمستنبط بالنظر -فعليه إظهاره. وهذا كما أن النهي عن الشيء ظاهره يقتضي التحريم ذلك الشيء لعينه؛ فمن أراد أن يصرفه إلى غيره فعليه الدليل] 13 - أ [والمتعلق بعين الصفة معول على الظاهر. فإن قيل: وما الدليل الذي يجوز الاكتفاء بمثله في ترك هذا الظاهر، وإحالة التعليل إلى المعنى الذي تتضمنه صورة الصفة المصرح بها؟ قلنا: ليس يمكن حصر مدارك الأدلة، فكل مسلك دل على هذا المقصد وجب قبوله. ومداركه مختلفة، ولسنا لذكره، ولكن ننبه بأدنى الدرجات على أعلاها. فقد قال الله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فهو

نهى عن البيع، وحكمنا بأنه غير منهي عنه لعينه، بدلالةٍ عرفت من سياق الآية فقط، وهو: أن الآية سيقت لمقصد، وهو: بيان أمر الجمعة، فلا يليق به أن يذكر إباحة البيع [وحظره] لأمرٍ يرجع إلى البيع في إدراجه؛ فكان العرض للبيع من الوجه الذي يتعلق به، وهو: تضمنه ترك السعي الواجب؛ فيتعدى التحريم إلى الإجارة والنكاح والأقوال والأعمال المانعة، مع الحكم بصحة البيع وسائر التصرفات: لأن النهي لا يلاقيها، ولا دليل سوى ما عرف من سياق الآية. ومن الطرق المسلطة على هذا النوع من التصرف، طلب المناسبة. إذ يقال: الغضب لا يخلو، إما أن يناط تحريم القضاء [به] لعينه أو يناط بما يتضمنه: من دهشة وضعف نظر، وتعليله بعينه تحكمٌ محض لا مناسبة فيه، وإضافته إلى ما يتضمنه مناسب لتصرفات الشرع ورعايته مصالح الخلق؛ فكانت الإضافة إلى ما يتضمنه أولى. وهذا القدر من الدليل كاف في مثل هذا المقام. فإن قيل: فهلا رد هذا التصرف: من حيث إنه لا يبعد أن يحكم الشرع باعتبار دهشة تصدر عن الغضب على الخصوص، [كما يحكم

باعتبار مشقة تصدر من السفر] على الخصوص، ولم يلحق به مشقة المرض وغيره؟ قلنا: هذا الخيال فاسد، ولو فتح هذا الباب، لا نحسم مسلك القياس، فيقال: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً لزناه، ولكن زنا ماعز على الخصوص [سبب في الحكم] دون زنا غيره -تحكماً -. وجماع الأعرابي أهله سبب [في] الكفارة حتى لا يتعدى إلى جماع غيره، ولا إلى جماع الأجنبية، ولا إلى جماع الأمة؛ ويترقى ذلك إلى التخصيص بالزمان والمكان. ويقال: لعل الشرع يحكم [بأن الزمان والمكان معتبر]. وكذلك: الربا يجري في البر لطعمه أو للكيل، ولكن المتبع الكيل في البر أو طعم البر -تحكماً -. وكل ذلك باطل لا وجه له. أما السفر، فله تأثير خاص لا يشاركه المرض فيه، إذ المجوز للقصر والجمع فيه سبب الحاجة، فإنه لو أدى الصلاة في أوقاتها وأداها بكمالها، فربما انقطع عن الرفقة، فهو سبب الجمع. والتفريق في حق

المريض على الأوقات قد يكون أيسر، إذ حاجته إلى القعود والاضطجاع وترك القيام، لا إلى ترك بعض الركعات، ولا إلى التعجيل والتأخير، فذلك افتراقاً. وأما المسح والتيمم والفطر، فكل ذلك يجوز بعذر المرض، على الوجه الذي يليق به كما في السفر. فإن قيل: أليس صورة السفر تتبع في التسليط على الترخيص وإن لم تتحقق عين المشقة، فلا ينظر إلى المشقة في نفسها، وينظر إلى السبب المتضمن لها؛ فلم يبعد أن ينظر إلى الغضب في صورته، لا في المعنى الذي يتضمنه؟ قلنا: لسنا نبعد ذلك، ولكن الأصل: أن ما علقت علته اتبعت العلة، إلى أن يدل [دليل] على إتباع السبب المتضمن للعلة، دون نفس العلة، وقد دل الدليل في السفر، ولم يدل في هذا المقام. فإن قيل: فالأحكام منقسمة في الشرع إلى ما أديرت على نفس المعاني، وإلى ما أديرت على أسباب المعاني، مع الإعراض عن جوهر المعاني؛ فما الضبط فيها؟ وكيف نفصل أحد القسمين عن الآخر؟

قلنا: هذه مغاصة عظيمة، والخوض فيها جر بنا إلى الخروج عن المقصد الخاص بالفصل الذي تصدينا لبيانه، ولعلنا نعود إلى بيانه ونذكر فيه ما يشفي الغليل: إذا ذكرنا كيفية تحديد مناط الأحكام، وقسمنا الأوصاف إلى ما يلغي ويعطل، وإلى ما يراعى ويعتبر، وذكرنا فيه دستوراً يرجع إليه في مظنة الغموض، فإنه فصل مغبوط تكثر إليه الحاجة، ويقل في كبار أهل العلم من يستقل به. والآن ننعطف على الغرض الذي كنا بصدده، ونقول: إذا ظهرت المناسبة لمتضمن الوصف، وانقطع أثر صورة الوصف، وكان اعتباره على مذاق التحكمات الجامدة التي لا تترشح منه مخايل المعنى -وجب إحالة الحكم على متضمن الوصف. فإن كان للوصف خصوص تأثير، فلا سبيل إلى إلغائه. كما أن الشافعي رضي الله عنه يدعي أن للإفطار بالجماع على

الخصوص تأثيراً في اقتضاء الكفارة، لأنها مشروعة للزجر عما تتشوف النفس إليه، ولا ينزجر الطبع عنه بمجرد تحريم الشرع. وهذه خاصية تثبت للجماع، ولا يشاركه الأكل والشرب. ولا يتمكن أبو حنيفة رحمه الله من تعطيل هذا الوصف، إلا ببيان سقوط هذا الأثر الذي ذكره الشافعي رحمه الله. وكذلك يقول الشافعي وأبو حنيفة جميعاً لمالك -رضي الله عنهم -إذا علق مالك الكفارة بكل مفطر، حتى ابتلاع الحصاة أو النواة: [إن لم يقصد تأثيراً] في تشوف النفس ومسيس الحاجة إلى الزجر. فلا نتجاسر على تعطيل هذا الوصف المؤثر. إلى غير ذلك من الأمثلة. فإن قيل: فإذا كانت المناسبة تسلط على التعليل بالمعنى، حتى يثبت الحكم وإن لم يثبت الوصف المذكور، كما يثبت من تحريم القضاء الآلام المتوالية والجوع] 14 - أ [، المفرط وغيره -: فهل تسلط على نفي

الحكم مع وجود الوصف، لانفكاك الوصف المذكور عن المعنى الذي يتضمنه؟ قلنا: نعم، فإن الغضب اليسير -الذي لا يمنع من استيفاء الفكر -لا يحرم. وأمثال ذلك كثيرة. منها: قوله عليه السلام «القاتل لا يرث»، فإن الصحيح أن القاتل قصاصاً وحداً يرث، لأنا فهمنا من القتل: أن ذلك مخصوص ببعض أنواع القتل، فإنا نقول: ليس يخلو، إما أن يناط الحرمان بالقتل لصورته، أو لمعنى يتضمنه كما ذكرناه؛ وذلك المعنى -إن كان مناسباً -لابد من اعتباره. وقد اضطرب رأي المجتهدين في مناط الحكم من القتل، وفي تعيين المعنى الذي يتضمنه. وظهر ذلك باختباطهم في التفصيل. فالقتل ينقسم إلى عمد وخطأ، والخطأ ينقسم إلى مباشر ومتسبب. فذهب عثمان البتي إلى أن الخاطئ لا يحرم، تشوفاً [منه] إلى رعاية معنى القصد، ومعارضة القاتل بنقيض مقصوده

عند تعديه وتعمده. وخالفه في الشافعي وأبو حنيفة وعامة الفقهاء. ووافقه [فيه] مالك، فقال: لا يحرم إلى من الدية التي لزمت بفعله، [واستبعد أن يكون] هو المأخذ والمصرف، فيصير كالواجب له على نفسه. ثم الخطأ ينقسم إلى مباشر ومتسبب. فالشافعي عمم الحرمان، وأبو حنيفة خصص بالمباشرة، وقال: من حفر بئراً في محل عدوان، فتردى فهي قريبه -لم يحرم ميراثه. فكأنه يقول: ليس قاتلاً تحقيقاً، فإن هلاكه حصل بتخطيه ووقوعه [فيه] لا بالحفر. والشافعي يقول: هو قاتل بدليل الدية والكفارة، فيحرم الميراث. والقتل -في حق القاتل -ينقسم إلى ما يصدر من مكلف، وإلى ما يصدر من غير مكلف. فالشافعي عمم الحرمان بقتل الصبي والمجنون. وأبو حنيفة تخيل أن هذا عقوبة، جزاء على القتل فيشترط أن يكون القاتل أهلاً

لإيجاب الجزاء، وزعم أن الخاطئ أهل بتقصيره، ولذلك يكفر. ثم القتل العمد -أيضاً -ينقسم إلى محظور، وغير محظور؛ فالمحظور -لا محالة -يندرج تحت العموم. وغير المحظور ينقسم إلى مباح: كالقتل قصاصاً، وكدفع الصائل، وقتل العادي الباغي. وإلى واجب: كالقتل حداً من جهة القاضي. فتردد الشافعي في هذه المسائل وقطع بأن كل قتل مضمون -إما بدية، أوكفارة، أو قتل -فهو موجب للحرمان. وما لا يوجب شيئاً [في هدر أو] في معنى الموت في حقه. فيتحمل التوريث، ويحتمل تعميم الحرمان: نظراً إلى الصيغة. ثم ثار -بعد هذا -اختلاف في الوصية للقاتل: فمنهم: من منع؛ وهو رأي «للشافعي»، ومذهب أبي حنيفة.

وهذا زيادة على ما تناولته الصيغة بطريق الإلحاق بالمعنى: إما تشوفاً إلى معنى الاستعجال والمعارضة بنقيض القصد، أو مصيراً إلى أن المال المستحق بالموت المطلق كله باب واحد. ولكن يستحق مرة بقرابة، وأخرى بزوجية، وتارة بوصية. والكل باب واحد. فما كان علة لإسقاط شيء منها، كان علة لإسقاط الكل. ومنهم: من فرق بين الوصية للجارح، وبين جرح [الجارح] الموصى له. نظراً إلى معارضة المستعجل بنقيض قصده. فهذه آراء مختلفة، بعضها: في الزيادة على المنصوص [كما في الوصية]، وبعضها: في النقصان من المنصوص من حيث الصيغة كما ذكرناه. ومستند الزيادة والنقصان معنى فهم من نفس النص. وكل ذلك من سبيل المجتهدين.

فأما أن نقول في جميعها: أنه صواب في حق من أدى اجتهاد إليها، مصيراً إلى تصويب المجتهدين. أو نقول: الحق عند الله واحد لا بعينه، وطريق التعيين محسوم، إذ لا مطمع في العلم ولا في الدليل، وإنما المنتهى أمارة طنية تعبد الخلق باتباعها. وحظ الأصول من جملة ذلك أن شيئاً من هذه المسالك ليس باطلاً على القطع بطريق أصولي، لا في طرف الزيادة ولا في طرف النقصان، وأن شيئاً من هذه المسالك ليس مبطلاً لأصل التعليل الذي وقع عليه التنبيه عليه بإضافة الحكم إلى القتل؛ ولكن رجع حاصل النظر إلى أن الحكم منوط بالقتل لعينه أو لمعنى يتضمنه؟. فإن نيط به لمعنى يتضمنه، فما عين ذلك المعنى وحده، وقد اشتمل القتل على معان؟. وكل ذلك في محل الاجتهاد، وليس خارجاً منه. نعم: للمجتهدين أن يتجاذبوا أطراف الكلام في ترجيح بعض هذه المعاني على بعض. فما لا يناسب من جملة متضمنات القتل -لا يجوز أن يجعل مناطاً، حتى نستخرج بسببه بعض مسميات القتل عن العموم؛ لأن

الربط بما لا يناسب تحكم محض، ومن قنع بالتحكم، فالتعلق بالصيغة أولى معتصم في حقه. فلا يجوز مخالفة الصيغة في ظاهرها بزيادة ولا نقص، إلا بظن غائب [أعلى من الجمود على الصيغة، ولا غلبة للظن إلا على معنى مناسب]. ثم إذا اشترك معنيان في المناسبة، وانتقض أحدهما أو كلاهما -فالمنقوض مردود، والرجوع إلى ظاهر الصيغة متعين. كما يقال لمن اعتبر معارضة المستعجل بنقيض قصده: هذا منقوض بالمستولدة تقتل سيدها، فتعتق وفاقاً، ومستحق الدين يقتل من له الأجل، فيتنجز استحقاقه وفاقاً. فانتقض هذا المعنى. ولو كانت هذه العلة سديدة: لجاز طردها، والقول بموجبها في المستولدة ومن عليه الدين. وإذا لم نوجد بينهما فرقاً معنوياً، انتقض معناه، ولم يصلح التعويل عليه في الفرق بين الوصية للجارح، وجرح الموصى [له]، وجرح الوارث المحجوب بقريب آخر: إذا مات حاجبه، وجرح من ليس محجوباً. ولم يجز اعتماده في إخراج الخطأ عنه، من حيث أنه لا ينسب إلى قصد الاستعجال. ومن يدعي معنى العقوبة: ينتقض كلامه بالخطأ، فإنه غير معاقب

شرعاً، فلم يصلح معناه لإخراج القتل خطأ عن العموم. وكذلك نصنع] 15 - أ [بآحاد المعاني المنقوضة. فإن فرض معنيان مناسبان لا ينتقضان، رجح أحدهما على الآخر] 15 - أ [بالتأثير: بأن يدل دليل آخر في الشرع على كون أحد المعنيين مؤثراً في جنس هذا الحكم، فهو أولى من الآخر. كقول أبي حنيفة رضي الله عنه: إن الحرمان نوع عقوبة، والقتل نوع جناية، فهو محروم بسببه، فيخرج منه القتل المباح، والقتل الواجب، وقتل الصبي»:: إذ العقوبات محطوطة عنه، ولذلك لا يوجب الكفارة عليه، لأن فيها معنى العقوبة. ويوجب الكفارة على الخاطئ: لأن في فعله معنى الجناية. فيترجح هذا على قول من ينظر إلى مقابلة المستعجل بنقيض قصده إن سلم من النقض، ولم يستعمل على طريق العقاب؛ وعلى قول من يقول: الإرث اضطراري، ولو حصل بالقتل لصار كسباً، وكان ذلك تغييراً لوضعه، حتى نطرده في كل قتل مختار مكتسب حقاً كان أو باطلاً. إذ هذه المعاني وإن كانت تناسب بعض المناسبة، فلم يظهر في الشرع

[تأثيرها في قبيل] هذا الحكم، وقد ظهر تأثير جنس القتل في جنس العقوبة. ومن يعلل ذلك بأن القتل يقطع الموالاة، فيمنع الإرث كالرق والكفر-فكأنه يتشوف إلى المعنى المؤثر، ويزعم أن القرابة بمجردها ما عرفت مؤثرة إلا مع قيام الحال المقتضى للمناصرة والمعاضدة والموالاة. واختلاف الدين والرق لما كانا مانعين من الموالاة والمناصرة والمعاضدة عرفاً -امتنع الميراث بهما مع وجود القرابة. فكذلك القتل، لأن معنى المولاة: أن يكونوا -بحكم القرابة -كالشخص الواحد متناصرين في تمهيد أسباب البقاء، ودفع أسباب الشر والهلاك، كما عهد من الأقارب. فإذا باشر القريب القتل وأعدم قريبه وأهلكه، استحال تقدير الموالاة مع ذلك. وهذا تشوف إلى طلب معنى عرف في الشرع -في غير هذا الموضع -تأثيره. ولكنه يكاد أن يكون كلاماً إقناعياً في المسئلة، و [في] الأصل المستشهد به، إذ ليس يتبين تعليل منع الإرث بالرق والكفر لانقطاع الموالاة، ويكاد يخرج هذا المعنى عن الضبط والفهم، فإن أسباب

الموالات وحقيقة الموالاة ليس ما يوقف عليه. وسننبه على وجه الفرق بين الكلام المناسب حقيقة، وبين الكلام الإقناعي المخيل في [مبدأ الإطلاق]-على وجه يتميز عن الطرد الذي لا يناسب، ثم إذا ما سلط البحث عليه: رجع حاصله إلى غير طائل. وليس الآن [من] غرضنا اعتبار هذه المعاني، وبيان الصحيح منها والفاسد، وإنما ذلك موكول إلى نظر المجتهدين. وغرضنا أن كل ذلك من مسالك [التصرفات في الزيادة على النصوص] والنقصان منها. فإن قيل: فلو ظهر في مثل هذا الأصل معنيان مناسبان، ولم يترجح أحدهما على الآخر بالتأثر، أو ترجيح -فهلا علل بهما جميعاً، ولم وجب الترجيح بالتأثير وغيره بعد الصلاح للتعليل، وهما متوافقان في اقتضاء الحكم، ولا تعاند ولا تضادد بينهما؟ قلنا: سنبين -في الركن الثاني من أركان القياس -محل جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين، ووجه النظر فيه: عند البحث عن شرائط الأصل الذي منه الاستنباط. ونأتي فيه بشفاء الغليل إن شاء الله

تعالى. فإن قيل: إن من مشهور كلام الأصوليين: أن كل علة مستنبطة من أصل، عكرت على الأصل بالتخصص -فهي باطلة. وإن من شرط تعليل الحكم أن لا يتضمن تغييراً لحكم المنصوص عليه. ومهما اقتضت الصيغة العموم، ثم تخصصت بعلة مستنبطة منها -فقد تغير حكم النص، وعكرت عليه العلة بالتخصيص. فكيف جاز ذلك؟ قلنا: الكلمات التي تداولتها الألسنة لا سبيل إلى تقليدها، دون البحث عن مداركها وأدلتها، وإنما إتباع صورها دأب العجزة الذين قعدت بهم البلادة عن الارتقاء إلى بقاع المعاني المعقولة، بالرأي الصائب والذوق السليم، فلازموا -بحكم القصور والعجز -حضيض التقليد، وركنوا إلى ما تداولته الألسنة من غير غوصٍ على خفيات أسرارها، وتشوفٍ إلى العثور على أغوارها.

وهذا مزلة قدم لابد من الاتئاد فيه. فنقول أولاً: أظهرنا من تصرفات العلماء في الإرث للقاتل، النقصان من النصوص بالمعنى المفهوم من النص، كما عرف بالاتفاق الزيادة على المنصوص بالمعنى المعقول منها. وأمثلة ذلك كثيرة: من جملتها: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض. وإضافته التحريم إلى عدم القبض، وتنبه على التعليل به -معلوم على القطع. ثم اتفق الناظرون على أنه غير منوط بعدم القبض لصورته، واضطربوا في معناه. فمنهم من قال: هو لتوالي الضمانين بسبب عدم القبض. فيخرج من العموم البيع من البائع: [فإنه لا يؤدي إلى توالي الضمانين.

ومنهم من قال: هو لضعف الملك بسبب عدم القبض. فيخرج البيع من البائع]. ويخرج منه الاستبدال عن بدل المتلفات: فهو جائز وإن كان قبل القبض. وقال أبو حنيفة [هو] لتضمنه غرراً، من حيث [إنه] يتوقع انقلاب الملك إلى البائع الأول، بالتلف قبل القبض، فيتبين بالآخرة كون البائع الثاني [غير مالك بل] بائعاً ملك الغير، فيكون غرراً. فيخرج منه العقار. وهو تشوف منه إلى طلب معنى ظهر بالشرع تأثيره في غير هذا المحل. وهو -أبداً -يطلب للأحكام عللاً بان بشهادة الشرع تأثيرها، ولا يكتفى بالمناسبة. على ما سنذكره في طريق إثبات العلة بالتأثير والمناسبة.

وليس من غرضنا النظر في آحاد الأمثلة، وإنما القصد من نقله: أن النقصان من النصوص -بالمعنى المفهوم من النص -مقول به وفاقاً، كالزيادة عليه بالمعنى المعقول منه: لتركن النفوس إلى قبول هذا من حيث النقل. ثم لاركون إلى الوفاق والخلاف في هذا الفن، وإنما المستند [هو] الدليل [وقضيته]. والذي يظهر لنا في ضبط هذا النوع من التخصيص، وما يجوز منه وما يمتنع -والعلم فيه عند الله تعالى -أن المعاني المفهومة من النصوص، تنقسم: إلى: ما يسبق مع اللفظ إلى الفهم سبقاً لا يتراخي عنه، وقد يكون المعنى أسبق إلى الفهم من اللفظ، وقد يكون مساوياً له، وقد يتراخى عنه قدر التأمل القليل من فهم البصير؛ وإلى ما لا يسبق إلى الفهم، ولكنه يستنبط بالسبر والنظر، ويستبان بدقيق الفكر. وهذا الانقسام في الأصل معلوم، وهو من قبيل الغضب الذي ذكرناه: إذ لا يسبق إلى الفهم منه إلا اضطراب العقل: إذ ذكر مقروناً بتحريم القضاء. وكذلك قال الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً} الآية، لا يسبق إلى الفهم من الأكل معنى الأكل، وإنما يسبق

إليه معنى الاحتياج والتفويت للمال، حتى يعلم، -على الارتجال، أو بأدنى تأمل -أن الظلم: بهبة ماله، واعتاقه، والتبرع به، وإتلافه وإحراقه، وإلقائه في البحر، وغير ذلك من وجوه الاتلافات -كالظلم بالأكل. [بل] يكاد يصير الأكل كناية عن الاتلافات، والغضب كناية عن زوال العقل. وكذلك إذا قال: القاتل لا يرث؛ فالسابق إلى الفهم من هذا: الجناية على الروح، والتعدي بالقتل. فيسبق هذا المعنى إلى الفهم من اللفظ. فما يجري هذا المجرى، فتحكيمه في النقصان والزيادة، وتغيير الحكم إلى الخصوص من العموم، وإلى العموم من الخصوص -جائز على نسق واحد: من حيث أن من منع العلة التي تعكر على الأصل بالتخصيص، منع من حيث أن القياس ليس تفسيراً للألفاظ. فيجب معرفة الحكم أولاً، ثم طلب علته. وهذا: فيما يتقدم الحكم في الفهم على العلة [والمعنى] ولا يكون المعنى قرينة. فالمعنى -في هذه الأمثلة ونظائرها -سابق إلى الفهم، وهو قائم مقام القرينة المفسرة للفظ، المقررة لمعناه في الفهم. فلم يكن من ذلك القبيل. ومن هذا الجنس، قوله عليه السلام: «لا نكاح إلا بولي

وشهود» فإنه يعم العدل وغيره؛ وليس ببعد عندي -لو لم يرد قوله عليه السلام «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» -أن يخصص الحديث بالعدل: من حيث أن ذكر الشهادة مقروناً بالعقد لا يسبق منه إلى الفهم إلا معنى الاحتياط؛ فإخراج المحدود في القذف، ومن لا احتياط في نقله -بهذا النظر -جائز؛ وحاصله يرجع إلى تخصيص اللفظ بقرينة، ولكن صار المعنى المفهوم -السابق إلى الفهم السليم -قرينة. فأما ما لا يسبق إلى الفهم، ويستنبط بالتأمل والنظر -فلا يتجاسر به على كل تخصيص، ولا يحسم أيضاً باب التخصيص به. بل يجوز أن يعتمد [عليه] ويخرج به عن اللفظ، ما يقع موقع النادر البعيد عن الفكر، بالإضافة إلى المراد؛ وهو: الذي لا يخطر بالبال إلا بالإخطار، ويقع نادراً في قبيل ذلك الحكم.

وهذا كقوله عليه السلام: «أيما أهاب دبغ فقط طهر»، فقد ذكر للطهارة سبباً وهو: الدباغ، واقتضى عمومه طهارة جلد الكلب بالدباغ. وقد استنبط الشافعي -رضي الله عنه -من الدباغ معنى، بالنظر الصحيح والفكر المستقيم: وهو أن الدباغ يبعد الجلد عن العفونات، ويعصمه عن الفساد، ويؤثر فيه مثل تأثير الحياة، ويقوم مقامها في التأثير واقتضاء الطهارة. فهذا تعليل هذا السبب، و [هو] نزوله منزلة الحياة: في اقتضاء الطهارة. واقتضى مساق هذا الكلام إخراج جلد الكلب منه، بعد ما [تناوله؛ بدليل] أن الكلب نجس في حال الحياة.

فهذا نوع تخصيص بعلة مستنبطة من المخصوص. وليس أمثاله ممنوعاً: إذ الممنوع التغيير، والتغيير يقع بعد استقرار العموم، وتناول اللفظ للكلب، بمجرد الصيغة، ليس مستقراً معلوماً [حتى] لا يغير إذ العام يطلق ويراد به الخاص، وهو غالب في عادة العرب؛ فكان استقراره في التناول له موقوفاً على أن لا يتبين مدرك آخر لتقرير اللفظ وتنزيله؛ وإذا ظهر المعنى بالتأمل: فخروج بعض ما تناولته الصيغة بعمومها -وهو بعيد عن الفكر -لا يمنع صحة هذا الاستنباط مع ظهوره. فيقال: المعنى مفهوم، والمخرج نادر خارج عن الفكر والذكر، واتباع المعنى أولى من الجمود على محض الصيغة؛ وخروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع -عند التعرض للدباغ -ليس بعيداً، بل هو الغالب الواقع، ونقيضه هو الغريب المستبعد. فتجاسرنا على هذا التخصيص -وإن لم يكن المعنى سابقاً إلى الفهم، جارياً مجرى القرائن المفسرة من حيث إنه تبعد إرادة الكلب، ولم يبق لدخوله مستند سوى مجرد الصيغة مع إمكان إرادة العموم.

وأما ما لا يستنبط من نفس المخصوص، فينقسم: إلى ما يستنبط من أصل ورد مخصصاً وإلى ما يستنبط من قاعدة [لا تتعرض بظاهرها للعموم بالتخصيص، وإنما تتعرض له بمعناها المستنبط منها]. أما ما يستنبط من أصل ورد مخصصاً، فمثاله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: من النهي عن الصلاة بعد الفراغ من العصر، فإن ذلك يقتضي عموم النهي في جميع الصلوات، ولكنه عليه السلام روى: «أنه صلى بعد العصر ركعتين، فقالت له أم سلمة رضي الله عنها: أما كنت نهيتنا عن هذه الصلاة؟ فقال: هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فشغلني عنها الوفد». فنبه به على [أن] اشتغاله به سبب اقتضى الصلاة. فيقاس عليه كل صلاة لها سبب؛ ولا سبيل إلى الاقتصار في التخصيص على ركعتي الظهر: إذا شغل عنها الوفد على الخصوص. فما عداها -من الصلوات

التي لها أسباب -دائرة بين أن تكون في محل العموم، أو داخلة في الخصوص؛ فانجذبت إلى المخصوص بالنص، برابطة العلة التي جرى التنبيه عليها. فأخرج عن العموم، وبقى النهي مقصوراً على التبرع بالصلاة المبتدأة التي ليست لها أسباب. وليس يشترط في هذا الجنس أن يكون المستخرج من اللفظ بحكم الخصوص نادراً، والباقي] 17 - أ [غالباً. لأن الحديث المخصص ورد مضاداً للعموم في بعض أطرافه؛ فسقط التعلق بعموم الصيغة، ووجب المصير إلى تقدير قرينة مفهمة مقتضى اللفظ فيما أراده الشارع عليه السلام. فالقرائن قد تحمل الألفاظ على ما يعد نادراً بالإضافة إلى مطلقة، فتأثير القرائن عظيم ظاهر، حتى قد نبعد في تصوير القرائن؛ فإذا ورد حديثان متضادان في ظاهرهما، وافتقرنا في الجمع إلى تقدير قرينة لم تنقل -فعلنا ذلك، وإن كنا لا نتجاسر على مثله بمحض القياس. وهذا كحديث الربا في النقد، فإنه رواه عبادة بن الصامت

وجماعة. وروى أسامة بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: إنما الربا في النسيئة». وهذا صريح في الحصر ونفي الربا في النقد. وإليه ذهب ابن عباس وعامة أصحابه، وسعيد وعروة. ولكن: حديث الربا في النقد رواه أبو سعيد، وأبو

هريرة، وابن عمر، وعبادة بن الصامت. فهم أوثق وأكثر. وهذا وإن لم يكن فيه مطعن أيضاً، ولكن لا ضرورة في جعله ناسخاً، ولا في تكذيب الراوي؛ فنجمع بينهما ونقول: لعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -[سئل عن] صنفين مختلفين: إذا بيع أحدهما بالآخر: من ذهب وفضة، أو تمر وحنطة، متفاضلاً. فقال عليه السلام: «إنما الربا في النسيئة»، وأراد به ما سئل عنه. وهذا وإن كان تقدير قرينة لم تنقل، ولكنه محتمل. وإغفال الراوي لسبب الجواب، واقتصاره في النقل على كلامه -ممكن وإن كان بعيداً؛ فهو أولى من تكذيب العدل، أو نسخ ما هو ثابت في الشرع من غير ثبتٍ. مع أن التأريخ ليس بظهر في التقدم والتأخر، والبعيد يصير قريبا بالإضافة [إلى الأبعد]؛ ويتعين المصير إلى الأقرب فالأقرب، عند تعارض الجهات، ولهذا لا يجوز الهجوم على مثل هذا التقدير، بمحض الرأي والقياس؛ لأن مخالفة القياس ليس بأبعد من مثل هذا التقدير. فليتأمل الطالب المسترشد مراتب النظر، ومدارك الكلام. وليعلم أن إطلاق الكلام بقبول كل تخصيص، أو إبطال كل تخصيص، أو الاقتصار

في التخصيص والإخراج على ما يقع نادراً بالإضافة إلى المستبقي، أو وجوب التخصيص بالمعنى المستنبط من غير النص، لا بالمعنى المفهوم من النص -كل ذلك خلف من الكلام: يطلقه من لا يُحيط بجميع أطراف النظر؛ فتصدى له صورة [حكم فيها] بقضية، فيحكم على الإطلاق بتلك القضية [لكل صورة. وذلك] يورث الضلال والجهل، ويعمى [عن] طرق الصواب والحق. هذا كله فيما يستنبط من نص ورد مخصصاً أو معارضاً [بظاهره] أو بفهم من نفس النص المتصرف فيه بالتخصيص. القسم الآخر: ما لا يستند [المعنى فيه] إلى نفس النص، ولا إلى معنى مستثار من حديث صريح] 17 - ب [في تخصيص النص؛ ولكن يستمد من قاعدة أخرى منفصلة عن مورد النص. فهو التخصيص بالقياس، المطلق في لسان الفقهاء. مثاله ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: «أنه نهى عن بيع

الكلب وثمنه» فاقتضى عمومه تحريم بيع كل كلب. فأراد أبو حنيفة رحمه الله إخراج كلب الصيد والماشية من عموم النهي، وقصر النهي على الكلب الذي لا منفعة فيه: مما يقتني إعجاباً بصورته، واستئناسا بمخالطته، وكذلك سائر الكلاب السلوقية التي لا منفعة فيها. ويستند في هذا التخصيص إلى القياس على سائر السباع والأموال؛ والجامع: أن الكلب مال منتفع به، فجاز بيعه كسائر الأموال، ومعناه: أن المال عبارة عن كل ما يتعلق به غرض الآدمي مما سوى الآدميين [الأحرار]. فبهذا الوصف يصير مالاً، وبه يصير قابلاً للبيع، هذا المعنى جار في الكلب. فهذا قسم من التخصيص: يدور بين الرتبتين السابقتين؛ فلا يشترط فيه أن يكون المخرج نادراً؛ فإن كلب الصيد والماشية لا يقع نادراً في الذكر عند التعرض لبيع الكلب؛ بخلاف المعنى المستنبط بالنظر من نفس النص: فإنه لا يجرى -في غلب الأمر -إلا على إخراج ما يقع نادراً بالإضافة إلى المذكور؛ ولا يحتمل فيه أن يكون المستبقى تحت اللفظ نادراً: بحيث يفتقر في إرادته لعموم اللفظ، إلى قرينة قوية ظاهرة، ليخرج بها عند حد الإجمال بخلاف التخصيص بالنص المعارض

بظاهره، أو بالمعنى المستنبط من النص المخصص للعموم. كما ذكرناه في النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، وفي حديث الربا. فهذه مرتبة بين المرتبتين. ونظر أبي حنيفة ليس ببعيد في مسئلة بيع الكلب لأمر يرجع إلى امتناع التخصيص، لأن الشارع عليه السلام نهى عن اقتناء الكلب، وهو مقصور على ما يقتنى إعجاباً بصورته؛ فليس يبعد أن يكون هو المراد بتحريم البيع، كما أنه المراد بتحريم الاقتناء؛ إذ في تحريم اقتنائه إبطال الغرض المتعلق به، وإلحاق له بالخمر وما لا ينفع [به] شرعاً. ولكن في الشافعي رحمه الله يعترض على قياسه، ويبين أن للنجاسة تأثيراً في منع البيع، عرف ذلك بالشرع؛ فيبطل قياسه به، ويمتنع التخصيص لبطلان القياس بنظر آخر وراء [ما ذكره].

وليس ذلك الآن من غرضنا؛ وإنما الغرض التنبيه على هذه المراتب الثلاث. وليس في المقدور بيان آحاد الصور؛ وإنما القدر الممكن ضبط الأقسام الكلية. ثم كل قسم يندرج تحته صور كثيرة، تداني الدرجة الأولى من صورها الدرجة الأخيرة من القسم الذي قبله، وتقارب الدرجة الأخيرة من صورها الدرجة الأولى من القسم] 18 - أ [الذي بعده في الرتبة، فيثير ذلك نوعاً من الاشتباه والامتزاج. وقد يقع الشك في أصل الأقسام: بأن المعنى المفهوم من النص [أهو] من المعاني السابقة إلى الفهم، الصالحة لأن تكون قرينة معرفة للمعنى [مفسرة]؟ أو هو من المعاني المستنبطة بالفكر الذي يترتب استنباطها على فهم حكم اللفظ أولاً وتقريره؟ فكل ذلك إنما يستدرك بالقريحة الصافية، والفطنة المستقيمة. وفي مواقع تشابهها تختلف مسالك الناظرين، وتتباين طرق المجتهدين؛ ويختص [آحادها بدقائق، استدراكها] من شأن الناظر المجتهد في الفروع. وقد ينتهي الأمر فيها -لقدتها وخفائها -إلى منتهى يرجع إلى الحكم بالحدس، ووقوعٍ في النفس، يضيق عن التعبير عنها نطاق

النطق. وكل مجتهد فيها -إذا تحرى الصواب، وهجر التقليد والعناد -مصيب، أو مثاب على جهده وكده في طلبه وإن لم يحكم له بالإصابة. فإن قيل: قد أفضى مساق كلامكم إلى تجويز التصرف في النصوص، بتغيير ظاهرها لمعان مفهومة منها، ومعلوم أن سد الخلة ودفع الحاجة، معنى يسبق إلى الفهم من الزكوات؛ فعلا ساعدتم أبا حنيفة على مصيره إلى تسليط هذا المعنى على الظاهر، بالتغيير في مسئلة أخذ القيم في الزكوات، وفي مسئلة صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية، وغيرها؟ قلنا: لم نساعده، لا لامتناع هذا التصرف؛ ولكن: لأن معنى سد الخلة لم يتمحض اعتباره في الزكاة، بل انضم إليه التعبد، وعرف ذلك بالتنبيه على الأسنان في مراتب الحيوان في الزكوات، والإعراض عن القيمة في الأصل؛ والباب باب العبادة؛ فراعينا المعنى ولم يتمحض اعتباره، بل ضممناه إليه التعبد: لدلالة الأدلة عليه على ما استقصيناه في

تلك المسئلة، وليس ذلك الآن من غرضنا. ولعلنا نضيف إلى هذا الكتاب كتاباً في بيان التخصيص والتأويل، ونأتي فيه بمزيد تفصيل نشفي فيه الغليل. فإن النظر في هذا الفن متعلق بذلك القصد، ومنحرف عن [غرض] القياس؛ وهو الذي ترشحنا لبيانه الآن، وابتدأنا بالكتاب له؛ فلا ننجر إلى ما يخرج بنا عن الغرض الخاص أكثر من ذلك. فنرجع الآن إلى الغرض الذي كنا فيه، وهو: بيان طرق الإيماء وكشف الخالات المتطرقة إليها بالتنبيهات. خيال وتنبيه في أصل الإيماء إلى العلة: فإن قال قائل: قال الله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية، وقد ذكرتم أن ترتيب الحكم على الفعل بفاء التعقيب، مشعر بالتسبيب، وهذه الآية تدل على كون الصلاة سبباً لوجوب الوضوء؛ والإجماع منعقد على أن الوضوء يجب بالحدث، وإن القائم إلى الصلاة -إذا كان متوضئًا غير محدث -لا وضوء عليه؛ وهو إخراج للصلاة عن كونها سبباً؛ وقد ذكرتم: أن أصل الايماء في [مثل] ذلك صريح في أصل التعليل، وإن احتمل الإحالة إلى معنى يتضمنه السبب، وليس هذا إحالة إلى معنى [معنى يتضمنه] المذكور، بل هو قطع له عن سببه بالكلية؟ فالجواب أن الوضوء إنما يجب للصلاة؛ ولذلك لا يجب على

المحدث أن يتوضأ قبل وجوب الصلاة عليه؛ فلا تخرج الصلاة عن كونها سبباً، ولكنها سبب في حق المحدث لا في حق المتوضئ، ومعناه: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، فاغسلوا وجوهكم. والعلل المفهومة بالإيماء تحتمل التخصيص بالشرائط والمحال، وليس في تخصيصها بشرط دلت الدلال عليه إبطال لها. وهذا كالتعليل بالسرقة من قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، ثم خصص ذلك بالنصاب، ولم يكن إبطالاً للتعليل. وتعرف الأدلة المخصصة للعلل بالمحال والشروط، بما يعرف به تخصيص الألفاظ: من إجماع، ونص، وقياس جلي وغيره. فقد نقل: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كان يصلي صلوات بوضوء واحد» فعلم أن الصلاة [سبب لوجوب الوضوء على المحدث]. نعم: يبقى على الناظر نظر في [أن الحدث سبب للوجوب عند الصلاة، أو الصلاة سبب] في حق المحدث، وأن الجاري [منهما] مجرى

العلة، والجاري مجرى [المحل و] الشرط -ماذا؟ وعلى الأحوال كيف ما كان، فلابد من اعتبار الصلاة وإبقائه معتبراً في الحكم -شرطاً أو سبباً. وفيه الوفاء بموجب الإيماء؛ لأن الشرط أيضاً مؤثر في الحكم ولكن بواسطة العلة؛ فلم يكن التخصيص والترتيب بفاء التعقيب لغواً من الكلام، بكل حال. والأولى عندي أن يقال: الصلاة سبب لوجوب الوضوء، والحدث سبب لانتقاضه؛ فالأحداث نواقض، والصلوات أسباب، ثم من توضأ للقيام للصلاة فهو ممتثل، وله أن يؤدي به صلوات، ولا يتكرر عليه الخطاب بعدد آحاد الصلوات، ولكن معناه: إذا أردتم الصلاة فاغسلوا، أي جنس الصلاة، فما دام المصلي بهذه الطهارة فحكم امتثاله مستمر لا يتجدد عليه الأمر إلا إذا انتقضت طهارته بحدث [ظاهر] ناقض؛ فعند ذلك ينقطع حكم الامتثال السابق. فإرادة الصلاة [بعده] والقيام إليها يوجب الوضوء. وقد قال قائلون: من أحدث قبل دخول وقت الصلاة وجبت عليه الطهارة وجوباً موسعاً إلى وقت الصلاة. وقال آخرون: لا، بل ابتدأ الوجوب بدخول وقت الصلاة، ولكن في حق المحدث وهذا هو الأولى.

وعلى الجملة: المفهوم من الإيماء تأثير الصلاة في الوجوب، وكيف ما فرض فلا ينقطع تأثيره بحال. خيال وتنبيه: فإن قيل: من مسالك الإيماء -فيما ذكرتموه -الفرق بين الحالتين بذكر الغاية. مثل قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}، و {.. حتى تغتسلوا}. وقد قال تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} فأشعر ظاهره -بزعمكم: أن المحلل هو النكاح ووطء الزوج الثاني، وأنه الرافع للتحريم. وإذا رفع أثر الثلاث: لزم عليه أن يرفع أثر الواحدة والاثنتين، بطريق الأولى. كما قاله أبو حنيفة. ومسلككم في الرد عليه قولكم: إن التحريم ممدود إلى غاية ينتهي عند انقطاع الغاية؛ ولا تأثير للغاية في القطع حتى يقال: إذا قطع الأكثر، فليقطع الأقل [بل] ينعدم التحريم: لأن الموضوع تحريم قاصر ممدود إلى الوطء، كما أن الصوم الموضوع [تحريم] قاصر ممدود إلى الليل؛ وفي هذا قطع لأثر الغاية، وإخراج لها عن كونها مؤثرة في الانقطاع؟ قلنا: ليس كذلك، فإن الوطء بالاتفاق مؤثر في التحليل؛ ولكن الخلاف في وجه التأثير: فعند أبي حنيفة: هو مؤثر في هدم التحريم وقطعه.

وعندنا: يؤثر في قطع مدة التحريم، والتحريم ينتهي بنفسه عند انتهاء مدته؛ فيكون التحليل ظاهراً بانتهاء التحريم، والتحريم منتهيا لانتهاء مدته؛ والمدة منتهية بالوطء: فإنه الغاية. وما يظهر الحكم عنده، ولا يستغنى في الظهور عنه -فهو معتبر في الحكم، وإن لم يكن على حقائق العلل المؤثرة وكان شرطاً. فالشرط معتبر، كما أن العلة معتبرة. والإيماء صريح في أصل الاعتبار، لا في طريقه. واحتمل أن يكون الوصف الذي إليه الإيماء شرطاً، واحتمل أن يكون علة. وعلى الأحوال كلها، فلا سبيل إلى إلغائه. وتسمية الشرط علة صريحاً جائر بطريق التجوز؛ فإضافة الحكم إليه كيف لا تجوز، والشرط مؤثر في الحكم ولكن بواسطة العلة لا بنفسه؟ كما بينا أن الوطء مؤثر في قطع مدة التحريم تأثيراً من غير واسطة، ثم التحريم ينتهي بانتهاء مدته؛ فيصير الوطء مؤثراً في الحكم بواسطة المدة، وإن لم يكن مؤثراً بنفسه.

وهذا نظر يتعلق بتلك المسئلة؛ والغرض: أن تعطيل الوصف المذكور -للفرق في الحكم -لا سبيل إليه، بعد جريان الفرق والفصل بين القسمين [به]. فإنه صريح في اعتباره، وهو متفق عليه، وإنما النظر في طريق اعتباره؛ والإيماء ليس صريحاً في تعيين طريق الاعتبار، وإنما هو صريح في أصل الاعتبار. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: من طرق الإيماء، ترتيب الحكم على الفعل بفاء التعقيب وترتيبه عليه ترتيب الجزاء على الشرط. وقد قال الله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به». رتب رفع الجناح على الخوف الثائر من الشقاق والنزاع، ولا تأثير له في صحة الخلع. وقد قال تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} في باب الشهادة، ولا تأثير لفقدهما في جواز الاستشهاد بالنساء. وقال عليه السلام: أيما أمرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطلٌ، و [فقد الإذن] لا تأثير له في الإبطال،

بل يبطل النكاح مع الإذن، كما يبطل مع عدمه. فالجواب: أن الإيماء لا يدل على أصل التأثير، وهو يتقرر في الخوف والشقاق: لأن الخلق لا يقع إلا عند الخوف في العادة الغالبة المستمرة؛ والوصف يذكر تارة لتأثيره في حكم الفعل، وتارة لتأثيره في وقوع الفعل. فمعنى التعليل أن يقال: حل الخلع به، وهو الظاهر من المطلق. ومعنى التأويل أن يقال: وقوع الفعل [به]، فإنه سبب وقوع الخلع. فحل الخلع يظهر بوقوع الخلع، ووقوع الخلع يظهر بالشقاق فكان مؤثراً في الحكم بواسطة الفعل. فمطلقه للتأثير بغير واسطة، ولكنه محتمل للتأثير بواسطة. فيجوز المصير إليه [بدليل، وقد يقتصر] في ذلك] 19 - ب [الدليل على القرينة العرفية المفهومة مع اللفظ، فإن جوزنا التصرف في النص بتغيير ظاهره اللفظي لمعنى يسبق إلى الفهم من نفس النص، و [هذا] هو المعنى بقول الفقهاء: إن هذا الكلام خرج مخرج العرف والعادة، وحاصله: إن المذكور مؤثر في الحكم بواسطة الفعل؛ فبقي أصل

التأثير، ورجع النظر إلى طريقه. وهو الجواب عن حديث النكاح بلا ولي، وعن [آية] الشهادة، وعن كل ما يطابق العادة. وفي الشهادة أمر آخر، وهو: أن الآية [سيقت] للإرشاد إلى طريق الاحتياط؛ ومن استشهد النساء مع وجود الرجال، فيحكم في حقه بمخالفة موجب الإرشاد، وكونه مائلاً عن توثيق الحق بكمال الاحتياط؛ فيظهر تأثيره في تحصيل الامتثال لأمر [يرجع إلى] الإرشاد. والأمر قد يجرى للإرشاد، وقد يجرى للإيجاب. فالتأثير ظاهر بالطريق الذي ذكرناه. فإن قيل: فقد قال تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم: من فتياتكم المؤمنات} الآية. فهلا نزلتم ذلك على تأثيره في الحكم بواسطة الفعل، مصيراً إلى أن الغالب: أن القادر على الحرة لا ينكح الأمة فيرق ولده، ويضيق على نفسه الاستمتاع. ولم رددتم مذهب أبي حنيفة إذ صار إليه؟. قلنا: نظره ليس باطلاً لأن الآية [لا] تحتمل هذه التأويل

ولكنا قد نعول على [المعنى في تلك المسئلة، وهو إرقاق الولد، وقد نعول على] الآية ونبطل دليل الخصم على تأويله -بالطرق المذكورة في تلك المسألة. فأما أصل التأويل، فغير ممتنع في نفسه. فينتج -من ذكر هذه الأمثلة والتنبيهات والخيالات -أن الإيماء صريح في اقتضاء الربط بين الحكم وبين الوصف المذكور؛ وظاهر الكلام لربط الحكم بالوصف من غير واسطة، ولطرد الوصف على العموم وجعله علة من غير تخصيص، ولكن يحتمل التخصيص بشرط ومحل: إذا قام الدليل؛ كما في آية الوضوء والسرقة. ويحتمل إبقاء التأثير مع تخلل واسطة في كلا طرفي الحكم والعلة. أما في طرف العلة، فكما ذكرناه في وصف الغضب واقتضائه تحريم القضاء بواسطة ضعف العقل، ووطء الزوج الثاني واقتضائه الحل بواسطة انتهاء المدة. وأما في طرف الحكم [فـ] كارتباط حل الخلع بالخوف بواسطة الفعل: من حيث ترتب حكم الحل على الفعل، وترتب الفعل في وقوعه

على الخوف. فصار حل الخلع ظاهراً بالخوف. وكل ذلك طريق الاحتمال. والكلام ظاهر في ربط الحكم بالوصف مطلقاً من غير واسطة، ومحتمل لهذه الجهات على موجب قيام الدليل عليها. وفيه تمام البيان الذي يتعلق بالإيماء إلى العلل والتنبيه عليها. فإن قيل: فإذا كان الإيماء يدل على التعليل على وجه لا يحتمل التغيير، فهو إذن نص في أصل التعليل. فما الفرق بينه وبين التصريح بالتعليل، [وما جرى التصريح بالتعليل به تتطرق] إليه هذه الضروب من التصرفات؟ قلنا: لا فرق] 20 - أ [بينهما في إفادة المعرفة، وإنما طريق التعريف هو المختلف [فيه]. وللتعريف طرق، من جملتها: النطق والتنصيص على المقصود بعبارة موضوعة له في الأصل. والتركيب في هذا الجنس يطابق المفردات، ولا يتجدد بالنظم إلا تركيب المفردات. وللعرب وراء ذلك عادات في البيان وتعريف المقصود، دون التعلق بالعبارة الموضوعة في الأصل للدلالة عليه. [فالتعريف بالطرق] المعتادة في البيان كالتعريف بذكر الأسامي الموضوعة بإزاء المسميات. فمن عاداتها: الحذف والإيجاز في بعض المواضع. كقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيام

أخر} فمعناه: «فأفطر فعدة»؛ فحذف ذلك إيجازاً، وحصل الفهم كما لو نطق به من غير فرق. وقال جل من قائل: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففديةٌ من صيام} يعني: فحلق ففدية. وقال جل وعز: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى}، أي: فأردتم الإحلال. وقال جل من قائل: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} يعني: فضرب [فانفجرت]. والفائدة في ذلك كله -عند الذكر وتركه -واحد. [ومن عاداتها] في البيان؛ النبيه على الشيء بذكر نظيره، وضرب مثل فيه، دون التعرض له في نفسه. وهو في الإفادة كالتعرض له. كقوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً} يعني: أنه محرم كأكل لحم الغير. وقوله عز وجل {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل}، الآية؛ عرف به تضعيف الحسنات في مقابلة الإنفاق، ونزل في الإفادة منزلة تصريحه في قوله عز وجل:

{وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}. ومن هذا الجنس، قوله عليه السلام: «لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» نزل هذا في حقنا منزلة قوله: حرمت عليكم اتخاذ قبور الأنبياء مساجد»، ولكن عرف التحريم بذكر اللعن الذي هو موجبه، وعرف تعلق التحريم [بنا] بتعيير اليهود بذلك، وأن مثله يذكر في معرض التحذير في العادة. [ومن الألفاظ] والأسامي ما يجري على لسان ذكرها ولا يكون مقصوداً، ويعرف ذلك [بجري العادة] في النظم. كقوله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق شركا له في عبد» و «أيما رجل مات أو أفلس» الحديث. فذكر العبد والرجل جرى وفاقاً، لا أثر له في

الحكم، ولكنه سابق إلى اللسان في عادة البيان، بتغليب الذكور -في الذكر -على النساء. ويقرب من هذا الجنس، قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير}. فخصص بالتحريم اللحم؛ والشحم والجلد وسائر أجزائه مفهومة منه؛ فنزل في البيان منزلة قوله: والخنزير، وحمل التخصيص فيه على عادة البيان، وهو: أن السابق إلى اللسان ما يعتاد أكله، وهو: اللحم. فهذا ومثاله -من عادات البيان عند نظم الكلام يعرفها من ألفها ومارسها؛ وتبين به أن [التعريف بحكم] المسمى غير موقوف على النطق بالعبارة الموضوعة] 20 - ب [له في أصل الوضع، ولا ينبغي أن يتعجب [الإنسان] من قولنا: إن الإيماء إلى الوصف الذي أضيف الحكم إليه، نص في اعتباره. وإن لم يكن ذلك نطقاً صريحاً. هذا كله كلام منا في الدلالة على كون الوصف علة بالطرق النقلية، التصريحات منها والتنبيهات.

المسلك الثالث: إثبات كون الوصف علة بالإجماع. وما دل الإجماع على كونه مؤثراً في الحكم وموجباً له، فهو مقبول كما دل عليه النص والإيماء، ولذلك أمثلة: منها: أن الأخ للأب والأم يقدم على الأخ للأب في الميراث؛ [يقاس عليه] التقديم في ولاية النكاح؛ والجامع: أن [رجحان أحد السببين]-مع الاشتراك في الأصل -يوجب التقديم، كما في الإرث. فإذا قال المطالب: ولم قلت: إن الاختصاص بمزيد هذا السبب، له تأثير في [هذا] الحكم؟ فنقول: الإجماع منعقد على التقديم في الميراث، وعلى أن التقديم بهذه العلة. فهذه المزية ظهر بالإجماع أثرها في جنس هذا الحكم، في غير محل النزاع. المثال الثاني: أن الجهل بالعوض له تأثير في الإفساد ومنع الثبوت

في الذمة [في البيع]؛ فيقاس عليه المهر، ويقال: عوض مجهول، فيفسد ولا يثبت كالثمن. فإذا قيل: ولم قلتم: إنه يفسد لكونه مجهولاً؟ فنقول: الإجماع منعقد على أن للجهل تأثيراً في إفساد العوض. وإذا أثر في غير محل النزاع بالإجماع، فليؤثر في محل النزاع. المثال الثالث: أن نقول في السارق إذا تلف المال تحت يده: إنه مال تلف تحت اليد العادية، فيضمن كالمغصوب. فإذا قيل: ولم قلتم: إن تلف المال تحت اليد العادية يوجب الضمان؟ قلنا: بالإجماع ظهر تأثير هذا الوصف في إيجاب الضمان، في مسئلة الغصب وجميع الأيدي العادية. المثال الرابع: أن يقول الحنفي في الثيب الصغيرة: إنها صغيرة، فيولي عليها في بضعها كالبكر الصغيرة. فيقال: ولم [قلت: إنها] إذا كانت صغيرة يولي عليها [في بضعها]؟.

فيقول: ظهر بالاتفاق -في غير محل النزاع -تأثير الصغر في الولاية. فإن أراد بذلك البكر الصغير: توجه المنع عليها، فإنها مولي عليها للبكارة عندنا لا للصغر. فيقول: ظهر تأثير ذلك في الابن الصغير، وفي ولاية المال - بالاتفاق؛ وولاية البضع من جنس ولاية المال؛ فإذا أثر في شيء أثر فيما هو من جنسه. فتنقطع المطالبة بهذا القدر.

المثال الخامس: أن يقول الحنفي: المريض إذا أقر بعد أن صار ماله مستغرقاً بالدين بإقراره في الصحة -لم يقبل إقراره، لأنه بالإقرار يفوت حق غرماء الصحة، فيكون محجوراً عليه كما في الهبة. فيقال: ولم قلت: إنه إذا فوت حقهم ينبغي أن يكون محجوراً؟ فيقول: كما في الهبة. فيقال: ولم قلت: إن منع الهبة معلل بذلك؟ فيقول: الإجماع منعقد على أنه إن لم يكن دين مستغرق، نفذت هبته في الثلث. وإنما امتنعت هبته، لما فيه: من تفويت حق الغرماء. وإن أنكر منكر ذلك: وجب التعليل به؛ لأن حق الغير -بالاتفاق -له تأثير في الحجر في الهبة] 21 - أ [كما في الرهن، وكما في التركة إذا تعلق الدين بها. فهذا وصف عهد مؤثراً في الحجر، في الشرع بالاتفاق. وأمثلة ذلك كثيرة. ولعل شطر المسائل القياسية يجري على هذا المنهج. وهو مقبول باتفاق القائلين بالقياس.

خيال وتنبيه: فإن قال قائل: من قدم الأخ من الأب والأم، على الأخ من الأب باختصاصه بالقرابة المخصوصة، مطالب بإثبات العلة؛ ولا يغنيه قوله: إن هذا يؤثر بالاتفاق في التوريث. إذ يقال: إذا سلم لك تأثيره [في التوريث والتقديم فيه] فلم ينبغي أن يؤثر في التقديم في ولاية النكاح؟ وهل وقع النزاع إلا فيه؟ وكذلك يقال للحنفي إذا علل بالصغر: إنه إن سلم لك تأثير الصغر في ولاية المال وفي حق الابن، فلم قلت [إنه] ينبغي أن يؤثر في ولاية البضع وفي حق الثيب؟ وهل النزاع إلا فيه؟. وهلم جرا إلى جميع الأمثلة التي أوردتموها [فإن المعلل لا يخلو إما أن يكون أظهر] تأثيرها في عين الحكم المتنازع فيه، أو في حكم آخر يزعم أنه من جنسه. فإن ظهر تأثيره في عين الحكم المتنازع فيه: لم يتصور الخلاف معه؛ إذ الوصف إذا اتفق على كونه مؤثراً [في إيجاب حكم، كيف يحكم بتخلف الحكم عنه من وافق على كونه مؤثراً] فيه؟ وهل لموافقته على كونه مؤثراً فيه معنى سوى ثبوت الحكم [به] وترتبه عليه؟ وإنما يتصور إظهار الوفاق في غير محل النزاع.

وكذلك الجهل: ظهر أثره في إفساد العوض في عقد البيع؛ فلم ينبغي أن يؤثر في [إفساد] الصداق [في عقد النكاح]؟. وحق الغير: ظهر تأثيره [في الحجر] في الهبة في حق المريض، فلم ينبغي أن يؤثر في الحجر في الإقرار؟ فما وجه التقصي عن هذه المطالبة؟ الجواب: أن هذه المطالبة ساقطة [العبرة] باتفاق القائمين. وفي قبولها حسم باب القياس، فإن التعليل: لتعدية الحكم المنصوص [عليه] إلى غير محل النص. وهذا السؤال يرد على العلل الثابتة بالنص والإيماء وطرق التنبيهات. فيقال: إذا حرم البيع في وقت النداء لكونه تركا للسعي الواجب، فلم يحرم النكاح والإجارة؟ وإن سلم كون ترك السعي موجباً تحريم البيع، فلم يوجب تحريم النكاح؟ وأي بعدٍ في أن يحرم ترك السعي بالبيع، ولا يحرم بالنكاح؟. ويترقى من هذا إلى التخصيص بالشخص والزمان [والمكان]، فيقال: إذا أثر الزنا في حق ماعز، فلم يؤثر في حق غيره؟ وأثر الجماع في إيجاب الكفارة في حق الأعرابي، فلم يؤثر في حق غيره؟

فإن قيل: ظهر على القطع أن لا اختصاص للحكم [بالأعيان والمكان والزمان؛ وعرف هذا بأدلة قطعية في الشرع]. قلنا: [لا مستند] فيه إلا معرفتنا بإتباع الأحكام الأسباب المؤثرة فيها. فأنا لا نقتصر على إلغاء الزمان والمكان، فقد قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فمالكم عليهن من عدة تعتدونها} الآية. ورد ذلك في حق المؤمنات، ويلحق بهم الكافرات؛ لأنه فهم السبب، وهو: الطلاق قبل المسيس، فإذا كان سبباً لسقوط العدة في حق المؤمنة، فكذلك يكون في حق الكافرة. وكذلك قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، فإن ذلك في اللمس والغائط، ونحن نطرد ذلك في البول] 21 - ب [والنوم والمذي والمني وجميع الجهات. لأنه فهم بالإيماء أن السبب: فقد الماء، فاتبعنا السبب دون المحل. وعلى الجملة: مثل هذا السؤال يظهر من منكري القياس، وينجر بهم إلى إنكار هذه الأمثلة، وهو خروج عن إجماع الصحابة واتفاق العلماء. وكل ذلك باطل، لأن المعنى المؤثر إذا ظهر: قضت العقول

باتباعه وقطع النظر عن المحال والصور. فإن قيل: أليس ينقدح في الفرق بين التقدم في الميراث، والتقدم في ولاية النكاح -أن يقال: لقرابة الأم مدخل في الإرث، فأثرت في الترجيح؛ وليس لقرابة الأم مدخل في ولاية النكاح؟ قلنا: [القياس لا يحسم] باب الفرق على المعترض، ولكن إبداء التأثير يحسم [عليه] باب المطالبة، ويرهقه إلى بيان مفارقة بين المحلين، بعد جريان الاشتراك فيما ظهر تأثيره. والنظر في هذا يتعلق بالمجتهد، وبالمناظر: أما المجتهد، فعليه أن يبحث عن مدارك الفرق بين الميراث [وبين] ولاية البضع، بطريق السبر والتفحص عما يعن له من الخيال. فإذا لم يظهر له فرق: فقد سلم جمعه عن المعارضة، فيحكم به. وإن ظهر [له] الفرق: نزل ذلك منزلة المعارضة إذا ظهرت. وأما المناظر، فليس عليه -في النظر -التعرض لانحسام مداراك الفرق، بعد إبانة الاشتراك في الوصف المؤثر: لأن الاشتراك في الوصف المؤثر غلب على الظن الاجتماع؛ فعلى الخصم إبداء ما يقابله. أما المطالبة المحضة، دون التنبيه على وجه الإشكال في الفرق، فساقط. فإن قيل: لم قلت: إن [مزية] قرابة الأمومة إذا رجح

قرابة الأبوة فيما لها أثر فيه، فينبغي أن يرجح فيما لا أثر لها [فيه]؟ فهذا السؤال صحيح وإن كان عليه صيغة المطالبة؛ لأنه اشتمل على التنبيه على ما يطرق إشكالاً على الجمع، فإن هذا الوصف له أثر [في الميراث] فلا يبعد أن يكون معتبراً في الترجيح [فيه]. فقد نبه على الفرق ولكن على صيغة المطالبة، وهو الأحسن في إيراد [هذا] السؤال، والأبعد عن الانتهاض للابتداء والتمهيد، والتصدي للذب عن صحة دعوى يذكرها في معرض فرق مطرد منعكس، يطالب بتصحيح كلا طرفيه. فإذا ذكر هذا السؤال، فعلى المناظر المعلل أن يعترض عليه بما يفسده. فإن عجز: كان منقطعاً. وهذا الجنس جار في جميع الأقيسة. فأما المطالبة المحضة -بعد تسليم تأثير الوصف في الحكم في الأصل -فهو دعاء إلى تخصيص العلل بمواردها. وهو حسم لباب القياس. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: حاصل هذا المسك راجع إلى أن الإجماع أظهر تأثيراً لمعنى في حكم، فليكن مؤثراً في جنسه. وللمنازع أن يقول: أنا قائل بموجبه، وهو مؤثر في جنسه؛ ولكن ما الدليل على أن محل النزاع

[من] جنس محل الوفاق؟ فلابد من إقامة الدليل عليه، والخصم لا يسلم أن ولاية النكاح -في استحقاق التقدم فيه -من جنس الميراث، ولا أن ولاية البضع -في حق الصغير -من جنس ولاية المال، ولا أن الصداق -في التأثير بالجهالة] 22 - أ [من جنس الثمن، ولا أن الإقرار -في حق المريض -من جنس التبرع، وهلم جرا إلى نظائره. ولو لم يطالب بإقامة الدليل على ذلك [واكتفى]-بما ادعاه -من التأثير فيما زعم بتحكمه أنه من جنسه -لا تسع مسلك التعليل والإلحاق، ولجاز إبعاد النجعة بالتأليف بين المتباعدات. فيقول القائل ضرباً للمثل: ظهر تأثير الحلول في إبطال الكتابة على أصل الشافعي، فيلكن مؤثراً في إبطال السلم، من غير إقامة دليل على أنه من جنسه. ويقول أيضاً: ظهر تأثير التفرق قبل القبض في إبطال بيع المطعوم بالمطعوم؛ فليظهر في الثياب وسائر الأموال. وكذلك في حكم تحريم الفضل والنساء. وكذلك يقول: الحج يقضى عن الميت، لأنه دين كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتقضى الصلاة والصوم كذلك. إلى غير ذلك:

من أمور بعيدة لا من ارتكابها في نصرة هذا المسلك، ولا وجه لها. فالجواب: أن إقامة البرهان على تجانس الحكمين ليس في المقدور؛ لأن المجانسة تثبت بالاشتراك في جميع الصفات، وانتفاء الصفات الفارقة. وذلك غير متصور؛ فإنه إذا ظهر الاشتراك في صفات، تبقى [صفات فارقة ظاهرة، وتحتمل] صفات فارقة خفية: ينسب مدعي انتفائها إلى التحكم بما لا يعرف. وفي هذا السؤال -أيضاً -حسم باب القياس، كما في التخصيص بالمحل والشخص والزمان والمكان في الأمثلة التي ضربناها. ولكن لو فوض إليه التحكم بدعوى الجنسية: للزم منه نوع آخر من التحرف والاتساع. فإنما الحكم الفصل، والفيصل العدل؛ إبانة التساوي في المناسبة، وبه تنقطع المطالبة. وبيانه أن نقول: قدم الشرع الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب، في الميراث. وليس هو على مذاق التحكمات الجامدة، التي

لا تلائم مسالك العقول في رعاية العدل والنصفة والنظر للجوانب؛ بل عقل أن تقديمه لاختصاصه بهذه المزية المخصوصة من القرابة. فهو سبب الترجيح والتقديم. وهو معنى يناسب التقديم، ويتقاضاه ويستدعيه. ومناسبته للتقديم في ولاية النكاح، كهي في الميراث. فإن التقدم والتقديم والسبب المقدم لا يختلف بما فيه التقديم؛ وإنما الاختصاص يناسب التقديم مطلقاً في كل ما يتصور فيه التساوي والتفضيل. وهذا القدر من التقدير يغلب على الظن الاجتماع، وتنقطع به المطالبة، وعلى الخصم بعده أن ينبه على وجه الفرق، كقوله: إن قرابة الأم لها مدخل في الوارثة، ولا مدخل لها في ولاية النكاح. [فتأثيرها في الترجيح فيما لها فيه مدخل، لا يدل على تأثيرها في الترجيح فيما لا مدخل لها فيه]. فيقول القائس: لا مدخل لقرابة الأم في العصوبة؛ وهذا ترجيح [في الميراث] بطريق العصوبة. فيقول المعترض: الفرض والتعصيب طريقان في الميراث؛ فله -على الجملة -مدخل في جنس الميراث. فيقول القائس: إنها -مع كونها مؤثرة في الفرض -ساقطة التأثير في أصل العصوبة؛ فكيف اعتبرت في الترجيح [بالعصوبة في

الميراث]؟ كذلك يتجاذبان أهداب النظر، وتجري مراتب الكلام على مسالك معقولة المرام، متسقة النظام، فأما الجمود على المطالبة بعد إبداء المشاركة في المناسبة [فـ] لا وجه له. وكذلك الحنفي [إذا قال] في الثيب الصغيرة: إنها صغيرة فيولي] 22 - ب [عليها كالبكر؛ وطولب بإثبات الوصف -فيقول: ظهر تأثير الصغر في ولاية المال؛ وولاية البضع من جنس ولاية المال. فإذا قيل: لم قلت: إنه من جنس ولاية المال؟، كفاه أن يقول: هو من جنسه في مناسبة الصغر إياه؛ لأن التصرف في البضع كالتصرف في المال، لارتباط قوام مصلحة المعيشة [به]؛ والصغر نوع عجز يستدعي نصب قوام مشفق يتولى ما يتعلق بالمصلحة. ففي هذه المناسبة تستوي الولايتان، وليس ربط ولاية المال بالصغر خارجاً عن المعقول، بل هو معقول، وسببه ما ذكرناه. فعلى الشافعي -بعد ذلك -النزول عن المطالبة، والتنبيه على وجه

الفرق بين الولايتين، أما من جهة الإيماء في إضافة هذه الولاية إلى البكارة والثيابة في الأحاديث الواردة؛ [أو] [إلى] الإجماع على تأثير الرضاء في ولاية البضع بالبكارة، دون ولاية المال. يعني [به] الاكتفاء بالصمت؛ أو إلى المناسبة في إفادة الثيابة نوع ممارسة توجب قطع الإجبار عنها. إلى غير ذلك: من طرق الكلام في تلك المسألة. وكذلك: إذا قال الحنفي في مسألة غرماء الصحة والمرض: إن إقراره في المرض يفوت حق الغرماء، فيبطل في حقهم كالهبة؛ فطولب بالإثبات- يكفيه أن يثبت بالسير أن الهبة امتنعت لحقهم [فينبغي أن يمتنع الإقرار]. فإذا سلم له ذلك وقيل له: لم قلت: أن الهبة إذا امتنعت لحقهم، ينبغي أن يمنع الإقرار؟ كان السؤال ساقطا بعد استواء الهبة والاقرار في المناسبة، لآن المقصود عصمة حقوقهم؛ والإقرار كالهبة في التفويت. فعلى الشافعي أن ينبه على وجه الفرق، بأن يقول مثلا: حق الغريم أثر في منع المريض من الهبة المستغنى عنها؛ فلم يؤثر في المنع من الإقرار المفتقر إليه دينا وشرعا وعرفا؟

فيقول الحنفي: إذا ظهر أن المانع حقوق الغرماء، استوى في الممنوع به المحتاج إليه والمستغنى عنه؛ كما في الرهم والتركة: إذا تعلق بها الدين. فيقول الشافعي: حق الغريم ليس كهبة الحقوق، فإنه لا يمنعه من صرفه إلى أوطاره وأغراضه، وأثمان الجواري واستيلادهن، ومهور النساء مع الاستغناء عنهن؛ لأن ذلك في مظنة الحاجة، وكذلك الإقرار ملتحق بها، وينقطع عن الهبة. فهذا تدرج النظر، وترتيب الفكر. فأما المطالبة، فمنقطعة ببيان الاستواء في المناسبة. كما سبق. وأما ما أوردناه- من الأمثلة في تقرير هذا الخيال- فسبيل دفعها أن يقال: أما قول القائل: الحلول أثر في إفساد الكتابة، فليؤثر في إفساد السلم- فهو باطل لأن هذا القدر ينتقض بالبيع وسائر العقود التي لا يشترط فيها الأجل. وإذا قيد بما هو احتراز: توجهت المطالبة بابداء الاستواء في المناسبة. فإن أبدى: يأن كل واحد عقد إرفاق شرع في حق عاجز بالرق

والإفلاس؛ والرفق ينتفي بالحلول- كان هذا على شكل القياس، وانقطعت عنه المطالبة، ولزم أن يعترض عليه إما بالقرض، أو بالفرق بين السلم والكتابة، أو أنه لا قائل لهذا المذهب [23 - أ] وهو: التسوية بين العقدين في الصحة والبطلان؛ فإن كل واحد من الفريقين فرق بينهما، إلا أن يصدر من مذهب ذي مذهب، فيعترض عليه [بطريقة] لا بالمطالبة. وأما القول القائل: التفرق قبل القبض أبطل بيع الطعام بالطعام، فليبطل غيره [فهو] تحكم، ولا يمكنه ابداء الاشتراك في المناسبة. وأبو حنيفة لا يقول باشتراط التقابض إلا في النقود، ويعلل ذلك [بالتحرز] عن بيع الكالئ بالكالئ، ولا يطرد ذلك في سائر الأعيان. والشافعي يعلل تحريم المطعوم بسبب الطعم ومناسبته لتقييد طريق تحصيله بمزيد شرط وتضييق؛ فالمطالبة متوجهة على هذه العلة. وأما قول القائل: إن الصوم دين كالحج، فيقضي عن الميت- فهو على شكل القياس. وكيف لا، وقد علل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-

بكونه ديناً، في قوله: «أرأيت لو كان على أبيك دين [فقضيته»] ولكنه منقوض بالصلاة. فإن خالف مخالف مخالف فيهما دميعا: منع من هذا القياس بالفرق لا بالمطالبة؛ وقيل: كونه ديناً أثر في تجويز النيابة للوارث فيما يقبل النيابة شرعا في الحياة، وهو: الحج، فلم يؤثر فيما لا يقبل النيابة أصلا؟ فيكون هذا تنبيها عل وجه الفرق، ويبين أن المطالبة تنقطع بإبداء الاستواء في المناسبة. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: ابداء الاستواء في المناسبة إنما يمكن فيما عقل المعنى في كونه مؤثرا [في حكم] وقد ينصب الشارع سببا مؤثرا في حكم: لا يعقل معناه، ولا ندري: لم أثر فيه؟ وهذا كقوله عليه السلام: «من مس ذكره فليتوضأ»، جعل المس سببا للوضوء، ولا يعقل معناه؛ ومع هذا يقاس عليه مسه.

ذكر الغير, وقد يخرج عن عمومه مسه ذكر نفسه بعد الابانة. وكذلك قال تعالى: {أو لامستم النساء}، فجعل اللمس سببا للوضوء ولا ندري مناسبته [له]، ثم ألحق به الرجل إذا لامسته المرأة إذا لامست الرجل. وكذلك: انعقد الاجماع على أن خروج الخارج من السبيلين يوجب الوضوء، ولا مناسبة له، وألحق الخارج من غير السبيلين [به]. أما أبو حنيفة: فألحق الفصد والحجامة وغيرهما. وأما الشافعي: [فألحق] ما إذا انسد المخرج المعتاد وانفحت ثقبة تحت

المعدة. إلى أمثال له يجري فيها شكل القياس المؤثر، ولا يمكن إبداء المناسبة حتى يظهر به الاستواء في المناسبة. وصورة القياس في هذه المسائل أن يقول: مس الذكر، فينتقض وضوءه، كما إذا مس ذكر نفسه. فإذا طولب، قال: ظهر تاثير مس الذكر في الوضوء بالنص، وهو قوله عليه السلام «من مس ذكره فليتوضأ». فإن قيل له: ظهر تأثير مس ذكره في الوضوء لا مس ذكر غيره؛ فكيف ينفصل عن المطالبة بإبداء الاستواء في المناسبة؛ ولا مناسبة أصلا؟ وكذلك يقيس الملموس على اللامس، ولمس المرأة الرجل على لمس الرجل المرأة؛ ويظهر التأثير بالنص، ويعجز عن إبداء الاستواء في المناسبة. وكذلك: في خروج الخارج من السبيلين. وكذلك: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي، فجعل عتق التشرك سببا لعتق الباقي وغرمه، ولا مناسبة له، ثم تقاس عليه الأمة». إلى غير ذلك: من نظائر لها كثيرة، ترجع جملتها إلى نصب الشارع [23 - ب]، أسبابا مؤثرة في أحكام لا يعقل معنى كونها مؤثرة

في إثبات تلك الأحكام، ويجري فيها القياس. فما سبيل الخروج عن المطالبة دون إبداء المناسبة فيها؟ [أو ما سبيل إبداء المناسبة فيها؟، أو] ما وجه الافتقار إلى المناسبة في الآمثلة السابقة، [إن لم نفتقر إليها في هذه الأمثلة]؟ فالجواب: أن هذه الأمثلة اختلف الأصوليون في تسميتها: فمنهم من عبر عنها: بأنها في معنى الأصل. وهذا عندنا كلام مجمل. والوجه: تسميتها قياسا، ولكن ليس من قبيل الأمثلة السابقة. فإن القائس- في مثل هذه الأمثلة- لا يجعل السبب المؤثر في حكم [مؤثرا في حكم] آخر، حتى يطالب بإثبات المجانسة بين الحكمين، بالاستواء في المناسبة. ولكنه يجعل السبب مؤثرا في عين الحكم الذي ظهر أثره فيه، ولكن في محل آخر غير منصوص عليه إذ [قد] ظهر تأثير اللمس والمس وخروج الخارج، في إيجاب الوضوء؛ وهو يجعلها مؤثرة في إيجاب الوضوء.

نعم، لو قال [قائل]: هذه الأسباب إذا نقضت الطهارة، ينبغي أن تنقض الصوم- لكان هذا وزان الأمثلة السابقة، ولقيل له: لم قلت: إذا ظهر تأثيره في نقض الطهارة ينبغي أن يظهر في نقض الصوم؟ ويضطر إلى إبداء المجانسة بالاستواء في المناسبة. [نعم: نرى] أن يلقب هذا القياس بتنقيح مناط الحكم ومتعلقه. وسنذكر أمثلة هذا الجنس في موضعه. وقد سمى فريق من الأصوليين هذا الجنس: دلالة الخطاب. وسماه آخرون: ما في معنى الأصل. وحاصل ذلك يرجع إلى تنقيح متعلق الحكم ومناطه، بإلغاء ما اقترن [به] وفاقا غير مقصود باضافة الحكم إليه. فإن قوله: «[من] مس ذكره فليتوضأ»؛ إضافة الوضوء إلى مس الذكر لا باعتبار أنه ذكره؛ ولكن جرى ذكر الإضافة إليه وفاقا، لأنه الغالب في المس؛ إذ يبعد أن يمس الإنسان ذكر غيره. وكذلك قوله عليه السلام: «من أعتق شركا له في عبد» [الحديث].

فإعتاق البعض سبب السراية [لإعتاق كل العبد]؛ ولكن جرى ذكر العبد وفاقا: لأنه السابق إلى اللسان في العادة. فهو- بحكم العادة- كناية عن الرقيق. وكان كقوله عليه السلام: «أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه». والمرأة ملحقة بالرجل، ولكن جرى ذكر الرجل وفاقا: لأنه السابق إلى اللسان، فهو- بحكم العادة- كناية عن الإنسان في هذا المقام. وكذلك لو قال لزوجته: أنت طالق يوم يقدم زيد، فقدم ليلا- طلقت عند أكثر الفقهاء، لأن اليوم في هذا المقام- بحكم العرف- كناية عن الوقت، فإنه السابق إلى اللسان.

وكذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لا يبلون أحدكم في الماء الراكد» يتضمن تحريم صب البول من الكوز في الماء؛ لأن المفهوم المنع من تنجيس الماء بإلقاء النجاسة فيه؛ ولكن الإنسان بطبعه ممتنع من إلقاء النجاسات في الماء من غير غرض؛ وإنما يتفق منه البول في الماء؛ فجرى تخصيصه وفاقا بحكم العادة. وهذه أمور تعرف من دلالة الخطاب، وسياق الكلام، وقرينه الحال. فنتجاسر على الإلحاق ونتقصى عن المطالبة في هذا الجنس من الإلحاق، بهذا [24 - أ] الفن في الكلام. والجواب الآخر: أن هذا الجنس- أيضا- غير خارج عن فهم نوع من المعنى. فإن المس نوع هتك: إذ هو مقدمة الإمذاء؛ فإنه يحرك الآلة، ويبعث الشهوة، ويذكر الوقاع؛ فيخرج المذي: فينتقض الوضوء، لكونه سبب خروج المذي وإن لم يخرج. وكذلك: لمس النساء سبب الإمذاء، فينتقض الوضوء وإن لم يمذ.

كما كان النوم سبب خروج الريح، فكان حدثا وإن لم يخرج. وكذلك: التقاء الخانين سبب خروج المني، فجعل جنابة وإن لم يتحقق. وخروج النجاسة- على الجملة- يناسب الاشتغال بالتطهير في محل النجاسة، وفي جميع البدن. ولكن حط استيعاب للعسر، واقتصر على الأعضاء الظاهرة في الغالب. فهذه المعاني تفهم من هذه الأسباب في التخصيص، وفي التعدية: إما بنفسها، وإما بكونها قرينة معينة في فهم مناط الحكم من جهة المذكور، ومنبهة على إلغاء ما لا مدخل له في هذا النوع من التأثير. فهذا طريق تقرير هذا الفن، وقد سمينا هذه الأجوبة: تنبيها، وهي- على التحقيق- خيال في مقابلة خيال؛ وهو: سياق نوع من الجدال، وتمهيد طريق إلى التخييل والاحتيال. وإنما الكشف الشافي ما نذكره الآن، وهو [أن] قول القائل: إذا ظهر تأثير العلة في حكم، فلم ينبغي أن يؤثر في جنس آخر من الحكم؟ إن كان محل التعدية جنسا آخر. وإن كان عين الحكم أو مثله، فكيف تتصور- مع تسليم كونه مؤثرا- المنازعة في الحكم مع وجود المؤثر فيه؟. وهذا خيال لا طائل وراءه: فإن العلة إذا ظهر تأثيرها فيحكم، فلا تستعمل في إثبات حكم آخر- أعني: في إثبات نوع آخر من الحكم-

بل تستعمل لتعدية ذلك الحكم بعينه إلى محل آخر، على لسان الفقهاء. وهو- على التحقيق- إثبات مثل ذلك الحكم في محل آخر. وهو كالأمثلة التي ضرناها في اللمس والمس وخروج الخارج؛ فإنه جمل علة لانتقاض الوضوء: فلا يستعمل إلا في انتقاض الوضوء؛ ولكن في محل آخر غير محل النص: كمس ذكر الغير، ولمس المرأة الرجل، وخروج الدم من غير المخرج المعتاد. وجميع الأقيسة تجري على هذا المثال: فإن القياس لتعدية حكم المنصوص بالعلة المتعدية، وتعميمه لعموم العلة. ولو كان يثبت بالعلة جنس آخر من الحكم: لم يكن هذا تعدية المنصو؛ بل كان ابتداء لحكم على سبيل الاستئناف. فلعتقد هذا في كل قياس. أما المثال الذي ضربناه في تقديم الأخ من الأب والأم في الميراث، وقياس التقديم في ولاية النكاح عليه- فهو من هذا القبيل: لأن الاختصاص بهذه المزية علة التقديم في الإرث، فيعمم التقديم؛ وهو قضية معقولة، ونعديه إلى محل آخر وهو: ولاية النكاح. وتكون نسبة ولاية التزويج إلى الإرث، كنسبة الزبيب إلى التمر في الربا؛ فإن الطعم والكيل حرم الفضل في التمر، فيثبت تحريم الفضل في الزبيب: للاشتراك في العلة. وكذا: الصغر علة ولاية المال، وولاية البضع- في حق الابن، فيجعل علة ولاية البضع في حق الثيب [الصغيرة]، لأنه عقل كونه

علة الإجبار والولاية [في البضع] في حق الابن، وهو محل الحكم، فيعدى إلى البضع في [حق] الثيب؛ والبضع ينزل من المال منزلة نوع من المال مع نوع آخر، ومنزلة الزبيب من التمر في الربا. فالحكم الثابت في محل الإجماع بعينه، يعدى [24 - ب] ويعمم بالقياس. وكذلك نطرد هذا الجنس في جميع الأمثلة التي ذكرناها. وإذا نبهنا على الطريق: لم يخف وجه التقرير في جميع الأمثلة؛ وما خرج من هذا الجنس فليس من القياس في شيء. فإن قيل: أليس جعل الشرع القتل علة الحرمان في الميراث، فجعل [بالقياس علة] بطلان الوصية، وهو حكم آخر. وقد قال تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل}، جعل الضعف والسفه علة قضاء الدين، فجعل علة الإجبار في سائر التصرفات: من البيع والإجارة، وغيرهما؟ قلنا: هذا داخل الحد الذي ذكرناه. وإنما المفهوم أن الضعف

بالصغر والسفه سبب نيابة الولي المشفق عنه، فيما تمس حاجته إليه: من قضاء الدين؛ فسائر ما تمس حاجته إليه ينزل من محل النص منزلة سائر المكيلات والمطعومات من المنصوص في الربا. والثابت بالنص في قضاء الدين: [النيابة] بعلة الصغر في محل الحاجة؛ فعديت النيابة إلى كل ما تتعدى إليه الحاجة. وأما الوصية، فمن يبغي الإلحاق: يتكلف التلفيق بهذا الطريق، ويثبت أن استحقاق المال [بمجرد مطلق] الموت نوع خلافه؛ تارة يستفاد بالقرابة، وأخرى بالزوجية، وطوروا بالوصية؛ فالكل باب واحد؛ فيرجع الافتراق إلى العدد كما في الربويات، أو يقول: المفهوم من النص معارضته بنقيض قصده فيما تعدى باستعجاله؛ وفي هذا تشترط الوصية والإرث ويرجع التمييز إلى العدد، وهذا شرط كل قياس. وما خرج عن هذا القياس، فليس من القياس في شيء. يبقى خيال السائل: أنه إذا سلم كونه مؤثرا، فكيف يتصور النزاع في المسألة بعد الإجماع على وجود ما هو المؤثر؟

قلنا: من سلم الإجماع على كون الوصف مؤثرا، وسلم سلامته عن المعارضة في محل النزاع- لم يتصور منه النزاع مع ذلك إلا بجحد أصل القياس. وإنما منشأ النزاع أحد أمرين: إما الاسترابة في كون الوصف مؤثرا بالإجماع والمجاحدة فيه، أو اعتقاد معارضة في الفرع. أما مثال الأول: فكمنازعتنا لأبي حنيفة في دعواه أن المؤثر في إطال هبة المريض حق الغريم؛ فإن من أصحابنا من يعتقد: أنه بطل تصرفه نظرا له في نفسه، وليس من النظر إبطال إقراره؛ وإنما ننازعهم: لأنا لا نسلم كون هذا الوصق مؤثؤا بالإجماع. فطريقه أن يكشف عما يدعيه: من الإجماع؛ وهو إبطال ما ندعيه: من المعنى؛ ليتعين معناه. فإنه حكم لابد من تعليله بما يتضمنه المرض الحادث. والذي يمكن أن يقدر علة [لا يزيد] على المعنيين؛ في بطلان أحدهما إثبات الآخر. فيقول: إبطال تصرف العاقل نظرا له، لا عهد به. وإبطال تصرفه لحق الغير [عهد في الشرع في مواضع بالإجماع؛ فإحالة الحكم في هذا المقام إلى ما] عهد في الشرع اعتباره في إبطال التصرفات أولى؛ لأنه معنى عرف بالإجماع تأثيره في جنس هذا الحكم. فيرجع مثار النزاع إلى أنا لا نعترف بالإجماع أولا، فلو اعترفنا

أولا بالإجماع: لما نازعناه رفي الإقرار إلا بتقدير [25 - أ] دليل في الإقرار يعارض ما ذكروه، وهو قياس الإقرار على النكاح وسائر التصرفات، لرابطة الحاجة؛ ويتبين به أن حق الغريم لا يمنعه إلا عما يستغني عنه في هذا المقام. بخلاف حق الغريم في الرهن والتركة وغيره. وأما الجنس الآخر من المنازعة- بعد تسليم التأثير- فينشأ من تقدير المعارضة: كما ذكرناه على أحد التقديرين في مسألة غرماء المرض والصحة، وكما نعتقد في مسألة الثيب الصغيرة، ويعتقد أبو حنيفة في مسألة غرم السارق. فأما مسألة الصغيرة، فنسلم أن الصغر علة الولاية في حق الابن وفي حق ولاية المال؛ نسلم وجود الصغر في [عين] محل النزاع؛

ولكن نقول: عارض الصغر الثيابة، وهي علة لإسقاط الولاية بنصب الشارع إياها علة، بقوله: «الثيب أحق بنفسها من وليها». ويسلم الخصم وجود علة الضمان [في السارق] ولكن يقول: عرضه وجوب القطع، ومن ضرورته إسقاط الضمان بتقدير انتقال العصمة إلى [اليد] كما قرروه في تلك المسألة. ولو استعمل سائل هذا الاعتراض على طريق المطالبة والممانعة، وقال: لا نسلم أن تلف المال تحت اليد العادية سبب الضمان لمجرده، بل هو مع سقوط القطع هو السبب؛ والصغر مع انتفاء الثيابة هو العلة- فهذا كلام فاسد يضاهي كلام من يقول: العلة ما ذكرته مع

السلامة عن المعارضة [فإذا ذكر وجه السلامة عن المعارضة] فهو مردود عليه؛ والمطالبة متوجهة عليه بإبداء المعارضة، إذا ليس هذا جاريا مجرى أجزاء العلة، بل له منصب الاستقلال. فإن قيل: فبماذا تنقطع المطالبة إذا قال السائل: سلمت تأثير العلة في ذلك المحل، فما دليل تأثيره في محل النزاع؟ قلنا: هذه المطالبة ساقطة بمجرد تسليم التأثي، وكان كقول القائل: سلمت أن الكيل هو المؤثر في تحريم [ربا] الفضل في البر، وسلمت وجود الكيل في الجص؛ ولكن لم قلت: إذا أثر ثم، ينبغي أن يؤثر ها هنا؟ وهذا تشوف إلى حسم باب القياس؛ وليس يحتاج المعلل إلأى إظهار وجه المناسبة بعدما سلم له كون الوصف مؤثرا في الحكم في موضع ما: لأن معنى كونه مؤثرا [هو]: أن الحكم حصل به ومن أثره، وأن الشارع نصبه علة موجبة، وقد عرف ذلك بالإجماع، فصار كما لو عرف ذلك بالنص والإيماء. وقد بينا أنه يستغنى فيه عن إبداء المناسبة، وإن كان يبعد انفكاكه عن مناسبة ما. فقل ما يوجد- من تصرفات الشرع- ما يجري على مذاق التحكم الجامد المحض؛ ولكن: لو وجد وجب اعتباره في غير

محل النص، بحكم الدليل الذي دل على أصل القياس، وكان هذا كما لو قال: لا تبيعوا التمر بالتمر لأنه حلو؛ فيعتر الزبيب به بجامع الحلاوة، بعد أن عرف الشرع كونه علة وإن لم تعرف مناسبته ووجه اقتضاء تحريمه من طريق المصالح. وإذا قال: لا تبيعوا البر بالبر لأنه أيض؛ قيس عليه الأرز وإن لم تعرف مناسبته. ولم نلتفت إلى قول القائل: أن البياض علة في البر لا في غيره، والحلاوة علة في التمر لا في غيره. والسبب في ذلك كله- وهو طريق الرد على منكري القياس-: قضاء العقول باتباع الأسباب، والأعراض عن المحال. فلا فرق في [25 - ب] عقل حملة الشريعة- بين أن يقول الشارع: اقتلوا ما عزا لأنه زان؛ وبين أن يقول: اقتلوه لأنه طويل- في أنا نطرد إيجاب القتل في حق جميع الزناة وجميل الطوال، وان انتفت المناسبة؛ لأن المناسبة طريق يعرف بها كون الوصف منصوبا من جهة الشرع علما على الحكم وعلة له؛ وهي دون النص والإجماع، فإذا ظهر بالنص أو الإجماع: أغنىعلى إظهار المناسبة. ورجع حاصل هذا المسلك إلى أن الوصف إنما يصير علة: إذا علم أن الشارع جعله علة؛ وإنما يعرف جعل الشارع إياه علة: بنصه،

أو بإشارة النص في تنبيهه وإيمائه كما سبق، أو بالإجماع من الأمة. فالإجماع في التعريف كالنص. فالتحق هذا المسلك بالمسالك السابقة، ووقع الاستغناء فيه عن المناسبة كما في المنصوص والمنبه عليه. المسلك الرابع: في الاستدلال على كون الوصف علة بالمناسبة بينه وبين الحكم. وهذا ما اختلف فيه الأصوليون. فالذي ذكره لأبو زيد [الدبوسي]: أن المناسبة لا تكفي في إثبات كون الوصف علة، بل لابد من إظهار التأثير: بالنص، أو الإجماع، كما سبق. فاقتصر على المسالك السابقة، ولم يقنع بما دونه. واستدل عليه: بأن الإخالة يرجع حاصلها إلى الوقوع في النفس، وقبول القلب له، وطمأنينة النفس إليه، وهذا أمر باطن لا يمكن إثباته على الخصم، فإنه إذا قال: غلب

على ظني هذا، فللخصم أن يقول: لم يغلب على ظنى. فتحكيم القلب] إنما يجوز [عند فقد الأدله الظاهرة، وعند تصادم الأدله وانحسام مسالكها، للضروره الداعيه إليه. ثم هو مقيِّد في حق المجتهد، ولا ينتصب حجة على الخصم بحال. وهذا الذي ذكره هو مساعد عليه ولكن ليس المراد بالمعنى المخيِل المناسب ما ظنه وتخيله؛ ولكن نعنى بالمناسبه معنى معقولاً ظاهراً في العقل، يتيسر إثباته على الخصم بطريق النظر العقلي: بحيث ينسب الخصم في جحده-بعد الإظهار بطريقه - إلى النكر والعناد. فإذن منشأ الأشكال بيان حدّ المناسبه؛ والإخالةُ عباره عنها. وقد أطلق الفقهاء المؤثر، والمناسب، والمخلِ، والملائم، والمؤذن بالحكم، والمشعرِ به. واستبهم على جماهير العلماء والأفاضل -إلا من شاء الله-دِرك الميز والفصل بين هذه الوجوه، واعتاص عليهم طريق الوقوف على حقائقها، بحدودها وخواصها. واتصل بأذيال

هذه الأجناس قياس الشبه والطرد، وهي المغاصه الكبرى، والغمره العظمى. فلقد عز على بسيط الأرض من يعرف معنى الشبه المعتبر، ويُحسن تمييزه عن المخيل والطرد، وإجراءه على نهج لا يمتزج بأحد الفنين. ونحن-] بعون الله وحسن توفيقه [-نفضل هذه الأجناس، -] ونشفى فيه الغليل [ونوجز القول في قياس الشبه. ونندفع الآن في بيان ما ترشحنا له: من-] أنواع [قياس المعنى. فنقول: الحاصل من جمله هذه العبارات ثلاثة] أنواع [. المؤثر، والمناسب، والملائم. أما المشعر والمؤذن والمخيل، فهى فى حكم العبارات المكررة عن] 26 - أ [المناسب. أما المؤثر، فما ذكرناه، وهو: الذي دل النص أو الإجماع على كونه علة الحكم فى محل النص] أو في غير محل النص [. فهذا الذي رأينا تلقيبه: بالمؤثر، ليتميز الجنس] عن الجنس]، وإلا فتسمية المناسب

والملائم مؤثراً وتسميه المؤثر مناسباً وملائماً] متجة. فكان ماجعل عله للحكم، فإنما جعل علة: لأن الشارع جعله علة؛ لا مناسبته [؛ ولكن المناسبه قد تكون تعريفاً وتنبيهاً على جعل الشرع اياه علة - عند بعض العلماء. وما عرف جعل الشرع] اياه [علة، فقد عرف تأثيره: إذ لا معنى للتأثير إلا حصول الحكم من أثره وبسببه. ولكن: لما انقست المعاني ثلاثه أقسام، أحببنا أن نفرد كل قسم - على حسب اصطلاح الفقهاء - بعبارة معرفه. وإنما الغرض تعريف وجه التميز والإنقسام. ثم إذا عرفت: فلتتخذ هذه العبارات أعلاماً معرفه لها. فالعبارات هي التي تتبع المعاني وتُسوى عليها؛ فأما تسويه المعاني على العبارات- فهو من دواعي الخَبَط، وجوالب الضلال. فنقول: هذه المراتب تتبين بضرب الأمثلة: أما المؤثر، فقد ذكرنا مثاله. وأما المناسب، فمثاله: تحريم الخمر، فأنه يظهر تعليله بكونه مسكراً مزيلاً للعقل، حتى يقاس عليه النبيد. ولكن فى الكتاب تعرض للتعليل بهذا المعنى؛ فهو- من هذا الوجه- يلتحق بالمؤثر؛ إذ ظهر بالنص تأثير هذا الوصف: حيث نبَّه على إثارته العداوة والبغضاء، ولكن:

لو لم يكن فى القرآن التعرض لهذا، واقتصر عى ذكر التحريم على تجرده - لكان تعليله بالإسكار وإزالة العقل: تعليلاً بكلام مناسب. ومعنى مناسبته: استدعاء هذا المعنى من وجة المصلحه هذا الحكم، واقتضاؤه له. فإن العقل ملاك أمور الدين والدنيا. فبقاؤه مقصود، وتفويته مفسده. فحرم لما فيه: من الإفضاء الى الفسده. وهذا كلام جلى معقول يمكن إثباته على الخصم. فأين هذا من قول أبى زيد: أنه يرجع الى قبول القلب، وطمأنينه النفس؟. ولا نشك في تمييز هذا عن قول القائل: أنه حرم لرائحته الفائحة المخصومه، أو لحمرته، إذ لا تناسب الحمرة التحريم، ولاتستدعيه، ولا تتقاضاه عقلاً. وهذا يتقاضى التحريم لما ذكرناه؛ فتميز عن الطرد بالمناسبه العقليه بين المعنى وبين الحكم. وتميزه عن المؤثر، بأن يقال: لم يعهد قط في الشرع، في موضع آخر- لا بالنص، ولا بالإجماع- كون الإسكار مؤثراً فى التحريم، حتى يكون التعليل به تعليلاً] بمعنى [عرف تأثيره، ولنقدر عدم انباء النص التعليل بهذه العله، حتى يستدَّ التمثيل، وينقطع عن المؤثر، فإن المستدل بالمناسبه يدعى الإستغناء عن النص وإيمانه ودلالة الإجماع على كونه مؤثراً؛ ويزعم: أن المناسبه كافية في التعريف، على ما سنذكر وجه حصول المعرفه بها. وكذلك إذا قلنا: إن الجماعة قتلوا بالواحد، كيلا يتخذ الظلمة

الاستعانه ذريعة إلى قتل الأعداء-كان ذلك تعليلاً بمخيل مناسب ظهر وجه استدعائه للحكم، واقتضائه له في العقل. ولم يدل دليل على تأثيره: لا من جهة النص؛ ولا من جهة الإجماع. بخلاف التعليل بالصغر فإنه- مع المناسبه المعقولة - ظهر تأثيره في الولاية المالية، وولاية التزويج - في حق الأبن، بالإتفاق. وكذلك إذا قلنا: حط قضاء الصلوات عن الحائض، لما فيه: من الحرج والمشقة والكُلفة مع تكرر الصلاه في اليوم والليله؛ بخلاف قضاء الصوم -كان] هذا [الكلام مناسباً] 26 - ب [مخيلاً، متميزاً عن تعليله: بأن الصوم يقضى لأنه لا تجب فية الطهاره مثلاً، بخلاف الصلاه. فإن هذا الفرق لايناسب، ولا ينسى عن الحكم في قضيه العقل بحال. فهذا بيان المناسب. وليس يتميز عن المؤثر بذاته، وإنما يتميز عن المؤثر بأن ليس من جهة النص والإجماع دلالة على كونه علة، بل لا دلالة عليه سوى مناسبته. وما دل الإجماع على كونه عله] وسبباً]، قد يناسب: كالصفر يناسب الولاية، ومزيد

الاختصاص في القرابة يناسب الترجيح والتقديم، الى غير ذلك مما تقدم: من الأمثله. وقد لا يناسب: كخروج النطفة الطاهره، جُعل سبباً للغسل ولا يناسبه، وكذلك مس الذكر: يبعد تخيل المناسبة فيه. هذا وجه تمييز المناسب عن المؤثر والطرد. أما تمييزه عن الملائم، فوجهه: أن المناسب ينقسم إلى ما يلائم معاني الشرع، ويجانس تصرفاته فى ملاحظة المعاني. والى ما يكون غريباً: لا يلفى له جنس. فالذي ذهب اليه الجماهير: أن المناسب لا يكون علة الا بشرط الملائمه] كما سنذكره. ومنهم من اكتفى بمجرد المناسبة ولم يشترط الملائمة [، فكل مناسب عهد جنسه في تصرفات الشرع: فهو ملائم؛ وما لم يعهد جنسه: فهو المناسب الغريب الذى لا نظير له في تصرفات الشرع. وهذا] الأن [مزله قدم؛ فقد يشتبه على الناظر الفرق بين الملائم والمؤثر، فيقول: المؤثر هو: الذي عهد في الشرع معتبراً كما في الصغر؛ والملائم أيضاً كذلك. فما الفرق بين من شرط التأثير، وبين من شرط الملاءمه مع المناسبه؟ فنقول: الفرق بينهما: أن المؤثر هو: الذى ظهر تأثير، عينه في عين

الحكم المتنازع فيه - بالإجماع أو النص، في محل النزاع، أو غير محل النزاع. كقول الحنفي: إن الثيب الصغيرة تُزوج لصغرها؛ ويبين أن عين الصغر ظهر تأثير بالإجماع في الولاية في حق الأبن، وفي ولاية المال. فقد ظهر تأثير عين هذا المعنى فى عين هذا الحكم، في محل آخر غير محل النزاع؛ فعدى ذلك الحكم بعينه، وهو: الولاية بتلك العلة بعينها، وهي: الصغر - الى محل النزاع، وهو: الثيب الصغيرة. وأما الملائم، فتعنى به: أنه عهد جنسه مؤثراً فى جنس ذلك الحكم، وإن لم يعهد عنه مؤثراً فى عين ذلك الحكم - فى محل آخر. مثاله: أن سقوط قضاء الصلاه إذا علل بالحرج والكلفه، يعلم أنه من جنس معاني الشرع وملائم له، إذ ظهر - على الجمله - إسقاط] الشرع [جملة من التكاليف بأنواع] من [الكلفة: كما في السفر والمرض وغيره؛ ولم يظهر تأثيره عين المعنى فى عين الحكم، وإنما وزان المؤثر من] مثل [هذا الأصل: أن يأمر النبى عليه السلام

-مثلا- عائشة رضى الله عنها بقضاء الصوم الفائت في أيام الحيض، وبترك القضاء فى الصلوات. فيقاس عليها سائر النساء. أو يحكم به في الحرة، فيقاس عليها الرقيقة. فينقدح أن يقال: ظهر تأثير الحيض فى إسقاط الصلاة في حق الحرة، فيعدى عين هذا الحكم لعين هذه العلة، الى الرقيقة. وكذلك: إذا عللنا إنقطاع الولاية عن الثيب بالممارسة الحاصلة لها، وما تستفيده المرأه: من الاختبار والتمييز والإهتداء الى المقاصد؛ وعديناه الى الثيب الصغيرة- كان هذا مناسباً ولكنه غريب. إذ يقال: ليس هذا من جنس تصرفات الشرع فى إثبات الولاية وقطعها، فنقول: هو من جنسه؛ إذ قال عز وجل: "وابتلوا] 27 - أ [اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً فأدفعوا اليهم أمواله". فجعل ممارسه اليتيم في المال سبباً، فيصير ملائماً. وهذه المناسبة مع الملاءمة في نهاية الضعف، وليس من غرضنا عينُ هذه

المسئلة؛ وإنما المقصود التمثيل لتعرف الجنس. وكذلك إذا قلنا: قيد الشرع بيع الأشياء الأبعة فى الربا بثلاث شرائط، فكان ذلك معللاً بالطعم المنبئ عن الحرمة والعزة، فإن ما يعز ويحترم يضيق طريق تحصيله، وما يستهان به يتسع الأمر فيه، ويتساهل في أمره؛ فلا يضيق طريقه؛ لأن المضنون به عقلاً وشرعاً: ماظهرت الحاجة اليه، وعظمت حرمته بسببه، والتقييد بالشرائط سد لبعض المسالك؛ وسد بعض الطرق إلى شيء ضنه به. فهذا نوع من الكلام: فيه ضرب مناسبة، ولكنه غريب يزعم] الخصم [أنه لا يلائم تصرفات الشرع، فنقول] لا [بل قيد الشرع إستحلال البضع بشروط: كالعوض والولى والشهادة؛ وميزه عن الأموال. فكان ذلك إظهاراً لشرف البضع، وتخصيصاً له بميزه الإعتناء، وكشفا عن خطره وحرمته، وإشارة إلى اَّن المال مبتذل بالإضافة اليه، وأنه مصون مضنون به بالإضافه الى المال. فقد التحق بما عهد جنسه في الشرع، فصار ملائماً لتصرفاته.

وطريق المعترض: أن يبين أن تقييد النكاح] بهذه الشروط [لم يكن بهذا الطريق، بل كان لحاجة البضع في الصون الى هذه الشروط؛ ولا حاجة في صون الأطعمه الى هذه الشروط، فيعترض بهذا الجنس، ويجاب عنه بطريقه. وغرضنا التمثيل. وكذلك إذا قلنا: القليل الذي لا يسكر- من الأنبذة - محرم قياساً على قليل الخمر؛ وعللنا تحريم قليل الخمر: بأنه داع الى الكثير؛ وأن الطباع تختلف، والقدر الذي يسكر كل شخص في كل حال لا ينضبط؛ فيحسب الباب بحكم المصلحة-كان هذا كلاماً مناسباً: يستوى فيه النبيذ والخمر، وتظهر ملاءمته لتصرفات الشرع: بتحريم الشارع الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، لأنه داع الى الزنا؛ وما يجرى مجراه: من تعميم الشرع] التحريم [على مقدمات المحظورات ودواعها؛ فيكون ملائماً، ولا يكون مؤثراً التأثير الذي غيناه فيما سبق؛ إذ لم يظهر تأثير عين انبعاث داعية الشرب، فى تحريم الشرب. ولا ظهر في مسئلة الربا تأثير عين الطعم وحرمته في اشتراط المماثلة والتقابض

والحلول؛ بل ظهر اعتبار جنس الحرمة، في جنس التقييد بالشروط. فأن قيل: فما مثال المناسب [الغريب] الذي لا يلائم؟ قلنا: قل ما يتفق في المسائل أمثلته، فأن المعاني إذا ظهرت مناسبتها؛ فلا تنفك عن التفات الشرع إلى جنسها في غالب الأمر؛ والذي يظهر لنا الآن من أمثلتها أربعة: المثال الأول: ما ذكرناه: من تعليل سقوط الإجبار عن الثيب بالممارسة. فهذا وأن عددناه في قسم الملائم، فهو- عندنا -من المناسب الغريب الذي لا نظير له. وأما ابتلاء اليتيم في التصرف، فليس من هذا القبيل، وإنما مثاله: وطء الابن زوجته؛ وذلك لا يوجب قطع الإجبار عنه: إذا كان صغيرا. أو وزانه من الأموال: ما إذا تناول جنسا من الطعام وذاقه واستطابه أو استكرهه. وكل ذلك ساقط الأثر في قطع الإجبار، وإسقاط الولاية. وابتلاء اليتيم: لتعرف هدايته إلى المصالح، وانفكاكه عن داعية السفه والتبذير وغباوة الإسراف، والتصاون عن الغبن والخداع؛ حتى إذا عرف ذلك بامتحانه بالبيع والشراء، رد المال إليه بعد [27 - ب] جريان البلوغ: الذي هو السبب الظاهر في قطع الولاية. فوزانه: أن تمتحن المرأة بانتقاء زوج من الأزواج للنكاح، وتراقب أحوالها في اقتراحات مصالح النكاح وما تقترح عليها؛ فننقاد [إلى] الإجابة إلى

ما تقتضيه المصلحة، ونستعصيى فيما ينافي الغبطة. ومثل ذلك لا عهد به في النكاح؛ وإلمام الزوج بها ليس من هذا الجنس بحال؛ وإنما وزانه: تناول الطعام وذوقه، ولبس الثوب، وركوب الدابة. فيبقى هذا نوعا غريبا من الكلام، [وهو- مع كونه غريبا -] ضعيف في نفسه. وكذلك تتفق المعاني الغريبة؛ فأن ما يظهر ويقوى لا ينعدم التفات الشرع إلى جنسه، في غالب الأمر. المثال الثاني: تعليل الربا في المطعومات بعلة الطعم؛ فهو- أيضا -من المعاني الغريبة التي لا تلائم معاني الشرع. وما ذكرناه- من إظهار الملائمة بأمر البضع -ضعيف؛ لأن الخصم لا يسلم اشتراط الولي. نعم: قيد بالشهادة إما صونا له من الفوات بالجحود، أو تمييزا [له] عن السفاح الذي هو فاحشة. وليس في حسم طريق بيع البر بالبر متفاضلا، أو نسيئة، أو دون التقابض في المجلس - ما يصونه عن فوات هو متعرض له، أو يميزه [عن فاحشة] هو بصدد الانتباه بها؛ فلا مجانسة بينهما. فيبقى ذلك معنى- أن سلم مناسبته -غريبا لا نظير له في الشرع. والاعتماد في مسئلة الثيب الصغيرة، وإثبات الثيابة علة - على الإضافة اللفظية، المستفادة من قوله- عليه السلام -: "الثيب أحق بنفسها من وليها". وفي مسئلة الربا، وإثبات الطعم علة - على قوله- عليه السلام -: "لا تبيعوا

الطعام بالطعام"، على ما قررناه في كتاب "مآخذ الخلاف"، وكتاب "تحصين المآخذ" [وقد نبهنا على هذا المسلك الضعيف وطريق تقريره، في هذه الكتب]. المثال الثالث: تعليل بعض العلماء، حرمان القاتل عن الميراث، بمعارضته بنقيض قصده: في استعجال الحق قبل أوانه. وهذا أن لم يستعمل في معرض العقاب على عدوانه، يكون فناً غريبا من المعنى: لا يلفى له نظير. وإذا قيل: القتل جناية، والحرمان عقوبة؛ فكان منوطا به لكونه جناية، وقطع عنه الصبي والمجنون - كان ذلك من قبيل التعليل بالمعنى الملائم؛ فأن تأثير الجنايات في العقوبات والتغليظات، معهود من دأب الشرع.

ولو ثبت معنى المعارضة بنقيض القصد للاستعجال، لكان تعليل [بعض] أصحابنا في تحريم الخل الحاصل من التخليل، بمعارضته بنقيض قصده في استعجاله - من جنس الملائم؛ إذ يصير معهود النظير في القتل، ولكن هذا المعنى- في القتل -غير ثابت ولا مستقيم على السبر والبحث ولا يسلم عن النقض. وغرضنا ضرب الأمثلة، لا أعيان هذه المسائل. المثال الرابع للمناسب الغريب: تخصيص الوضوء في ترتيبه: بتقديم الوجه على اليدين، وذكر ممسوح بين مغسولين؛ حتى قال الشافعي رحمه الله؛ هذا تنبيه على كون الترتيب على هذا الوجه مقصودا؛ إذ لو لم يكن مقصودا: لم يكن هذا الترتيب. وتخصيصه بالذكر- مع إيقاع ممسوح بين مغسولين -أولى من جريانه على ترتيب الخلق: من البداية بالرأس، والانحدار إلى الوجه، والختم بالرجل. إلى غير ذلك: من وجوه الترتيب.

فيمنع الشافعي عن هذا الاستدلال، بأن يقال: سبب هذا الترتيب: تقديم الوجه [28 - أ] لأنه أهم الأعضاء بتحصيل النظافة فيه؛ وتأخير الرجل: لأنه أحرى الأعضاء بالبعد من النظافة، لمخالطة التراب في نقل الأقدام، ومماسة الخف إلى غير ذلك؛ فتبقى اليد والرأس، فكان تقديم اليد أولى: إذ هو آلة التناول ويقع مكشوفا غالبا؛ والرأس في الغالب مستور بكور العمامة؛ ولذلك خفت وظيفته وهو: المسح. فهذا فن من الكلام مناسب، يتميز عن قول القائل: قدم الوجه لأنه على شكل الاستدارة مثلا؛ إلى غير ذلك: من صفات خلقية تنبو عن الحكم. إلا أن مثل هذه المعاني- وإن كانت مناسبة -فغير موثوق بها؛ إذ لم يثبت من [جهة] الشرع ملاحظة جنسها، ويتسع التقدير في أمثالها، ولا يضيق طريقها على أي وجه كان، فأنه لو ذكر الترتيب على عكس المعهود: لأمكن أن يعكس هذا المعنى، ولكان يقال: الوضوء للصلاة، والصلاة تقع بعده؛ فأخره غسل الوجه: لأنه أهم الأعضاء بالنظافة، ليكون العهد به- عند الاشتغال بالصلاة -أقرب؛ ولو ابتدأ بالرأس، ثم بالوجه، ثم باليد، ثم بالرجل: لأمكن أن يقال: سببه

ترتيب الخلقة؛ ولو قدم اليد لأمكن أن يقال: سببه تنظيف الآلة أولا حتى ينظف بها غيرها. وأمثال هذه الخيالات يتسع طريقها، ولا يوثق بها. نعم: هي صالحة في هذا المقام لدفع الاستدلال بالآية؛ فإن الآية ليس فيها صيغة تدل على وجوب الترتيب؛ وإنما يستند المستدل فيها إلى تخصيص البعض بالتقديم والتأخير، ويقول: إذا لم يكن له سبب، فسببه وجوب التقديم. فيقال: هذا إمكان تعلقت به، وهذه الإمكانات تعارضه؛ فتطرق إليه الاحتمال. فهذا ما يعن من أمثلة المناسب الغريب، وقد يتطرق نظر إلى بعض هذه الأمثلة في إلحاقها بأجناسها. وغرضنا حاصل من تعريف الأجناس، ولا غرض في أعيان الأمثلة. فتحصل أن المعاني المناسبة تنقسم: إلى [مؤثرة، وهي: التي ظهر اعتبار عينها] في عين الحكم المنظور فيه، وإلى ملائمة ليست مؤثرة، وهي: التي ظهر اعتبار جنسها في جنس ذلك الحكم، وإلى غريبة: لم يظهر في [في الشرع] اعتبار عينها، ولا اعتبار جنسها، وهي- مع ذلك -تناسب نوعا من المناسبة: تتميز به عن الطرد الذي ينبو عن الحكم نبوة: لا يتقاضاه، ولا يتعلق به. فهذا بيان تمييز الأجناس. فأن قال قائل: ما ذكرتموه بيان انقسام المناسب - بالإضافة إلى ما يدل

على اعتباره من تأثير، أو ملائمة، أو فقد التأثير والملائمة. فما حد المناسب وحقيقته [وإلى ماذا يرجع حاصله] وما المعيار الذي يعرف به كون المعنى مناسبا: إذا وقع فيه الشك للناظر، أو التنازع للمناظر؟ قلنا: المعاني المناسبة: ما تشير إلى وجوه المصالح وأماراتها. وفي إطلاق لفظ المصلحة [أيضا] نوع إجمال؛ والمصلحة ترجع إلى جلب منفعة أو دفع مضرة. والعبارة الحاوية لها: أن المناسبة ترجع على رعاية أمر مقصود. أما المقصود، فينقسم: إلى ديني، وإلى دنيوي. وكل واحد ينقسم: إلى تحصيل، وإبقاء. وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة. وقد يعبر عن الإبقاء: بدفع المضرة. يعني: [أن] ما قصد بقاؤه: فانقطاعه مضرة، وإبقاءه دفع للمضرة. فرعاية المقاصد عبارة حاوية للإبقاء ودفع القواطع، وللتحصيل على سبيل الابتداء. وجميع أنواع المناسبات ترجع إلى رعاية المقاصد. وما انفك عن رعاية أمر مقصود، فليس مناسبا. وما أشار إلى رعاية أمر مقصود، فهو: المناسب.

ثم الشيء ينبغي أن يكون مقصودا للشارع، حتى تكون رعايته مناسبة في أقيسة الشرع. فقد علم - على القطع [28 - ب] أن حفظ النفس والعقل والبضع والمال، مقصود في الشرع. فجعل القتل سببا لإيجاب القصاص، لمعنى معقول مناسب، وهو: حفظ النفوس والأرواح المقصود بقاؤها في الشرع، وعرف كونها مقصودة على القطع. وحرم الشرع شرب الخمر: لأنه يزيل العقل؛ وبقاء العقل مقصود للشرع، لأنه آلة الفهم وحامل الأمانة، ومحل الخطاب والتكليف. والبضع مقصود الحفظ، لأن في التزاحم عليه اختلاط الأنساب، وتلطيخ الفراش، وانقطاع التعهد عن الأولاد: لاستبهام الآباء: وفيه التوثب على الفروج بالتشهي [والتغلب] وهي مجلبة الفساد والتقاتل. والأموال مقصودة بالحفظ على ملاكها؛ عرف ذلك بالمنع من التعدي على حق الغير، وإيجاب الضمان، ومعاقبة السارق بالقطع.

وقد نبه الرب تعالى على مقصود القصاص، بقوله:} ولكم في القصاص حياة {، ونبه على فساد الخمر، بقوله:} أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر {. وهي من المضار والمحذورات في أمور الدنيا؛ وقد يقترن به أيضا مفسدة الدين. و [قد] نبه على مصالح [الدين] في قوله في الصلاة:} إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر {. [وما يكف عن الفحشاء] فهو جامع لمصالح الدين، وقد تقترن به مصلحة الدنيا أيضا. فجميع المناسبات ترجع إلى رعاية المقاصد. إلا أن المقاصد تنقسم مراتبها: فمنها: ما يقع في محل الضرورات؛ ويلتحق بأذيالها ما هو تتمة وتكملة لها. ومنها: ما يقع في رتبة الحاجات؛ ويلتحق بأذيالها ما هو كالتتمة والتكملة لها. ومنها: ما يقع في رتبة التوسعة والتيسير الذي لا ترهق إليه ضرورة، ولا تمس إليه حاجة؛ ولكن تستفاد به رفاهية وسعة وسهولة؛

فيكون لذلك- أيضا -مقصودا في [هذه] الشريعة السمحة السهلة الحنيفية. ويتعلق بأذيالها ولواحقها ما هو في حكم التحسين والتتمة لها. فتصير الرفاهية مهيأة بتكميلاتها. وتختلف مراتب المناسبات في الظهور، باختلاف هذه المراتب: فأعلاها ما يقع في مراتب الضرورات؛ كحفظ النفوس، [فأنه مقصود الشارع، وهو] من ضرورة الخلق، والعقول مشيرة إليه وقاضية به - لولا ورود الشرائع؛ وهو الذي لا يجوز انفكاك شرع عنه: عند من يقول بتحسين العقل وتقبيحه. ونحن وأن قلنا: أن الله- سبحانه وتعالى -أن يفعل ما يشاء بعباده، وأنه لا يجب عليه [رعاية] الصلاح - فلا ننكر إشارة العقول إلى جهة المصالح والمفاسد، وتحذيرها المهالك، وترغيبها في جلب المنافع [والمقاصد] ولا ننكر أن الرسل عليهم السلام بعثوا لمصالح الخلق في الدين والدنيا: رحمة من الله على الخلق وفضلا؛ لا حتما ووجوبا عليه. قال الله تعالى:} وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين {، إلى غير ذلك: من الآيات الدالة عليه.

وإنما نبهنا على هذا القدر، كي لا ننسب إلى اعتقاد الاعتزال، ولا ينفر طبع المسترشد عن هذا الكلام: خيفة التضمخ بعقيدة مهجورة، يرسخ في نفوس أهل السنة تهجينها. فليعتقد- على هذا التأويل- أن العقول ترشد إلى الزجر عن القتل بالقصاص. فكل مناسبة يرجع حاصلها إلى رعاية مقصود- يقع ذلك المقصود في رتبة يشير العقل إلى حفظها، ولا يستغنى العقلاء عنها- فهو واقع في الرتبة القصوى في الظهور. مثاله: إيجابنا القصاص بالمثقل محافظة على قاعدة الزجر [والردع] وإلحاقا للمثقل بالجارح. ومن قبيلة قولنا: الأيدي تقطع باليد الواحدة، كما تقتل النفوس بالنفس، حسما لذريعة التوصل إلى الإهدار [29 - أ] بالتعاون [اليسير الهين على أخدان الفساد وأقران السوء] فهذا فن واقع في الرتبة العليا

لا غبار على مناسبتها؛ فأن كان يعترض عليها: فمن طريق آخر لا من طريق المناسبة، وغرضنا ضرب [المثال] لبيان مراتب المناسبات. ومن هذا الفن: تعليلنا تحريم شرب الخمر، بكونه مفسداً للعقل الذي هو ملاك أمور الدنيا والدين. فهذا -أيضا- مما لا يجوز أن تنفك عنه عقول العقلاء، ولا أن يخلو عنه شرع مهد بساطة لرعاية مصلحة الخلق في الدين والدنيا؛ فلم تشتمل ملة قط على تحليل مسكر، وإن اشتملت على تحليل القدر الذي لا يسكر من جنس المسكر. وكذلك القول في مقصود البضع [والمال] وما يقع على هذه الرتبة. وأمثال اللواحق بهذه المراتب والتتمة لها، كقولنا: إن المماثلة مرعية في استيفاء القصاص؛ إذ عقل أن الزجر وتشفى الغيظ مقصود في أصل القتل مراعاته. وتمامه: في رعاية المماثلة في التنكيل بالقاتل المتعدى كما فعل، والإحراق إذا أحرق، والتغريق إذا غرق [وما يجري مجراه].

ومثاله أيضا في الخمر: تحريم اليسير لكونه داعيا إلى الكثير، ومحركا لعطش الشرب، وباعثا على الترقي إلى الحالة المطلوبة للنفوس: من الطرب والهزة؛ وتعديتنا ذلك إلى القليل من سائر المسكرات. فأصل المعنى فيه جلي، وهذا- لاتصاله به، ووقوعه موقع التضبيب والتثمير لذلك الأمر المهم المقصود- وقع ظاهراً لا سبيل إلى إنكار مناسبته. [ورجع حاصل] هذه المناسبات إلى رعاية المقاصد. أما مثال [المرتبة الثانية فإن] الواقع في محل الحاجة: تسليط الولي على تزويج [الصغير والتزويج من الصغيرة]، فإن نصب القوام على الطفل- لحضانته وصيانته، وإنفاق ماله عليه،

[وشراء الطعام له، واستئجار من يقوم بمصلحته]- واقع في محل الضرورة؛ لأن الحاجة إلى النفقة والحضانة [طبيعية] جبلية في حال الصغر؛ وفي الأعراض عنها [سعى في هلاك الصبيان كلهم، وفيه هلاك النفوس وانقطاع الجنس، فهذا يقع موقع الضرورة]، فأما تزويج الصغير، والتزويج منه- فلا ترهق إليه ضرورة، ولا تمس إليه حاجة ناجزة: من شهوة وتوفان؛ ولكن مصلحة المعيشة في العمر تنتظم بأمر النكاح، والاتصال بالعشائر، والتكثر بالأصهار؛ والخاطب الكفء والكريمة المرموقة إذا ظهر: فالمصلحة في تقييده قبل أن يفوت ولا يتفق الظفر بمثله، فيقع ذلك في محل الحاجة. فصارت غبطة الصبي ومصلحته المستغنى عنها مقصوداً من جهة الشرع، كضرورته التي لا غنية له عنها؛ وصار رعاية هذا المقصود مناسباً، كرعاية المقصود الضروري [وما يجرى الضروري]؛ والتحق بتلك الرتبة.

ثم ما يجري مجرى التتمة لهذه الغبطة: كمراعاة الكفاءة، والمحافظة على مهر المثل- على ما اختلف العلماء في وجوبه- يلتحق في المناسبة بالأصل؛ لأنه كالتكملة والتتمة لرعاية هذه الغبطة، وإن كان الأصل الكلي من مقصود النكاح لا يفوت به. فنحن نستعمل هذا المعنى في منع الولي من النقصان عن مهر المثل، وفي منعه من التزويج من غير كفء. وأبو حنيفة وأن صحح النكاح من الأب من غير كفء، فليس يصححه لإنكار هذا المعنى. بل يقول: تفويض الأمر إلى رأي الأب- وهو غير متهم: لشفقته وأبوته- أولى؛ فلعله يتفطن لغبطة خفية؛ توازي غبطة الكفاءة وتزيد عليها. فأصل المعنى لا سبيل إلى جحده، وهو يستعمل أصل المعنى في الثيب الصغيرة، ويقول: تزويجها من مصلحة المعيشة، فلا يعطل، وكذلك في اليتيمة التي ليس لها أب ولا جد، كما في غير اليتيمة، وكما في البكر؛ ويعلل بالصغر، ويبدي فيه وجه المناسبة [29 - ب] كما ذكرناه.

وهو بين لا يعترض عليه من حيث القدح في هذه المناسبة؛ بل يعترض من وجه آخر. ويرجع منشأ النزاع إلى التردد في محل استعمال هذه المعاني، على ما نذكره في هذه المسائل. ثم للشرع -في هذا الجنس- نوع تصرف -فلا ينبغي أن نغفل عنه- وهو: إدارة الحكم على أمارة المصلحة من غير تتبع وجه المصلحة؛ فإن مصلحة الصبي لحاجته إلى قوام، وحاجته لصغره وضعف عقله؛ وقد يقوى عقله عند مراهقة البلوغ؛ ولكن يقطع الشرع غمة الأشكال عن أطراف الأحوال، بإتباع الصغر الذي هو أمارة المصلحة [غالبا؛ فيدار الحكم مرة على عين المصلحة، وأخرى على أمارة المصلحة]. وكل ذلك من نظر الشرع. وفي إتباع الأمارة -أيضا- نوع مناسبة، وهو: عصر الوقوف على عين الحاجة؛ كما [أديرت الرخص] على السفر لا على عين المشقة، وأديرت الولاية على القرابة لا على الشفقة؛ فأنها لا يوقف عليها. وإنما الغرض التنبيه على مراتب المناسب، وأن حاصل جملتها يرجع إلى رعاية المقاصد؛ وأن المقصود قد يقع في محل الحاجة، وقد يقع في محل الضرورة؛ وقد يعلم كونها مقصودا من جهة الشرع على القطع، وقد يظن ذلك. [وكل ذلك] من طرق المناسبات.

المرتبة الثالثة: ما لا يرجع إلى ضرورة، ولا إلى حاجة؛ ولكن يقع موقع التحسين والتزيين، والتوسعة والتيسير؛ للمزايا والمراتب، ورعاية أحسن المناهج في العبادات والمعاملات، والحمل على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات. ومثال ذلك: حكم الشرع بسلب العبد أهلية الشهادة، وليس إلى سلب أهليته حاجة ولا ضرورة. ولو قبلت شهادته في حال العدالة: [لكان ذلك] كقبول فتواه وروايته؛ ولكن: لما كان الرقيق نازل القدرة والرتبة، ضعيف الحال والمنزلة؛ بإثبات يد الاستيلاء [عليه] والتسخير؛ وكانت الشهادة ونفوذها على الغير منصبا عليا ومقاما سنيا- لم يكن ذلك لائقا بحاله. فيفهم مقصود الشرع -في سلبه الأهلية- على هذا الوجه؛ ففيه نوع مناسبة تتميز عن قول القائل: أنه لا تقبل شهادته، لأنه لا تجب عليه الجمعة مثلا كالصبي؛ فإن سقوط التكليف بالجمعة لا ينبئ بحال عن سقوط أهلية الشهادة؛ بخلاف ما ذكرناه.

ولو قال قائل، هي ولاية: فلم يكن من أهلها كالولايات- قيل: ولم لم يكن من أهل الولايات، ولا ينسب لها؟ إلا أن تكفل شغل الخلق بولاية القضاء، وتكفل شغل الأولاد بأنواع التفقد- شغل شاغل: يستدعى فراغا واهتماما مصروفا إليه؛ والعبد مستغرق الأوقات بوظائف الخدمة. وهذا المعنى لا يطرد في الشهادة: فأنها كالرواية؛ إذ يرجع حاصلها إلى الأخبار عن المعلوم. ولو استقام التعليل بهذا النوع: لالتحق بالرتبة السابقة، كتعليل سلب الولاية [به]. وكذلك قيد الشرع صحة النكاح [بشرط] الشهادة؛ ولو صح على السبر تخيل مقصود الإثبات عند الجحود: لالتحق بالرتبة الثانية، ولوقع في مظان الحاجة، ولكن: ليس يستقيم الاستغناء عن الأشهاد على رضاء المرأة، مع أن النكاح لا يثبت إلا

عليها؛ فيتخيل [إذن] أن المقصود من حضور الشهود: تمييز النكاح بالإعلان [والإظهار] عن السفاح. ثم مراتب الظهور تضطرب؛ فضبط الشرع ما فيه -من الحيط- بشهادة شخصين لهما أهلية الشهادة، حتى يكون للإظهار عليهما وقع. فهذا أمر لا حاجة إليه، وإنما يجرى التحسين للأمور. وكذلك قيد النكاح بالولي؛ ولو أمكن تعليله بكون المرأة في منظنة الغباوة-[لقصور العقل والنظر] ووفور الشهوة، والمبادرة إلى سوء الاختيار، بأنواع الخداع والاغترار لوقع هذا [30 - أ] المناسب في الرتبة السابقة، ولكن: لا يستتب ذلك في [سلب] عبارتها ولا في التزويج من الكفء، فيقال في تعليله: لو ثبت ذلك بنص مثلا: [لكان] اللائق بذوات المروءات الحياء والانزواء عن مباشرة النكاح، ففيه إظهار الشبق، والمجاهرة بالتشوف إلى الرجال؛ والشرع يحمل على محاسن الأخلاق؛ وفي مباشرتها النكاح بنفسها ما يناقض ذلك، فنقدر محاسن الأخلاق مقصودا من جهة الشرع، ونقدر الاستقلال مناقضا له، فيتراآى منه نوع من المناسبة.

لهذا وأمثاله أمثلة المناسبات الواقعة في الرتبة الأخيرة؛ فأنها من أضعف درجات المناسبات. وسنذكر المحل الذي يجوز الاعتماد فيه على [مثل هذا المعنى]، والموضع الذي لا يعتمد فيه على أمثال هذه المعاني. ومن خاصية هذه الرتبة [أن تغلب فيها المناسبات] الخيالية الإقناعية. وعلى الجملة، المناسب ينقسم: إلى حقيقي عقلي، وإلى خيالي إقناعي. فأما الحقيقي العقلي، فما بيناه في الرتبتين السابقتين، وهو الذي لا يزال يزداد- على البحث [والتنقير] والسبر- وضوحا، ويرتقى -بمزيد التأمل- إلى شكل العقليات. وأما الخيالي الإقناعي، فهو: الذي يخيل في الابتداء مناسبته، فيقطع عن الطرد الذي ينبو عن المخيل؛ وإذا سلط عليه البحث، وسدد إليه النظر- ينحل حاصله، وينكشف عن غير طائل. مثاله: تعليل الشافعي في تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها، وقياس الكلب والسرقين وسائر النجاسات العينية عليه،

ووجه المناسبة في النجاسة: أن حكم الشرع بنجاسته أمر باجتنابه، وإشارة إلى استقذاره، والتجنب عن مخالطته؛ ففي الإقدام على بيعه، ومقابلته بالمال، وإيجاب الضمان على متلفه- إقامة وزن له يناقض ما علم: من خسته بتنجيس الشرع إياه. فهذا الفن واقع في الرتبة الأخيرة؛ اذ لا يتعلق بالمنع من بيعه حاجة ولا ضرورة؛ ولكن: ×× أن في الإقدام على بيعه -بعد تنجيس الشرع إياه- ما يناقض محاسن العادات، وتستوي في هذه القضية سائر النجاسات. والمعنى بكون خيالياً إقناعياً، أن الحاذق يسلط البحث على هذا الكلام، فيقول: هذه ألفاظ جملية ركبت وخيل من مجموعها مناسبة؛ وإذا جرد النظر إلى المعنى في حقيقته وإلى الحكم، انتفت المناسبة. إذ معنى نجاسته: أن الصلاة لا تصح معه لا المنع من استعماله] لنجاسته [و] الكف عن [مخامرته؛ فالانتفاع بالنجاسات جائز بالاتفاق؛ ومعنى البيع: نقل الاختصاص ببدل. ولا مناسبة بين بطلان الصلاة باستصحابه،

وبين المنع من بيعه. فبهذا ينكشف الغطاء، وتنقطع المناسبة. ولا تزال تزداد المناسبة خفاء واندراسا بالبحث. ولكن على الجملة: ليس يبعد -في نظر الشرع- أن يمنع من بيعه: تأكيداً لتنجيسه والكف عن مخامرته. ومثال هذه الاقناعات قد يوجد في الشرع معتبرا، ولكن قد يعتقد اعتباره: إذا دل عليه مسلك نقلي، أما مجرد هذه المناسبة، فربما] لا يجري على دعوى التعليل. وكذلك إذا قلنا: تحريم الربا في الأشياء الأربعة سببه: الطعم وحرمته، تضييقا لطريق التحصيل فيما عز في نفسه؛ فان ما يعز لا ينال إلا بنوع تكلف، وتجثم شروط ومضائق؛ وما سقط حرمته لم يضيق طريقه، بل سهل مناله -كان هذا كلاما إقناعا ضعيفا، ينكشف، -بالبحث- عن غير طائل، إذا يقال: العزيز المحترم يصان عن الإتلاف بالإسراف والتضيع؛ فأما أن يصان عن التحصيل بطريق التملك -فلا؛ بل يمهد إليه طريق التملك، ويوسع مسلكه لشدة الحاجة إليه.

وكذلك إذا قلنا: إن العبد لا يلي أمر ولده، لأنه مولى عليه، ويتناقض] أن [يكون الشخص الواحد وليا] و [موليا عليه -خيل هذا الكلام في مبدأ الأمر مناسبة، ولكن ينحل تعقيده] 30 - ب [بأن يقال: المتناقض أن يكون ولياً فيما هو مولى عليه، فإنها تلي أمورا ويولى عليها في عقد النكاح. فيرجع حاصله إلى أنه المرء بنفسه ثم بمن يعول، وهو ليس متفرغاً لنفسه، فكيف يلي غيره. فيرجع إلى أمر إقناعي: ما لم يذكر وجه تضرر المولى بسبب اشتغال العبد، واستغراقه الأوقات بوظائف خدمة السيد. فهذه أمثلة هذه المناسبات على تفاوت الدرجات. وطريق تركيب الاقناعيات] هو [اقتباس قضايا جملية من أسباب معينة، وبناء الغرض عليها، فنقتبس من النجاسات قضية

جميلة، وهي: الحقارة والخساسة. ونقتبس- من الإقدام على البيع، والمقابلة بالمال- قضية جملية، وهي: تشريف، وإقامة وزن، وإثبات قدر. ثم ينشأ التنافي من القضيتين الجمليتين. وكذلك نقتبس من وصف الطعم حرمة تنبئ عن عزة ومزية، وهي قضية جملية. ونقتبس من التحصيل بجميع الطرق، من غير تضييق ومزيد اعتناء- قضية جملية، وهي: التساهل والتهاون به؛ ونتخيل تنافيا بين القضيتين: فتنتظم منه المناسبة، وهي: المحافظة على القضية المقصودة الثانية، بنفي ما يناقضها. وكذلك نقتبس من رق العبد نوع ذلة وصغار ومهانة؛ ومن قبول الشهادة علو منصب وارتفاع قدر. ونتخيل بينهما تنافيا. فلو رفعت هذه القضايا الجملية التي استثمرت من القضايا المعينة الخاصة، ونسبت القضايا الخاصة بعضها إلى بعض -لم تتناسب، وهي قول القائل: لا تصح الصلاة معه فيبطل بيعه؛ وهو مطعوم يحتاج إليه فيجب فيه القبض في المجلس، ويحرم] فيه [النساء والفضل؛ ومملوك فلا يصدق في قوله مع العدالة. وهذه الأمور لا تناسب بأنفسها، وتناسب بقضاياها الجميلة. فسبيل حل هذه التعقيدات تفصيل ما أجمله المخيل: من القضايا،

وتبين أنها لا تزيد على المعنى] الخاص [الذي قدره موجباً له، فإذا لم يزد عليه: انقطعت المناسبة. فهذا بيان مراتب المناسبات وطرقها، ودرجاتها وأمثلتها. فإن قيل:] قد [ذكرتم حقيقة المناسب وأجناسه وأنواعه؛ فما الدليل على كونه طريقاً إلى التعليل ومعرفا؟ قلنا: هذا هو المقصود بالكلام؛ ولكنا قدمنا الأمثلة: إذا لا يعرف وجه دلالة الدليل من لم يعرف الدليل بنفسه؛ ومناسبة المعنى دليل على كون الحكم ثابا ومعلقا عليه. فنقول أولا: لسنا نعرف خلافا -بين الفقهاء القائسين -في قبول المناسب على التفسير الذي ذكرناه؛ والمعنى بالمخيل هو المناسب. وما ذكره أبو زيد: من أن الاخالة لا يمكن الدلالة عليها مع الخصم؛ فالظن به أنه عنى بذلك ما يرجع إلى شهادة القلب، ووقوع في النفس: يجري مجرى الإلهام الذي يضيق نطاق العبارة عنه. وما ذكرناه -من المناسب- خارج عن الفن الذي ذكره؛ وهو الذي نعنيه بالمخيل أيضا: اذا أطلقناه. ودليل قبوله ما هو الدليل على قبول القياس ×× الذي قدمناه؛ ودليل قبولهما جميعا دليل أصل القياس، وهو: إجماع الصحابة.

والظن بأبي زيد أنه أراد ××: المناسب الملائم؛ ولم يشترط التأثير على التمثيل الذي قدمناه، بل اكتفى بالمناسبة مع الملائمة. ويشهد لذلك ما ضربه: من الأمثلة للقياس؛ إذا قال:] قال [النبي عليه السلام: "أنها من الطوافين عليكم والطوافات"، على لسقوط النجاسة: بضرورة] الطوف علينا [؛ وللضرورات تأثير في إسقاط حكم الخطاب. وهذا ما نعنيه بالمناسبة؛ فإن الحاجة داعية إلى المخالطة، فوق ذلك على الرتبة الثانية من المناسبات التي ذكرناها. وهذا ملائم مجانس لتصرفات الشرع في توسيع الأمر، في مظان الحاجات. ومن أمثلة قوله في مسح الرأس: أنه مسح، فلا يسن تثليثه كمسح الخف.

فهذا سماه مؤثرا؛ وهو واقع في التربة الأخيرة من المناسبات التي] ذكرنا أمثلتها [. ويكاد] 31 - أ [يلتحق -عند تمام البحث- بشبه مجرد، أو بمناسبة اقناعية ضعيفة. وبيانه] هو أن يقال له [: ولم عللت سقوط التكرار في الأصل بكونه مسحا؟ ويطلب بإبداء أثره. فان قال: لأن المسح في ذاته أخف من الغسل، ويلحق الناس في الغسل -من المشقة- ما لا يلحقهم في المسح؛ ولأن صفة المسح قد أثرت في إيجاب تخفيف هذا الركن، متى قوبل بالغسل في حق استيعاب محله. هذا ما ذكره أبو زيد في إبداء تأثيره. ففيه نظر: إذا نسلم أن المسح في ذاته أخف] من الغسل [ولكن: لم يمتنع تكريره؟ وما وجه المناسبة؟ وأين ظهر في الشرع -لخفة الذات- تأثر في منع التكرار؟

يبقى قوله: انه ظهر تأثيره في التخفيف حيث لم يجب استيعاب محله؛ وهذا ×× إلى إظهار] أثر [عين العلة في جنس الحكم المتنازع فيه، وهو: التخفيف، فيقول: إذا عهد المسح مؤثرا في التخفيف من هذا الوجه_: ظهر كونه مؤثرا في الوجه الآخر من التخفيف. فيقال: ومن سلم أن ذلك من أثر كونه مسحا؟ وبم عرفت ذلك: ولم يظهر إلا حكم مقرون بوصف؟ فلم جعلته معللا بذلك الوصف: وليس فيه نص ولا إجماع؟ وبم تنكر على من يقول: المسح على الرأس اكتفى فيه بالأقل: مما ينطلق عليه الاسم، لأنه واقع على الرأس؛ فهذا علته؟. فان قال: يبطل بالمسح على الخف، فانه يساويه في الحكم، وليس واقعاً على الرأس. قيل: هذا عكس، وليس بنقض؛ والعلة فيه: كونه على الخف؛ ويجوز إثبات الحكم في محلين بعلتين. فان قال: وأي مناسبة -لكونه على الرأس، أو على الخف- في الاقتصار] على البعض [؟ قلنا: فهذا اعتراف بأن طريق المعرفة: المناسبة. فإذا ظهر مناسبة المسح للحكم، ولم تظهر مناسبة هذه الأوصاف، وجب التعليل بالمناسب؛ وإلا: فمن يتمكن من إبداء نص أو إجماع في

تعليل الحكم بكونه مسحا؟!. وإنما الطريق هي: المناسبة؛ فطلب التأثير، وطلب المناسبة واحد؛ وهما عبارتان عن معنى واحد. فأما الاقتصار، في الاستدلال، على إثبات العلة بالإجماع أو بالنص -فلا وجه له. وهذه العبارة تداولها ×× من أبي زيد، وهو أن العلة: ما ظهر تأثيره بالنص أو الإجماع. وهذه الأمثلة لا تصير على هذه الترجمة، بل يضطرون إلى تفسير التأثير: بالمناسبة؛ ثم يكتفون بمناسبة ضعيفة؛ ومناسبة المسح للتخفيف في غاية الضعف، وحاصله يرجع إلى أنه خفيف بذاته، فينبغي أن يخف حكمه؛ وهذا تحكم محض، يكاد يلتحق] بأنواع الاقناعيات من [المناسبات، ويتقاعد عنه، وأي بعد في أن يقال: الاقتصار على الأقل نوع تخفيف لا تعقل علته، وليس ذلك لكونه مسحا؟ وان أرادوا الإنصاف، فسببه: أن المسح من المصادر التي لا تقتضي الاستيعاب في اللسان، بخلاف الغسل، فهذا مستنده. وليس من غرضنا عين تلك المسئلة؛ وإنما غرضنا اضطراره -بهذا المثال- إلى القول بالمخيل المناسب، والمنع من الاقتصار -في إثبات العلة-

على الاستدلال بالنص أو الإجماع؛ فإن ذلك يعز وجوده في المسائل القياسية. مثاله الآخر] قوله [: أنا متى قلنا: نكاح الأمة -مع طول الحرة- يجوز: لأنه معنى يجوز معه هذا النكاح للعبد؛ فيجوز للحر: قياسا على] الجهل بالغنا [ووجود حرة رضيت بغير مهر. سمى هذا مؤثرا، وأورده في أمثلة المؤثرات، وأين يتصور ها هنا إثبات العلة] وتأثيرها [بنص أو بإجماع؟ والمطالبة عليه أن يقال: ولم قلت: أن ما لا يمنع العبد لا يصلح أن يكون مانعاً في حق الحر؟ ومن سلم أن] الجهل بالغنا [لا يمنع الحر لأنه لم يمنع العبد؟] بل لم [يمنع العبد: لأنه لم يمنع الحر،] بل [لم يمنع كل واحد منهما] لدليل دل [عليهما على وجه واحد. وهو الإنصاف.

فإن قال: لأن الشرع بني جواز النكاح على الحل، ونصف حكمه بالرق، وجواز] 32 - ب [للحر أربع نساء، وللعبد اثنتين؛ فبقى العبد في النصف، على ما عليه الحر في الكل؛ فلا يفترقان إلا في هذا القدر، ويستويان فيما بقى. هذا ما ذكره أبو زيد من تأثيره. فهو تحكم. أما الفرق في العدد، فمسلم. وأما قوله: بقى في الباقي مسوايا للعبد؛ فتحكم في محل النزاع، وليس ذلك مسلما، وعليه إقامة الدليل. فان قال: استويا في] الجهل بالغنا [، فليستويا في القدرة. قلنا: لم قلت ذلك، ولم يبعد أن يستويا من وجه ويفترقا من وجه، كما في العدد وغيره؟ وإنما استويا -فيما استويا فيه- لاقتضاء الدليل التسوية، لا لاستوائهما في حكم آخر. فما الدليل المقتضي التسوية ها هنا؟ فالمطالبة لا تنقطع عن هذا الكلام أبد الدهر، لأنه حاول تعليل

النفي الأصلي بعلة مؤثرة موجبة؛ وذلك محال كما سنشرحه من بعد. وإنما النافي يستدل أما بعموم أو بدلالة، أو] بسير حاصر لمدارك [الإثبات ونفيه. فإن الشافعي يجعل القدرة على الطول مانعاً؛ فهو المدعى، وكونه مانعاً يفتقر إلى موجب ومقتضى؛ فأما عدم كونه مانعا -وهو البقاء على الأصل- فلا يقتضي موجبا، بلا يكتفي فيه بانتفاء الدليل المغير، وإنما يستدل -في هذا الجنس- بعموم، كقوله تعالى "وانكحوا الأيامى منكم" مثلا؛ إلى أن يبين المدعى أن هذا مخصوص بالموانع، وأن القدرة من] جملة [الموانع. فذكر مأخذه، أو يستدل بطريق الدلالة] عليه [فيقول: لو منع الحر. فهذا الجنس من الدليل جار في النفي، ولكنه -في هذا المقام لا ينفك عن المطالبة. أو يستدل ×× -وهو الطريق الجاري في جميع هذه الأجناس-

فيقول: كونه مانعا إنما يتلقى من السمع، أو من القياس، ووجهه في القياس: افضاؤه إلى الارقاق، أو اقتباسه من منع الحرة تحته نكاح أمة. وهذه الطرق باطلة. وإذا انتفى دليل على تأثيره في المنع، لم يؤثر. فهذا هو الطريق في أجناس ذلك، كما سنذكره. وغرضنا الآن أن نقول: من اجتزأ بمثل هذا الكلام، فكيف يحسن منه أن يترجم مذهبه في العلل، بأن العلة: ما دل النص أو الإجماع على كونه علة. فدل أنه في جميع ذلك يتشوف إلى المناسبة، وقد يشترط معها الملائمة. فكلامه -في هذه الأمثلة- يرجع إلى إظهار الملائمة، وهو مراده بالتأثير. ولذلك أورده في أمثلته عن الشافعي: أن النكاح ليس بمال، فلا يثبت بشهادة النساء وقال: هذا] مؤثر [، لأن المال خلق بذلة،

فتكثر فيه] وجوه [المعاملة؛ وفي تقييد الأمر فيه بالرجال نوع حرج، وهذا ما نعنيه بالمناسب] الملائم. وكذلك قال الشافعي: الزنا فعل يرجم عليه، فلا يساوي النكاح الذي يحمد عليه: في حرمة المصاهرة وقال: هذا مؤثر، وهذا الذي نعنيه بالمناسب [، كما تقدم. وأما ما نقله -من أمثلة المؤثر، عن أبي حنيفة، أنه قال: المحجور] عليه [اذا استودع فاستهلك الوديعة- لا يضمن، لأنه لما أودعه: فقد سلطه عليه. وزعم أن هذا مؤثر -فالأمر على ما قال؛ ولكنه ليس من قبيل اثبات وصف علة الأصل، فإن هذا الكلام لا يفتقر إلى أصل لو ثبت؛ فليس هو على شكل هذا القياس] الذي حددناه: بالجمع بين الأصل والفرع برابطة [] 32 - أ [وإنما هو

من قبيل دخول التفصيل تحت الجملة. وسنذكر جنس هذا الدليل؛ وحاصله يرجع إلى أن التسليط مسقط، والإيداع ها هنا تسليط: فكان مسقطا؛ فهما مقدمتان ونتيجة، لا يتصور الخلاف في النتيجة مع تسليم المقدمات، وهو كقولنا: كل حيوان نام وكل انسان حيوان: فكل انسان نام. ومثاله من الفقه: كل مغصوب مضمون، والعقار مغصوب، فكان مضمونا. فليس هذا على شكل القياس الذي نحن فيه؛ وإنما محل النظر إثبات الغصب في العقار؛ ومأخذه طلب حد الغصب؛ وذلك لا يعرف من القياس؛ ومحل النظر في الإيداع بيان] أن [الإيداع] تسليط [، ومأخذه طلب حد التسليط؛ ولا يؤخذ ذلك من القياس. ومن هذا القبيل، ما أورده من قول أبي حنيفة: إذا اشترى نصف أبيه لم يغرم للبائع؛ لأنه أعتق برضاه. وكذلك ما أورده] عن محمد بن الحسن، من قوله [، إذا قال لزوجته: إذا دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا، ثم طلقها ثلاثا، ثم عادت إليه، ثم دخلت] الدار [لا تطلق، لأنه حيث طلقها ثلاثا فقد

ذهب طلاق ذلك الملك] كله [، لأن حاصله أن اليمين لم يتناول إلا طلاق ذلك الملك، ولم يبق: فلا يقع. ومن سلم هذه المقدمات، لا يتصور خلافه في النتيجة، نعم: قد ينازع في المقدمات ثم ينجر الكلام -في إثباتها إلى كلام هو على شكل القياس الذي نحن فيه. وقد بان -على الجملة- أن المناسب الملائم مقول به باتفاق القائسين؛ وإنما اختلاف القائسين في المناسب الغريب: الذي لا يلائم؛ أو المناسب الملائم: الذي لم يشهد له أصل معين. وهو الذي يلقب -في لسان الفقهاء- بالاستدلال المرسل؛ يعني به الاعتماد على المعنى المناسب المصلحي] الذي [يظهر في الفرع، من غير استشهاد بأصل معين. ومذهب مالك يشير إلى إتباع المصالح المرسلة؛ وللشافعي فيه تردد رأي. فأما المناسب الغريب -الذي لا يلائم، ولا يشهد له أصل معين- فهو مردود: لا يعرف فيه خلاف. فينحل منه: أن ما لا يناسب

لا يجوز نصبه علة بالرأي؛ وإنما يعرف نصبه علة بدلالة النص أو الإيماء أو الإجماع. فأما ما يناسب، فأربعة أقسام: مناسب جمع شهادة الأصل والملائمة، فهو ×× باتفاق القائسين. ومناسب عدم الملائمة وشهادة الأصل، فليس حجة بالاتفاق. ومناسب شهد له أصل معين، ولكنه غريب لا يلائم. ونعني بشهادة أصل معين: أنه مستنبط منه من حيث أن الحكم ثبت شرعاً على وفقه. ومناسب ملائم] لا [يشهد له أصل معين. وسنذكر أمثلة ذلك في المصالح المرسلة. أما المناسب الغريب الذي لا يشهد له أصل معين، فمثاله ما] ذكرناه: من المناسبات [الغريبة لو قدر ابتداؤها لإثبات الحكم، لا لتعليل الحكم الوارد. كما لو لم يرد قوله: "القاتل لا يرث"،] فقال قائل [: لا نورثه، معارضة له بنقيض قصده في الاستعجال للميراث قبل أوانه. ويزعم أنه مناسب، ويريد إثبات الحكم به. فهذا لا وجه له. والآن، فلابد وأن تفصل القول في المناسب الغريب المستنبط

من محل النص، وفي المناسب الملائم المرسل الذي لا يشهد له أصل] معين [. أما المناسب الغريب، فالاعتماد عليه في محل الاجتهاد. وينقدح لمنكريه التمسك بأمرين: أحدهما: أن مستند القول بالقياس] 32 - ب [إجماع الصحابة؛ والمنقول عنهم: التعليل بالمعاني الملائمة، دون المناسبات الغريبة التي لا نظير لها في الشرع. والثاني: أن نكشف عن مستند المستند، فنقول: حكم الصحابة بالرأي والقياس لا من] تلقاء [أنفسهم، بل فهموا -من مصادر الشرع وموارده، ومداخل أحكامه ومخارجه ومجاريه ومباعثه-: أنه عليه السلام كان يتبع المعاني، ويتبع الأحكام الأسباب المتقاضية لها: من وجوه المصالح: فلم يعولوا على المعاني إلا لذلك، ثم فهموا: أن الشارع جوز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه: لقوله -عليه السلام- لمعاذ: بم تحكم؟ وتقرير على قوله:

أجتهد رأيي. ولقوله لعمر: "أرأيت لو تمضمضت"؟ ولقوله للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين"؟ ولقوله: "أنها من الطوافين عليكم والطوافات". كل ذلك تنبيه على الحكم بالنظائر، والتسوية بينهما عند الاجتماع في المعاني المعقولة منها. فهذا مستندهم؛ ثم هو واضح فيما نبه على المعنى فيه تصريحا أو تعريضا، نطقا أو إيماء. فأما ما ذكره ولم يذكر علته، فطريق التفطن لعلته: ملاحظة عادته المألوفة في إثبات الأحكام ونفيها. كالواحد منا إذا قال لغلامه: اضرب فلانا لأنه سرق مالي؛ فهم سببه بنصه. فلو قال: اضرب فلانا؛ واقتصر ولم يذكر سببه، ولكن علم الحاضرون أنه] قد [شتمه -غلب على ظنونهم أن الداعي له إلى] الأمر [بالضرب، شتمه. هذا: إذا عرف من دأبه وعادته مقابلة الإساءة بمثلها، على طريق العقاب والزجر والانتقام والتشفي. فأما الرجل الذي عرف من دأبه -على الطرد- مقابلة الإساءة بالإحسان، أو الإغضاء والتجاوز-

فإذا قال: اضرب فلاناً؛ وكنا قد علمنا شتمه، لا يتبين لنا أن ضربه للشتم: فإن الدواعي والصوارف تختلف بالطباع والعادات، فالرجل المنعم المتقي إذا تواضع له رجل: احتمل ذلك أن يكون تبركا منه بتقواه، واحتمل أن يكون طمعاً منه في نعماه، ودنياه. ولا يعرف ذلك إلا بعادة المتواضع. فإن عرف بالتكدي والسؤال وجمع المال، فبهذا الطريق ظهر أن سبب تواضعه ذلك ... وأن عرف من دأبه الزهد في الدنيا والإعراض عنها، والترفع عن التضمخ برذيلة السؤال -وهو مع ذلك ملازم سمت التقوى والسداد- ظهر أن تواضع: لتقواه، لا لغناه] ودنياه [. وان لم يعرف من عادة المتواضع شيء من ذلك، بقى الأمر محتملاً. وكذلك معاني الأحكام، تعقل بمثل هذا الطريق؛ وكل ذلك يستمد من موافقته معاني الشرع وملحوظاته: من المصالح. لأنه كما راعى ضروباً من المصالح، أعرض عن أنواع من المصالح. فهذه المصلحة المناسبة: إذا ظهرت أمكن أن يكون ملحوظاً، و] أمكن [أن لا يكون هو الملحوظ، وإنما] وقع [ذلك مقروناً

بالحكم وفاقاً كسائر الأوصاف. فما الذي رجح جانب الاعتبار، على جانب الإخلال؟ وإلى مثل هذا، ترجع تصرفات الصحابة -رضي الله عنهم -: إذا سبرت مسائلهم. فقد تكملوا في مسئلة الجد مع الأخ، وليس فيها نص؛ واحتمل التقديم، واحتمل التشريك. فعلموا أن الشارع -في الترجيح والتسوية -يلاحظ مراتب القرب، فقالوا: [الجد] أب [الأب]، والأخ ابن الأب؛ فكل واحد يدلي بواسطة واحدة، والواسطة الأب؛ فاستويا: فيشركان. وقال آخرون: كما عرف من دأب الشرع ملاحظة القرب، عرف ملاحظة القوة في الترجيح. ولذلك قدم من تقوت [33 - أ] نسبته بالعصوبة، وقدم ابن العم -وإن سفل -على ابن الأخت وإن قرب وللجدودة قوة إفادة الولاية ليس ذلك للأخوة، والجد أب عند فقد الأب، وليس الأخ أباً؛ فيقدم. وأجيب عنه: بأن البنوة أقوى من الأبوة؛ ولذلك فضل الابن

على الأب في الميراث. والأخ يدلي ببنوة الأب، والجد بأبوته؛ فتعادلت القوة. وهلم جرا إلى جميع نظائره. وكل ذلك عرف من عادة الشرع اعتبارها، وملاحظة جنسها. وإنما تترجح جهة الاعتبار على جهة [التعطيل و] الإهمال، بملاحظة العادة المألوفة؛ وليس ذلك إلا بالملاءمة. هذا طريق تقرير هذا الجانب، والذي نراه -والعلم عند الله تعالى -جواز التعليل بهذا المناسب، وإن لم يكن ملائماً، ولست أقول: إن المسئلة قطيعة، ولكنها اجتهادية. وإنما المقطوع به -في الشرع -أصل القياس. أما الحكم بهذا النوع من القياس، فهو في محل الاجتهاد. والظاهر عندي: جواز التعويل عليه، وأنه ملتحق بالمناسب الملائم وإن كان دونه في الظهور، ولكن للمعاني مراتب ودرجات، يظهر أثر تفاوتها عند التوارد، والتزاحم، والترجيح. فالمؤتر الذي قدمناه، على التفصيل الذي حددناه [القياس] المؤثر به، -وهو: ما دل مسلك نقلي على اعتبار عينه -مقدم على المناسب الملائم.

والملائم مقدم على الغريب. ولكن المناسب الغريب -أيضاً - حجة؛ ويتضح وجهه بالانفصال عما نصرنا به الجانب الآخر. فأما التمسك بإجماع الصحابة، وأنه لم ينقل عنهم هذا الفن -فلا حجة فيه. ولا يستبين ذلك إلا بسبر جميع مسائلهم. وعلى الجملة: المفهوم من الصحابة اتتباع المعاني، والاقتصار في درك المعاني على الرأي الغالب، دون اشتراط درك اليقين؛ فإنهم حكموا في مسائل مختلفة، بمسالك متفاوتة الطرق ومتباينة المناهج؛ لا يجمع جميعها إلا الحكم بالرأي الأغلب الأرجح؛ وهو المراد بالاجتهاد الذي قرر النبي -عليه السلام -معاذاً عليه. فعلينا أن نبين [أن] هذا يفد غلبة الرأي. وأما ما ذكروه -: من أن الدواعي إنما تعرف بالعادة المألوفة، وأن من عرف منه مقابلة الإساءة بالإحسان، لا يعلل أمره بالضرب، بالشتم المعلوم -قلنا: نعم؛ وما عرف -أيضاً -من عادة الشرع نقيضه، فلا يجوز التعليل به. ولكن في هذا المقام ثلاث مراتب، لابد من التنبيه لتقاطعها؛ أحدها: أن يعرف من عادته الضرب والعقاب بجنسه، فيظهر التعليل بالشتم.

والثاني: أن يعرف من عادته مقابلة الإساءة بالإحسان، فيظهر -مع معرفة هذه العادة -بطلان التعليل. والثالث: [أن] لا تعرف له عادة بنفي ولا إثبات؛ فإذا أمره بالضرب، وقد عرف الشتم -: غلب على الظن أنه الداعي إليه. وكذلك عادة الملوك في معاملة الجاسوس منقسم؛ فمنهم: من يقتل الجاسوس للزجر، ومنهم: من [يعرض عنه] لإظهار الاستهانة بالخصم، أو يستميل ليستكشف عورات العدو منه. فلو فرضنا ملكاً حديث العهد بالملك، عثر على جاسوس، فقتله -لم نسترب في أنه قصد [به مقصد] العقاب على تجسسه، ولو أعرض [عنه]-مع العلم والقدرة على العقاب -واستمال، ولم تسترب في أنه قصد به مقصد الاستمالة: للاستكشاف، ويتنبه العقل لداعيه تنبهاً ظنياً، [إن] لم يكن قطعياً. فإن قيل: إنما يعرف ذلك بملاحظة سائر الملوك، وأن الغالب: أن مسالكهم تتفق في ذلك، [وكذلك] الأمر بالضرب للشتائم، يعرف أن

داعيته: جريمة الشتم، ملاحظة [لغالب ((33 - ب)) عادة الخلق]؛ فإن الغالب: أن الناس -في إرادة التشفي والانتقام -لا يتفاوتون، فإن ذلك قضية جبلية [طبيعية]. فلم نستغن في فهم ذلك عن ملاحظة عادة [الناس] وملاءمة الفعل له. قلنا: الملك الواحد: إذا عهد منه مرة قتل جاسوس، وعهد أخرى استمالته؛ فاتفق ثالث فقتله -نعلم أنه سلك مسلك العقاب؛ وإن كانت عاداته متعارضة، وعادات غيره من الملوك متعارضة. ولكن: إذا أثبت الحكم على وفقه، تيقناً أنه أجاب تلك الداعية المعينة. فكذلك الشارع: إذا أثبت حكماً على وفق معنى يتقاضى ذلك الحكم ويستدعيه ويناسبه، غلب على الظن أنه [ملحوظة و] مقصوده، وأنه بحكمه مجيب تلك المناسبة الداعية المتقاضية. فإذا فرض ميراث بين الأخ من الأب والأم والأخ من الأب: احتمل في منهاج النظر -لرعاية النصفة والمعدلة بين الجوانب -ثلاثة احتمالات كلها مناسبة: أحدها [أن] تقديم الأخ من الأب والأم، لاختصاصه بمزيد

القوة، وترادف جهة القرابة عليه. واحتمل أن يقال: لا يحرم الأخ من الأب؛ فإن فيه الحاقة بالأجانب؛ وهو يختص بقرابة لا ينبغي أن تعطل. [فيفصل القسم على تفاوت الأثلاث مثلاً]. واحتمل أن يقال: إذا استويا في الدرجة من جهة الأبوة، وهي الجهة الأقوى في العصوبة؛ والأمومة لا مدخل لها في العصوبة -: فليستويا. فإذا جاء الشرع بالتقديم: عقل [به] أنه سلك به ذلك المسلك؛ وإذا جاء بالتسوية: عقل أنه أسقط ملاحظة الأمومة؛ وإذا جاء بالقسمة مع التفاوت: عقل أنه سلك به المسلك الثالث، فالاحتمالات كلها مناسبة صالحة لأن تكون داعية، وإثبات الحكم على وفقها أمارة على ملاحظة الداعية المتقاضية [له]. فإن قيل: لأن هذا حكم بموجب المصلحة، وقد عرف من [عادة] الشرع ملاحظة المصالح. قلنا: فهذا هو الحجة؛ إذ عرف من دأب الشرع اتباع المعاني

المناسبة، دون التحكمات الجامدة، وهذا غالب عادة الشرع. يدل عليه: أن المصالح المتناقضة في توريث الأخوين، لم تعرف جميعها من عادة الشرع. ثم ما من حكم إلا ولو ورد الشرع به: لعقل أنه إتباع للمناسبة المتقاضية له. كيف: ولو بعث نبي مثلاً، ولم ينقل عنه سوى هذه الواقعة الواحدة، فحكم فيها -فهم: أنه انقاد للمناسبة المتقاضية لها؛ قبل أن تعرف عادته، حتى أنه لو اخترمته المنية، ولم يتفق له حكم سواه -لبقى هذا الظن مستمراً لا محالة. والذي يوضح وجه غلبة الرأي في هذا المقام، هو: أنه إذا ورد [حكم] احتمل أن يقال: أنه تحكم لا سبب [له]، ولا مصلحة فيه، ولا لطف. واحتمل أن يقال: أنه معلل بسبب خفي يستأثر بدركه الشارع -عليه السلام -، ولا يطلع عليه، والآخر أن يقال: أنه معلل [بالمعنى] المناسب الغريب الذي ظهر. وأغلب هذه الظنون هو الأخير. إذ حمل تصرفات الشارع على التحكم، أو على المجهول الذي لا يعرف -نوع ضرورة يرجع إليها

عند العجز. فأما مع ظهور المعنى المناسب، فلا يتحقق العجز؛ فيغلب على الظن أنه اتبع المعنى الذي ظهر. فإن قيل: من تصرفات الشرع، ما لم يعقل معناه، ولم يطلع عليه، فيحتمل أن يكون هذا التصرف من جملته؛ ويكون المناسب قد اقترن به وفاقاً غير مقصود. قلنا: هذا كلام من ينكر أصل القياس؛ فإن هذا السؤال يتطرق إلى الملائم، فلعله وقع وفاقاً وملحوظ الشرع معنى آخر خفي لم يطلع عليه، أو هو تحكم لا سبب له، وقد عضدوا هذا [34 - أ] بأن قالوا: عرف [من] الشارع أن [من] تصرفاته تحكمات لا تعقل معانيها؛ إذ سوى بين مختلفات، وفرق بين متماثلات؛ كحكمه بجواز النظر إلى شعر الأمة، وتحريم النظر إلى شعرة الحرة، ولو لم ينص على تجويز النظر إلى شعر الأمة لقال الفقهاء: الأمة في معنى الحرة، والمعنى [المقتضي] للتحريم، خوف الفتنة، وهما سيان. وقال بغسل الثوب من بول الصبية، وبرش [الماء] على بول الغلام، ولو ذكر أحدهما، واقتصر عليه -لألحق القائسون الجانب

الآخر به. إلى أمثال لذلك ضربوها، وهو وارد على جميع القياسين. ووجه الانفصال؛ أن ذلك يجري من تصرفات الشرع مجرى [الشاذ] النادر. والغالب من عادته في التصرفات إتباع المعاني؛ والواقعة النادرة لا تقطع الغالب المستفاد من العادة المتكررة. كما أن من عرف من عادته المعاقبة على الإساءة، ففعل الإحسان منه مرة لا يقطع ظن الظان سلوكه مسلك الانتقام عند العود. وكذلك من رأى مركب الرئيس على باب السلطان، غلب على ظنه أنه في دار السلطان؛ وإن أمكن أن يكون المركب قد استعاره إنسان أو باعه بجميع آلته، أو أمسكه الركابي لغرض له وهو في دار أخرى. ولا يشوش هذا الظن عليه رؤيته ذلك مستعاراً مرة نادرة.

وكذلك: الغيم الركم الكدر في صميم الشتاء، يغلب على الظن استعقاب المطر؛ وإن كان الناظر قد عهد [في عمره] مرة أو مرتين الغيم الخالي عن المطر، على سبيل الندور. وكذلك: إذا عرف أن عزيزاً من أعزة بيت قد أشرف على الموت. فسمع عند الاجتياز بباب الدار الصياح والصراخ [على الدأب المعتاد عند وفاة المحتضر]-غلب على الظن [أنه قد مات] وإن أمكن أن يكون سببه موت غيره فجاءة من غير مرض. وقد عهدت الفجاءة على الندور بالإضافة إلى المرض. فبان أن الظن مع ما ذكروه حاصل؛ وقد ثبت بإجماع الصحابة إتباع الظن الغالب، ودلت عليه الأحاديث، حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لعمر: ((أرأيت لو تمضمضت [بماء] ...))؟ معناه: هلا عرفت هذا بنظيره؟. فلو قال له: ومن عادتك الفرق بين النظيرين، كما في شعر الأمة والحرة، وبول الصبي والصبية؛ لكان ذلك مستنكراً. وكذلك قوله -عليه السلام: أرأيت لو كان على أبيك دين؟. فعلم

أنه عرفهم تعرف الأحكام بالنظائر، والتناظر؛ والتساوي يعرف بالتناظر في المعنى لا بالصورة، فلا مضاهاة بين القبلة والمضمضة في الصورة، وإنما اشتراكهما في المعنى، وهو: أن كل واحد [منهما] مقدمة قضاء الشهوة، وليس فيه قضاء الشهوة. فقد بان بطلان هذا الملك على منكري القياس [ولا خفاء ببطلان هذا السؤال من القائلين بالقياس]؛ إذ ينعكس عليهم في الملائم والمؤثر، ويقال لهم: بم تنكرون على من يقول: لعل الشارع خصص اعتبارهما بمحل النص تحكماً: فلا تجوز تعديته؛ أو لعل المعنى وقع وفاقاً، والحكم تحكم أو له سبب آخر لا يعرف. فإن قيل: التحكمات - التي لا تعقل معانيها - ليست نادرة، وأنتم بنيتم ما ذكرتموه على ندور التحكم بالإضافة إلى المعاني واتباعها. قلنا: ما يتعلق من الأحكام بمصالح الخلق -: من المناكحات والمعاملات، والجنايات والضمانات؛ وما عدا العبادات - فالتحكم فيها نادر؛ وأما العبادات والمقدرات، فالتحكمات فيها غالبة، واتباع المعنى نادر. لا جرم رأي الشافعي [فيه] الكف عن القياس في العبادات، إلا إذا ظهر المعنى ظهوراً: لا يبقى معه ريب؛ ولذلك لم يقس على التكبير

والتسليم والفاتحة والركوع والسجود - غيرها؛ بل لم يقس على الماء في الطهارات غيره، ولم يقس الأبدال والقيم في الزكوات على المنصوصات، ولم يقس في مسألة الأصناف. ومال في جميع مسائلها إلى الكف عن القياس، ورعاية الاحتياط، لأن مبنى العبادات على الاحتكامات، ونعني بالاحتكام: ما خفي علينا وجه اللطف فيه [34 - ب]؛ لأنا نعتقد أن لتقدير الصبح بركعتين، والمغرب بثلاث، والعصر بأربع - سراً، وفيه نوع لطف وصلاح للخلق، استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، ولم نطلع عليه. فلم نستعمله، واتبعنا فيه الموارد. ولسنا نقول ذلك: لأنا نرى رعاية الصلاح واجباً على الله تعالى، ولكنا عرفنا من أدلة الشرع أن الله تعالى -[ببعثه الرسل، وتمهيد] بساط الشرع - أراد صلاح أمر الخلق في دينهم ودنياهم؛ والله [سبحانه وتعالى منزه] عن التأثر بالأعراض، والتغير بالدواعي والصوارف، ولكنها شرعت لمصالح الخلق، نعقل ذلك من الشرع لا من العقل؛ كيلا يظن بنا ظان استمدادنا - في هذه التصرفات - من معتقدات أرباب الضلال،

وطبقات الاعتزال. فإن قال قائلٌ: فما قولكم في الاقناعيات من المناسبات؟ قلنا: ذلك - أيضاً - من المعتبرات في إثبات الأحكام؛ لأن جميع المناسبات - عند البحث - لا ترجع إلى اقتضاء المعاني الموجبات بذاتها، وإنما هو نوع من المناسبة يستدعى الحكم بالعادات المطردة؛ ولا يرجع ذلك إلى الذوات، مثل العلل في المعقولات، وللعادات التفات إلى المعاني الخطابية الإقناعية؛ وللشرع ملاحظة لجنسه؛ وهو من الدواعي المتقاضية بالعادة أيضاً، فإحالة الحكم عليه أغلب على الظن من اعتقاد التحكم الجامد الذي لا معنى له ولا سبب؛ وكأن العقول مشيرة إلى إحالة كل حكم على معنى؛ والاعتراف بالتحكم ضرورة العجز؛ فإذا فقد وجه سوى الوجوه الخفية الضعيفة، وجب التعليل بها. إلا أن الإقناعيات لا ينتفع بها غالبا في تعدية الأحكام؛ إذ يمكن أن يذكر لاختصاصها بمحل النص، معنى على ذلك المذاق: يخصها، ويمنعها من التعدي.

بيانه: أن من علل تحريم بيع الخمر مثلا بنجاسته، بالطرق الذي قدمناه؛ وعداه إلى السرقين وسائر النجاسات - أمكن أن يقال في معارضته: أن [للشرع اعتناء] بنوع خسة أثبتها للخمر وخصصها بها: تنبيها على فسادها، وتحريضا على استقذارها واجتنابها؛ فتحريم البيع يختص بها ولا يتعدى إلى السرقين: لاختصاصها بهذا المعنى. وكذلك لو علل تحريم بيع الكلب بنجاسته، بالطريق الذي قلنا - أمكن أن يقال في معارضته: أنه معلل بنوع خسة ورذالة تختص بالكلب في العادة؛ ولذلك يشبه الخسيس - من سائر الحيوانات - به: كما يشبه الشجاع بالأسد، والمنافق بالثعلب. فيقابل الاحتمال بهذا القدر، لأن أمثال هذه المعاني لا يصفو عن التخييلات مذاقها، فيتسع نطاقها، ولا تحصل الثقة بها؛ فإن حصل به الثقة، وسلم عن المقابلة بمثله - جاز للمجتهد التعويل عليه: أن رآه؛ فإنا رأينا هذا الجنس في محل الاجتهاد، ويختلف ذلك بآحاد المسائل؛ فيجوز للمناظر الاحتجاج به: أن قدر إيراده في قالب المناسبة وشكله.

هذا ما أردنا أن نذكره في المناسبات المستنبطة من الأصول المنصوصة، ولم نتعرض فيه لأدلة إثبات القياس على منكريه، مقصوداً لغرضين. أحدهما: أن اعتناءنا في هذا الكتاب بما تمس [إليه حاجة] القائسين المتناظرين؛ وقبول أصل القياس - فيما بينهم - كالمفروغ منه. والآخر: أن كلامنا - في هذه الترديدات والمرادات - أشتمل على اللباب من أدلة [إثبات] القياس، فلم يسترب من تأمل في مجارى هذه الكلمات - في مأخذ أصل القياس، وكونه حجة في الشرع. وقد تم غرضنا من بيان المناسب الملائم والغريب: إذا ثبت حكم على وفقه. أما المناسب المرسل: إذا ظهر في نفس المسألة على مذاق المصالح - وهو الذي يعبر عنه الفقهاء: بالاستدلال المرسل؛ وهو: التعلق بمجرد المصلحة من غير استشهاد بأصل معين، - فهذا ما اختلفت فيه رأي العلماء. فالمنقول عن مالك - رحمه الله -: الحكم بالمصالح المرسلة، ونقل عن الشافعي [فيه] تردد. وفي كلام الأصوليين [35 - أ]- أيضاً - نوع

اضطراب فيه. ومعظم الغموض في هذه القواعد منشؤه: الاكتفاء بالتراجم والمعاقد، دون التهذيب بالأمثلة. ونحن نمهد - في مبدأ [هذا] الكلام - قاعدة، ثم نهذبها بالأمثلة. فنقول: قد رتبنا المناسب [فيما تقدم] على ثلاث مراتب، وذكرنا أن منها: ما يقع في رتبة [الضرورات، ومنها: ما يقع في رتبة الحاجات، ومنها: ما يقع في رتبة] التحسينات والتزيينات. فالواقع منها في هذه الرتبة الأخيرة، لا يجوز الاستمساك بها: ما لم يعتضد بأصل معين ورد من الشرع الحكم فيه على وفق المناسبة؛ ثم إذا اتفق لك، فنحه منه على علالة كما قدمناه، فأما إذا لم يرد من الشرع حكم على وفقه، فاتباعه وضع للشرع بالرأي والاستحسان؛ وهو منصب الشارعين، لا منصب المتصرفين في الشرع، وإنما إلينا التصرف في

[هذا] الشرع الموضوع؛ فأما ابتداء الوضع: فليس لأحد من الخلق التجاسر عليه. ومثال هذا الجنس: الحكم بأن ما حكم الشرع بنجاسته مثلا [فنحن نحرم] بيعه، ونقدر عدم وقوع الاتفاق على تحريم بيع بعض النجاسات. وكذلك القول في الأمثلة التي ضربناها لهذه المناسبات: إذا قدر الابتداء بها في الفرع دون الاعتضاد بأصل، أو قدر عدم وجود الأصل. فكل ذلك مثال لهذا الفن. ولا يخفي سقوط التمسك به، فإنا - بأنواع التكليف - توصلنا بإثبات الحكم على وفقه، إلى إثباته؛ وقدرنا الحكم شاهدا له، فإذا انقطعت الشهادة: لم يبق إلا الاستحسان والوضع بالرأي؛ وذلك باطل على القطع. أما الواقع من المناسبات في رتبة الضرورات أو الحاجات، كما فصلناها - فالذي نراه فيها: أنه يجوز الاستمساك بها، أن كان ملائما لتصرفات الشرع. ولا يجوز الاستمساك بها: أن كان غريبا لا يلائم القواعد. ونقسمها نوعا آخر من التقسيم، فنقول: هي تنقسم إلى

ما يلغى في الشرع ملاحظة جنسها، فهو المعتبر. وإلى ما يصادم في محل نصا للشرع، يتضمن اعتباره تغيير الشرع؛ فهو باطل عندنا. وإلى ما تسكت شواهد الشرع ونصوصه عنه - فلا يناقضه نص، ولا يشهد لجنسه شرع - فهي: المصلحة الغريبة التي يتضمن اتباعها أحداث أمر بديع لا عهد بمثله في الشرع. هذا وجه انقسامها: من حيث الإضافة إلى شواهد الشرع. وتنقسم قسمة أخرى: [بالإضافة] إلى مراتبها في الوضوح والخفاء. فمنها: ما يتعلق بمصلحة عامة، في حق الخلق كافة. ومنها: ما يتعلق بمصلحة الأغلب. ومنها: ما يتعلق بمصلحة شخص معين في واقعة نادرة. وتتفاوت هذه المراتب [بتفاوت مصالحها في الظهور]. وكل ذلك حجة: بشرط أن لا يكون غريباً بعيداً، وبشرط أن لا يصدم نصا،

ولا يتعرض له بالتغيير. وهذه التقسيمات تتخايل مجملة إلى الناظر، [ونحن]- أيضاً - نهذبها بالتمثيل والتفصيل. وقل ما تلفى هذه [القاعدة في كتب الأصوليين مفصلة ممثلة] ونحن نشفى [فيها] الغليل ونكشف الغطاء عن محل الغموض، ونستقصى ذلك على وجه ينكشف به المقصود، إن شاء الله. ونرى أن نورد أمثلة القاعدة في معرض الأسئلة، ونتكلم عليها في معرض الانفصال، وننبه على ما يشتمل عليه كل مثال. فإن قال قائل: لم قلتم: إن هذا الجنس حجة؟. وما وجه التمسك؟ وما الدليل عليه؟ وقد اضطربت فيه مسالك العلماء، وقد قطعتم القول بقبوله؟ قلنا إنما دلنا عليه ما دلنا على قبول أصل القياس؛ فإنا بينا أن خاصا، ذلك كله راجع إلى [القول بالرأي الأغلب في] فهم مقاصد الشرع.

وإلى هذا يرجع ما يجوز التمسك به؛ وكل مثال نذكره ففيه دليل على قبوله: إذا أظهرنا وجه الرأي فيه. ويشهد على جنس ذلك أمر كلي، [وهو مثال منقول عن الصحابة: اشتهر بين أئمتهم، وتطابقوا عليه]. وذلك [ما روى]: أن الناس لما تتابعوا في شرب الخمر، واستحقروا الحد المشرع فيه - جمع عمر - رضي الله عنه - الصحابة، واستشارهم [واستطلع آرائهم]، فضربوا فيه بسهام الرأي؛ حتى قال علي - رضي الله عنه -: "من شرب سكر، ومن سكر هذي، ومن هذى افترى؛ فأرى عليه حد المفترى". فأخذوا بقوله واستصوبوه واستمروا عليه. وهذه هي المصلحة المرسلة التي يجوز اتباع مثلها.

فإن قيل: شرطتم في المصالح أن تكون ملائمة؛ وليست هذه ملائمة: فالشرب جناية متميزة عن القذف، وليست كل من يسكر يقذف؛ فايجاب حد جريمة على من [لم يجترمها] أمر غريب [في الشرع]، ولا يشهد له نظير، ولا تلائمه قاعدة. قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فإنهم أبوا أولاً أن يعاقبوه بعقوبة لم تعهد مشروعة من جهة الشرع؛ ولو كانوا يسوغون ذلك: لما افتقروا إلى التشبيه بحد مشروع ولو كل ذلك إلى رأي الولاة حتى يفعل [كل وال] في كل شخص ما يراه زاجراً في حقه، لائقا بحاله، جامعا لمصلحته؛ فطلبوا أولا حدا مشروعا، وتشوفوا فيه إلى أحط الدرجات في الحدود: اكتفاء بالأقل ما أمكن. ففي شرع العقوبات نوع من الخطر، وألفوا أقل على من لم [يجترمها]: ما لم يطلبوا مناسبة بين جريمته وبين تلك الجريمة؛ فإن ذلك يؤدي إلى إبداع أمر غريب لا يلائم [نظائر] الشرع، فطلبوا المناسبة، بأن قالوا: من سكر وهذى، ومن هذى افترى؛ فعليه حد المفترى: من حيث أن السكر مظنة الهذيان والافتراء وإطلاق اللسان بالسخف. وقد عهد في الشرع إقامة مظان الأمور مقام الأمور المقصودة: في إفادة الأحكام؛ فأقيم النوم - الذي هو مظنة خروج الحدث - مقام الحدث،

و "العينان وكاء السه" فإذا نامت العينان: استطلق الهواء، ثم - سواء استطلق [الوكاء] أو لم يستطلق - ثبت حكم الحدث، ووجب الوضوء. وكذلك تغييب الحشفة مظنة نزول الماء، فعلق به وجوب الغل وإن لم ينزل مع قوله السلام: "الماء من الماء" فكان وجوبه من مظنة الماء، كوجوبه من الماء، فكان مساقه: أن من غيب الحشفة أنزل، ومن أنزل اغتسل؛ فمن غيب اغتسل. وأن من نام أحدث، ومن أحدث توضأ؛ فمن نام توضأ. [كقوله بعينه]: من سكر هذى ومن هذى افترى. وكذلك القول في إقامة مظنة العقل مقال العقل، وهو: البلوغ، وإقامة مظنة شغل الرحم مقام شغل الرحم: في إيجاب العدة، وهو الوطء. [ولو ذهبنا نستقصى نظائر ذلك لسودنا به أوراقا، ولم نذكر منها إلا أطرافاً وآحاداً].

فطلبهم هذه المناسبة هي الدلالة [الظاهرة] على أنهم لم يروا الاختراع للمصالح؛ بل تشوفوا إلى التصرف في موارد الشرع، بضروب من التقريب والمناسبة. فإن قيل: ومن سكر اقتحم جميع الفواحش؛ فلم خصص القذف بالاعتبار؟ قلنا: لمعنيين، أحدهما: التشوف إلى الأقل؛ والثاني: أن خاصية السكر الهذيان وانطلاق اللسان؛ فإنه الفاحشة اللازمة لذات السكران، التي تستتب من غير أداة منفصلة، وآلة زائدة عليه. فالزنا والسرقة والقتل، كل ذلك: يتعلق بالغير، ولا يستتب إلا بأنواع من الحيل عمادها الحزم والعقل. ولا ينتظم ذلك من السكران. فأما الهذيان، فهو الذي يغلب على السكران. فاختلال العقل لا يمنع انطلاق اللسان؛ [وأخص الفواحش بالسكر: الهذيان، والجناية المخصوصة باللسان]؛ فكان مظنة له بهذا الطريق. فإن قيل: فالردة من فواحش اللسان، ومن جملة الهذيان؛ وقل ما ينفك عن اللهج به من غلبه السكر. قلنا: لم يجعل مظنة له من وجهين: أحدهما: أن الواجب بها القتل، وهو أعلى العقوبات، وشرع

القتل خطر عظيم؛ ووقع جناية السكر في الشرع، دون وقع الردة بدرجات، ولا هجوم على سفك الدم [36 - أ] لمقصود الزجر، مع العلم بحصول الزجر - غالباً - بما دون القتل. والآخر: أن عقوبة الردة تسقط بالتوبة؛ والسكران يعاقب بعد الإفاقة؛ وهو في الحال ليس مرتدا، ومن ليس بمرتد لا يقتل وإن سبقت منه الردة، فكيف يقتل: إذا سبقت منه مظنتها؟، وبه يتبين أن عقوبة الردة ليست حدا بإزاء الجريمة؛ وإنما هو إرهاق إلى العود إلى الإسلام؛ فإن عاد: خلى سبيله. فلابد من طلب المناسبة مع حد تجب [عليه] عقوبة. فإن قيل: قد شرطتم في المصلحة المرسلة أن لا تتضمن تغير النص؛ ولقد كان حد الشرب في الشرع أربعين، فزادوا عليه بالمصلحة، فكان ذلك تغييرا للنص. قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فلم يكن حد الشرب مقدرا في الشرع، بل "أتى النبي - عليه السلام - بشارب، فأمر حتى ضرب بالنعال وأطراف الثياب وحثى عليه التراب". ولما آل الأمر إلى أبي

بكر - رضي الله عنه -: قدر ذلك بأربعين؛ ورآه قريبا مما كان يأمر به النبي - عليه السلام -، وحكم بذلك عمر مدة؛ ثم توالت عليه الكتب من أطراف البلاد، بتتابع الناس في الفساد وشرب الخمر، واستحقار هذا القدر من الزجر، فجرى ما جرى في معرض الاستصلاح: تحقيقا لزجر الفساق. فإن قيل: فما ذكرتموه -: من أمثلة الشرع في إقامة المظنة مقام الشيء - أصول لهذا القياس؛ فيرجع النظر إلى رد فرع إلى أصل، بمعنى مناسب جامع، وليس ذلك استدلالا مرسلا. قلنا: كل مصلحة ملائمة، فيتصور إيرادها في قالب قياس بجمع متكلف: يعتمد التسوية في قضية عامة لا تتعرض لعين الحكم؛ فإن أراد السائل بما ذكره - من رد الفرع إلى الأصل، بمعنى مناسب - هذا القدر، فهو الذي نريده بالاستدلال المرسل. وكيف لا ينتظم هذا الشكل: وما من مسئلة إلا ويمكن أن يقال: هذه مصلحة على وجه كذا، فينبغي أن تراعي قياسا على مسئلة كذا؛ والمصلحة عبارة تشتمل قضايا مختلفة؛ فيندرج تحتها المتباعدات، وتنتظم بالتحرير فيها صورة القياس.

وهذا غير منكر جريانه في الاستدلال المرسل. وإنما نعني بالقياس تعدية حكم بعينه من محل النص، إلى غير محل النص - بعلة هي الموجبة [للحكم] في محل النص. وهذا لا يساعد في [مثل] هذه الأمثلة، ولا يمتنع - بعدم مساعدتها - الاستدلال. فهذا هو المراد. ووجهه في مسألتنا؛ أن الحكم المنظور فيه: [وجوب] ثمانين جلدة؛ ومحل النص فيه القذف، وشكل القياس أن يقال: وجب ثمانون جلدة في القذف لعلة كذا، وتلك العلة بعينها موجودة في شرب الخمر؛ فتجب تلك الجلدات. ولن يستتب ذلك؛ فإن موجب الثمانين القذف: لكونه جناية على عرض الغير؛ وليس في شرب الخمر [وإيجاره في الحلق وإجرائه إلى المعدة]، نعرض لعرض الغير: [بالجناية]. فعلة محل الاتفاق - في هذا الحكم - لا تشهد لهذا الحكم في محل النظر، وهو: الفرع، فهذا ما أردناه [وقد لاح الغرض، و] بان المراد بالجمع بين شرط الملاءمة، وإبقاء الاستدلال مرسلا من غير أصل معين يشهد [بعلته للحكم] المعين. وعلى الجملة: ليس من غرضنا تقرير عين هذه المسئلة؛ وإنما

نورد [هذه] الأمثلة: للكشف عن مقاصد القاعدة، وشروطها، وحدودها. مثال آخر: فإن قال قائل: نقل: "إن بعض أكابر العلماء دخل على بعض السلاطين، فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صوم شهرين متتابعين؛ فلما خرج راجعه بعض الفقهاء، وقال: القادر على إعتاق رقبة كيف يعدل إلى صوم شهرين، والصوم وظيفة المعسرين؛ وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين؟ فقال: لو قلت له: عليك إعتاق رقبة، لاستحقر ذلك، ولأعتق عبيدا، وواقع مراراً؛ [فلا يزجره إعتاق الرقبة، ويزجره صوم شهرين متتابعين] ". فما قولكم في اتباع مثل هذه المصلحة، مع العلم بأن الكفارة مقصودها الزجر؛ [وإنما ينزجر الملك بالصوم لا بالعتق]؟ [36 - ب]. قلنا: هذا [عندنا] خروج عن الشرع [بالكلية] وانسلال عن ربقة الدين، وهو متداع إلى هدم قواعد الشرع وتحريف

حدودها وقيودها، وتغيير ذلك بالأشخاص والأزمنة والأحوال؛ والحكم في جميعها على مخالفة النص بموجب الاستصلاح؛ [وذلك أمر باطل على القطع]. وهذا ما عنيناه بقولنا: "إن اتباع المصالح على مناقضة النص باطل"، وهذا من ذلك الفن. وإنما تطلب الأحكام من مصالح تجانس مصالح الشرع: إذا فقدنا تنصيص الشرع على الحكم، فأما إذا صادفناه، فالاستصلاحات وتصرفات الخواطر معزولة مع النصوص، فإذا نص الشارع على أمر: وجب مراعاته، فإن فقد النص: تشوفنا إلى دلاك علة المنصوص، وإثبات الحكم بها. فإن عجزنا: تشوفنا إلى مصالح تضاهي جنس مصالح الشرع. فأما ما تخيله هذا المفتي - من الزجر - ففاسد، وطريق زجر مثله: أن نبين له أن الكفارات [ليست] ممحقات للذنوب، فإن تراب الأرض [لو انقلب] ذهبا، لو أنفقه: لم يقابل جريمته في هتك حرمة شهر الله تعالى المعظم، وهلم جرا، إلى بيان ما يتعرض له: من سخط الله تعالى ولائمته. ولو ذهبنا [نكذب المملوك] على حسب استصلاحهم: ارتقابا لعلاجهم؛ لشوشنا الشريعة، ولم نثق بتحصيل النجح منهم، ولا نتبذ إلى

أسماعهم: أن علماء الشرع يحرفون الفتاوى لأجلهم؛ وسقطت الثقة بقولهم. فلابد من المحافظة على حدود الشريعة والإعراض عن المصالح؛ فإن الفتوى بالمصلحة اجتهاد، وقد قال معاذ: - رضي الله عنه -: أحكم بكتاب الله، ثم بسنة رسول الله - عليه السلام - فإن لم أجد: أجتهد رأيي". فكيف تصادم النصوص بالمجتهدات. فهذا مثال المصلحة المناقضة للنص. مثال آخر: فإن قال قائل: فما قولكم في الزنديق المستسر إذا تاب؟ هل تقولون: أنه يقتل للمصلحة ولا تقبل توبته؛ فإن من دينه الاستسرار والتماسك عن الإظهار تقية عند الحاجة، ولو كففنا عنه بمجرد التوبة، لم يعجز عن مثلها عند المعاودة؛ وذلك من نفس عقيدته؟ [أم هل تقولون]: أن قتله - بحكم هذه المصلحة - على خلاف نص الشرع في قوله: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله}. قلنا: هذه مسألة مجتهد فيها؛ ولسنا نقطع ببطلان أحد المذهبين، بخلاف ما ذكرناه في المثال السابق؛ ووجه الانكفاف عن قتله بين من

حيث عموم النص، ومن حيث الاعتبار بكل صنف من أصناف الكفار والمرتدين: إذا تابوا. ووجه قتله: أن المعلوم من الشرع أن الكافر مقتول؛ ونحن نكف عن قتله بتوبته، والمعنى بتوبته: تركه الدين الباطل؛ والزنديق - بالنطق بكلمة الشهادة - ليس تاركا لدينه الباطل؛ بل هو حكم من أحكام دينه. واليهودي والنصراني وكل ملى - يعتقد النطق بكلمتي الشهادة كفراً في دينه وتركا له؛ فإذا أسلم: فموجب دينه أنه تارك لدينه، وموجب دين الزنديق - عند شهادته - أنه مستعمل دينه. فهذا وجه التأويل والنظر؛ وليس فيه إيجاب عقوبة بمصلحة، بل هو قتل بالكفر في حق من نعتقده كافراً مستمراً على كفره. وإنما النظر: في بيان أن شهادته ليس في معنى شهادة الكفار وتوبة المرتدين المنتحلين لبعض الأديان؛ لأن ذلك ترك في دينهم، وهذا استمرار في دينه، فليس هذا من قبيل شرع العقوبة بالمصلحة المجردة.

وينقدح في مقابلة هذا النظر، أن يقال: أعرض النبي عليه السلام - على المنافقين، مع تواتر الوحي بنفاقهم، وعلمهم بهم، وظهور المخايل منهم، وأنكر بناء الأمر على الباطن، وقال: "هلا شققت عن قلبه"، في الحديث المشهور. فإذا ألم المسلمون ببلد من ديار الكفار، فأسلم سكانها: وقد أظلّتهم السيوف [37 - أ] وغلبهم قهر المسلمين وسطوتهم، وتناطقوا بكلمة الشهادة - كففنا عنهم سيوفنا، ورددناها عن الرقاب، إلى القراب، ونعلم قطعا أنهم لم يلهموا الهداية للدين، ولم تنشرح صدورهم لليقين؛ ولكن أقيمت كلمة الشهادة - وهو السبب الظاهر - مقام العقيدة الباطنة التي لا نطلع عليها، كدأب الشرع في نظائره. ويمكن أن يجاب: بأن العوام والمقلدة يبنون الدين على المصلحة،

فيتلبسون بها مختارين، وينتزعون عنها كذلك، وهم في كلا حالتيهم يعتقدون التحول من دين إلى دين. وكذلك يعتقدون الالتزام باللسان مع القهر تركا للدين؛ ولأجله يمتنع المصرّون المصمّمُون في العقائد عن النطق به. وأما المنافقون، فكان يظهر كفرهم [على النفاق] بالمخايل لا بالتصريح، ولا يجوز بناء الأمر على المخايل. وأما الزنديق، فقد جاهر بالالحاد، ثم حاول ستره بتقيه هي من صلب دينه. فهذا مجرى النظر، وعلى الأحوال، لا تصلح المسئلة للتمثيل لما نحن فيه - بحال. مثال آخر: فإن قال قائل: إذا نبغ بين أظهر العوام نابغة من المبتدعة، وكان يدعوهم إلى الضلالات والأهواء الباطلة، والبدع التي لا يكفر بمثلها؛ وكان لا يرعوى بالزجر، ولا يندفع شره إلا بالقتل - فهل ترون حسم مادة فساده بقتله، اتباعًا للمصلحة؟ قلنا: لا سبيل إلى قتله بحال؛ فإنه لم يجر موجب للقتل، ولا مصلحة تقتضيه، وقد شرع الشرع - في أمثال هـ الجنايات - التَّعْزِيرات، وفوَّضها إلى آراء الولاة؛ وناطها باستعوابهم؛ وإليهم زمام الأمر في الإقامة مرة والصفح أخرى، ولا ينبني ذلك على التشهي، بل ينبني على ما يلوح لهم: من المصلحة في حال الجاني، فرب إنسان تتفق

له هفوة، وفي إقالته إياها، ما يكفه عن معاودتها، ورب لئيم لا يزيده الصفح والتجاوز إلا تماديا في الغي، وتتابعا في الفساد. والنظر في كل ذلك يرجع إلى استصلاح الولاة. [و] المختلفون من العلماء في اتباع المصالح، لم يختلفوا في إتباع الولاة للمصالح في أمثال ذلك؛ وقد نيطت بهم نصا وإجماعا، وحُكم في تفصيلها اجتهادهم. وغرضنا أن نبين: أن ما يجري الكلام فيه - من إثبات الأحكام بالمصالح - ليس من هذا الطريق، ولا داخلا في هذا الجنس، وإنما الوظيفة على الولاة: أن لا يزيدوا في التعزيرات على الحدود، وأن يحطوها عنها؛ وإليهم الرأي في تعيين المقادير دونها. فلو قال قائل: رب جان لا يرعوى بالتعزير المحطوط عن الحد، فتقتضي المصلحة الزيادة عليه، وقد رأى مالك الزيادة على الحدود في التعزيرات، ولا يستقيم ضبط الأمر إلا بأنواع من السياسة هذا مقادها. وكذلك المبتدع الذي فرضناه؛ ربما لا يرعوى بالتعزير، وإنما طريق تطفية ثائرته: تطهير وجه الأرض عنه.

فيقال له: ليس الأمر كما ظننت؛ فالحدود مقادير مقدرة من جهة الشرع، والزيادة عليها تحريف للنصوص، [ثم لا جواز لذلك بالمصلحة]. ولو فتحنا هذا الباب، وجلدنا غير الزاني: إذا بدت منه مقدمات المراودات، ومبادئ فاحشة الزنا - لرجمنا الزاني الذي ليس بمحصن للمصلحة، ولتعدينا ذلك إلى جميع الحدود؛ ولاتخذنا دأب الأكاسرة وعادة الملوك الغابرة، قدوتنا في الآيالات: تشوفا إلى رعاية المصلحة، ولا تخذ كل من له مسكة من العقل، ودربة في النظر [والفكر]- عقله: دستوره وأسوته؛ ولا نقلب الشرع ظهرًا لبسطن، حتى لا تبقى له قاعدة مرعية. وهو باطل على القطع، من وضع الشرع. فالأولون والتابعون ومن بعدهم، اتفقوا على أن التحريف للمقادير مهجور، وأن ذلك خارج عن الدين؛ والجنايات - التي ليست فيها عقوبات مقدرة - تجري من الكبائر، التي شرعت الحدود فيها، مجرى الأجزاء من الكل: فلا يساوي الجزء الكل، ولا يزيد عليه، وهي نازلة منزلة الحكومات [37 - ب]: بالنسبة إلى الأروش المقدرة. والمصير إلى أن حكومة جناية على أصبع تزيد على دية الأصبع، مصادمة للتقدير. وهو باطل. وعلى هذا يخرج المنع من قتل المبتدع؛ فإن البدع تجري كلها من

الكفر مجرى الأجزاء من الكل؛ فلا تبلغ مبلغها في العقوبة. كيف: وإنما شرع القتل لمصلحة؛ والمصلحة: في الحاجة إلى القتل؛ والحاجة إليه: إذا لم يحصل الغرض بمساودته؛ ومقصود الزجر حاصل بالتعزيرات المشروعة: إذا أحسن الولاة في وضعها مواضعها؛ وذلك: بنصب المراقبين في الخفية على المبتدع، بعد زجره بجلدات النكال، وصب سياط التعزير عليه. فإن عاود دعوته وبدعته: عاود الإمام عقوبته؛ ولا يزال يفعل كذلك: فتزيد مجموع الضربات - الواقعة في كرات - على مبالغ الحدود؛ وذلك لا منع منه، فإن عسر عليه ذلك: فالحبس نوع من التعزيز - فيه متسع ولا منتهى له؛ وفيه الكف عن كل فساد وعادية في المستقبل - إلى أن تتبين مخايل الرشد. ففي موضوعات الشرع - فيما تعرضت له النصوص - غنية ومندوحة عن كل وجه مخترع بالمصالح؛ وإنما يظن الحاجة إلى غير المشروع [من لم يطلع على وجوه لطف الشرع ومحاسنه، فالتعزير مشروع] والحبس إلى غير منتهى في التعزير مشروع، وفي الحبس الدائم، ومعاودة التعزيرات حالا بعد حال - ما يتضمن الزجر عن كل خبال وضلال.

فتبين بهذا المثال: أنا ما دمنا نجد في المشروعات غنية، نكتفي بها، وندور عليها؛ فلا تتعداها بالمصلحة المتخيلة إلى ما عداها. بل نعلم أن مراسم الشرع - فيما أحاطت به - حاوية لجميع المصالح ومغزاها. مثال آخر: فإن قال قائل: المصلحة داعية إلى الضرب بالتهم في السرقة والقتل وما يجري خفية وغيلة؛ فإن الجاني لا يقر على نفسه مختارا؛ وإقامة الحجج والبينات على الاختزال الجاري في ظلم الليل - ممتنع، وتعطيل الحقوق لا سبيل إليه. وقد رأى مالك ذلك. فما

رأيكم فيه: ولا مصلحة أظهر من هذه؟ إن كان لكم رأي في اتباع المصالح، فتوافقونه عليه - وهو خلاف رأي الشافعي، أو تخالفونه، وفي المخالفة أبطال القاعدة التي مهدتموها في جواز اتباع المصالح؟. قلنا: هذه المصلحة غير معمول بها [عندنا، وليس لأنا] لا نرى اتباع المصالح؛ ولكن: لأنها لم تسلم عن المعارضة بمصلحة تقابلها؛ فإن الأموال والنفوس معصومة؛ وعصمتها تقتضي الصون عن الضياع؛ وأن من عصمة النفوس أن لا يعاقب إلا جان؛ وإن الجناية تثبت بالحجة؛ وإذا انتفت الحجة: انتفت الجناية؛ وإذا انتفت الجناية: استحالت العقوبة. فكان - في المصير إليه - نوع آخر من الفساد: فإن المأخوذ بالسرقة قد يكون بريئا عن الجناية، فالهجوم على ضربه تفويت لحق عصمته من

نفسه ناجزا، لأمر موهوم: يرجع حاصله إلى التشوف إلى تأكيد عصمة المال. فإن كانت مصلحة ذي المال في ضربه، رجاء أن يكون هو الجاني فيقر، فمصلحة المأخوذ: في الكف [عنه] وترك الأضرار به؛ وليس أحدهما - برعاية مصلحته - أولى من الآخر، فوجب الوقوف على جادة الشرع؛ في أن لا عقوبة إلا بجناية، ولا تظهر الجناية [في حقه] [مع الخفاء] إلا ببينة، كيف: وفيه مادة الفساد، وفتح لباب الدعوى على كل من يضمر المرء عليه حقدا. "ولو أعطى الناس بدعاويهم: لا دعى [قوم دماء قوم وأموالهم" كما قال النبي عليه السلام]؟ ولو قيل: أن من ظهرت عدالته لا يعاقب، وإنما [يعاقب متهم]

بأمثال ذلك. لقيل: وبم تعرف وجه التهمة، ولا سبيل إلى تصديق صاحب الحق فيه [38 - أ]: فإنه في الدعوى متهم أيضا، والأغراض متطرقة إليه؟ فإن قيل: [إن] التهمة تثبت بكونه معروفا بالسرقة، وبما يعرف من حاله في الترداد على الموضع الذي جرت فيه السرقة، قبل ذلك الوقت أو بعده؛ أو ما يجري مجراه: من المخايل. فنقول: يستحيل الهجوم على عقوبته بالسرقة السابقة: التي عرف بها، وعوقب عليها. ويستحيل أن يعاقب بما يتوهم عليه: من هذه السرقة المدعاة، فليس من ضرورة كل من سرق شيئًا، أنه يسرق أمثاله. وإن كان من ضرورته: فالزجر بالقطع عن السرقة، شرع: كي لا يسرق ثانيا بعد ما قطعت يمينه، ففيه أكمل مقنع في الزجر. فالهجوم على عقوبته تعرض لحقه الناجز، بالتفويت لأمر هو موهوم. ويعتضد هذا بأمر، وهو: أنا الجنايات قد كثرت في عهد الصحابة: من السرقة وغيرها؛ ولم ينقل عنهم قط إلا الحكم بالإقرار أو بالحجة أو باليمين. فأما العقوبة بالتهمة، فلم يصر إليه منهم صائر، مع كثرة الوقوع. وذلك يدل على أنهم فهموا - من موارد الشرع ومصادره - أن لله تعالى سرا في تضييق طريق الكشف عن الفواحش،

فقد قال عليه السلام: "من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله" وقال عليه السلام - لمن كان يسأله عن السرقة -: "أسرقت؟ قال لا" وقال تعالى: {إن الذين يحبونا، تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} وقضي الشرع: بأن الزنا لا يثبت إلا بأربعة عدول، يشهدون: أنهم رأوا ك منه ي ك منها كالمرود في المكحلة، وكيف يتصور أن يحضر أربعة من المزكين مشهدا تجري فيه الفاحشة، ويحدقون النظر إلى ملتقى الأليتين؟! وهل هذا الأسد لباب الإثبات، أو تضييق له، مع تعظيم أمر الجناية، بشرع العقوبة المتفاقمة فيها: كي ينزجر المتعبد عنها؛ مع إرسال الستر:

بتضييق الأمر [عليه] في الإثبات على فاحشة. وكيف لا يفهم هذا من الشرع: ولما شهد أبو بكرة مع عدلين على زنا المغيرة، وانتهى الأمر إلى الرابع، وكان يصرح بالشهادة - استماله عمر - رضي الله عنه - بالقول اللين اللطيف، واستدرجه بحسن المنطق - حتى طرق إليه شبهة - وقال: "أرى وجها وسيما، وأتوسم سيماء الخير فيك× فما أراك تفضح رجلا من أصحاب النبي عليه السلام"؟ حتى قال: "رأيته مستلقيا على بطنها، ورجلاها تختلج كأنهما قضيبا خيزران" وحكى جميع ما شاهد من الحركات في وقت المباشر، فاستبشر [به] عمر، وأقام الحد على الشهود الثلاثة. فعلم أنهم امتنعوا عن المؤاخذة بالتهم، التفاتا إلى المصلحة التي ذكرناها؛ وعلما بأن الشرع ينهي عن تحسس الفواحش، والسعي بالاستنطاق بها بالحيل.

فهذا ما منعنا من اتباع هذه المصلحة. فالمانع في المثال الذي قبل هذا: أن لا حاجة إلى العقوبة بالقتل، وفي التعزير حصول المصلحة، والمانع في هذا المثال: تقابل المصلحة من الجانبين من الاعتضاد بستر الصحابة، والمخايل الشاهدة لإخفاء الفواحش. وعلى الجملة: هذه المسئلة في محل الاجتهاد؛ ولسنا نحكم ببطلان مذهب مالك - رحمه الله - على القطع، فإذا وقع النظر في تعارض المصالح: كان ذلك قريبا من النظر في تعارض المصالح: كان ك قريبا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة التي ذكرناها. مثال آخر: فإن قال قائل: توظيف الخراج على الأراضي ووجوه الارتفاقات مصلحة ظاهرة، لا تنتظم أمور الولاة - في رعاية الجنود، والاستظهار بكثرتهم، وتحصيل شوكة الإسلام - إلا به. ولذلك لم يلف عصر خال عنه. فالملوك - على تفاوت سيرهم، واختلاف أخلاقهم - تطابقوا عليه، ولم يستغنوا عنه؛ فلا تنتظم مصلحة الدين والدنيا إلا بإمام مطاع، ووال متبع؛ يجمع شتات الآراء، ويحمي حوزة الدين وبيضة الإسلام، ويرعى مصلحة المسلمين وغبطة الأنام، وليس يستتب ذلك له إلا بنجدته وشوكته، وجنده وعدته؛ فبهم مجاهدة الكفار، وحماية الثغور، وكف الأيدي الطغاة والمارقين وذبهم عن مد الأيدي إلى الأموال والحرم والأرواح؛ فهم [38 - ب] الحراس للدين عن أن تنحل

دعائمه، وتتخاذل قواه بتواغل الكفار بلاد الإسلام؛ وهم الحماة للدنيا عن أن يختل نظامها: بالتغالب، والتسالب، والتوثب من طغام الناس، بفضل العرامة [والباس ولا يخفي] كثرة مؤنهم، وانشعاب حاجاتهم: في أنفسهم وذرياتهم؛ والمُرصد لهم: خمس [الخمس من المغانم] والفئ؛ وذلك مما يضيق - في غالب الأمر - عن الوفاء بإخراجاتهم، والكفاية لحاجاتهم، وليس يتم ذلك إلا بتوظيف الخراج على الأغنياء. فإن كنتم تتبعون المصالح، فلابد من الترخيص في ذلك مع ظهور وجه المصلحة. قلنا: الذي نراه جواز ذلك عند ظهور [وجه] المصلحة؛ وإنما النظر في بيان وجه المصلحة. فنقول أولا: توظيف الخراج - في عصرنا هذا، وكل عصر هذا مزاجه ومنهاجه - ظلم محض لا رخصة فيه؛ فإن آحاد الجند لو استوفيت جراياتهم، ووزعت على الكافة: لكفاهم برهة من الدهر، وقدرا صالحا من الوقت. وقد تشحوا: بتنعمهم وترفههم في العيش، وتبذيرهم في إفاضة الأموال على العمارات، ووجوه التجمل على سنن الأكاسرة؛

فكيف نقدر احتياجهم إلى توظيف خراج لأمدادهم وإرفاقهم، وكافة أغنياء الدهر فقراء بالإضافة إليهم؟. فأما لو قدرنا أماما مطاعا، مفتقرا إلى تكثير الجنود: لسد الثغور، وحماية الملك: بعد اتساع رقعته، وانبساط خطته؛ وخلا بيت المال عن المال، وأرهقت حاجات الجن د إلى ما يكفيهم، وخلت عن مقدار كفايتهم أيديهم، فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال في بيت المال؛ ثم إليه النظر في توظيف ذلك على وجوه الغلات والثمار؛ كي لا يؤدي تخصيص بعض الناس به، إلا إيغار الصدور، وإيحاش القلوب. ويقع ذلك قليلا من كثير: لا يجحف بهم، ويحصل به الغرض. فإن قيل: فهذه مصلحة غريبة لا عهد بها في الشرع ولا بمثلها؛ وحاصلها يرجع إلى مصادرة الخلق في أموالهم؛ وهو محظور: نعلم حظره من وضع الشرع؛ ولذلك لم ينقل [قط] عن الخلفاء الراشدين: قبل أن صارت الخلافة ملكا عضوضا، وإنما أبدعها الملوك المترفون، المائلون عن سمت الشرع.

قلنا: إنما لم ينقل عن الأولين ذلك، لاشتمال بيت المال في زمانهم، واتساع وجوه الرزق على أعوانهم، وقد نقل عن عمر - رضي الله عنه - ضرب الخراج على أراضي العراق. فأصل الضرب ثابت بالاتفاق؛ وإنما اختلاف العلماء في طريقه. ثم الكلام الشافي للغليل، هو: أن السائل أن أنكر وجه المصلحة فيما ذكرناه [أبديناه وآريناه، وقلنا: إن لم يفعل الإمام ذلك]: تبدد الجند، وأنحل النظام، وبطلت شوكة الإمام، وسقطت أبهة الإسلام، وتعرض ديارنا لهجوم الكفار واستيلائهم؛ ولو ترك الأمر كذلك: فلا ينقضي إلا قدر يسير، وتصير أموال المسلمين طعمة للفكار، وأجسادهم دُربة للرماح وهدفا للنبال، ويثور بين الخلق - من التغالب والتوائب - ما تضيع بها الأموال، وتعطل معها النفوس، وتنتهك فيها الحرم. ونظام ذلك شوكة الإمام بعدته، وما يحذر إلمامه - من الدواهي - بالمسلمين: لو انقطعت عنهم شوكة الجند، التي تستحقر - بالإضافة إليها أموالهم. فإذذا رددنا بين احتمال هذا الضرر العظيم، وبين تكليف الخلق حماية أنفسهم بفضلات أموالهم، فلا نتمارى في تعيين هذا الجانب. وهذا مما يعلم قطعا من كلى مقصود الشرع: في حماية الدين والدنيا، قبل أن نلتفت على الشواهد المعينة من أصول الشرع.

على أنا أن حاولنا إظهار هذا من شواهد الشرع، وكشفنا عن ملاءمته لنظره وجدنا في ذلك مضطربا؛ ولكن الحاجة إلى الاعتضاد بالشواهد والملاءمة في اتباع مصلحة مظنونة - يتصور مخالفتها؛ وهذه مصلحة في الصورة التي فرضناها - أن تصورت - قطعية م وضع الشرع: [لا] تفتقر إلى شاهد من الأصول يصدقها، وينزل [مثل] هـ المصلحة - من المصالح المظنونة - منزلة المعلومات بالعيان [39 - أ] أو بأخبار التواتر من المعلومات بأقوال الآحاد؛ وإنما نشترط في الآحاد العدالة لترجيح جهة الصدق على جهة الكذب، وما علم عيانا أو تواترا، وانقطع التردد عنه - استغنى عن الترجيح. ثم خاصية مثل هذه المصالح القطعية: أنها لا تعدم قط شواهد من الشرع كثيرة. فأبعدها عن الشهادة ظاهرا - وهي أقربها تحقيقا - هو: أ، الأب في حق طفله مأمور برعاية الأحسن؛ وأنه ليصرف ماله إلى وجوه من النفقات والمؤن في [الغرامات و] العمارات، وإخراج الماء من القنوات، وهو - في كل ذلك - ينظر له في ماله، لا في حاله، فكل ما يراه سببا لزيادة ماله [في الحال]، أو لحراسته في المال - جاز له بذل المال في تحصيله.

ومصلحة خطة الإسلام وكافة المسلمين، لا تتقاصر عن مصلحة طفل [واحد]. ولا نظر للإمام - الذي هو خليفة الله في أرضه - يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق طفله، فكيف يستجيز منصف انكار ذلك [المعنى]، مع الاعتراف بظهور هذه المصلحة؟ وإن أنكر منكر وجه المصلحة: فعلينا تصويرها، والحكم بالتحريم عند انتفاء المصلحة. وأما الشواهد الظاهرة القريبة من هذا الجنس، [فمنها] أن الكفار لو وطئوا أطراف بلاد الإسلام، يجب على كافة [المسلمين و] الرعايا أن يطيروا إليهم بأجنحة الجد؛ فإذا دعاهم إلى ذلك الإمام: وجب عليهم الإجابة، وفيه أتعاب النفوس وأنفاق المال؛ وليس ذلك إلا لحماية الدين، ورعاية مصلحة المسلمين. فهذا - في هذه الصورة - قطعى. وإن نزلنا في التصوير، وقدرنا ما إذا لم يهجم الكفار، ولكن كنا نحذر هجومهم، ونتوقع انبعاثهم؛ فلو استشعر الإمام من شوكة الإسلام وهنا وضعفا وتفرقا: لوجب على كافة الخلق إمدادهم؛ كيف: ولو لم

ينبث جنود المسلمين في ديار الكفار: انبتوا في ديارنا [على قرب]. ولطالما قيل: "الروم إذا لم تغز غزت". ومهما سقطت شوكة الإسلام، كان ك متوقعا على قرب من الأيام؛ كيف: والجهاد في كل سنة واجب على الكفاية، على كافة الخلق، وإنما سقوطه باستقلال أقوام من المرتزقة به، فكيف يتمارى في وجوب بذل المال في مثل ذلك؟ وإن نزلنا في التصوير، وقدرنا - ضربا للمثل - أنبساط أطراف ظل الإسلام على [أقاصي] الغرب والشرق، وأطباق الدين الأرض ذات الطول والعرض؛ حتى لم يبق من الكفار نافخ نار، ولا طالب ثار -: فلا يؤمن هيجان الفتن بين المسلمين، وثوران المحن من نزعات المارقين؛ وهو الداء العضال، وفيه تستهلك النفوس والأموال ولا كاف لأمثالها إلا سطوة الإمام، ولا كاف عن فسادها إلا قهر الوالي المستظهر بجند الإسلام. ولو اتفق شيء من ذلك: لافتقر أهل الدنيا إلى نصب حراس، ونفض أكياس على أجرهم؛ ثم لا يغنيهم ذلك. فه مصلحة ملائمة قطعية، لا يتمارى منصف في وجوب اتباعها.

فإن قيل: في الاستقراض غنية عن المصادرة واستهلاك الأموال، فقد كان النبي عليه السلام - يستقرض: إذا جهز جيشا، وافتقر إلى مال. قلنا: نقل الاستقراض من النبي عليه السلام، ونقل - أيضا - أنه كان يشير إلى مياسير أصحابه: بأن يخرجوا شيئًا من فضلات أموالهم؛ إلا أنهم كانوا يبادرون - عند إيمائه - إلى الامتثال، مبادرة العطشان إلى الماء الزلال. ولسنا ننكر جواز الاستقراض ووجوب الاقتصار عليه، إذا دعت

المصلحة إليه، ولكن: إذا كان الإمام لا يرتجي أنصباب مال إلى بيت المال، يزيد على مؤن العسكر ونفقات المرتزقة في الاستقبال؛ فعلى ماذا الاتكال في الاستقراض مع خلو اليد في الحال، وانقطاع الأمل في المال؟. نعم: لو كان له مال غائب، أو جهة معلومة تجري مجرى الكائن الموثوق به، فالاستقراض أولى. وينزل [ذلك] منزلة المسلم الواحد: إذا اضطر - في مخمصة - إلى الهلاك، فعلى الغنى أن يسد رمقه، ويبذل من ماله ما يتدارك به حشاشته؛ فإن كان له مال غائب أو حاضر: لم يلزمه [39 - ب] التبرع، ولزمه الإقراض؛ وإن كان فقيرا: لا يملك نقيرا ولا قطميرا، فلا نعرف خلافا في وجوب سد مجاعته، من غير إقراض. وكذلك: إذا أصاب المسلمين قحط وجدب، وأشرف على الهلاك جمع؛ فعلى الأغنياء سد مجاعتهم، ويكون ذلك فرضا على الكفاية؛ يخرج بتركه الجميع، ويسقط بقيام البعض به التكليف؛ وذلك ليس على سبيل الإفراض؛ فإن الفقراء عالة [على] الأغنياء، ينزلون منهم منزلة الأولاد من الآباء؛ ولا يجوز للقريب أن ينفق على قريبه بالإقراض، إلا إذا

كان له مال غائب. فكذلك القول فيما نحن فيه. فهذا وجه المصلحة، وهو من القطعيات: التي لا مرية في اتباعها إذا ظهرت، ولكن النظر في تصوير المصلحة، على الوجه الذي قررناه. فأصل أخذ المال متفق عليه عند العلماء؛ وإنما الاختلاف في وجوب تعيين الاستقراض. وفيما ذكرناه من التفصيل، وما يشفى الغليل. مثال آخر: فإن قال قائل: إذا رأى الأمام جمعاً من الأغنياء يسرفون في الأموال ويبذرون، ويصرفونها إلى وجوه من الترفه والتنعم، وضروب من الفساد؛ فلو رآى المصلحة في معاقبتهم: بأخذ شئ من أموالهم، ورده إلى بيت المال، وصرفه إلى وجوه المصالح فهل له ذلك؟ قلنا: لا وجه له؛ فإن ذلك عقوبة بتنقيص الملك وأخذ المال؛ والشرع لم يشرع المصادرة في الأموال عقوبة على جناية، مع كثرة الجنايات والعقوبات؛ وهذا ابداع [أمر] غريب [لا عهد به، وليست المصلحة فيه متعينة؛ فإن العقوبات والتعزيرات مشروعة بإزاء الجنايات]، وفيها تمام الزجر، فأما المعاقبة بالمصادرة، فليس من الشرع. وليس هذا كالمثال السابق، فإن الأموال مأخوذة بطريق ايجاب الانفاق منهم على جند الإسلام لحماية مصلحة الدين والدنيا، لا بطريق العقاب؛ ومسالك الإنفاق

والإرفاق مقيدة من الشرع؛ أما المعاقبة بالمصادرة فليس مشروعاً؛ والزجر حاصل بالطرق المشروعة، فلا يعدل عنها مع إمكان الوقوف عليها. فإن قيل روى: "أن عمر -رضى الله عنه- شاطر خالد بن الوليد على ماله، حتى اخذ رسوله فردة نعله، وشطر عمامته". قلنا: المظنون بعمر -رضى الله عنه-: أنه لم يدع العقاب بأخذ المال، على خلاص المألوف من الشرع، وإنما ذلك: لعلمه باختلاط ماله بالأموال المستفادة من الولاية؛ واحاطته بتوسعه فيه. ولقد كان عمر يراقب الولاة بعين كالئة ساهرة؛ فلعله خمن الأمر، فرأى شطر ماله من فوائد الولاية وثمراتها؛ فيكون ذلك كالاسترجاع للحق بالرد إلى نصابه، فأما أخذ المال المستخلص للرجل عقاباً على جناية -شرع الشرع فيها عقوبات سوى اخذ المال- فهو مصلحة غريبة لا تلائم قواعد الشرع. فتبين بهذا المثال: أن إبداع أمر في الشرع -لا عهد به- لا وجه

له؛ وأنا -في اتباع المصالح- نتردد على ضوابط الشرع ومراسمه. وقد ذهب إلى [تجويز) ذلك ذاهبون، ولا وجه له. مثال آخر. فإن قال قائل: لو طبق الحرام طبقة الأرض أو خطة ناحية، وعسر الانتقال منها، وانحسمت وجوه المكاسب الطيبة على العباد، ومست حاجتهم إلى الزيادة على قدر سد الرمق من الحرام؛ ودعت المصلحة إليه -فهل يسلطون على [تناول قدر الحاجة] من الحرام، لأجل المصلحة؟ فإن أبيتم ذلك: خالفتم وجه المصلحة، وإن رأيتم ذلك: اخترعتم أمراً بدعاً لا يلائم وضع الشرع. قلنا: إن اتفق ذلك -ولعل مزاج العصر قريب مما صوره السائل - فيجوز لكل واحد أن يزيد على قدر الضرورة، ويترقى إلى قدر الحاجة في الأقوات والملابس والمساكن؛ لأنهم لو اقتصروا على سد الرمق: لتعطلت المكاسب، وانبتر النظام، ولم يزل الخلق في مقاساة ذلك إلى أن يهلكوا. وفيه خراب أمر الدين وسقوط شعائر الإسلام، فلكل [واحد] أن يتناول مقدار الحاجة، ولا ينتهى إلى حد الترفه والتنعم والشبع، [40 - أ]

ولا يقتصرون على حد الضرورة. وقول القائل: إن هذا غير ملائم للشرع؛ فليس الأمر كذلك: فإن الشرع سلط على [أكل] لحم الخنزير، -وهواخبث المحرمات- عند الضرورة؛ ولكن: اختلف العلماء في أنه [هل] يقتصر على سد الرمق، أو يتناول قدر الاستقلال وتلافى القوة؟. والحاجة العامة -في حق كافة الخلق- تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد؛ والحاجة عامة إلى الزيادة على سد الرمق، إذ في الإقتصار عليه وجوه من الضرر: تنقاد إلى بتر النظام، وانصراف الخلق عن إقامة شعائر الشرع، ومصالح النفس. ومنتهى ذلك يقود إلى أن يثبت المرض والسقام، وتتوالى الآلام، ويتداعى ذلك إلى الهلاك. فهذه مصلحة ظاهرة بعمومها وملاءمتها لنظر الشرع، لا مرية فيه. مثال آخر. فإن قال قائل: لو اجتمع جماعة في سفينة، وأشرفت

على الغرق؛ علك أنه لو ألقى أحدهم في البحر: لنجا الكل؛ ولو امتنعوا من ذلك: لعمهم الهلاك، فلا شك [في اقتضاء] المصلحة أن يلقى واحد في البحر بالقرعة؛ لأن فيه استبقاء الباقين، وفي الإمتناع عن ذلك إهلاك الجميع؛ وإبقاء النفوس وتقليل الإهلاك واجب، وقد نقل عن مالك -رضى الله عنه-: قتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها؛ من طريق المصالح، فما رأيكم فيه؟ قلنا: هذه بدعة لا يجوز القول بها؛ والوجه: التوكل على الله تعالى، وارتقاب نفوذ قضائه، فأما الإقراع، والتخصيص بالإهلاك [به]-فمحال؛ لأن فيه قتل من ليس جانياً قصداً؛ ولا عهد في الشرع بتجريد القصد إلى قتل من ليس جانياً، لمصلحة غيره، فمصلحة القتل فاتت، ومصلحة غيره ليست أهم من مصلحته في حقه، ولا تغير مصلحة في حقه بالكثرة، ففي قتله تفويت كل أمره، [وكيف لا ولو] أكره ظالم

شخصين على قتل شخص واحد، لم يبح لهما القتل: لتكثير الإبقاء؛ ولو أكره مسلم على قتل ذمى، أو عالم تقى على قتل فاسق غبي -لم يحل له قتله: لمصلحة إحياء النفس وإبقائها؛ لا بطريق التقديم بالفضل، ولا بطريق التقديم بالكثرة؛ لأن المكره على قتله لا جناية من جهته؛ وحقه مرعى من عصمته في نفسه، فلا يجوز تفويته بالمصلحة. فهذه مصلحة غريبة غير ملائمة لتصرف الشرع؛ فليس في تصرفات الشرع قتل غير الجاني قصداً لمصلحة غيره. فهذا مثال المصلحة الغريبة. فإن قيل: موت هذا الذي يقتل بالقرعة لابد منه على الأحوال كلها، ولنا في الباقين طريقان؛ أحدهما: التخليص، والثاني: الإهلاك، والإهلاك محظور، والإبقاء مقصود؛ وهو ممكن، أما هذا الواحد، فموته- قتل، أو لم يقتل- لابد منه. قلنا: ما يتفق -من الموت بالآفات السماوية، لا عن قصد- فجميع الخلق بصدده؛ والأمر في التقديم والتأخير قريب، وأما تجريد القصد إلى الإهلاك، جناية على الروح قصداً لمصلحة الغير- ففيه تفويت مصلحة القتيل بالكلية.

ومن هذا الجنس؛ ما إذا اضطروا في مخمصة، وعملوا أنهم يهلكون جوعاً لا محالة، وأنهم لو قتلوا واحداً بالقرعة وأكلوه لتخلصوا- فهو محرم [في الشرع] قطعاً، وعليهم الإنقياد لقضاء الله تعالى، فأما التخلص بالقتل: فباطل لا وجه له. نعم: لوورد [حكم] الشرع في صورة السفينة -مثلاً- بالإلقاء بالقرعة، لكان ذلك تنبيها على رعاية هذه المصلحة، حتى نطردها في المضطرين في المخمصة، وبه يتبين أن إثبات الحكم على وفق المناسبة، تنبيه على ملاحظته؛ ولكن: إذا لم يرد الشرع بالحكم على وفقه، ولا رأى ذلك ملائماً لتصرفات الشرع- كان ذلك أمرا [بدعاً] مستحدثاً في الشرع بمحض الرأى، من غير التفات إلى قالب الشرع، وهذا باطل كما قدمنا. مثال آخر: فإن قال قائل: رأيتم قطع الأيدى باليد [الواحدة] قياساً على قتل النفوس بالنفس [الواحدة]. فما مستندكم في قتل

النفوس بالنفس الواحدة؟ أهو المصلحة [أم النص أم الإجماع]؟ فإن اتبعتم] 40 - ب] المصلحة، فما وجه كون هذه المصلحة ملائمة لمصالح الشرع، وفيه قتل من ليس قاتلاً على الكمال، وهو مستبعد؟! قلنا: لم ينقل فيه نص عن الشارع؛ وإنما المأثور عن عمر -رضى الله عنه- في قتيل قتله جماعة، أنه قال: "لة تمالأ عليه أهل صنعاء: لقتلتهم به" فكيف يدعى فيه نص أو إجماع، ومذهب مالك: أنه لا يقتل من جملتهم إلا واحد خرجت القرعة عليه؟

.. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..

فدل أن كل واحد- من الشافعي ومالك- سلك مسلك المصلحة؛ وهو الذي رآه عمر رضى الله عنه. وذلك يدل على اتفاق مسالك العلماء القائسين: في اتباع المصالح المرسلة؛ وإن لم يعتضد بشهادة أصل معين -مهما كام- من جنس مصالح الشرع؛ ووجه المصلحة: أن القتيل معصوم، وقد قتل عمداً؛ وإهداره داع إلى خرم مقصود القصاص، وإتخاذ الظلمة الإستعانة ذريعة إلى [بغيتهم في] سفك الدماء [وقتل الأعداء]. وهذا وجه في المصلحة ظاهر،. ولا يشهد له -بطريق الأصالة- قتل المنفرد، فإنه قاتل -تحقيقاً- على الكمال. ومقابلة النفس بمثلها، لا تدل على مقابلتها بأمثالها. ولكن المقصورد -المعلوم على القطع من أصل القياس- يتقاضى

إلحاق المشتركين بالمنفردين. وقول القائل: إن هذا أمر بدع في الشرع غريب، وهو: قتل غير القاتل. قلنا: ليس كذلك. أما أبو حنيفة، فإنه يزعم: أن كل واحد قاتل على الكمال؛ مصيراً إلى أن حد القتل جرح يتعقبه زهوق الروح. ونحن لا نرى ذلك، وإنما نتبع المصلحة، وإليه يشير مذهب مالك -رحمه الله- في المسئلة، ولكنا -مع ذلك- لم نقتل غير القاتل؛ فإن القتل حاصل، وهو مضاف إلى المتمالئين على الجرح؛ فهم القاتلون، ولم نقتل إلا القاتلين. نعم: لا يسمى كل واحد منهم قاتلاً على الكمال [والتمام]؛ ولكنا نقول: جميعهم في حكم شخص زاحد، والقتل مضاف إليهم إضافته إلى الشخص الواحد؛ فإذا جمعتهم رابطة الغستعانة، فقد صاروا في حكم الشخص الواحد، بالتعاضد على مقصد واحد، ومن جرح إنساناً: فقد قصد قتله؛ فإذا جرحه غيره: فقد أيد قصده، وعضد غرضه؛ ولم يزاحمه عن مقصده، بل مالأه وعاونه عليه، فحسسن تنزيلهم منزلة الشخص الواحد، والقتل مضاف إلى جميعهم تحقيقاً، فلم نقتل إلا جمعاً قاتلاً، وإنما [النظر]: في تنزيل الأشخاص منزلة الشخص الواحد؛ وقد دعت إليه [الحاجة و] المصلحة، وأشار إليه سر المشاكرة؛ فلم يكن ذلك مبتدعاً.

فإن قيل: في مذهب مالك -رحمه الله- ما يحصل الزجر؛ فإن آحادهم إذا كانوا على مخافة من خروج القرعة عليهم، انتهض ذلك وازعاً، وتوقع خروج القرعة على الغير لا يكون سبباً للجرأة على القتل، كتوقع العفو من ولى الدم. قلنا: لم ير الشافعي ذلك: من حيث أن الصارف عن قتل الكل اقتحام قتل من ليس قاتلاً على الكمال؛ وفي قتل الواحد منهم ارتكاب لهذا الأمر المحظور؛ والقرعة لا تؤثر في تكميل جنايته وتخصيصه بالموجب عن غيره؛ وإنما تصلح القرعة: عند تعارض الأسباب الكاملة للتعيين في حق الأشخاص؛ كما إذا لم يملك إلا ستة أعبد، فأعتقهم في المرض: أقرع بينهم، وأعتق اثنان، لأن سبب العتق كامل في حق كل واحد، وضاق المحل عن الوفاء؛ فتوصلنا إلى الترجيح والتعييم، بالقرعة. وفي هذا المقام لم تتكامل الجناية من كل واحد؛ فإذا جاز الأقدام على القتل: فلا فرق بين شخص وشخص. على أن مقصود الزجر غير حاصل به؛ وكل يقدر انحراف القرعة عنه، لا سيما إذا كانوا جمعاً غفيراً؛ وتوقع خروج القرعة عليه لا ينتهض وزاعاً؛ وهو كتوقع الإنسان

الموت فجأة في كل حالة: فإنه ما من شخص إلا ويجوز -في كل وقت- أن يموت [فيه]؛ ولا أثر لذلك على قلبه. وليس ذلك كتوقع العفو من ولى الدم: فإنه -بعد إيغار صدره، وإثارة الحقد والضغينة في [41 - أ] باطنة- يبعد الاتكال عليه. وعلى الجملة: المسألة اجتهادية؛ وإنما هذا نظر: في تعين الطريق في رعاية المصلحة؛ مع الاتفاق على مراعاة المصلحة. فإن قيل: فإذا تعاون رجلان على السرقة، فثقب أحدهما وأخرج الآخر المال- فهلا أوجبتم القطع: رعاية للمصلحة، وحسماً للباب؟ إذ فيه تمهيد ذريعة- هينة الدرك، قريبة المنال- لسرق الأموال، على اختلاف الأحوال؛ وهو الغالب من عادات السراق؟ قلنا: لأنه لم يبن لنا أن القطع مشروع لعصمة المال، كما بأن كون القصاص مشروعاً لعصمة النفس. ودل عليه ثلاثة أمور: أحدها: وجوب القطع مع رد المال بكماله؛ وليس فيه تفويت واتلاف وحاجة إلى جبر. والآخر: أن النفس مثل النفس، ولا مناسبة بين يد ديتها خمسمائة دينار- وفيه تعريض الروح للهلاك- وبين ربع دينار. والآخر: أن القطع لو وجب عصمة للمال، لوجب لمستحق المال: حتى يسقط بإسقاطه كالقصاص؛ فلاح [بهذه الشواهد أن قطع اليد]

عقوبة وجبت لله تعالى، بإزاء فاحشة ارتكبها العبد-؛ لتفاحش الجريمة، وما فيه من هتك المرء حرمه نفسه بالتضمخ بتلك الرذيلة. وإنما الصورة المتفاحشة: السرقة؛ والناقب لم يصدر منه إلا تخريب جدار الغير؛ وهذا وإن كان محظوراً: فلا يتفاحش في العقل والعرف والشرع، تفاحش السرقة؛ وشريكه لم يصدر منه إلا أخذ المال عن مضيعة؛ وليس ذلك على مضاهاة السرقة: في التفاحش. ومراتب القبح في الفواحش تختلف، وتتفاوت بسببها العقوبات الواجبة بها؛ ولا مناسبة بين هذه الصور.

فإن قيل: لو اشترك رجلان في النقب وسرقة المال، بحيث لم يتميز فعل أحدهما عن الآخر- فما قولكم فيهما؟ قلنا: إن بلغ المال نصابين وجب القطع؛ وإن بلغ نصابا واحداً فلا: لأن كل واحد [منهما] لا يخصه نصاب واحد، وما دون النصاب ليس في محل التشوف: لحقارته وخسته؛ فلا يفتقر فيه إلى [شرع] الزاجر، كالمنفرد بما دون النصاب. فإن قيل: فالقطرة الواحدة من النبيذ لا تشتهى، والطباع لا تتشوف إليها: لأن المقصود [منها] الطرب والهزة المستثمرة من استيفاء الأقداح؛ فلم شرعتم فيها الحد؟ قلنا: لم نقتبس ذلك من المصلحة؛ ولكنا ألحقناه باليسير من الخمر، وقد ثبت فيه التحريم نصاً. وسببه: أن قليله داع إلى كثيره؛ ولا وازع من حيث الطبع: فالرجل يستخلى بنفسه في شرب الخمر، ولا حامي ولا عاصم وراءه. أما الأموال [فأنها] مصونة محروسة بالأعين الكالئة، محفوظة

بالقلاع المشيدة [العالية] وفي التسلق عليها: تغرير بالروح، واقتحام [متن] الخطر، مع التردد في قضاء الوطر. فعزازة المال ونفاسته هي الداعية إليه، ثم النظر إلى الشرع في تقدير النفيس، وتمييزه على الخسيس. وهذا وإن كان مناسباً وتنقطع عنه السرقة، فلسنا نراه على مذاق المصالح المستقلة، دون شهادة الأصل. فلو لم يرد الشرع بتحريم قليل الخمر، لما كنا بالذي يحرمه بهذا القدر من المناسبة. ولكن: إذا ورد الشرع بالحكم على وفقه، شهد لملاحظته؛ فنقيس به ما يقاربه وهو النبيذ؛ ولا يستقل بأثبات الحكم، دون شهادة الأصل، وإن كان ملائماً. على ما سبق وجه ملاءمته، ولكنه واقع في الرتبة الأخيرة من المناسبات الجارية مجرى التتمة والتكميلات للقواعد المبنيى على الحاجات أو الضرورات؛ على ما سبق تفصيل القول فيها. فإن قيل: فلم ألحقتم الأيدي بالنفوس في حكم القصاص، ووجه المصلحة في النفوس: عموم التعاون فيه على القتل غالبا، لاستقلال الواحد بدفع الواحد في الأعم الأغلب؟ والتعاون على قطع الأطراف على الوجه الذي يسترطه الشافعي-: من امتزاج الفعلين بحيث لا يتميز [41 - ب] أحدهما عن الآخر- لا يعرض إلا نادراً. فكيف يلحق به بطريق المصالح؟ قلنا: إذا ثبتت قاعدة على مصلحة، لم تتبع آحاد الصور من

القاعدة [على هدمها] بل انسحب الحكم على جميع الأطراف، مع التفاوت في مراتب الحاجة. والشركة في النفوس أيضاً قد تجرى وفاقاً ولا تجرى تواطؤاً؛ وقد تجرى مع الأب والأقارب، وهو نادر، والحكم منسحب. والممكن [فيه رعاية] إمكان الإستعانة، لا رعاية الإستعانة وجوداً؛ والإمكان جار في الأطراف؛ ونحن نحذر انتصاب ذلك ذريعة إلى الإهدار. وإذا علم الناس أن ذلك مدرأة للقصاص: انتحوا ذلك قصداً، وجردواً إليه العمد احتيالاً وصمداً، واتخذوا ذلك طريقاً وصار عاماً. كما صارت صورة مسألة العينة عامة بين الخلق: إذ عرفوا أن ذلك حيلة في الخلاص من الربا. وكل من قصد مقصداً، وكان الطريق إليه محسوماً، وسنحت له حيلة في تيسيرها- انتهض لها بأقصى الجد والتثمير؛ وصارت الحيلة الغريبة بصورتها عامة في الوقوع، بذلك. فهذا طريق الإلحاق، والغرض: بيان وجوه الترداد على المصالح

المرسلة واتباعها؛ فأما أعيان هذه المسائل، فالقول فيها في مظنة الإجتهاد: وكل مجتهد مثاب على ما يتحراه من السداد والصواب. فإن قيل: إيجاب القصاص بالمثقل، هل مبنى على المصلحة وانتهاض ذلك ذريعة عامة؟ قلنا: هذه مصلحة جارية فيه ظاهرة؛ ولكن: انضم فيها الاستشهاد بأصل معين. فإلحاق المثقل [بالجارح] بالمعنى المفهوم من الجارح- جار على شكل الأقسية المعتدة بالأصول الشاهدة المعينة؛ ولكن اتضح القياس وعلت رتبته: لإستمداده من هذه المصلحة، التي لها رتبة الاستقلال [لو قدر انفكاكها عن شهادة الأصل المعين. وإذا اعتضد شكل القياس بمصلحة لها رتبة الاستقلال]: وقع في الرتبة العليا من القوة والظهور. وهذا ما أردنا أن نذكره: من الأمثلة للمصالح التي يعم جدواها، و [تشمل] فائدتها، ولا تخص الواحد المعين. ثم قد تكون أسبابها غالبة في الوقوع، وقد تكون نادرة. ونحن نذكر أمثلة [المصالح التي تظهر] بأسباب نادرة في حق [آحاد] الأشخاص.

مثال [ذلك]: فإن قال قائل: ما قولكم في المفقود زوجها إذا طالت غيبة الزوج عنها وانقطعت الأخبار، واندرست الآثار، وبقيت المرأة محبوسة في حبالة النكاح، مع الفقر والإضاقة وانحسام طريق النفقة، ولا تعرف من زوجها موتاً ولا حياة، ولا تسمع من حديثه همساً؛ فهل تسلط [المرأة] على النكاح: تقديراً للموت في حق زوجها، ورعاية لمصلحتها وتخليصاً لها من هذه الضرورة التي لا منتهى لها إلى منقرض أجلها؟ قلنا: اختلف العلماء [في هذه المسألة] فالذي رآه عمر -رضى الله عنه- أنها تنكح إذا طالت المدة، واندرست الأخبار، وظهرت آثار الوفاة. وإليه ذهب الشافعي في القديم. ونص -في الجديد- على أن لا طريق إلا الاصطبار والانتظار: إلى أن يتحقق الحال بظهور نبئه، أو بإنقضاء مدة يقطع فيها بتصرم عمر الزوج. وليس هذا من الشافعي امتناعاً عن اتباع المصالح، وإنما هو رأى رآه في عين هذه المصلحة: من حيث أن في تسليطها على التزويج خطراً عظيماً؛ ولا ندارس الأخبار أسباب سوى الوفاة: من تنائي المزار، وتباعد الأقطار، وانقطاع الرفاق؛ لا سيما إذا كان الرجل خامل الذكر، ونازل

القدر، ركيك الحال والأمر؛ فبقاؤه في الأحياء ليس بعيداً، وربما يعود يوما من الدهر: وقد سلمنا حليلته إلى فحل يتغشاها ويستولدها، ويلطخ فراشه؛ فيعظم فيه بالخطب، ويتفاقم فيه الأمر، ويستفحل الضرر والمعرة على الزوج. ونحن بين أن تأمرها بالتربص [على النكاح] فنضر بها إن كان زوجها -في علم الله تعالى- ميتاً، أو نسلطها على النكاح: فنضر بالزوج إن كان في علم الله تعالى حياً. والضرر في تربص أيم وتعزبها أهون- وذلك معتاد شرعاً وعرفاً- من الضرر في تسليم زوجة منكوحة إلى واطئ. فأستعظم الشافعي -في الجديد- الخطر في هذا الأمر؛ وانضم إليه ندور [هذه] الواقعة، واختصاص [42 - أ] المضرة بالشخص الواحد. فهذا وجه نظره. وللقول القديم- الموافق برأى عمر رضى الله عنه وجه لا يخفى تقريره.

مثال آخر: إذا كان للمرأة وليان، فأذنت لهما في تزويجها؛ فزوجها كل واحد منهما من إنسان واستبهم السابق [واللاحق]، مع العلم بجريان العقدين على التعاقب؛ وانحسم طريق الكشف والتذكير، وقع الاعتراف بالاشكال- بقيت هذه المرأة محبوسة بين الزوجين مترددة ولا طريق لأحدهما إليها: فلا سبيل لها إلى النكاح، وقد جرى على القطع عقد صحيح. فالمصلحة داعية إلى فسخ العقد الذي جرى في علم الله تعالى، وتسليطها على النكاح، وتخليصها عن هذه الحالة المزمنة طول العمر. وقد اختلف فيها قول الشافعي، وهو دليل ميله إلى المصالح ورعايتها؛ إذ هذه المسألة لا نظير لها: فالعسر الحاصل بالنسيان لم ير قط في الشرع معتبرا في فسخ العقد؛ ولكنه- على الجملة- ملائم لجنس تصرفات الشرع؛ فإن الشرع يرى فسخ العقود: إذا تعذر امضاؤها، وامتنع استيفاؤها؛ فإذا وقع اليأس عن الكشف، فلا شك في اقتضاء المصلحة الفسخ؛ وقد جاز الفسخ بالجب والعنة، دفعا للضرار عنها؛ إذ فيه فوات التحصين؛ وذلك جار فيما نحن فيه؛ إلا أن شهادة هذه المسائل ضعيفة: لأن الضرر

فيها ينشأ من عيوب وأسباب جبلية، لا تقصير فيها من العاقدين، وأما العسر على هذا الوجه بالنسيان [فـ] نادر؛ وسببه: تقصير وترك تحفظ، ومساهلة في احتياط [لا محالة]. فالحاقة بهذه الأسباب ليس سديدا؛ وإنما المعول عليه، المصلحة؛ وهو في محل الاجتهاد والتردد، كما ردد الشافعي قوله هذا فيه: إذا لم يتعين السابق. فلو تعين أولا، ثم نسى- فطريقان: منهم من قطع بأنه لا سبيل إلى الفسخ، ومنهم من طرد القولين: لاستواء المصلحة. وظاهر المذهب- من حيث النقل-: الفرق. وسببه: ظهور التقصير عند النسيان بعد العلم، وبعده عن ملاءمة الأسباب الموجبة للفسخ. مثال آخر: إذا طلقت المرأة الشابة بعد المسيس، ولزمتها العدة، وتربصت الأقراء: فتباعدت حيضتها سنين- فقد قال العلماء: يلزمها التربص إلى سن اليأس، ولا يغنيها الاعتداد بالأشهر. وهذا ضرر عظيم ظاهر، وفيه تعطيل عمرها وشبابها، ومنعها من النكاح. ولكن نرى هذه المسألة مجمعا عليها، وتكاد تهدم اتباع المصالح في المثالين السابقين: فإنها قريبة منهما، ولكن: وجه الرأي فيه- والعلم عند الله- أن الله تعالى قال:

{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}؛ والتربص واجب على كل من تحيض؛ ولسنا نعني [بقولنا]: تحيض، وجود الحيض عند الطلاق؛ فالطاهرة تطلق ويقال: أنها ممن تحيض، فتتربص الحيض. فالمعنى: إمكان الحيض، أما من لا يمكن في حقها الحيض جبلة: كالصغيرة والعجوز الهرمة؛ فلها العدول إلى الأشهر. وما دامت المرأة جارية- في وسط العمر- بين طرفي الوجود: فإمكان الحيض جار في حقها، وقد أمر الشرع بتربص الطاهرة للحيض؛ فعليها أن تنتظر الحيض، وما من لحظة تنقضي إلا وهي على رجاء من هجوم الحيض. نعم: لو علمنا أنها ليست تحيض إلى منتهى الهرم، لكنا نعدل بها إلى الأشهر. ولكن ذلك إن كان: فهو في علم الله تعالى، وهي- في كل ساعة تبغى الشروع في العدة بالأشهر- يتوقع الحيض لها حالا على حال. فإن مضت سنة أو سنتان: لم ينقطع هذا الرجاء؛ فرب امرأة لا تحيض سنين ثم يعاود الحيض؛ ومن لها إلى الانتظار سبيل: فليس لها في الشرع إلا التربص. وإنما الضرر ينتظم تقديره بتمادي الطهر سنين كثيرة. ونحن- في الحال- لا نعلم تراخيها سنين؛ وإنما ندرك ذلك بعد مضيها، ولا سبيل إلى تلافيها. وطريق الرجاء والأمل متسع في المستقبل. فهذا هو السبب والعلم عن

الله تعالى، بخلاف المثال السابق: فإن الشيء إذا نسى على قرب عهد به، استحال في العرف- تجدد علم به، بعد طول العهد بالأمارات. فإن قيل: عقل قطعا أن مقصود العدة براءة الرحم؛ وقد حصل بمضي أربع سنين: فإن مدة الحمل لا تزيد عليها. فهلا اكتفيتم بها؟ قلنا: علم أن البراءة مقصودة من العدة، ولم يعلم أنها المقصود فقط، بل علم أن للشرع وراءها تعبدا في العدة؛ فإنه لو قال لزوجته: إذا استيقنت براءة رحمك فأنت طالق؛ فإذا استيقنت: طلقت ولزمتها العدة. فلم يمكن تجريد النظر إلى معنى البراءة. هذا ما أردنا أن نذكره: من أمثلة المصالح؛ وفيه الكفاية لصاحب الهداية؛ إن شاء الله تعالى [ولله الحمد، وبه التوفيق]. القول في الطرد والعكس المسلك الخامس: في إثبات كون الوصف علة بالاطراد والانعكاس؛ وهو: أن يوجد الحكم بوجوده، ويعدم بعدمه، فيعلم به

أنه مؤثر فيه، وموجب له؛ وأن وجوده بالإضافة إلى الحكم، ليس كعدمه. وهذا قد اختلف فيه الأصوليون اختلافا ظاهرا؛ [فالذي اختاره القاضي أبو بكر: أن ذلك] لا حجة فيه؛ من حيث أن الطرد [المجرد ليس بحجة]، والعكس ليس بشرط في العلل الفقهية: فلا تأثير لوجوده؛ ولأن انتفاء الحكم بانتفاء الوصف مسئلة، والثبوت عند الثبوت مسئلة أخرى منفصلة عنه؛ فكيف يعتضد أحدهما بالآخر. إلى كلمات مشهورة قررناها في كتاب (المنخول من الأصول). وليس يحصل- في هذه القاعدة- شفاء الغليل، إلا بالتمثيل والتفصيل. فأقول- وبالله التوفيق: الطرد والعكس يذكر من وجهين: أحدهما سديد، والآخر فاسد.

فأما الفاسد، فهو: إظهار وجود الحكم عند وجود وصف في محل، وإظهار عدمه عند عدم ذلك الوصف في محل آخر، كما يقول الحنفي مثلا: الجص مكيل، فيجرى فيه الربا كالبر، فيقال له: ولم قلت: إن العلة في البر هي الكيل؟ فيقول: لأن البر مع الأشياء الثلاثة، لما كان مكيلا مقدرا: جرى فيه الربا، والثياب والعبيد [لما لم تكن] مكيلا مقدرا: لم يجر فيها الربا. فوجد هذا الوصف مع وجود الحكم، وعدم مع عدمه. فهذا وأمثاله فاسد: لأن الحكم يوجد مع أوصاف وفاقية يقارنها، وينعدم عند انعدام أوصاف وفاقية، فلم يستمكن هذا المستدل من أن يقول: وجد الحكم بوجوده وعدم بعدمه؛ بل قال: وجد مع وجوده في موضع، وعدم مع عدمه. وهذا وإن سلم سلامته عن النقض في الطرد والعكس، فلا خير فيه من طريق الأطراد والانعكاس. وقد يمكن التعلق به بطريق الشبه، كما سنذكر وجهه وكيفيته [إن شاء الله تعالى]. هذا وجه في الطرد والعكس. والوجه الثاني: أن يستمكن المستدل من ادعاء وجوده بوجوده، وعدمه بعدمه. وذلك: إذا استقام [فهو] دليل على كون الوصف علة عندنا.

بل نزيد فنقول: إذا سلم قوله: أنه وجد بوجوده؛ كفاه ذلك، ولم يشترط أن يبين انعدامه بعدمه، بعد الوجود؛ إذ في الوجود بوجوده، بيان الانعدام بعدمه؛ إذ كان قبول الوجود منعدما، وكان انعدامه بانعدام ما وجد بوجوده. فهذا القدر كاف. ونحن نضرب لذلك ثلاثة أمثلة، ونرتب الدليل على تقرير وجه الأمثلة: [المثال] الأول، هو أن نقول: العلة في تحريم الخمر: الشدة والإسكار؛ لأنه يوجد بوجودها، إذ كان منعدما: حيث كان عصيرا، فلم يتجدد إلا الشدة فتجدد التحريم ثم صار خلا، فصار حلالا: فانعدم بعدمه. وهذه زيادة لا حاجة إليها؛ إذ في تجدد التحريم، بتجدد الشدة- ما يدل على أن الشدة هي العلة فنقيس بهذه الرابطة سائر الأنبذة، وعلى الخمر. المثال الثاني: [هو] أن يقول الحنفي في الصبي العاقل: أن تنعقد بعبارته العقود، لأنه عاقل: فتنعقد العقود بعبارته، كالبالغ. فقيل [له]: وما الدليل على أن العقل- في حق البالغ- هو المناط لصحة العبارة؟ فيقول: أنه عدم بعدمه، فإنه إذا جن: لم يعدم إلا العقل؛ فإذا

أفاق: لم يتجدد إلا العقل. فقد وجد بوجوده، وعدم بعدمه. المثال الثالث [هو] أن نقول في العبد: أنه رقيق، فينشطر حد الزنا في حقه كالأمة، ونقيس على الأمة: لأن النص وارد في حق الأمة؛ إذ قال تعالى: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}. فيقال: وما الدليل على أن الرق علة؟. قلنا: [هو أن] التشطير يعدم بعدمه؛ فإنها لو عتقت: لم ينشطر حدها. ففي هذه الصور: إذا ظهر الوجود بوجود الوصف، كما في الطرف الأول: من شدة الخمر وخلولها؛ [أو] أظهرنا العدم بعدم الوصف، كما في انعدام التشطير بعدم الرق، وانعدام العبارة بعدم العقل عند طريان الجنون- فقد استقل الدليل على كونه علة إلى أن يبين الخصم في المناظرة، أو يتبين للناظر بنظر آخر: أن الحكم لم يحدث بحدوثه، بل حدث بحدوث معنى [آخر] يتضمنه الحادث، أو معنى يجاور الحادث؛ أو حدث به مع وصف آخر سابق عليه في الوجود، أو حدث عنده بعلة أخرى متقدمة في الوجود عليه. وكل هذه الاحتمالات

متطرقة إليه؛ ولكن لا تدرأ دعوى التعليل في مبادئ النظر. وعلى من يدعي شيئا من هذه الاحتمالات، إقامة الدليل، وإظهار المناسبة. فإن قيل: كيف تنفعكم هذه الأمثلة، وإنما نسلم فيها دعوى التأثير بالمناسبة لا بالاطراد والانعكاس؟. فإن وجود العقل وعدمه يناسب إطلاق التصرف وحبسه، ووجود الإسكار يناسب تحريم الشرب، وضعف حال الرقيق يناسب تخفيف العقوبة. فكان الاعتماد على المناسبة. وإذا سلمت المناسبة: سلم بالاتفاق دعوى التعليل؛ فأين تأثير الطرد والعكس؟ قلنا: المناسبة جارية في هذه الأمثلة، ولكن: قبل أن يطلع الناظر [على وجه المناسبة يفهم أن الحكم إنما حدث بحدوث وصف مرتبا عليه؛ فذلك] الوصف هو المؤثر فيه، وهو الموجب لحصوله. هذا ظاهر الظن في أول النظر؛ فإن اعتضد هذا النظر بالمناسبة: ازداد وضوحا، وهو حاصل قبل المناسبة، والدليل عليه ما قدمناه في مسالك الإيماء: أن كل حكم رتب على سبب بفاء التعقيب، أو بصيغة الشرط والجزاء- أشعر بكونه سببا. كقوله: (من جامع في نهار رمضان فليكفر) لو ورد هذا اللفظ. وكقوله الوارد: (من بدل دينه فاقتلوه). وليس يفهم سببه من المناسبة؛ بل يفهم من الإضافة اللفظية، بدليل أنه لو قال: (من مس ذكره فليتوضأ)، [يفهم كونه سببا وإن لم يناسب. ولو قال مثلا:

من مس الجدار فليتوضأ]، لفهم أنه جعل مس الجدار سببا؛ ثم زدنا عليه، وقلنا: إذا حكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحكم، عقب واقعة ذكرت له: فالواقعة سبب للحكم، كما قال الأعرابي: [إني] جامعت أهلي نهار رمضان، فقال: (أعتق رقبة)، ففهم [منه] أن الجماع علة الإعتاق؛ ولم يفهم من [طريق] المناسبة: فإنه لا مناسبة. ولو [قدرنا حكاية] أمر لا يناسب، كقول القائل مثلا: رأيت في المنام البارحة أني كنت أشرب ماء في كوز، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: أعتق رقبة؛ لفهم أن رؤياه سبب، ولقضت العقول من سماعه العجب، [وبأية حكمة جعل] سببا ولا مناسبة؟ وإنما التعجب لفهم جعله سببا. وهذا كله ما قدمناه؛ ومستند الفهم فيه: حدوث الحكم عند حدوث الواقعة مرتبا عليه؛ وهو عين الطرد والعكس الذي ندعيه، وإنما المتغير العبارة. فإنا نقول: كان الأعرابي بريء الذمة من الكفارة؛ علم ذلك شرعا، ولم يتجدد منه إلا الجماع، فتجدد لزوم الكفارة، فقد وجد بوجوده؛ وفي ضمنه أنه كان منعدما قبل ذلك بعدمه، فهذا طريق يعرفنا كون الجماع سببا وعلة، حتى نتبع السبب ونقول: ورد ذلك في

الأعرابي، [فيلحق به كافة الخلق، أو: ورد في حق حر، فيلحق به العبد، أو: ورد في حق رجل]: فتلحق به المرأة، على الرأي الأظهر، أو ورد في جماع الأهل، فيلحق به جماع الأمة والأجنبية. ومستند ذلك كله، فهمنا أن الحكم حدث بحدوث الجماع. وليس يستند ذلك إلى المناسبة: إذ هذا الفهم، وهذه التصرفات بعينها والإلحاقات تجري في مثل الرؤيا التي أبعدنا [النجعة في تصويرها]، [لنبعد عن تقدير] المناسبة. وكما عرف هذا في الواقعة المرفوعة إلى النبي عليه السلام، فهو بعينه مفهوم في حدوث الوصف على المحل الخالي عن الحكم. فالعصير لا تحريم في شربه، ولم تتجد إلا الشدة، فتجدد التحريم. فعلم أنه حدث بحدوثه. وكذلك: البالغ: إذا جن امتنعت عبارته، ولم يعدم إلا عقله: فإن البلوغ لم ينعدم به. فعلم- لما انعدم بعدمه- أنه كان قائما بوجوده، وأنه السبب فيه؛ فأي فرق بين أن [يقال للرسول عليه السلام: اشتد العصير، فيقول: حرم] شربه؟ فيفهم كون الشدة سببا، وبين أن نعرف من الشرع والإجماع أنه مهما اشتد [العصير] حرم؟. فإذا كانت الحرمة مقرونة بالشدة وحادثة معها، علم أنها موجبة لها،

وعلامة عليها. وكذلك: لو سئل النبي- عليه السلام-[مثلا] عن شاة ماتت: أتباع؟ فقال: لا؛ لاعتقد أن الموت سبب تحريم البيع: إذ كان عرف جواز البيع قبل الموت ولم يتجدد إلا الموت، فتجدد حرمة البيع، فعرف أنه تجدد بسببه؛ ولو عرف شرعا أن الشاة إذا ماتت حرم بيعها، لحكم بأن الموت هو السبب- كما في صورة السؤال وترتيب الجواب عليه- وهذا دون أن تعرف مناسبة الموت؛ بل لا تعرف له مناسبة. وآية فهم كونه علة: تعديته إلى الإبل والبقر وسائر الحيوانات، قبل البحث عن مناسبته، وقبل الوقوف عليه. نعم، لو قال باحث: ليس معللا بالموت، وإنما هو معلل بخروجه عن المالية؛ فإن المال: ما ينتفع به، وهذا لا منفعة له- فهذا كلام مناسب معقول؛ وبه نتبين أن الموت ليس سببا لعينه، وإنما هو سبب لمعنى يتضمنه، وهو: تفويت المنافع، وإبطال المالية، فيكون مضاهيا لقولنا أن قوله عليه السلام: (لا يقض القاضي وهو غضبان)، مشير إلى التعليل بالغضب في أول النظر؛ ويعرف بالنظر الثاني: أن الغضب ليس سببا لعينه، بل هو سبب لما يتضمنه: من ضعف العقل ودهشته. وضربنا أمثلة ذلك في الأوصاف التي أضيفت [الأحكام إليها]؛ فهذا يجري

هذا المجرى. ثم للمعلل بالموت، أن يبطل هذا المعنى ويقول: لم تبطل منفعته؛ فإن جلده ينتفع به بعد الدباغ، ولحمه يجعل طعمة للجوارح والكلاب. وهو غرض مقصود؛ وقضم الدواب مال لغرض أعلاف الدواب؛ فكذلك طعمة الجوارح؛ فيبطل هذا المعنى، ويرجع [هذا] التعليل إلى عين الموت. ولناظر آخر، أن يقول: سببه ما يتضمنه الموت: من النجاسة؛ فيتعدى إلى كل نجس، ولا يتعدى إلى حيوان مات ولم ينجس: لو تصور ذلك. وهذا [يسلم أن لو كانت] النجاسة مناسبة تحريم البيع؛ فإن لم تكن: عدنا إلى التعلق بعين الموت. فإن قيل: رجع الاستدلال إلى أنه حدث بحدوثه؛ ومن يسلم ذلك؟ وإنما المسلم: حدوثه مع حدوثه أو عند حدوثه، فيلحق هذا بالوجه الآخر الذي رفضتموه، وجعلتم فيه وجود الوصف وفاقيا. قلنا: هذا حكم حادث بحدوث أمر، فوجب إضافته إلى أمر حادث. ولا حادث إلا ما ذكرناه؛ فتعينت الإضافة إليه؛ فنشأ الدليل من أمرين؛ أحدهما: وجوب التعليل بأمر حادث، والآخر: أنه لا حادث إلا ما ذكرناه. فإن قيل: ومن سلم أنه لا حادث إلا ما ذكرتموه؟ فلعله حدث- مع

هذا- معنى آخر خفى عليكم؛ [وذلك] هو السبب؛ وهذا الظاهر جرى وفاقا. قلنا: نحن نجوز ذلك، وعلى مدعيه أن يبديه؛ وتجويزنا ذلك لا يقطع دعوى الإضافة إليه؛ كما أنه لو كان مناسبا: لم ينقطع هذا الإمكان، بل احتمل حدوث وصف خفى أظهر مناسبة مما ظهر؛ فيكون هذا هو العلة والآخر ساقطا، ولكن الظاهر هو الأسبق إلى الظن، فهو متعلق به إلى أن يظهر الأخفى بدقيق النظر؛ وكذلك الحادث الظاهر: يضاف [إليه في] أول النظر؛ وهذا النظر بعرضة الفساد بما يظهر-: من معنى آخر خفى- بالنظر الدقيق. ولكن قبل ظهوره هو متعلق به؛ فهو مرتبة في النظر يستقل به قدم المعلل؛ وشرط اتمامه: أن لا يظهر غيره، أو يفسد ما يظهر سواه. كما في المناسب، وكما في الإضافة اللفظية: إلى الغضب في تحريم القضاء، وإلى القتل في حرمان الميراث، والأمثلة السابقة. فإن قيل: المستند- في تلك الأمثلة-: الإضافة اللفظية؛ وفي الأوصاف المخيلة: المناسبة، فهو الذي يقرر أول قدم المعلل، إلى أن يستنزل عنه بنظر وراء [فما الذي يستقر به قدم المعلل في هذا المقام،

حتى يفتقر المعترض إلى استنزاله عنه بنظر وراءه] يبديه في معارضته؟. قلنا: المستند في هذا المقام: حدوثه مرتبا عليه وعقيب حدوثه؛ كما في حكم النبي- عليه السلام- عند وقوع واقعة: ناسبت الواقعة أو لم تناسب؛ فالظاهر أن الواقعة بصورتها هي السبب، إلى أن يتبين أنها سبب: لما تتضمن من المعنى، لا بعينها ونفسها. فهذا الظن لا ينقطع إلا بتقدير معنى آخر وراء ما ظهر؛ وإمكان ذلك لا يقطع الظن؛ [فإن إمكان مناسب آخر أظهر، ممكن في الأوصاف المناسبة؛ فلم ينقطع الظن] بإمكانها وتجويزها، وإن كان ينقطع بظهورها: إذا ظهرت. ألا ترى أن ظن أبي حنيفة ظاهر في قوله: أن [علة] أهلية العبارة العقل دون البلوغ؛ لأنه لم ينعدم البلوغ بالجنون، وإنما انعدم به العقل؛ إلى أن يقال [له]: لا، بل انعدم شيء سوى العقل، وهو: التكليف. فالصبي غير مكلف؛ فبهذا ينقطع الظن الأول، ويجب رد النظر إلى أن التكليف أصلح لأن يكون مناطا، أو العقل، فإن

التكليف انعدم مع انعدام العقل. وكذلك: لو أظهر المعترض أنه حدث شيء [آخر] سوى الموت، في المثال الذي ضربناه- وجب علينا النظر فيه، وترجيح الموت عليه أو ترك التعليل بالموت. فإن قيل: فهل تجوزون التعليل لتحريم الخمر بالرائحة الفائحة المخصوصة بالخمر، فإنها حدثت مع الشدة؟ فلو قال قائل: التحريم معلل بالرائحة الفائحة [المخصوصة] فإنها حدثت: فحدث الحكم معها. قلنا: لو تصور أن يخفى على ناظر حدوث شيء آخر سوى الرائحة، لكان هذا أول نظره، إلى أن يتبين أنه حدث ما هو مناسب- وهو: الإسكار- فكان أولى منه؛ ولكن هذا ضعيف: لأنه ساوقه معنى [آخر]: أصلح للتعليل، وأظهر للنظر، وأسبق إلى العلم والإحاطة. ونحن نسلم بطلان هذه الإضافة مهما ظهر ما هو أولى منه؛ وذلك لا يدل على أن أول الإضافة ليس على مرتبة في النظر يستقر به القدم؛ كما أن

المناسب الأظهر: إذا ظهر، بطل المناسب الأخفى؛ ونعني [بالمناسب الأظهر]: الأقوى الذي يظهر ثانيا؛ وبالأخفى: الأضعف الذي يظهر أولا. فإن قيل: لو ظهر المعترض [حدوث] معنى آخر لا يناسب فهل يبطل به النظر الأول؟ قلنا: إن كان الأول لا يناسب: اعتدلا؛ ولم يكن أحدهما أولى من الآخر، فعلى المعلل الترجيج والانفصال؛ وإن كان الثاني مناسب: صار- بمجرد مناسبته- مقدما على الأول الظاهر الذي لم يناسب؛ وإن كان الأول مناسبا: اعتدلا، فعلى المعلل الترجيح؛ وإن كان أقوى من الأول: ترجح عليه بقوته، فغير المناسب يعادل- في هذا المقام- غير المناسب- كما أن المناسب يعادل المناسب. وفي هذا المقام يفارق ما نحن فيه-: من الوجود بحدوث الوصف- الإضافة اللفظية؛ فإنه لو قال القائل: ليس الغضب علة لعينه وإنما هو لمعنى يتضمنه أو يجاوره؛ وذلك المعنى أيضا لا يناسب: كالغضب مثلا- فهو ساقط، ونتعلق بالوصف المنطوق به: لأن النطق به حجة. أما ها هنا: فلا نطق؛ وإنما المستند: حدوث الحكم بحدوثه؛ وقد حدث وصفان: فالإضافة إلى أحدهما تحكم. نعم، كأن

يضاف إلى واحد: فإنه الظاهر فقط؛ فإذا نبه الخصم على الوصف الثاني: بطل الظن الأول، واحتيج إلى الترجيح، ولا ترجيح بالحدوث، ولا ترجيح بأن الأولى هو الذي ظهر أولا: فإن التقدم والتأخر في الظهور، يختلف بالأشخاص ووجوه البحث. وذلك لا يرجع إلى قوة المعنى. فالظاهر ثانيا- بعد ظهوره- يساوي الظاهر أولا. فصورة [سؤال الشارع- في هذه القضية- تلتحق] بالإضافة اللفظية، لا بالإضافة الوجودية التي نحن فيها؛ لأن ترتيب الحكم على منطوق السائل، كترتيبه على كلام نفسه، فلا فرق- بين أن يقول السائل: اشتد العصير، فيقول الشارع: حرم وبين قوله: إذا اشتد العصير حرم- في أن الظاهر: كون الشدة سببا وإن لم تناسبه. ولا يقاومه معنى آخر: [لا] يجاوره ولا يناسب؛ لأنه لم يقع منطوقا به. فإن قيل: يحتمل أن يكون السبب في الوصف الحادث مع وصف آخر هو مستمر في هذه العين؛ والحكم المنوط بوصفين: يوجد بطريان أحدهما بعد سبق الأول وينعدم بعدمه؛ ثم لا يتبع ذلك الوصف الفرد، دون انضمام الوصف الآخر [إليه]. ومثاله: أنه لو صرح الشارع بأن العلة شدة عصير العنب لكان الحكم يوجد بوجود

الشدة وينعدم لعدمها؛ ثم لا تتبع الشدة في غير عصير العنب، لأن كونه عصير العنب وصف ذاتي له مستمر، [والآخر عارض يطرأ ويزول]؛ والحكم موقوف على الوصف العارض. وأحد الوصفين إذا كان مستمرا، والآخر عارضا: يطرأ ويزول، فالحكم يدور مع العارض ويزول بزواله؛ فإنه منوط بمجموع الوصفين، وفي حدوثه الاجتماع، وفي زواله زوال الاجتماع. قلنا: هذا مسلم لا ننكره؛ ولكن ليس في تجويزه ما يقطع الظن عن اتباع الوصف الحادث؛ فإن المعنى المناسب- أيضا- لا يمنع أن يكون معه وصف آخر يزيد في المناسبة، ويكون الحكم مرتبا على مجموع الوصفين. ولكن: إذا [ظهر واحد مناسب] انقطعت المطالبة عنه، وعلى الخصم تنبيهه على الزائد المضموم إليه، حتى ينفصل عنه. نعم، إن كان مجتهدا: فينبغي أن يبحث؛ فإن [تعذر ابداء وصف ثان]: اقتصر على الأول؛ وإن كان معللا: ذكر ما ظهر، واستقر قدمه في النظر الأول. وعلى الخصم أن ينبهه على الوصف الثاني، حتى يتكلم عليه.

وكذلك المجتهد في مسئلتنا: يبحث ويتأمل، فلعله يعثر على وصف آخر، فإن لم يعثر: اعتمد على الوصف الحادث؛ وإن كان معللا: كفاه ذلك الوصف الحادث؛ وعلى المعترض أن يقول: ما الذي يؤمنك من كون الوصف الفلاني مضموما إلى وصفك؟ وإذا ذكر هذا القدر: لزمه الانفصال، وإذا لم يذكر، وقال لعل وصفا آخر خفى عليك، هو كامن مضموم إلى وصفك، فما الذي يؤمنك منه؟ فهذا لا يلزمه الجواب عنه، كما في المناسب. فإن قيل: الحكم يظهر بحدوث الشرط عند تقدم العلة، كما يظهر بحدوث العلة؛ فمن اشترى قريبه: عتق عليه؛ وقد حدث العتق بحدوث الشراء والملك [جميعا]؛ وليس الملك علة العتق، وإنما [العلة] القرابة، ولكن القرابة وصف ذاتي مستمر: لا يطرأ ولا يزول؛ والملك يطرأ ويزول، فظهر الحكم بظهور الشرط، وهو محل العلة لا نفس العلة. قلنا: هذا من قبيل السؤال السابق؛ فإن المجتهد يجب عليه أن

يبحث عن الأوصاف الكامنة سوى الوصف الحادث؛ فإن ظهر وصف [ما] يساوي الحادث: جعل العلة مركبة من الوصفين؛ وإن ظهر وصف مناسب: جعله علة، وجعل الحادث شرطاً. كما في شراء القريب، وإن لم يظهر: جعل الوصف الحادث مناطاً للحكم وعلماً له، وأضاف الحكم إليه. وعلى الأحوال، لا يجوز تعطيل الوصف الحادث الذي ظهر الحكم به: إما أن يعتبر وصف علة، أو شرط علة، أو علة؛ والنظر الأول يقتضي الإحالة عليه، وتقدير الاستقلال له بإفادة الحكم، فإن سلم هذا النظر - في المرتبة الثانية، والثالثة - من النظر عما ينقصه: سلم؛ وإلا: حكم بما ظهر ثانياً. والغرض أن العلل تنقطع عنه المطالبة، ولا تتوجه عليه: ما لم ينبه المعترض على وصف آخر مضموم إليه: يقدره وصفاً أو علة مستقلة؛ أو يقدر ذلك الوصف الآخر أصلاً مستقلاً، والحادث مجاوراً وفاقاً. فما لم ينبه على شيء من ذلك: لا تتوجه مطالبته. فهذا هو الغرض. فإنه إن سلم في الرتبة الثانية من النظر، ولم يظهر غيره - جاز للمجتهد

أن يجعل الوصف الحادث علماً على الحكم متبعاً، كما في ترتيب الجواب من الشارع على الواقعة، وكما في الترتيب اللفظي بفاء التعقيب، فإن الإضافة إلى الشرط [لفظاً] جائز، كما يجوز إلى العلة، ولكن الأصل: أن المضاف إليه هو الموجب، إلى أن يظهر وصف هو أولى بالإيجاب منه، فكذلك ما نحن فيه. فإن قيل: إذا جوزتم أن يعلل بالوصف الحادث وإن كان لا يناسب، فم ينكر العلل على المعترض إذا قال له: سلمت لك أنه سبب، ولكنه سبب في هذا المحلل على الخصوص، كقوله: سلمت [لك] أن الشدة سبب، ولكن السبب شدة عصير العنب، [فبم تنكر عليه]: وغايتك أن تقول: هذا تخصيص بوصف أو بمحل لا مدخل له ولا تأثير له في إيجاب الحكم؛ على معنى أنه لا يناسب، فأصل الوصف - أيضاً - غير [45 - أ] مناسب، وإضافة الحكم إليه على مذاق التحكمات التي لا تعقل، ولا فرق بينه وبين التخصيص بهذا المحل. وفيه ما يمنع الإنتفاع بجنس هذا التعليل، ويقصر الحكم على محل النص والإجماع؟. وهذا هو السؤال الأعظم على هذه القاعدة، [و] في دفعة تمهيد هذا الأصل وتقريره. قلنا: نتكلم على هذا السؤال، من وجهين: أحدهما: هو أن يقال: يجب على المعلل أن يبين أن هذا الحكم ليس

مخصوصاً بالمحل ومقتصراً على الذات [التي فيها] الإجماع؛ وإذا بطل ذلك: وجبت الإضافة إلى صفة متعدية. فبطل به الاختصاص. وهذا كقولنا: صوم مفروض، فيفتقر إلى التبييت كالقضاء. فيقول الخصم: لا مناسبة لكونه مفروضاً؛ أن علة وجوب التبييت في القضاء كونه مفروضاً، وهو لا يناسب؟ [لا]، بل العلة فيه كونه قضاء، حتى يقتصر عليه. فيقال: وبالإجماع التبييت ليس مخصوصاً بوصف كونه قضاء، فإن النذر والكفاءة وسائر الصيام يشترط فيه التبييت؛ فبطل التخصيص بالمحل والذات، ووجب التعليل بوصف يتعدى. وكذلك إذا قلنا: أن المستعير يضمن، لأنه أثبت يده على مال غيره لغرض نفسه، من غير استحقاق؛ فيضمن كالمستام. فقيل لنا: هذا الوصف

ليس علة في المستام؛ لأنه لا يناسب، فينبغي أن يقال: أنه غير معقول، ليس علة في السنسام؛ لأنه لا يناسب، فينبغي أن يقال: أنه غير معقول، أو هو مخصوص بمحله وصورته، وهو: يد السوم، فيقال: وبالإجماع ضمان الأيدي غير مقصود على يد السو؛ إذ هو جار في يد الشراء، ويد المستعير من الغاصب، ويد المودع إذا جحد، ويد الغاصب وغيره، فاجتمع أمران، أحدهما: وجوب التعليل؛ [والآخر] الإضافة إلى الوصف الحادث: لأن الحكم حدث بحدوث وصف، وهذا مما يجب تعليله؛ فقد كان الرجل بريء الذمة، تضمن بالأخذ؛ فأضيف إلى الأخذ، ووجب سير صفاته؛ وامتنع تخصيصه بمحله بالإجماع. لذلك فلم يبطل تعليلنا به: لأن ذلك متفوض بالإجماع؛ وكل وصف انتقض بالإجماع فقد بان بالإجماع أنه ليس مناطاً للحكم؛ حتى [لو] عللنا الضمان في يد السوم: بأنه إثبات يد على مال الغير؛ وتركنا خصوص جهة السوم - لبطل بيد الوديعة؛ فلابد أن نزيد، فتقول: أثبت إليه لغرض نفسه؛ احترازاً عن الوديعة. وهو أيضاً منقوض بيد الإجارة، فلابد وأن نزيد قولنا: من غير استحقاق؛ فاستقام التعليل بهذا القدر - وإن كان لا يناسب -: من حيث أن الحكم [حدث] مع حدوث سبب فعرف

ارتباطه [به]. فنظرنا في تنقيح المناط وتهذيبه وتحديده، فاستقام ما ذكرناه بعد وجوب التعدية من محل الإجماع - وهو [جهة] السوم - بطريق المناقضة التي ذكرناها. نعم: لو اقتبس الخصم من يد السوم وصفاً آخر: يطر له أيضاً، ولا يتنقض، ولا يتعدى إلى العارية - كان مقاوماً معارضاً لكلامنا، وعلينا الترجيح. وهذا كقوله: ان المستام إنما ضمن: لأنه أخذ بجهة الشراء، والشراء جهة ضمان: والمأخوذ على جهة الشيء: كالمأخوذ على حقيقته؛ وتعدى هذا إلى يد الرهن، وتقطع عنه يد العارية. فهذا يقاوم كلامنا إلى أن نرجع جانباً بطريقه. وعلى المجتهد البحث عن هذه المعارضات وتعيين واحد منها بالترجيح؛ وليس على المعلل ذلك، بل كفاه أن يذكر وصفاً يدعي ظهوره [له] إلى أن يقابل بغيره: فيتكلم عليه. ولا ينبغي أن يتخيل الناظر [أن النظر] في هذا المثال، استقام: لكون الأوصاف فيها مناسبة؛ إذ لا مناسبة لها؛ وإن ظن ظان أن فيها مناسبة، فهذا المنهاج جار قبل العثور على وجه المناسبة؛ فليقدر عدم المناسبة

التي يتخيلها: فإن غرضنا المثال. وكذلك: قاس الشافعي - رضى الله عنه - تعذر الثمن بإفلاس المشتري، على تعذر العبد المبيع بالإباق؛ وهذا حكم واجب التعليل والإضافة: فإن الخيار حدث بحدوث الإباق، فدل أنه السبب بعينه أو بما يتضمنه، فلم يختص بإباق العيد في البيع - وهو أخص [45 - ب] الصفات - إذ هو جار في إباق الجارية، وجار في نفار الدابة وطيران الطير؛ بل هو جار في غضب المنقولات؛ فوجبت التعدية، فقيل: الشامل لجميع هذه الصور: تعذر العوض. فكان الإباق علة بهذا الاعتبار؛ وقد تعذر الثمن بالإفلاس. ثم هذا القدر يبطل بتعذر إستيفاء الصداق: فإنه لا يثبت الخيار في النكاح؛ وتعذر استيفاء البضع بالإباق لا يوجب الفسخ. فوجب أن نزيد،

فنقول: تعذر عوض في عقد بيع، فيبطل الخصوص بالإجماع، ويجب التعليل للحدوث بحدوث الوصف، فيه يدفع السؤال. ثم الخصم أن يقيد هذا الوصف بقيد آخر: يتعدى محل النص، ولكن لا يتعدى إلى محل النزاع، وهو أن يقول: تعذر في عين، فلا يتعدى إلى الثمن وهو دين؛ وعلينا أن نتكلم عليه بالإبطال أو الترجيح، فنقول: ليس مخصوصاً بالعين؛ إذ يتعدى إلى المسلم فيه: إذا انقطع جنسه، وهو دين؛ فيقول: تعذر في عوض مقصود هو محل العقد، والثمن ليس محلاً للعقد؛ فينكر ذلك، فنقول: بل هو محل العقد؛ فالثمن والمثمن عوضان يتعادلان عندنا، فنذهب في الاستدلال بالشواهد على كونه محل العقد، ويذهب في معارضته. وقد يغير العبارة، ويقول: العلة تعذر في مقصود قبل القبض تعين فيه القبض؛ ويخرج عليه المسلم فيه؛ وتنعكس العلة في الثمن: فإنه لا يتعين فيه القبض؛ إذ يجوز الاعتياض عنه. فنتكلم عليه بالمنع أو بالإبطال أو بالترجيح. هكذا تقوم مراتب النظر بين المتناظرين في الأحكام الحادثة بحدوث الأوصاف؛ وهي التي وجب إضافتها إلى الحادث، ورجع النظر إلى

تعيين وصف من الحادث، أو إلى تنقيح جملته: بإلغاء بعض، وإبقاء بعض. فكل ذلك جار دون المناسبة، وقبل العثور على المناسبة؛ ومعظم الأحكام القياسية من هذا القبيل: فإنها أحكام حدثت بحدوث أسباب موجبة وقع النظر: في تعيين الأوصاف من الموجبات الحادثة، أو في تنقيحها. وقد رجع حاصل هذا الجواب، إلى أن السؤال الدعاي إلى تخصيص الحكم بالمحل لازم، ولكن تبين سقوطه بالإجماع، وهو كمعارضة أخرى تقاوم الوصف المذكور: في أنه [لا] يناسب؛ فإنه يندفع بالنقض: بالإجماع، أو بمسلك من الترجيح، وذلك جار بين الوصف المتعدي وبين الوصف القاصر. وقد قال قائلون: المتعدي أولى من القاصر في العلل، والمتعدي إلى فروع أولى من المتعدي إلى فرع واحد؛ يحصل الترجيح بمجرد التعدية. والجواب الثاني - وهو المختار: أنه إذا اتفق شيء مما ذكرناه في الجواب الأول: من دلالة الإجماع على بطلان التخصيص؛ فهو ظاهر جلي لا شك فيه، ولكن ليس ذلك مشروطاً. وقد شرطه فريق؛ إذ قد نقل عن بشر المريسي وجماعة، أنهم قالوا: لا يجوز القياس على أصل، بمجرد قيام الدليل على أصل تجويز

القياس، بل لابد وأن يدل دليل خاص على أن الأصل - الذي عليه القياس - معمول بعلة، فأنا -[مع] ورود الدليل على أصل القياس - نجوز أن يكون من جملتها أصل لا يعلل، بل يخصص بمورده، فلابد من دليل على كون الأصل معللاً. ولست أعرف لهذا المذهب وجهاً إلا ما ذكرته، فإن الوصف المخصص إذا عادل الوصف المتعدي: في الانفكاك عن المناسبة، تقاوماً. فلابد من دليل على التعدية. فإن خصص صاحب هذا المذهب مذهبه بهذا الجنس: من التعليل الخالي عن المناسبة؛ فله وجه. ووجهه بين كما ذكرناه. وإن طرده فيما ظهرت فيه المعاني المناسبة، وقال: يجوز أن يلحظ الشرع المناسب في محل مخصوص؛ فلابد من دليل التعدية؛ أو قال: يجوز أن يقدر وقوع هذا المناسب وفاقياً - فهو في هذا الطرف أضعف، واستمداده من القول بإنكار أصل القياس. وإليه أشار نفاة القياس: في وجوب الاقتصار. [وعلى الجملة: هذا] المذهب غير سديد في جميع الصور؛ فلا تشترط دلالة الإجماع على التعدية؛ ولو اتفقت: فهو الأعلى

والأوضح. ولكنا نقول: إذا حدث وصف، وحدث عقبه حكم [46 - أ] دل حدوثه عقيب حدوثه، على أن الوصف الحادث: مناطه؛ وأن الحكم يتبع الوصف دون المحل. ثم إن كان الوصف مناسباً: ظهر تسميته علة، وإن لم يكن مناسباً: فالظاهر أن الحكم مضاف إليه؛ ويحتمل أن لا يسميه علة من يفهم من العلة المناسبة؛ ويحتمل أن يسميه علة من يفهم من العلة العلامة؛ ويحتمل أن يجعل اسم العلة له مجازاً والمناسب حقيقة؛ فإن المناسب عرف وجه تأثيره في الحكم، وهذا لم يعرف وجه تأثيره، ولكنا نظن أنه متضمن للمعنى المناسب المصلحي الذي لم نطلع عليه، فهذا الوصف أمارة تلك المصلحة التي غابت عنا وعلامتها، ونظن أنه لا تنفك عنه في غالب الأحوال، وتنزل منزلة القالب والظرف، فتسميته علة: بطريق تضمنه للعلة - على طريق المجاز - ليس بعيداً. وهذا الاختلاف يرجع إلى التسمية، وقد صرح الأصوليون بهذا الاختلاف؛ ولا خير فيه، فإن العلامات المنصوبة من جهة الشرع متبعة: سواء ناسبت ما هي علامة عليه، أو لم تناسب؛ فلا ينبغي أن تسوى القواعد على [الألفاظ؛ بل ينبغي أن تسوى الألفاظ] على المعاني.

فإذا رجع حاصل النظر إلى أن العلم على الحكم الحادث هو الوصف الحادث: الذي ظهر في أول النظر حدوثه؛ وأن الحكم يتبع الوصف دون المحل، فالإضافة إلى المحل ساقطة: عند ظهور العلامة، كما أنها ساقطة عند ظهور المناسبة. فإن قال قائل: فهذه حكاية المذهب، فماذا دليلكم عليه؟ قلنا: اشتمل المذهب على دعويين. ففي ماذا النزاع؟ - إحداهما: أن الوصف الظاهر حدوثه علامة؛ والأخرى: أن الحكم يتبع العلامة، دون المحل الذي العلامة ظهرت فيه. فإن نوزعنا في قولنا: إن الوصف الحادث علامة، فدليله ما سبق: من أن حدوثه بحدوثه [دل عليه] كما في الإضافة اللفظية، وكما في حكم الرسول - عليه السلام - عند وقوع واقعة جديدة، بحكم جديد. والدليل عليه: أنه لو علم مثلاً أن لا حادث إلا الوصف الذي ذكرناه، لوجبت الإضافة إليه. فإن أصل التعليل والإضافة واجب قطعاً بحدوثه بعد أن لم يكن؛ فافتقر إلى محدث: يتميز به عما قبل الأحداث، فلو لم يعلل، لبطل قولنا: أن الإضافة واجبة. وهو معقول، ولو لم يعلل بهذا الحادث، لبطل قولنا: أن لا حادث سواه. هذا: إذ علم - بسير قطعي - أن لا حادث سواه.

فإن لم يعلم، وكان ذلك مظنوناً - كفى ذلك المجتهد؛ ويكتفي من المعلل بأن يعين وصفاً يزعم: أنه لم يظهر له سواه؛ [إلى أن ينبه على وصف آخر ظهر سواه]: فيلزمه أن يتكلم عليه. ولا تتوجه عليه المطالبة بأن يقال له: ولم قلت: أن لا حادث سوى ما ذكرت، ولعله حدث وصف غاب عنك؛ لأنه لو فتح هذا الباب في الجدال: لا تحسم طريق النظر، ولتوجه ذلك على كل من بيدي المناسب، ولقيل له: أتسلم بطلان علتك المناسبة لو ظهرت علة أخرى أظهر [مناسبة] مما تدعيه؟ على ما تقرر: من استحالة تعليل الحكم بعلتين عرفنا بطريق المناسبة؛ فإذا قال: نعم، فيقال: وما الذي يؤمنك من وجود مناسب أظهر مما تدعيه وأقوى، ولم تطلع عليه؟ فهذا السؤال مدفوع في الجدال. وقد قال القاضي أبو بكر: يجب السير على العلل، وهو: أن ينصب علته، ويبين انتفاء ما عداها. وطرد هذا في المناسب أيضاً. وهو بعيد في حق المجادل، متجه في [حق] المجتهد؛ إذ على المجتهد تمام النظر: لتحل له الفتوى؛ وليس على المعلل إلا ارتقاء مرتبة

من مراتب النظر، إلى أن يستنزل عنها إلى مرتبة أخرى، بالمقاومة والمناظرة: معاونة على النظر. ولو ألزم المعلل ذلك: لألزم بيان السلامة عن المعارضة، وللزمه السير، ولكان يجب أن لا يبقى للخصم كلاما، فيقسم ويقول: [نعارضه بكذا]، والكلام عليه لا يخلو إما أن يكون كيثت وكيت. فيأخذ في إبطاله؛ [ثم أدلة إبطاله] أيضاً - تفتقر إلى أنواع من السير؛ ويتسلسل إلى غير ضبط. وقد كان - من عادة القاضي في المناظرة - ذلك: فكان يستقصي - في أول الأمر - كل ما [كان] يتوهم تعلق الخصم به - بطريق [46 - ب] السير - ويبطله: بحيث لا يبقى للخصم متعلقاً. وهذا بعيد عن مصلحة المناظرة؛ اتفق المناظرون على خلافه. فإذا بطل هذا المسلك، استقر قدم المعلل في دعواه: أن الوصف الذي ظهر حدوثه، هو العلامة على العلة أو [هو] العلة. وعلى الخصم أن يشير إلى وصف آخر، إن كان عنده، حتى يتكلم عليه. فهذا بيان إحدى الدعويين، وهو: أن الوصف الحادث علامة أو

علة، وكلاهما في الغرض واحد، فيكتفي من العلل بأن يستدل على كونه علة: بحدوث الحكم عقب حدوثه. ويبطل عليه ملكه: بأن يبين [له] أنه حدث عقب وصف آخر، حدث مع هذا الوصف: [مستقلاً أو مضموماً إليه]؛ فما الذي رجح أحدهما: [على الآخر]؟، وعلى المجتهد البحث عن الأوصاف المقدرة الموهومة: التى تقدر حادثة مع هذا الوصف مستقلاً أو مضموماً إليه. فأما الدعوى الثانية - وهي المقصود بالإثبات -: أنه إذا سلم كونه علامة أو علة، فما الذي يمنع اختصاصه بذلك المحل، فيقال: الشدة في ماء العنب علامة، دون الشدة في غيره؟ وغاية ما في الباب أن يقال: لا مناسبة لهذا التخصيص؛ وأصل العلة -[أيضاً]- لا مناسبة له. فكيف الخلاص؟ فتقول: إذا سلم أن الحدوث عقب الوصف الحادث، دل على أن الوصف الحادث علامة - فالعقول تثير إلى إتباع العلامات، والأعراض عن التخصيص بالمحال. وهذا معلوم من تصرفات علماء

الشرع، وهو راسخ في عقولهم - على وجه: يبعد إنكاره عناداً وجهلاً [وغباوة]. فإن قيل: فلو أنكر منكر إشارة العقل إلى هذا، فليس يبقى بأيديكم إلا التثبيت والإنكار، مع العجز عن إقامة دليل يهتدي به. قلنا: المنكر - في هذا المقام - تضرب له الأمثلة؛ حتى إذا أصغى واعترف: اهتدى. فإن أبى وجحد: اختزى واعتزى إلى مخالفة علماء الأمة [ومناكرة من سلف ومضى]، ونحن نضرب ثلاثة أمثلة: مثالاً مقدراً، ومثالاً من مذهب الشافعي، ومثالاً من مذهب أبي حنيفه: أما المثال المقدر، فهو ما قدمناه: من أنه لو قيل للنبي - عليه السلام - ماتت شاه، فهل تباع؟ فقال: لا؛ لفهم [منه] أن الموت علامة لتحريم البيع. إذ كان يجوز بيعها قبل الموت، ولم يحدث الآن غير حلول الموت؛ فحكم بتحريم البيع. ففهم أن الموت علامة؛ فلو ماتت بقرة أو ناقة: لأحكم بمثل هذا الحكم، وهذا لا سيبل إلى جحده، ولم تعرف مناسبة الموت: إذ ما يتخيل فيه -: من تعطيل المنافع [فقد] أبطلناه، وذكرنا أنه خيال. ولو قدر الاخبار عن وصف آخر حدث:

أبعد من هذا الوصف؛ لكان الحكم عند حدوث ذلك الوصف مفهوماً إضافته إلى ذلك الوصف، وكون الوصف علامة عليه: حتى تقدر مشاركة البقرة والناقة للشاة فيها؛ وإن أنكر منكر هذا، كان متأكداً، وإن زعم أنه من قبيل ما في معنى الأصل؛ قلنا: هذه عبارة اشتهرت، فلابد من البحث عنها. فإن قنع بمثل هذه العبارة، فنحن نقول: الشدة [المطربة] لا تناسب - مثلاً -[وهي] علة أو علامة، وشدة نبيذ التمر كشدته وفي معناه. فلا تعجز عن إطلاق هذه العبارة في جميع المواضع. ومعنى قولنا: في معناه؛ أنه شاركه فيما عرف كونه علة أو علامة؛ وأنه إنما فارقه فيما ليس له مدخل في العلامة، وهو: كونه شاة، وكونه بقرة. وهذا لا مدخل له؛ فكان يمكن أن يقال، العلامة والعلة هو: الموت في الشاة، كما يقول: هو الشدة في عصير العنب. هذا هو المثال المقدر، وهو واضح. وفي تقرير أمثاله متسع؛ وهو: كل وصف حادث رتب الشارع عليه حكماً، والوصف الحادث لا يناسب الحكم. المثال الثاني - من مذهب الشافعي - قوله: أن بيع العنب [بالعنب رطباً] كيلاً بكيل باطل؛ لأنه يتوقع نقصانه عند الجفاف: فصار

كالرطب. فقيل: ولم قلت: أن توقع النقصان في ثاني الحال علة الأبطال، مع حصول التماثل في الحال؟ وهل هذا إلا تعليل بما لا يناسب؟ فقال: الدليل علي إثبات الوصف في الأصل، قوله - عليه السلام - للسائل: "أينقص الرطب إذا جف"؟ فقال: نعم، فقال: "فلا إذن". فعلل بالنقصان عند الجفاف. فلو قيل [له]: علل بنقصان الرطب عند الجفاف، فلم عدت إلى العنب؟ - فلا يمكنه الانفصال بإظهار المناسبة: إذ لا مناسبة، وإنما فهم الحكم، وفهم علامة الحكم، وهو: توقع النقصان؛ فكان الحكم - مع العلامة - غير مخصوص [47 - أ] بمحل العلامة. فمتى تصرف في اللبن واللحمان وجميع الأشياء الرطبة، وقدر لجميعها حالة الكمال - اعتبر التماثل بالإضافة إليها.

ومن عرف مسالك المناسبة على ما قدمناه، عرف أنه لا مطمع في المناسبة في هذه المسألة؛ ولكن اتبع العلامة كما اتبع العلة المناسبة. والعلل المناسبات - عند التحقيق - علامات: فإنها لا توجب الأحكام لذواتها. فإن قيل: ليس هذا وزان مسئلتكم؛ فإنه تلقى التعليل من الإضافة والإيماء من جهة الشارع، لا من جهة الحدوث. [قلنا]: ولسنا نورد هذا المثال دليلاً على أن الحدوث عقيب الوصف علامة التعليل؛ وإنما أوردناه دليلاً على من سلم أنه عرف بالحدوث عقيبه كونه علامة، بالدليل الذي سبق؛ [ولكن] قال: هو علامة في هذا المحل حتى لا يتعدى. ولا يستنكر هذا لعدم المناسبة في التخصيص، كما لم يستنكر لعدم المناسبة في الأصل، وفي هذا لا يختلف الأمر باختلاف طرق معرفة العلامة؛ فالنقصان عرف كونه علامة بالإيماء، وهو - بعد كونه علامة - لا يختص بالمحل، فكذلك الوصف: إذا عرف كونه علامة بالحدوث عقيبه، لا يختص بالمحل وإن لم يناسب. على أن الشافعي كيف يتعلق في التعدية بالإضافة، والإضافة إلى نقصان الرطب، إذ قال: أينقص الرطب إذا جف، فنقصان العنب كيف صار علامة؟ فدل أن العنب كالرطب محل العلامة، والحكم يتبع العلامة؛ وكذلك القول في الشدة التي لا تناسب مثلاً، هي بالنسبة إلى عصير الرطب، كهي بالنسبة إلى عصير العنب، والموت بالنسبة إلى الشاة، كهو بالنسبة إلى البقرة وسائر الحيوانات.

وبهذا، يتبين اتفاق العلماء على إتباع العلامات دون المحال. المثال الثالث: قول أبي حنيفة: الجص مكيل، فيحرم فيه ربا الفضل كالبر؛ فطولب به، فقال: ظهر تأثير الكيل في ربا الفضل. قلنا: وما معنى تأثيره؟ قال: ظهور الحكم به، ومظهر الحكم علة الحكم. وهذا [منه] دليل على تسمية العلامة علة: لأن العلامة تظهر كالعلة. قال: ووجهه أن الفضل - الذي لا مقابل له - حرام في البيع بالاتفاق؛ وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بهذا الثوب، على أن تزيد درهماً؛ ××× فضل لا مقابل له، فهو حرام، وإنما صار فضلاً: بأن صارت المقابلة بحكم الشرط والصيغة، مقصودة على العبد والثوب. والشرع شرط المماثلة في مقابلة البر بالبر؛ فكانت الزيادة فضلاً على المثال: لا مقابل له بحكم الشرع. وإنما يصير فضلاً على المثل، بحصول المماثلة. وإنما تحصل المماثلة في القدر: بالكيل؛ وفي المعنى: بالجنسية، فالعلة مركبة منهما؛ إذ بمجموعهما ظهر الفضل، وبظهور الفضل ظهر التحريم. فسمي علة: لأنه مظهر [يظهر] الحكم. وهو الذي رددنا القول في تسمية جنسه علة أو علامة العلة. والغرض: وراء هذا، وهو أن يقال له: هذه الأوصاف لا تناسب، وهي

مظهرات. فإن سلم لك أنها العلامة، فهي علامة في الأشياء الستة؛ فلم عديتها إلى غيرها: وأنت لا تطلع على وجه المناسبة فيها؟ فيقول: إذا سلم [لي] أنها مظهرة، فهي علامة بنفسها حيث وجدت، ولا تختص بالمحال. ومن سلم له كونه علامة لا ينازعه في الطرد، وإنما النزاع في طريق إثبات كونه علامة؛ إذ يقال له: والبر المتهيء لحصول المماثلة فيه قدراً وجنساً، لم شرط [الشرع] المماثلة الممكنة فيه؟ وبم عرفت [إن علامة الحكمٍ] الإمكان؟ والمقصود أنه عدى الكيل والجنس، وهي علامة مظهرة، وليست علامة مناسبة أصلاً. فقد تبين - بالأمثلة من مذاهب العلماء - أن العلامة التي لا تناسب [متبعة]، لا يجوز تخصيصها بالمحل، كالعلامة بالمناسبة. وإن المناسبة إحدى الطرق التي يعرف بها كون الوصف علامة. وقد يعرف بغيرها: كالنص، والإيماء، واستعقاب الحكم عند الحدوث، وجب عليه إتباع العلامة، وقطع النظر عن المحال، وقد حصل بذلك دفع هذا السؤال [على أوضح وجه، للفطن المتأمل؛ إن شاء الله تعالى].

القول في قياس الشبه وفيه تمام بيان الطرد [47 - ب] فإن قيل: حاصل معتصمكم في التعلق بالطرد والعكس، يرجع إلى التعلق بأن لا متجدد إلا الوصف الحادث، وقد كان الحكم معدوما قبل، ووجد الآن، ولا فارق بين الحالتين المفترقتين في الحكم، إلا الوصف الحادث، فكان الوصف الفارق مناطا للفرق بين الحالتين، وعلامة على الحكم المتجدد، وهذا في وصف يعترى على ذات واحدة، فكان الوصف فارقا بين الحالتين. ويلزمكم- على مساق القول به- الحكم بأن الفارق بين الذاتين، المفترقتين في الحكم علامة الافتراق: إذا لم يظهر فارق سواه، وإن لم يكن مناسبا. فإن ظهر فارق آخر: قابله، إلى أن يترجح عليه، كما في الوصف الحادث الفارق بين حالتي الذات الواحدة. وبيانه: أنه لو قدر الخمر المشتد مائعا بنفسه، غير [متصف بالعصير]، والخل، بل كانت الشدة وصفا مساوقا لوجوده، وورد

الشرع بتحريمه وتحليل الخل والعصير والأدهان، لأمكن أن يقال: [لا فارق] بينه وبين سائر المائعات إلا الشدة، فلتكن الشدة علامة، حتى يتعدى إلى مشتد آخر هو: نبيذ التمر مثلا، فهذا مثال مقدر. ونذكر مثالا واقعا، وهو: أن التكرار مشروع في غسل الأعضاء وفاقا، وغير مشروع في المسح على الخف وفاقا، فإذا نظر الناظر إليه: لم يتميز المسح عن الغسل إلا بكونه مسحا، وإلا فهو ركن في الطهارة، وجار مجراه في كل قضية إلا في كونه مسحا. فليكن كونه مسحا علامة ترك التكرار، حتى يتعدى إلى مسح الرأس، وهو متنازع فيه. وإذا قيل بذلك، يقابله أن الغسل شرع فيه التكرار، وتميز عن المسح على الخف بكونه أصلا: لا مدخل للبدل فيه، فيتعدى إلى مسح الرأس، فتصح كل واحدة من العلتين، إلى أن يظهر الترجيح. وكذلك يقول الحنفي، لا ربا في الثياب والعبيد، وجرى في الأشياء الستة، ولا تفارقها إلا في كونها مقدرة. فهو العلامة، وتتعدى إلى المقدرات. والمالكي يقول: [بل] خالف الأشياء الأربعة غيرها من العبيد والثياب، في كونها قوتا، فهو العلة والعلامة. والشافعي يقول: لا، بل فارق في كونها مطعوماً.

وتتقاوم هذه الأوصاف، فيقضي بأن كل واحد صالح، فلابد من الترجيح والامتحان الشواهد. ولو فتح هذا الباب: لا تسع النطاق في القياس، ولأمكن التعليل بكل وصف مطرد غير منتقض. فإن قلتم بذلك: كنتم محدثين أمرا بدعا بين المحققين من العلماء، وانغمستم في غمار الحشوية من الطردية.

وإن أبيتم ذلك: لم تجدوا فرقا وفصلا بين هذه الرتبة، وبين الطرد والعكس الذي قدمتوه. فإن ذلك [يرجع حاصله إلى إضافة الافتراق في الحكم، إلى وصف فارق بين حالتي ذات واحدة، وهذا] رجع حاصله إلى إضافة الافتراق في الحكم، إلى وصف فارق بين ذاتين متعددتين، ولا فرق بين المقامين. وكيف يعتقد بينهما فرق مع تقاربهما؟ وأي فرق بين أن نعلم أن الكلب محرم بيعه مثلا، فيقول قائل: بيع سائر الحيوانات دون الكلب جائز، فكان السبب كونه كلبا: فإنه الفارق. وكان هذا كما لو تصور أن يصير حيوان- ليس كلبا- بالانقلاب كلبا، لكنا نقول: قبل الانقلاب يباع، وبعده لا يباع، ولم يحدث إلا وصف الكلبية، كما لم يحدث- في انقلاب العصير- إلا وصف الخمرية والشدة. فلا مدرك للفرق بين المقامين وفيه فتح باب الطرد والانسلال عن ضبط المعنى المناسب المؤثر، وذلك لا وجه له؟ [قلنا]: هذا إلزام للقول بالشبه، وهو: الوصف الذي لا يناسب، ويظن كونه علامة متضمنة للعلة التي غابت عنا، فيحكم بالاشتراك في الحكم، عند الاشتراك فيه.

والقول به تلو القول بالطرد والعكس- كما سبق- إلزامه علة، والقول بالطرد والعكس هو [تلو] القول بإضافة [الأحكام إلى الأسباب] الواقعة الحادثة، [التي يترتب] جواب الشارع عليها، والقول به [هو تلو] القول بإضافة الأحكام إلى الأسباب، باللفظ: بفاء التعقيب، وصيغة الشرط، والصفة الفارقة. كما ضربناه: من الأمثلة في مسلك الإيماء. والقول بجميع ذلك، تلو القول بالتصريح بالتعليل. والمناسبة غير مشروطة في شيء من هذه المراتب. ومن قال بالأول، لزمه القول بما يليه: بحيث لا نجد بين الرتبتين فرقا، وينحط إلى رتبة [48 - أ] الطرد: فيلزمه القول بالطرد. ونعني بالطرد: الوصف الذي لا يناسب. ومن أنكر الطرد: يلزمه إنكار الشبه، فإنه عين الطرد كما سنذكره، ومن أنكرهما: لزمه إنكار الطرد والعكس، والحدوث

عند حدوث الوصف، وترتيب الحكم على جواب الواقعة، وهلم جرا إلى المراتب التي قبلها، حتى ينكر الدرجة العليا في الظهور، وهو: صريح التعليل. فإذا قال الشارع مثلا: اقتلوا هذا لأنه أسود، فيقول هذا القائل: لا يتبع السواد في شخص آخر، بل يختص [ذلك] الحكم بذلك الشخص، وقد انجر القول إلى هذا الحد بمنكري القياس، وهو اللازم على مساق إنكار [القول بالطرد]، وانجر القول بالقائمين إلى القول بالطرد، وهو اللازم على مساق القول بالقياس. والوقوف على مرتبة من المراتب تحكم محض، مستنده: قصور [النظر عن الوقوف على] [وجه] إلزام رتبة على رتبة، وكيفية ترتيب درجة على درجة، وهذه هي المغاصة الكبرى، والمحارة العظمى، لعقول المتصرفين، وإنما الرجل: من يرتقي من هذه المغاصة. فإن قال قائل: هذا قول منكم بتكافي الأدلة، ورد على جميع أهل الملة، فإنكم أبطلتم الوقوف على مرتبة: لاستحالة الفرق، وأبطلتم إنكار الطرد: فإنه يتداعى إلى إنكار صريح التعليل، وأبطلتم

القياس: لأنه ينجر إلى القول بالطرد، والقول بالطرد باطل، وما يلزم عليه الباطل فهو باطل، فما سبيل الترقي عن هذه المهواة؟ ولابد من كشف الضمير، وإبداء المعتقد [فيه]. قلنا: القول بالقياس حق، عرف ذلك- قطعا- من الشرع، وتصرف علماء الصحابة وإجماعهم عليه، فكون أصل القياس حقا مقطوع به، وكل ما إلى إنكار القياس الحق فهو باطل، وكل ما يلزم على القول بالقياس فهو حق، لأن القياس حق في الشرع على القطع. وعند هذا نبدي ما هو السر؟ فنقول: قياس الطرد صحيح، والمعنى به: التعليل بالوصف الذي لا يناسب، على الحد الذي قدمناه في بيان المناسبات. وعند هذا، ربما تنفر طباع بني الزمان عن سماع [مثل] هذا الكلام، لكثرة ما قرع مسامعهم: من التشنيعات على الطردية وأصحابها. فيعتقد [به] السامع أن هذا مذهب مبتدع خارج عن أقاويل أكابر العلماء، وأنه لا دليل عليه. ونحن نقيم الدليل عليه، ونبين أنه مقول به عند أكابر العلماء: كالشافعي وأبي حنيفة ومالك -رضي الله عنهم، ونبين أن المشنعين على أرباب

الطرد- من علماء العصر القريب: كأبي زيد رحمه الله، وأستاذي إمام الحرمين - رضي الله عنه - من القائلين به، إلا أن إمام الحرمين كان يعبر عن الطرد الذي لا يناسب: بالشبه، ويقول: الطرد باطل، والشبه صحيح. وأبو زيد يعبر [عن الطرد: بالمخيل، وعن الشبه: بالمؤثر] ويقول: المخيل باطل، والمؤثر صحيح، وقد بينا بأمثلة: أنه [أراد] بالمؤثر ما أردناه بالمخيل. وسنين بالأمثلة أن الذين قالوا بالشبه وأنكروا الطرد، فقد أرادوا بالشبه ما أردنا بالطرد. وإنما انقسام الوصف إلى قسمين: مناسب كما ذكرناه وغير مناسب. فالمناسب حجة وفاقا، ومنهم من لقبه: بالمؤثر، وأنكر المخيل. حتى ظن فريق وقوع الاختلاف بين الجنسين، وإنما المختلف: العبارة لا المعنى. وغير المناسب- أيضا- حجة: إذا دل عليه الدليل، وقد لقبه فريق: بالشبه، حيث اضطروا إلى القول به. حتى يتخيل متخيل أن الشبه غير الطرد، والطرد غير الشبه، ولو سئلوا عن الفرق: اعترفوا بأنهم لا يحسبون بينهما فرقا محققا، وإنما يرددون ألفاظا لا حاصل وراءها.

ونحن نكشف الغطاء عن هذه العمايات، وملتطم هذه العبارات، بضرب الأمثلة: حتى يطلع الناظر على غور هذا الفصل، فلقد قل في [هذا] العصر من يستقل بفهم هذا الكلام، فضلا عن درايته، والاستبداد بتقريره إلى نهايته. فنقول: اختلفت المذاهب في الطرد والعكس والشبه، فمنهم: من قال بأحدهما دون الآخر، ومنهم: من أنكرهما، ومنهم: من قال بهما. ونحن نقول: مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك-ي- القول بهما، فإنهم قالوا: بالشبه، وهو أضعف من القول بالطرد والعكس. ونحن نذكر الدليل، ثم [ننتقل إلى] الأمثلة، وبتقرير الأمثلة يتبين الدليل، فإن الدليل على هذه الأمثلة: أن نبين أنها محصلة غلبة الظن، وذلك يحصل بضرب المثال. أما الدليل الجملي، فما ذكرناه في الطرد والعكس، وهو: تلوه، لأنا قد بينا أن الوصف [48 - ب]- الفارق بين الحالتين في ذات واحدة- أوجب إضافة الافتراق في الحكم إليه، لأنه هذا افتراق واقع لم يكن: فافتقر إلى علامة معرفة، وليس ذلك إلا الوصف الظاهر. وعماد هذا الكلام أن لا يظهر وصف [آخر حادث] سوى ما ذكر،

وظهوره ممكن، وعلى المجتهد البحث عنه، وعلى المعلل الانتهاض لردة: إذا ذكر، ولا شيء عليه قبل أن يذكر. فكذلك الفارق بين الذاتين: كالفارق بين الحالتين في ذات واحدة. فإذا قال الشارع: القاتل لا يرث، فهمنا أن القتل علامة الحرمان، ناسبت أو لم تناسب، فإنه لو قال: الطويل لا يرث، والأسود لا يرث، لكنا نقول: الطول والسواد علامة، وهما يتضمنان وجها في المصلحة لا نطلع عليه. ولو لم يرد هذا اللفظ، ولكن عرف من الإجماع أنه لا يرث، أو حكم - صلى الله عليه وسلم -، في شخص أخبر عن قتله، بأنه لا يرث- لكنا نفهم كون القتل علامة للفرق بين الوارث وغير الوارث، بإضافته إلى شخص آخر: يساويه في القرابة، إذ يقال: لا يفارقه إلا في كونه قاتلاً، فهو المناط- كما يقال: لا تفارق حالة الشدة ما قبلها، إلا في الشدة- وإن احتمل أن يكون المناط معنى يتضمن القتل، ولكن ذلك لا يمنع جعل القتل علامة، إلا أن يتبين متضمن له أولى بالاعتبار منه.

والغرض: أن إضافة الحكم إلى شخص، كإضافة الحال إلى حال: في قضاء العقل بإحالة الافتراق على الوصف الظاهر المفرق [أولا، وتتمة] هذا النظر: ببيان أنه لا فارق سواه يجاور الوصف الظاهر، أو يتضمنه الوصف الظاهر. وكذلك: إذا عرف أن الأسود لا يرث، فيعرف كون السواد علامة- بمقابلته بالأبيض، كما يعرف ذلك بمقابلة بحالة سابقة- على ذلك الشخص بعينه- كان فيها أبيض. وكذلك القول في الرق: يعرف كونه علامة الحرمان، بتقدير الطريان مرة على شخص واحد، وبتقدير الإضافة إلى ذات حر. فالفرق مطلوب بين الذاتين، كالفرق بين الحالتين، وإذا لم يكن بد من الفارق- ولا فارق إلا الوصف الذي ادعاه المعلل-: فهو مناط الفرق: إن سلم أنه لا فارق إلا ذلك، كما قررناه في الفارق بين الحالتين المتعاقبتين على ذات واحدة يجرى- في حق المجتهد والمجادل المعلل- على ذلك المذاق بعينه، فإنه [هو هو، ودليله دليله] وإنما يتضح وجه الدلالة، بضرب الأمثلة. وعلى الجملة: لا يجوز التحكم بجعل الوصف علة بالتشهي، بل

أحوجنا المعلل إلى دليل، وهو: حدوث الافتراق بحدوثه في الطرد والعكس، ووقوع الافتراق [وكونه] بكونه: في صورة الشبه، فكان الطرد والعكس، [أولى و] أجلى. ونبين هذا بأمثلة: المثال الأول. قال الشافعي: بيع العذرة أمتنع لنجاستها؟ فعداها إلى السرقين وسائر النجاسات، فإذا طولب بالإثبات: لم يرجع فيه إلى مناسبة، فأنا بينا أنه لا مناسبة فيه، كما تقدم، وإنا الممكن [فيه] تخييل إقناعي تستقل [به] الدلالة، دون العثور عليه. ووجهه أن يقول: كان الطعام قبل أن يتناوله الآدمي جائز البيع، [فالتناول لم يجدد فيه إلا استحالته] إلى النجاسة، فكان هو العلامة، وتتعدى إلى سائر الأرواث. فهذا ظن يظهر أولاً، وتمامه بالسبر. وهو أن الخصم يقول: لا، بل امتنع بيعه: لأنه خرج باستحالته عن كونه منتفعا به، فبطلت ماليته. قلنا: لا، بل هو منتفع به لتسميد الأرض، كما في السرقين بعينه: من غير فرق. فبطل هذا الخيال، وصح الأول. فيقول الخصم: حدث أمر آخر، وهو: الاستحالة، فهو السبب دون النجاسة، فيقال: الاستحالة لا تمنع البيع، كما قاله الخصم في السرقين، وكما قاله العلماء كافة في استحالة الخمر خلا، فإنه لما استحال إلى الطهارة، واستمر الانتفاع- جاز البيع. فيقول الخصم: حدث أمر آخر، وهو: أنه صار جزءا من الآدمي، والآدمي لا يباع، فكذلك أجزاؤه.

وهذا معتمد الخصم، وعليه يخرج لبن الآدمية، فيمنع بيعه: وإن كان طاهرا. وهو [إن استقام] أجلى من التعليل بالنجاسة. فينتهض الشافعي لإبطاله، ويقول: العذرة ليست جزءا من الآدمي بحال، وإنما هو [طعام] استحال في معدته وانفصل، كما يستحيل الخمر في الدن، والمرقة في القدر، فلا يحدث له حكم [في] الجزئية. فيبطل مسلكه بهذا الفرق، وربما يترجح في هذا المقام جانب على جانب. والغرض أن ظن الشافعي- في الإحالة على النجاسة- قائم إلى أن يظهر سبب آخر حادث يحال عليه. ولو قيل للشافعي: النجاسة حكم شرعي، فبم تنكر على من يقلب التعليل، ويقول: إنما نجس لأنه امتنع بيعه؟ - فيقال: امتناع البيع مظنون، والنجاسة معلومة، والمعلوم لا يستفاد من المظنون [49 - أ]. ولأنه لو كان نجا لامتناع بيعه، لحكم بنجاسة الحر والمستولدة، والموقوف والمرهون، والمكاتب، وكل ما امتنع بيعه، فلم يصلح للتعليل

على هذا الوجه، وصلح على الوجه [الآخر] الذي ذكرناه. فهذا طريق إثارة الظن من التعليل بوصف لا يناسب، تلقيا من الحدوث بحدوثه. ولو قال قائل: فهم ذلك لأن النجاسة تناسب بطلان البيع. قلنا: أي مناسبة بين امتناع الاستصحاب في الصلاة، وبين امتناع البيع؟. ولو قنع المنكرون بهذا القدر من الخيال الاقناعي الذي قدمناه في النجاسة، فلا طرد- في عالم الله- إلا ويقدر الفطن المتشدق- الآنس بمسالك تخييل الشعراء، وتلفيق الوعاظ- على تنبشة مناسبة من هذا الجنس منه. وقد لاح- على القطع- ظهور أول الظن، بظهور هذا الوصف الحادث، وتمام هذا الظن: بانقطاع الخيالات المعارضة. وقد يستثار الظن من هذا الأصل بعينه، بطريق المقابلة بذات أخرى، كما نقول: جاز بيع الجمادات: كالتراب والخشب وسائر الأموال، وامتنع بيع العذرة. ولا تفارقها في المنفعة والمالية، وإنما تفارقها في النجاسة، فيدل على أن النجاسة مناط الفرق، فيتعدى إلى الأرواث كلها، فينشأ ظن أولي سابق من سياق هذه المقابلة بينها وبين سائر الأعيان، كما ينشأ من سياق المقابلة بينها وبين الحالة المتقدمة عليها قبل الاستحالة. [ألا أن هذا الظن] أضعف وأخفى وأدق، وإبطاله أهون، فيقال له: [لا] بل فارق سائر الأعيان: في الاستحالة، أو في كونها

جزءًا من الآدمي، إلى غير ذلك مما قدمناه. فيتكلم عليه كما يتكلم على تلك الطريقة، فلا فرقان بين المسلكين. وهذا- من كلام الشافعي- يعرف تعليله بالوصف الذي لا يناسب وقد بنى عليه تحريم بيع سائر النجاسات، وتحريم بيع الكلب وغيره. المثال الآخر: تعليل الفقهاء كافة- أعنى: الشافعي وأبا حنيفة رحمها الله- سقوط التكرار في مسح الخف، وشرع التكرار في غسل الأعضاء. فيقول أبو حنيفة في مسح الرأس: إنه مسح، فلا يتكرر كمسح الخف. فيقول الشافعي: أصل في الطهارة، فيكرر كالغسل. فإن قيل: تعليل أبي حنيفة [تعليل بمؤثر]، لأنه يقول: المسح خفيف في ذاته، فجاز أن يخف حكمه. قلنا: إن كانت المناسبة عبارة عن تجانس الألفاظ، فهنا مؤثر مناسب، وإن كان المناسب ما قدمنا حده، فهذا طرد محض، ويقابله قول القائل: إن ما خف في ذاته أولى بأن يغلظ حكمه، ليقارب الغسل، ويعتدل بينهما الأمر، فإن ما غلظ في ذاته، لو غلظ حكمه: لتراكم التغليظ، وكل ذلك تلفيقات لفظية: لا مناسبة لها. وقول أبي زيد على ما قدمناه-: إني إنما عللت بالمسح لظهور آثر

المسح في التخفيف، وهو الاقتصار على ما ينطلق عليه الاسم. قيل له: ومن سلم لك أن ذلك من أثر كونه مسحا؟ فتضطره المطالبة إلى أن يعترف بعدم المناسبة، لا بل هو من أثر كونه مجرى على الشعر: لو وقع عليه. وهو طرد في مقابلة كلامه، فأي مناسبة لكونه مسحا: في تجوير الاقتصار على ما يقع عليه الاسم؟ وإنما منتهاه أن يقول: إذا قوبل مسح الرأس بسائر الأعضاء، فارقه في جواز الاقتصار على أقل ما يسمى باسمه، فلا يفارقه إلا في كونه مسحا، فهو علام الحكم، وهو عين ما ذكرنا: من طلب الفارق بين الذاتين، بعد مقابلة إحداهما بالأخرى. وكذلك يقول: مسح الخف إذا قوبل بسائر الأعضاء وبغسل الرجل، لم يفارقها إلا في كونه مسحا. فهو العلامة، ويتعدى إلى مسح الرأس: في سقوط التكرار. فيقول المجادل المعاند: [لا] بل فارقه في وقوعه على الخف. فيقول: ليس مخصوصا بالخف، فإنا المتيمم- أيضا- يمسح على الوجه بالتراب ولا يكرر، ولا شركة بينهما إلا في وصف كونه مسحا. وكذلك يرد عناد المعاند: أن الاقتصار على الأقل لإجرائه على الشعر لو أجرى عليه، بخلاف سائر الأعضاء، ويقول: مسح الخف أيضاً

يساويه في الاقتصار، ولا شركة بينهما إلا في عموم وصف المسح. فكان التعليل بالوصف الجامع المشترك- الضابط لجميع محال الحكم- أولى. فيقول الشافعي- في مقابلته-: لا، بل فارق مسح الخف سائر الأعضاء: في كونه وظيفة بدلية ليست أصلية، وإنما الأصل: الغسل على الرجل، وبهذا يفارق المسح [على الرأس]: فإنه أصل كالغسل في سائر الأعضاء، وفي هذا يشارك التيمم، فإنه لما كان يؤدي بدلا، لم يشرع فيه التكرار. وعند هذا، يتقابل المقامان، ولابد من الترجيح، وقد سلك كل [49 - ب] من الفريقين- من قدماء علماء المذهبين- مسلك الترجيح: فدل أنهم رأوا التعليل بالوصف الذي لا يناسب، بطريق المقابلة، وطلب الفارق بين المتقابلين. كما ذكرناه في طلب الفارق بين حالتي الذات الواحدة. فإن قيل: ذكروا هذا بطريق التشبيه. قلنا: لا نضايقهم في هذا التقليب، وكل طارد يلقب طرده أيضا بلقب التشبيه، وإذا قال: أردت به تشبيها يغلب على الظن.، فيقول: وتشبيهي هذا- الذي لقبته بالطرد- يغلب على الظن، فكل مسلك يذكره يعارضه في طرده، حتى يقول: المحكم فيه الذوق السليم، فإن هذا يغلب على

الظن، والطرد لا يغلب. فيقول: وقد غلب هذا على ظني، ولم يغلب تشبيهك على ظني، وما الذي زكى ذوقك وعصمه من الغلط؟ ويرجع الأمر إلى حدس في الضمير: لا يصلح للمحاجة، وتتقابل فيه الدعاوى. فإن قال: تشبيهي يوهم الاجتماع في مخيل هو مأخذ الحكم. فيقول: وجمعي- الذي لقبته بالطرد أيضاً- يوهم، فما الفارق؟ وكل ما ينطق به لسان المشبه، ينطق به لسان القائس الذي سمى طارداً. فلتحذف هذه الألفاظ جانباً، وليقل: لابد من تغليب ظن في كون الوصف علامة، عن ظن أنه ليس بعلامة [ولابد] لغلبة الظن من طريق، وطريقه: طلب الفارق لوقوع الافتراق بين الذاتين. وهو الذي اعتمده العلماء في مسح الخف وتعليله. فإن قيل: عول الشافعي على مناسب وهو: أن الخف لا ينبغي تنظيفه، والتكرار لتكملة النظافة، والخف يتخرق بالتكرار، فصين عنه لذلك. قلنا: هذا خيال، فإن الخف كما لا يتخرق بأصل المسح فلا يتخرق بتكرار إمرار اليد الرطبة عليه.

وأما قوله: الخف لا يبغي تنظيفه، قلنا: فلم شرع أصل المسح؟ فليكن تكرار المسح للغرض الذي شرع له أصل المسح؟ تكميلا له. فإن قيل: ليس في المسح نظافة، ولكنه وظيفة تعبدية، حتى لا تتعود إخلال [هذا] العضو: فنركن إلى الدعة في حالة الكشف، ولا نغسله، كما في التيمم: فإنه شرع لمثل هذا المقصود، وإلا فلا نظافة فيه. قلنا: ليكن تكرار المسح تأكيداً لهذه الوظيفة التعبدية وتكملة لها، أو ليحكم بأن الرأس لما اكتفى فيه بالمسح: فلم يقصد تنظيفه حتى يكمل بالتكرار، فأي نظافة في المسح على شعرة واحدة؟ فليترك بالتكرار. وهذه وساس وخيالات في غاية الضعف [والوهي]، لقبها بعض فقهاء العصر- وهم المتلقفون عن أبي زيد- بالمعاني المؤثرة المعقولة، وذلك لظنهم أنه لا مدرك للدليل على كون الوصف مناطا للحكم، وعلامة عليه- سوى المناسبة. فصنعوا للطرديات صيغة المناسبات، وأخرجوها في معارضتها، فغلب على كلامهم [الحكم] الضعيفة الوعظية، وهي- في إثارة الظنون- أبعد من المسالك التي ذكرناها. المثال الآخر، قول علمائنا في مسئلة التبييت والتعيين: إن

صوم رمضان صوم مفروض، فافتقر إلى التبييت كالقضاء. وهم يقولون: إنه صوم عين، فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع. وقولهم: صوم عين فلا يفتقر إلى التعيين، من قبيل المؤثر: لو سلم على السبر. أما استعمال في مسألة التبييت، فهو من قبيل الطرد، وأي مناسبة بين كونه فرضاً وبين كونه مفتقراً إلى التبييت؟ والفرض والنقل استويا في النية؟ [وأي مناسبة بين كونه عينا، وبين الاستغناء عن التبييت: إذا لم يعر عن أصل النية]. أما إمامي -رضي الله عنه- فكان يقول بهذا القياس في مسألة التبييت، ويقول: إنه تشبيه، وليس بطرد. وأما المراوزة، فإنهم لما أنبث فيهم كلام أبي زيد: من طلب التأثير، ولم يحيطوا بأغوار ذلك الكلام، وما فيه: من وجوه الالتباس- لم يجوزوا الاستشهاد بالأصول. ولقد ناظرت جمعا من أفاضلهم، فكانوا يلقبون كل من يستشهد بأصل في كلامه: بأنه أحكامي لا يعرف الفقه. وأي ضلال- في عالم الله سبحانه وتعالى- يزيد على هذا؟ فمعظم أحكام الشرع يثبت بالقياس، وإنما انتظم القياس: باستنباط المعاني والعلامات من موارد النصوص، فكيف يستجيز التصرف في الشرع، من يحسم باب الالتفات إلى الشواهد والاستمداد من النصوص، ويزعم: أن المعاني المعقولة المؤثرة هي التي تقبل دون الأحكام؟ ولذلك انفتح عليهم باب من الهذيان ضلوا فيه، وأخذوا يثبتون أحكام الشرع على حكم ضعيفة خيالية: يستترِكُها

أرذال الواعظين، وهجروا [50 - أ] لأجلها مسالك علماء السلف، وما نقل عن الشافعي- صاحب المذهب- في مسائله. وكذلك يفعل الله تعالى بمن لم يؤيده بتوفيقه، ولم يرشده إلى طريقه. فنرجع الآن إلى المقصود، ونقول: قولنا: صوم مفروض فيفتقر إلى التبييت، طرد محض لا يناسب، ولكن الظن حاصل منه، وطريقه:- أنه تقابل أصلان: القضاء والتطوع، ودار صوم رمضان بينهما، ففارق التطوع: في كونه فرضا، وهو الوصف الذي سبق إلى الفهم كونه فارقا، فقدر ذلك علامة على الحكم: متضمنة للمناسبة المغيبة عناء وقد شاركه صوم رمضان في هذا الأصل: فالتحق به، وانقطع عن التطوع. وهذا يقابله قوله: لا، بل يفارقه في كونه صوم عين، وقد شارك صوم رمضان التطوع في هذا الوصف، ولا يعني قولنا: لا مناسبة بين كونه صوم عين، وبين الاستغناء عن التبييت. فإنه لا مناسبة [أيضاً] بين الفريضة وبين التبييت، ولكنا نبين أن صوم التطوع ليس بصوم عين، كما ذكرناه في تلك المسئلة. ولو قال قائل: فارق القضاء التطوع: في كونه فرضا، وفارقه- أيضا: في كونه قضاء، وكل واحد لا يناسب، فهلا جعلتموه مناطا وضابطا للحكم؟ قلنا: لأن صوم الكفارات والنذور كلها يفتقر إلى التعيين، وليس

قضاء، فالوصف الشامل الجامع هو الفرضية، ولم يفارقه إلا التطوع. فإن قال: ويضاف الحكم في الكفارة إلى كونه كفارة، وفي النذر إلى كونه نذرا، فإذا جاز التعليل بالطرد: فيجوز أيضا تعليل الحكم بعلل. قلنا: ولكن التعليل بالفرضية تشهد له جميع الأصول، ولو علل بالقضاء: لم تشهد له سائر الأصول، فإذا علل ذلك بالكفارة: لم يشهد له القضاء. فالوصف المشترك الجامع للحكم المشترك أحرى بأن يكون علامة: متضمنة للمعنى المصلحي [المغيب عنا]، وهو أغلب على الظن من التفريق بأمور متفرقة لا تتوارد عليه الشهادات. فإن قيل: فالحج أيضا مفروض، ولا يفتقر إلى التعيين، فبم تجيبون عنه في مسئلة التعيين؟ قلنا: وهو مشكل على الخصم- أيضا- في مسئلة التعيين، فإن الحج لا يتعين وقته ولكن بان لنا- بالدليل- أن الحج مخصوص بقضايا، بعلامة كونه حجا، وأن ذلك لم يتعد: [لا] إلى الصوم، ولا إلى الصلاة. فتضمن قولنا: صوم، احترازا عنه، وحقيقته ترجع إلى أن القضاء: إذا لم ينجذب إلى الحج، فالأداء أيضا لا ينجذب إليه. ومناسبة الحج للقضاء،

كمناسبته للأداء، فقام الشبه بما ذكرناه. ولنا في كل مثال غرضان، أحدهما: بيان أنه مقول به من جهة الفريقين، وقد ماء الأصحاب ومحدثيهم، والثاني: إبانة كيفية إثارة الظن من هذا النوع من التعليل، مع الانفكاك عن المناسبة، وكيف لا يثور الظن. فإذا لم يبن معنى مناسب في التبييت، وعرف أصلان في الشرع متقابلان- فيجب أن يحكم بقضية في محل النزاع، وهو دائر بين الأصلين، وفارق التطوع: في كونه فرضا، كما فارق القضاء، وبان أنه ليس يشارك التطوع إلا في كونه صوما، وفي هذا شارك القضاء أيضا، ونحن نقدر معنى مناسبا: لم نطلع عليه في القضاء وفي التطوع، فيعلم قطعا إن الأغلب على الظن: أن المتعدى إلى الأداء معنى القضاء، لا معنى التطوع- قبل الإطلاع على ذلك المعنى، وهذا معنى التشبيه. وحاصله راجع إلى طلب الفارق، والتعليل بعلامة المصلحة المجهولة، لا بعين المصلحة، وإثبات كون الوصف علامة- من بين سائر الأوصاف- بالمقابلة وطلب الفارق، كما تقدم. المثال الآخر، قول الشافعي - رضي الله عنه-: طهارتان، فكيف تفترقان؟ وهو التنبيه على قول أصحابنا: طهارة عن حدث، [وطهارة حكمية]، وطهارة: موجبها في غير محل موجبها، فأشبهت التيمم. وقد تقابل ها هنا أصلان: إزالة النجاسة، والتيمم، فأردنا أن نطلب مناطا

للفرق بينهما من أوصاف التيمم، فكان- من الأوصاف العامة- أنه طهارة: فيبطل بإزالة النجاسة، وأعم منه أنه شرط الصلاة: فيبطل بستر العورة، واستقبال القبلة، وأخص من الطهارة أنه طهارة بجامد: فيبطل بالاستنجاء. فكان الأخص والأولى أن يقال: طهارة حكمية، وطهارة عن حدث، وموجبها في غير محل موجبها، وكل ذلك يرجع إلى شيء واحد، وفي هذا [المقام] يستوي الوضوء والتيمم، فغلب على الظن أن هذه هي العلامة المشتملة على المصلحة المجهولة. فكان ذلك لعجزنا عن إبداء المناسبة، حتى لو أظهر الخصم مناسبا: انحل هذا التعليل، بل ينحل [هذا بقولهم]: طهارة بالماء، فأشبه إزالة النجاسة، وإن لم يذكر وجه المناسبة- إلى أن نتكلم عليه. ولو سلم للخصم ما يدعيه: من أن الماء مطهر لعينه، والتراب غير مطهر لعينه، فافتقر إلى قصد [50 - ب]- لكان ذلك فرقا مخيلا، ولكن الشافعي يقول: هو مطهر للنجاسات العينية لعينة، وأما إزالته الحدث: فبالشرع كالتيمم، من غير فرق. فهو مشابه له. وكذلك:

إذا سلك الخصم مسلك الفرق. ونتكلم عليه حتى يسلم لنا هذا الجمع: ولا أخالة له، وهو محض التشبيه، وهو: الطرد الذي لا يناسب، ولكن طريق إثباته: المقابلة بين الأصلين المتقابلين، وطلب الفارق والتصرف في المسألة المترددة، بالعلامة الفارقة أو الجامعة. ولا ينبغي أن ينخدع المحصل بما يذكر في الطهارة الحكمية: من الاخالة بأنه ينبئ عن كونه تعبدا وعبادة وقربة، والقربات تفتقر إلى النيات، لأن افتقار العبادات إلى النيات لابد من تعليله بمسلك مخيل، وعند أبي حنيفة: لا فرق بين العبادات [وأمور المعاملات] في النية، فإن النية عنده تعتبر فيما لا يتعين، يجب ذلك في قضاء دين العباد، ولا يجب في رد المغصوب، ويجب في قضاء الصوم، ولا يجب في صوم رمضان، فعلى هذا يديره، فلا مناسبة بين كونها حكمية وبين الافتقار إلى النية بحال، وإنما حاصلها يرجع إلى التشبيه. ولذلك أطلق الشافعي القول، فقال: طهارتان، فكيف تفترقان؟ استبعد أن يكون بينهما فرق معتبر، مع الاشتراك في وصف: يكاد يقوم مقام الخاصية، وهو: أن كل واحد طهارة عن حدث، فرأى

الإضافة إلى هذا الوصف متعينا. وكل ذلك إشارة منا إلى أن التعليل بالوصف الذي لا يناسب، مقول به من كافة العلماء: السلف منهم والخلف. فلا مضايقة في التلقيب: بالشبه والمؤثر، بعد أن لاح الغرض. مثال آخر: اتفق الفريقان على أن يد السوم توجب الضمان، وطلب كل فريق علامة يجعلها مناطا للحكم. فقال الشافعي: هو أخذ مال الغير لغرض نفسه، لا بالاستحقاق، محترزاً بأحد الوصفين: عن الوديعة، وبالآخر: عن الإجارة، ويد الموصي له بالمنفعة، ويد المرتهن. فكانت هذه الأوصاف- التي بها الاحتراز- علامات لا تناسب، فلم ينبغي أن يكون إثبات اليد على مال الغير لغرض نفسه- من غير استحقاق- سببا للضمان؟ فهذا لا يعرف كونه سببا [إلا بنصب الشارع إياه سببا. ولم يصرح الشارع بنصبه سببا] باعتبار هذا الضبط، وهذه العلامة. ولكن توصل إليه الشافعي بنظره والتفافته إلى المسائل، فجعله علامة. وقال أبو حنيفة: لا، بل علامته: أنه مأخوذ على جهة الضمان، وهو الشرى، والمأخوذ على جهة الشيء، كالمأخوذ على حيقته، وخرج [عليه يد الرهن] وعكسه في العارية، فكيف يطمع في مناسبته؟ ولو عكس [وقوبل] وقيل: [لا، بل] المأخوذ على جهة الشيء، ليس

كالمأخوذ على حقيقته، لاعتدال القولان، ولم يفترقا. والغرض من هذا المثال: بيان القول بالوصف الذي لا يناسب، من الفريقين. ووجه تنشئة الظن منه يستقصى في تلك المسألة. مثال آخر: حكم الشرع بضرب الدية على العاقلة، على خلاف المخيل في سائر الأموال والغرامات والكفارات. فوقع النزاع في القليل. فقال الشافعي: القليل واجب بالجناية على النفس، فيضرب على العاقلة كالكثير، وهذا يجري مجرى العلامة الضابطة للمصلحة المجهولة: في ضرب الدية على العاقلة. فلو قال قائل: لا، بل علامة الأصل: كونه كل بدل النفس- بطل بالأطراف. ولو قال [قائل]: علامته كونه كثيرا مجحفا، بطل بحصص الشركاء، وقيمة العبد القليلة، وغرة الجنين. ولو قال: علامته: كونه مقدرا، بطل بأرش الحكومات.

وإذا بطلت هذه العلامات: سلم ما ذكرناه. مثال أخر: أوجب الشرع في يد الحر نصف دينه. فقال الشافعي: في يد العبد نصف قيمته. ولا أخالة فيه: إذ المناسب اتباع النقصان، كما في الكل. ولكن نعلم ضرورة أن [غناء] يد العبد من العبد، [كغناء يد] الحر من الحر، وأن النسبة مستوية. زلًا يجري ذلك في البهائم. وأن قدر الشرع بدل كل الحر، فسببه: صيانته عن تحكم السوق فيه. وقد تقل القيمة مع شرف الخصال، لقلة الرغبات في الاستخدام. وهذا غير محذور في الطرف: فأن أروش الحكومات تعرف بتقدير القيمة؛ ثم تكثر بالنسبة إلى [مبلغ] الدية، فما تقتضي فيه القيمة

دينارًا مثلًا -لكونه عشر القيمة -توجب مائة دينار. ومع هذا [يقدر؛ فعرف أن ذلك لسر] في خلقة الآدمي: اقتضى وقوع اليد من الجملة موقع النص؛ وهو في العبد كهو في الحر [51 - أ] فكانت هذه العلامة الخاصة مقدمة على المخيل المرسل المتسع. مثال أخر: لأبي حنيفة -رحمه الله -، قوله: أن العبد تقدر قيمته كالحر، والمناسب لا يوجب التقدير مع تفاوت الخصال: كما في البهائم؛ ولكن شبهه بالحر، وهذا يدل- من مذهبه- على القول بالشبه. فأن قيل: لا، بل هذا قول بالمؤثر؛ لأن بدل الدم مقدر، والعبد يضمن منه الدم: فكان مقدرا، فهذا من قبيل دخول تفصيل تحت جملة، ويرجع شكل الدليل فيه إلى مقدمتين ونتيجة كما قدمتموه. قلنا: الشافعي-رحمه الله -لا يسلم كون بدل الدم مقدرا؛ وإنما المقدر بدل دم الحر. وأبو حنيفة-رحمه الله -يلحق العبد به: بالتشبيه. وهذه طريقة لنا في تلك المسألة؛ إذ نسلم أن العبد دم، ولكن نقول: المقدر دم الحر، ونستبدل بالعبد القليل القيمة. فيرجع النظر -عند تجاذب القول -إلى أن التقدير معلوم بعلامة الدمية، أو بعلامة الحرية؛ ويكون ذلك نظرا في العلامات دون الوقوف على المعاني. وإن سلمنا [له] [أنه ليس مقدرًا] بعلامة الدمية، فنقول: بدل

المال [غير] مقدر، وقضية الأموال والدماء متعارضة فيه. فنسلك مسلك التغليب، وتصير المسألة تشبيها من طريق أخر على ما سنذكره. طريقًا آخر لتغليب الأشباه. ويقرب من هذا المأخذ، النزاع في أن دية العبد: هل تضرب على العاقلة؟ وهو راجع إلى تجاذب العلامات. مثال آخر، وهو البرهان القاطع على قول زعماء القائسين، وعلماء الشرع من المتصرفين- بالتعليل بالوصف الذي لا يناسب، من غير تنصيص وإيماء من جهة الشارع؛ وأنهم سموا ذلك الوصف- وإن كان لا يناسب- علة، في اصطلاحهم، لا علامة. وهو: تعليل الحديث الوارد في الربا -المشتمل على الأشياء الستة. فقال الشافعي: [نعلل بالطعم والنقدية] أو الطعم والتقدير على قول. وقال أبو حنيفة: نعلل بالكيل والوزن. وقال مالك: [نعلل] بالنقدية والقوت. وكلهم اتفقوا على تعدية الحكم بهذه الأوصاف؛ وهي لا تناسب، وإنما هو الذي لقبه فريق بالطرد، وآخرون بالشبه. فأن قيل: أبو حنيفة تلقى ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم -: ((وكذلك ما يكال ويوزن))؛ فكان ذلك عامًا.

قلنا: هذا [حديث] كذب موضوع [متقول] ولم ينقل عن أبي حنيفة. وأصحابه -السابقون واللاحقون -سلكوا مسلك التعليل بالاستنباط، لا بهذه التكملة المختلفة. فأن قيل: أبو حنيفة لا يقول بالقياس المؤثر المناسب؛ وقد أظهر تأثير الكيل كما عرف ذلك من [كلامه و] كلام أصحابه؛ وهو الذي بالغ أبو زيد في تقريره، حتى وقاه إلى مضاهاة المعقولات، وأظهر تأثيره. وبيانه بالإيجاز: أن تحريم البيع في الأشياء الستة، ينبغي أن يتعرف مما اعتبره الشرع في موضع آخر في التحريم، وليس ذلك-في هذا المقام - إلا تحريم الفضل الذي لا مقابل له بالإجماع؛ وهو أن يقول: بعتك العبد بهذه الثوب على أن تزيد درهما. فالدرهم ربا، وهو فضل لا مقابل له، فإذا باع صاعا بصاعين؛ فالصاع الزائد فضل لا مقابل له؛ وإنما صار ذلك فضلًا: بشرط الشرع المماثلة في المقابلة، بقوله: ((الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، والفضل ربا))، ومشروط الشرع كمشروط

العاقد؛ ثم اختص بالمقدرات المتجانسات: لأن الفضل يظهر بعد ظهور المماثة، والمماثلة تظهر بالجنسية والتقدير. ولا يظهر الفضل بين جنسين [غير مقدرين بالكيل أو الوزن]: إذ لا معيار للماثلة [فيه]. ولا يظهر بين الشعير والحنطة: إذ لا مجانسة في الصفات، فظهر الفضل المحرم بهذين الوصفين: فسميناه علة لذلك. فأما فضل الصفات فألغى الشرع قيمتها بقوله: ((جيدها ورديئها سواء)) وهذا أظهر مسلك في التأثير فكيف هذا شبها وتعليلا بوصف لا يناسب؟ قلنا: التبس جنس هذا الكلام على معظم أبناء الزمان، لكثرة مقدماته ومراتبه التي سلسلها: فالتبس المقصد في غمارها، ونحن نحل هذه التعقيدات، [بتسليم] جميع المقدمات؛ وهو: أن الفضل- الذي لا مقابل له- محرم، وأن ظهور الفضل بالكيل والجنسية [على] ما ذكروه. ولكن لا يظهر الفضل-في مسألتنا -ما لم تصر المماثلة

مشروطة. وعن علته البحث؛ فلم شرطت المماثلة في بيع المتماثلات المقدرة؟ ولم لا يجوز أن نقابل صاعًا بصاعين، كذراع بذراعين، وخشبة بخشبتين؟ وهند هذا يتبين عجزهم عن إبداء التأثير؛ فيقولون: لأنه متماثل متجانس يمكن تحصيل المماثلة فيه [51 - ب] قلنا: وما أمكن تحصيل المماثلة فيه، لم تشترط فيه المماثلة الممكنة؟ [وما هذا] إلا كقول القائل: ما أمكن رؤيته [تشترط رؤيته] وما أمكن قبضه يشترط قبضه في المجلس، وما أمكن نقله يشترط نقله. وهلم حرا إلى الممكنات. فتأثير التجانس والتقدير: في تحصيل شرطها الشارع؟ إن عقل سببه: فليذكر حتى يتعدى؛ وإن لم يعقل فليقتصر على مورد النص. فتبين أن تطويلاتهم مسلمة، ولا منفعة فيها، وإنما مجرى النظر، وموقع البحث: طلب على اشتراط المماثلة فيما أمكن فيه تحصيل المماثلة؛ حتى إذا عقل ذلك المعنى: اتبع في الاقتصاد والتعدي. ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يذكروا فيه مناسبة: لم يجدوا إليه سبيلًا. فأن قال قائل: لاح -على القطع -من أبي حنيفة القول بالوصف

الذي لا يناسب والتعليل به من غير نص وإيماء. ولكن كيف يصح ذلك من الشافعي في هذه المسألة: فإنه يتمسك فيها بالإيماء، من قوله: ((لا تبيعوا الطعام بالطعام))؛ وقد يتمسك [فيها] بمناسبة الحرمة لإظهار الشرف؛ بالتقييد بالشروط. كما قدمتموه في أمثلة المناسبات؟ قلنا: أما التعليق بالإيماء فقد قررنا طريقه؛ وليس مسلك الشافعي مقصورا عليه؛ فأنه علل الربا في الدراهم والدنانير، بكونها جوهري الأثمان. ولا إيماء فيه. وأما تلك المناسبة، فمن محدثات المتأخرين؛ لم يذكرها الشافعي؛ وإنما أحدثه من لم تتسع حوصلته لدرك جميع [مدارك] التعاليل، ولم يستقر قدمه في فهم قاعدة الشبه. فتشوفوا إلى خيالات هي -على التحقيق -نفاخات الصابون: تنكشف بأدنى بحث [عن] غير طائل. وقد [نبهنا على وجه] فساد [هذا المناسب بما] تقدم. ومن لم يستقل فهمه بدرك وجه الفساد في كل مناسبة: خيلت في مسئلة علة الربا من [كل] الجوانب، فلا ينتفع بكلامنا هذا، [ولا مطمع له في فهمه]: فأن درك فسادها من الجليات؛ ومن تقاعدت

رتبته عن درك الجليات: كيف ترتقي قريحته إلى فهم الدقائق [التي لا يكشفها فضل التقرير، وإنما تدرك بجد التأمل واتقاد القريحة، بعد الانقباض عن كدورة المألوفات وشوائب التقليدات؟]. والذي يدل على أن الشافعي لم يذهب في التعليل مسلك الأخالة، فضل ذكره في كتاب الرسالة -وقد نقلناه بلفظه: قال الشافعي: قال الله تعالى {والوالدات يرصعن أولادهن} الآية. وأمر النبي -عليه السلام -هذا: بأن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدها [بالمعروف]؛ وكان الولد من الوالد: فأخبر على

صلاحه في الحال التي لا يغني فيها عن نفسه. فكان الأب: إذا بلغ أن لا يغني عن نفسه بكسب ولا مال، فعلى ولده صلاحه في نفقته وكسوته. قياسًا على الولد، ولم يضيع شيئًا هو منه، كما لم يكن للوالد ذلك، والوالدان وإن بعدوا، والولد وإن سفلي -في هذا المعنى [مشتركون]. فقلنا: ينفق على كل محتاج منهم غير محترف، وله النفقة على الغني المحترف. وذكر حكم رسول الله -عليه السلام -بأن الغلة بالضمان، وقال: فكانت الغلة لم تقع عليها صفقة البيع، فيكون لها حصة من الثمن. فكانت في ملك المشتري: في الوقت الذي لو مات فيه العبد مات من ماله، فدل أنه إنما جعلها له: لأنها حادثة في ملكه وضمانه. فقلنا كذلك في ثمر

النخل، ولبن الماشية وصوفها، وأولادها وولد الجارية، وكل ما حدث في ملك المشتري وضمانه. وكذلك وطء الأمة الثيب وخدمتها. و ((نهى النبي -عليه السلام -عن الذهب بالذهب، والورق بالورق، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح؛ إلا مثل بمثل، يدا بيد)) فلما حرم النبي -عليه السلام -في هذه الأصناف المأكولة -التي شح الناس عليها حتى باعوها كيلًا -لمعنيين أحدهما: أن يباع منها شيء بمثله دينًا، [والآخر: زيادة أحداهما] على الآخر نقدا- كان ما كان في معناها محرمًا: قياسًا عليها، وذلك: كل ما أكل مما بيع موزونًا.

والوزن والكيل في ذلك سواء. وذلك: كالعسل والسمن والزيت والسكر، وغيره: مما [يؤكل ويشرب] ويباع موزونًا، ولم يقس الموزون على الموزون من الذهب والورق: لأنه يجوز أن [52 - أ] يشتري بالدراهم والدنانير نقدًا عسلًا وسمنًا إلى أجل؛ ولو قيس عليه: لم يجز إلا يدًا بيد، كالدنانير بالدراهم)) و ((أما الذهب والفضة فمحرمان في أنفسهما: لا يقاس [شيء] عليهما؛ لأنه ليس في معناها: لأنهما الأثمان والقيم إلا الديات، والمأكول المكيل محرم في نفسه، ويقاس به ما كان في معناه: من المأكول الموزون؛ لأنه في معناه)). هذا كله نقلناه من لفظ الشافعي؛ فليتأمل المنصف: ليعرف كيف علل بهذه الأوصاف التي لا تناسب، ذاهبًا إلى أن المشارك له في هذه الأوصاف في معناه، غير معرج على المناسبة والإيماء.

ونقل أبو بكر الفارسي من لفظ ابن سريج -في مساق كلام له في تصحيح العلل بالاطراد، والسلامة عن النواقض-فضلًا، وهو قوله: ((قلت: فأن قال قائل: إذا أدعيتم أن العلل تستخرج وتصح بالسبر والنظر والاطراد في معلولاتها؛ فأن عارضها أصل يدفعها: علم فسادها؛ وأن لم يعارضها أصل: صحت فأخبروني: إذا انتزعتم علة من أصل [محللًا]، وانتزع مخالفوكم [علة محرما]، فما [الذي] جعل علتكم أولى؟ فأن أحلتم ذلك أريناكموه: زعم العراقي قي علة البر: أنه مكيل، وأن ذلك لا ينكسر، وزعم الشافعي: أنها هي الأكل، وأن ذلك يطرد)). [فأجاب عن ذلك]-بعد فصل طويل ليس من غرضنا -: ((أنا نقول بالاعتلال بالأكل دون الكيل؛ فنقول: أنا تركنا جعل كل واحد-

-من هذين الأمرين -علة: [لأنه يخرجنا] عن قول العلماء الذين احتجنا إلى ترجيح قول بعضهم على بعض، ومعارضة [قول] بعضهم بقول بعض، لأن الشافعي أقتصر على الأكل، والعراقي على الكيل؛ فرجحنا هذه على تلك: بأننا وجدنا الكيل معناه معنى الوزن، ووجدنا ما حرم [من الوزن]-من الذهب والفضة -لا يدل على تحريم الموزونات؟ [وذلك: أن الذهب لا يجوز بالورق نساء، ويجوز الذهب بالموزونات نساء])). وقرر هذا الكلام، ثم قال: ((دل هذا على أن الشيء حرام لمعنى فيه، كالذهب والورق: فأنها أصل التقلب وقيم المتلفات، وفيها فرض الزكوات؛ فلم يحرما: لأن ها هنا أمرا يعرف به مقدارهما وهو: الوزن؛ بل لما فيهما: من منافع الناس التي [لا] يعدلها فيها سواهما، ومن التقلب والنقد الذي إليه مرجع المعاملة الدائرة بين الناس. وكذلك البر والشعير، إنما حرما: لأنهما الأقوات والمعاش، والغذاء

والطعام، ثم جرد من ذلك كله الأكل، فكانت أعم الأمور، وقد ضم إليها- في وقل لأصحابنا آخر- الكيل والوزن. قال الشافعي في كتاب البيوع القديم: وروى عن ابن المسيب أنه قال: لا ربا إلا في ذهب أو روق، أو ما يكال أو يوزن: مما يؤكل أو يشرب. وقول ابن المسيب -في هذا- من أصح الأقاويل)). فهذا جملة ما أردنا نقله من لفظ الشافعي وابن سريج، ليتبين طلبة العلم -من أهل العصر -أن أرباب المذاهب بأجمعهم ذهبوا: إلى جواز التعليل بالوصف الذي لا يناسب من غير استناد إلى إيماء ونص ومناسبة. ولو نقل كلام الشافعي وابن سريج، وكلام المتلقفين عن الشافعي -في علة الربا -لبلغ أوراقًا. ورجع كل ذلك إلى التعليل بهذه الأوصاف: من غير تعريج على مناسبة وإيماء ونص؛ وإنما المناسبات الضعيفة لفقها المحدثون الظانون: أن مدارك العلل محصورة فيها؛ المتقاعدون -ببلادتهم، وقصور هممهم -عن الإحاطة بكلام الأولين ومدارك نظرهم؛ فحصروا النظر على تخيلاتهم أقناعيه، وخيالات خطابية؛ تستمال

بها النفوس المنخدعة بالتزويقات، وهجروا كلام الأئمة، وطمسوا مسالكهم، وزعموا: أن القياس ينحصر في المؤثر؛ ومنهم: من زاد المخيل؛ ومنهم: من زاد الشبه، ومنهم: من زاد الدلالة، والتبس مضمون هذه العبارات على جماهير فضلاء الدهر؛ فقاموا وقعدوا، وصوتوا وصعدوا؛ ولم يتحصلوا -في ضبط المراتب -على طائل. وغرضنا الآن أن نبين نقلا من علماء الشرع -كمالك وأبي حنيفة والشافعي -رحمهم الله -القول [52 - ب] بالوصف الذي لا يناسب، وتسميتهم ذلك: علة، ولذلك استتب تعليل النقدين بالنقدية القاصرة؛ والشبه لا يقوم إلا بفرع وأصل. فلم يكن لهم مسلك إلا طلبهم فارقا بين النقدين وغيرهما: مما لا يجري فيه الربا. فكانت النقدية علامة سابقة إلى الفهم، سلمت عن المعارضة بما هو أولى منها، وهو مأخذ هذا الجنس من التعليل. فأن قال قائل: لم تزيدوا -فيما ذكرتموه -على أمثلة ضربتموها، ومذاهب نقلتموها من الأئمة، والمذاهب لا تنتهض حجة، فما الحجة على القول بالوصف: الذي لا يناسب ولا يدل عليه إيماء ولا نص ولا تأثير [ولا مناسبة]؟ قلنا: إنما استقصينا القول في نقل المذاهب، لنفرة بني الزمان [عن ذلك] وتشوفهم إلى المؤثر والمخيل، وإلى الإيماء والنص؛

وحصرهم المدارك فيها، ومن قبل هذا الجنس [من التعليل] لقبه بلقب الشبه، فأريناه -من تعليل الشافعي بالنقدية القاصرة التي لا فرع لها -أنه ليس مقصورا على التشبيه؛ إذ الشبه إنما يقوم من فرع وأصل، ولا فرع لهذا الأصل. ودليل القول بهذا الجنس: إثارته لغلبة الظن؛ ووجه تغليب الظن فيه [قد ذكرناه بما] ضربناه: من الأمثلة. ونحن نحرر الآن -عن ذلك- عبارة رشيقة، فنقول: نقدم أن الصفة الطارئة -التي حدث الحكم بحدوثها -علة للحكم، أو علامة [له]. ومستنده: أن حدوث الافتراق افتقر إلى فارق؛ ولا فارق إلا ما ظهر. وهذه مقدمتان لو سلمتا: لا يبقى للنزاع وجه، فأما الافتقار إلى فارق -مع وقوع الافتراق -فقطعي؛ وأما قولنا: لا فارق إلا ما ظهر، فتمام النظر فيه: بالسبر والتدوار على جميع الفوارق الممكنة، وإبطالها أو ترجيح ما ظهر أولًا عليها، فيقع النظر في التعيين، بعد وجوب الفارق، وكان هذا الجنس جليًا، لوجوب القول

بالتعليل وطلب الفارق؛ وذلك: لأن الحكم حدث بتغير أمر، فكانت [الصفة] المغيرة للذات هي المغيرة للحكم. وكذلك نقول في الشبه بعد الفرض في الربا: جرى الربا في الأشياء الأربعة ولم يجر في الثياب والعبيد، وليس ذلك إلا لافتراقهما في معنى: اقتضى الفرق، فلابد من طلب فارق، ولا فارق إلا الطعم -لكانت الإضافة إلى الطعم ضرورية، وإنما الشأن: في إثبات المقدمتين؛ فأنهما -بعد الثبوت -تلتحق النتيجة المستفادة منهما، بدرجة العقليات. أما قولنا: لا فارق إلا الطعم، فنعني به [أنه] لا فارق أولى من الطعم، فإنه أولى من الكيل والقوت والمالية، وكل ما يفرض: من الصفات، وطريقة الترجيح كما ذكر في تلك المسألة، وكما سنذكر الآن طرفًا منه. والكلام في هذه المقدمة مجال الفقهاء، وقد أكثروا فيه؛ وإنما الغموض في المقدمة الأولى. وهو: أنه لابد من طلب فارق وعلامة فاصلة زائدة على المفارقة بالذات. فإن [الأشياء الستة] متميزة -بأساميها وذواتها -[عن غيرها]، فلا تحتاج إلى إعلام حكمها بأمارة زائدة على أساميها وذواتها]. ولما ظهر الاحتياج إلى العلامة الفارقة- في صورة

الطرد والعكس- كان النظر فيه أظهر. ومن أجاب عن هذا السؤال، فقد قرر قاعدة الشبه والقول بالوصف الذي لا يناسب؛ وحل عقدة علة الربا، وكشف الغطاء عنها. فنقول في قاعدة الربا: بأن لنا بالإجماع أنه لابد من إعلام محل الحكم بإمارة جامعة مانعة، زائدة على الإعلام بالاسم والذات، فأن الربا بالإجماع غير مقصورة على الأشياء الستة؛ إذ إتباع الاسم والتخصيص بذات المسمى- يقتضي أن [يقال]: لا يجري الربا في الدقيق والخبز وما يؤخذ من البر، ولا فيما يؤخذ من التمر: لأن اسم البر لا يطلق على الدقيق، ولا هو منصور بصورته. فلن يعرف حكمه باسم البر؛ فأنه غير البر: اسما وصورة ومعنى. ولذلك قلنا: أن الدقيق لا يقوم مقام البر في الزكوات، لأنه بدل المنصوص لا عين المنصوص، وأبو حنيفة يقيمه مقامه باعتبار المعادلة بالقيمة؛ كما يجزيه في سائر العروض. ولم يذهب أحد من الأمة: إلى أن الربا لا يجري في الدقيق والخبز؛ وكان الخلق في زمان الصحابة يحترزون عنه. وإن نازع منازع فيه، فتقول: الرطب الإجماع يجري فيه الربا، وليس تمرا. ولذلك نقدره بدلا في الزكوات عن التمر كسائر الأبدال؛ فليس هو مسمى باسمه، ولا [هو] متصور بصورته، وهو غير منصوص

عليه، فإن أنكر منكر ذلك: دفعناه بإجماع الصحابة؛ فأنهم اعتقدوا جريان الربا في الرطب، حتى جاء المحاويج من الأنصار إلى النبي -عليه السلام -وشكوا إليه احتياجهم إلى الرطب، وأن ليس بأيديهم إلا فضول قوت من التمر؛ فأرخص لهم النبي -عليه السلام -في العرايا: فيما دون خمسة أوسق و [لو] لم يكن الرطب ربويًا: لكان بيع التمر به [53 - أ] كبيعه بالثياب والعبيد، فدل أن الصحابة وكافة الأمة اعتقدوا من عند آخرهم: أن الرطب -وأن لم يتناوله اسم التمر -تعدي إليه الربا؛ وكذلك البر. فوجب طلب الصفة التي وقعت فيها الشركة بين البر والدقيق، والتمر والرطب. فأنها علامة محل الحكم، لا الاسم المجرد المخصوص بذات المسمى. والدقيق لا يشارك البر في كونه برًا؛ ويشاركه: في كونه مالًا ومكيلًا، ومطعومًا وقوتًا. فوجب امتحان هذه العلامات، وسبرها بالعرض على الشهادات. فثبت بهذا -على القطع -المقدمة الأولى، وهو: وجوب طلب

علامة للحكم زائدة على الاسم والذات. ثم إذا وجب: فلابد من الحصر والتعيين؛ وهي المقدمة الثانية. وبهذا، انتهى الكلام في قاعدة الربا إلى رتبة في الوضوح: لم يبق عليها غبار لمن أحسن الإحاطة به. إذ بان وجوب طلب علامة بالإجماع، زائدة على الاسم المخصوص بالذات؛ وبان -على القطع، [أو] بالإجماع، أو بغالب الظن المستفاد من [السبر]-أن لا شركة إلا في الصفات الأربع. وبطل -عند الشافعي: اتضح الأمر؛ وهذا سياق إثبات [كل] وصف لا يناسب. فأن قال قائل: [ساعدكم -في هذه الصورة- إبانة] الإجماع على وجوب تعدي [الحكم عن] المسميات المخصوصة؛ فهل تشترطون هذا في كل مسألة: تسلكون فيها مسلك التشبيه ونصب العلامة الخالية عن المناسبة؟ قلنا: لا نشترط ذلك، ولكن إن ساعد: فهي الرتبة العليا؛ [وتلتحق درجة الظن فيها] بالطرد والعكس؛ لأنه ظهر ثم وجوب طلب الفارق،

وقد التحقت هذه الرتبة بها: في وجوب طلب العلامة الحاصرة؛ وهما في المقدمة الثانية، وهو: سبر الصفات الممكنة وتعيينها- لا يختلفان؛ ويلتحق بهذه الرتبة عندي كل أصل: عرف الحكم فيه بإجماع مرسل، لا بلفظ خاص منقول، كإلحاقنا قليل الدية بكثيرها: لأنه عرف بالإجماع [أصل الضرب]، ولم ينقل لفظ خاص في مقدر خاص، حتى يقال: يكتفي بتمييزه باسمه الخاص. فإن قيل: المستند ما روي: ((أنه -عليه السلام -ضرب الدية على العاقلة في قصة تخاصم الجاريتين)) وهو عبارة عن كل الدية. قلنا: وعرف بالإجماع أنه ليس مخصوصاً بكل الدية، ولا بالمقدرات: إذا جري في الحكومات؛ ولا بالكثير: إذا وظف حصة آحاد الشركاء -وقد قلت حصصهم -على العاقلة. وكذلك قيمة العبد القليل القيمة،

عن الضبط، ووجب -على الضرورة -طلب علامة: معرفة محل الحكم، حاصرة فارقة بينه وبين الواجبات التي [لا] تتحمل، فتعين أن يكون منوطاً ببدل الجناية على النفس. ولا يبقي -في هذا -إلا سؤال بعيد لمن يستمد من إنكار القياس من حيث لا يدري، فيقول: لنقتصر على المعلوم إجماعًا، ولنترك الباقي على الأصل. وهذا فاسد: فإن محل الإجماع لم يتعين بعبارة منقولة؛ وإنما امتنع الإجماع في القليل: لمخالفة الخصم؛ فهو الذي كدر الإجماع، فلم يكدره؟ [وما حمله على المخالفة]؟ وبم ينضبط محل الحكم: ويستحيل أن [يضبط إلا] بالإجماع؟ وانعقاد الإجماع مبني على موافقته؛ فتكون موافقته مبنية على الإجماع، والإجماع مبنياً على موافقته؛ ولم ينعقد الإجماع: لأنه لم يوافق، ولم يوافق: لأنه لم ينعقد الإجماع، وهذا تناقض.

فإن قال: أعتمد الإجماع الذي أنا مسبوق به. قلنا: ولا تقدر على أن تنقل من أهل الإجماع، إخراج القليل عن محل الإجماع، فإن أهل الإجماع لم يتعرضوا للضبط، حتى تتبين به إخراجهم القليل، أو إدراجهم [له] تحت الجملة، فإن نقل خلافاً ممن قبله، كانت الحجة من أولئك مقامة على المخالف فيه، كما أقمناه عليهم: لو كان خلافهم فيه مبتدئًا غير مسبوق بإجماع سابق. ومن هذا القبيل أيضًا: تقدير [دية] أطراف الأحرار؛ فإنه لم ينقل بلفظ مخصوص الحر، فكان الضبط بعلامة الحرية، وبعلامة الآدمية - أمراً: يتعين طلبه لحصر محل الحكم؛ فسلك فيه مسلك الترجيح: إذا لم يرد اسم خاص، حتى يقال: أنه تميز باسمه، فلا يتعدي، فلو نقل ناقل مثلاً أن النبي -عليه السلام -قال: في يد الحر نص ديته؛ كان ذلك لفظًا خاصًا، ولم يقع إلحاق العبد به في هذه الرتبة، فلو نقل أنه قال: في يد الرجل نصف ديته؛ فهذا يشمل العبد، فعلى المخرج عن هذه العلامات الضابطة- الدليل. ومن هذه الرتبة الواضحة: النية في الطهارة؛ فإنها لم تختص بذات التيمم بالإجماع، بل تعدي إلى وظائف حكمية سواها، وكذلك يد السوم. وأكثر أمثلة الأشباه نظفر فيه بمثل هذا المسلك؛ وعند ذلك تتضح

رتبة الكلام؛ إذا الغموض الأظهر في قولنا: لا بد من طلب علامة حاصرة فارقة، وأنه [لم يخصه] باسمه وذاته، فيقال: كيف افتقرنا إلى طلب ما هو موجود؟ وقد اندفع هذا الغموض في هذه الرتبة. الرتبة الثانية: أن لا تساعد دعوى الإجماع على وجوب تعدي المنصوص، وقد صار المنصوص علماً محصوراً باسمه، فالكلام في هذا الطرف أغمض؛ ومع ذلك فيجري القول بالتشبيه بالعلامات فيه، وسبيل الكلام هو أن نقول [53 - ب] للمنكر: أتسلم في هذا الجنس جواز إلحاق ما في معناه به؟ فإن قال: لا، كان معانداً وأخرج من زمرة العلماء؛ فإن ما في معني الأصل: من الشرعيات، جار مجري الضرورات: من العقليات؛ ومنكره جار مجري السوفسطائية، فحشوية منكري القياس: سوفسطائية الشرع؛ ولسنا نخاطب أولئك، وإنما نخاطب طبقة القائلين، وهم علماء الدين؛ وسيقولون: نعم. فنقول: هل يتبين لكم أن الدقيق في معني البر، وأن الرطب في معني التمر؛ كما بأن للصحابة حتى سألوا عن مسئلة العرايا؟، وهو بيان مستند الإجماع المنقول في المرتبة الأولى؟ فيقولون: نعم، فنقول: هل يتبين أن الزبيب في معني التمر؟ فإن أنصفوا قالوا: نعم، فقد قال القاضي أبو بكر الباقلاني: أقطع بأن الزبيب

في معنى التمر، وأن الأرز في معني البر، وأن الذرة في معني الشعير، وما ذكره بين. فإن جاحد مجاحد هذا: فذلك لكثرة تفكره في هذه المسئلة، وشغفة بطريقة المحاجة والملاحة فيها؛ وذلك قد يعمي طريق الصواب، ويفسد الذوق السليم من ذوي الألباب، فنرتقي به إلى مثال آخر، فنقال: [لو] ثبت الوضوء بنبيذ التمر، هل كان نبيذ الزبيب في معناه؟ أو نقول: لو ورد الحكم في تمر صبحاني اتفق السؤال عنه، هل كانت العجوة في معناه؟ وكيف ينكر هذا شافعي: وقد طرد الشافعي نقصان الرطب في حال الجفاف، في سائل الأشياء الرطبة، وقال: أنها في معناه؟ وطرد أبو حنيفة سقوط الفطر في الجماع ناسيًا، وزعم: أنه في معني الأكل، مع حكمه بأنه على ضد القياس، حتى [لم] يلحق به المكره والمخطئ، إلى غير ذلك: مما عرف من كلامهم، فلا نطول الكلام مع نعتقد خارجًا عن زمرة الفقهاء المتصرفين. [وقد قال بما في معني الأصل جميعهم، فإن قال المنصف] نعم، نعترف بأن الزبيب في معني التمر. قلنا: فقد اتضح بطلان الإعلام بالاسم، ووجب طلب الوصف الذي بالشركة فيه التحق الزبيب بالتمر، والتحق النظر بالرتبة الأولى.

فإن قال: أطلب وصفًا يخص التمر والزبيب ولا يتعداهما. قلنا: إن قدرت عليه فعلينا إبطاله، فإن [أحد] الأوصاف إنما يسلم: إذا بطل غيره أو رجح عليه. وغرضنا أن نبين وجوب طلب علامة زائدة على الاسم المخصوص بذات المسمى، وقد حصل به الغرض. فإن قال: أقتصر في التعدي على ما علم أنه في معني النص، وهو: ما يتناهي القرب فيه، وعلم ذلك على وجه لا يتطرق المراء إليه: كالأمة مع العبد في العتق، والزبيب مع التمر [ها هنا]. قلنا: وهل يجوز في العقل -من حيث الإمكان -وقوع مقدر من التقارب لا يفيد إلا غلبه الظن بكونه في معناه [ولا يفيد العلم؟] فإن قال: لا، كان خارجاً عن قضية العقل؛ فإن كل مسلك تصور

أن يكون مفيدًا للعلم، فهو إلى إفادة الظن أقرب، وإن قال: نعم: قلنا: والظن كالعلم في وجوب الإلحاق، فإنا لم نستبن من المناسبات إلا الظنون. فإن قال: لم ينقل عن الصحابة هذا الجنس، قلنا: المنقول عنهم ينحصر، بل فهم من مسالكهم إتباعهم غلبات الظنون، وهو: الحكم بالرأي الأرجح. فإن قال: فكم من رأي غالب تركوه، قلنا: ذلك لمخالفته نصًا، أو قياسًا، أو رأيًا أغلب على الظن منه، فإما أعراضهم عن الرأي الغالب السليم عن القوادح والمعارضة -فلا يظن بهم، ولا يستجيز مسلم أن يتقول ذلك على صحابي أو إمام متدين؛ فإن من أنكر الشبه، أنكره: من حيث [أنه] لم يبين له وجه غلبة الظن [منه]، ومن اعترف بحصول غلبة الظن، ثم أنكر الحكم به -كان معاندًا. فإن قال قائل: قد ثبت بما ذكرت أن نوعًا من القرب يجوز أن يفيد ظنًا؛ وهذا لا ينفعك في هذه المسائلة، فإن القرب بالطعم لا نسلم أنه مفيد ظنًا.

قلنا: وليس من غرضنا عين هذه المسئلة، بل غرضنا: إقامة البرهان على جواز إعلام الحكم بصفة لا تتناسب، يقع -بالمقاربة والمشاركة فيها -الاشتراك في الحكم؛ وقد حصل الغرض. ثم طريق تقرير الظن في هذه المسألة: أن نبين أنه لا علامة، تقدر حاصرة أو جامعة، للتمر والزبيب - إلا القوات والكيل والمالية والطعم، وقد بطل الكل إلا الطعم، أو ترجح الطعم: فصار أولى، وإذا سلك هذا المسلك حصل الظن، وعند ذلك تجوز الفتوى به والعمل عليه. وقد تقررت القاعدة؛ فما من أصل إلا ويقاربه ما هو في معناه؛ علماً، أو ما هو في معناه: ظناً، وكل ذلك: لمشاركته إياه في علامة معلومة أو مظنونة؛ فإن لم يوجد ذلك، اقتصر على النص: إذا من النصوص ما لا يتعدي حكمها؛ إذ لا يوجد ما هو في معناها، أما الزبيب، فقد علم أنه في معناه: قبل أن تتعين العلامة؛ لأنه كيفما تصور [في العقل] العلامة، وقد قال النبي -عليه السلام -: ((من أعتق شركا له في عبد: قوم عليه الباقي)، فالعبد معلوم باسمه، وعلم أن الأمة في معناه قبل أن نتبين حد العلة والعلامة الحاصرة؛ ولو أعتق نصفًا من عبد يملك

جميعه: لم يقوم عليه، ولم يكن ما عتقه مسمى باسم الشركة؛ ولكن نعلم أنه يعتق وأنه في معناه؛ ولو أعتق نصفًا معينًا من عبده، أو عضوا كيده أو رجله- غلب على الظن أن بعض العبد في معنى بعضه؛ شائعًا كان أو معينًا، كما كان نصف العبد الخالص في الملك: في معني النصف الممزوج بملك الغير. ولكن ذلك معلوم، وهذا مظنون. وإنما ينكشف هذا الظن بأن نبين أن لكون [المضاف إليه محلًا قابلًا] لسائر التصرفات -أثرا في سريان العتق، فينقطع ما ظناه، أو نبطل عليه ما ذكره، فسلم الظن الأول. وكل وصف لا يناسب وعلامة شبهية ظهرت أولًا، فهي على خطر الانمحاق بمعني تقابل به [هو أظهر] أو أولى منه؛ وكذلك كل مناسب يظهر أولًا، فهو على هذا الخطر، وذلك لا يدل على بطلان جنسه. وإذا انتهي الكلام إلى هذا المنتهي، فلو تحدينا وادعينا أن القول بالشبه قطعي في فن الأصول: لم نبعد؛ إذا بان على القطع أن غالب الظن متبع، وبان في العقل جواز استفادة [الظن من نوع من القرب

لا يناسب، كما جاز استفادة] العلم منه، وإنما الغموض في أحاد المسائل: لتعارض الصفات الجامعة والفارقة فيها، وعسر مدارك الترجيح في بعضها، وإلا فالقول بهذا الجنس يترقي إلى رتبة القطعيات، بالتقرير الذي [كنا] ذكرناه. فإن قال قائل: فنبهونا على طريق سير العلامات الفارقة الجامعة عند تعارضها، وطريق ترجيح البعض منها على البعض، وأهم الأمثلة مسائلة الربا: فإنها معيار النظر، وعليها تدوار الأصوليين في أمثلة العلل؛ وهي من أغمض المسائل. قلنا: الطريق فيه أن نردد النظر بين الطعم والكيل أولًا، ونقول: التعليل بالكيل باطل لوجهين، أشار الشافعي إليهما: أحدهما: أن الكيل مثل الوزن؛ والتعليل بالوزن باطل: لأنه لو علل به، لوجب تحريم بيع الموزون بالموزون نساء، كما حرم بيع المكيل بالمكيل، وكل جنسين مختلفين اشتركا في العلة.

والإجماع منعقد على جواز إسلام النقدين في الأشياء الموزونة من النحاس والرصاص والزعفران وغيرها، وبهذا المسلك، عرفنا وجوب التعليل لحكم الربا، إذا لو اقتصرنا على موجب الاسم، لقلنا بامتناع إسلام الدراهم [في] الموزونات، فإنه قال عليه السلام عقيب ذكر الأشياء الستة الستة: ((فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد)). وهذا يقتضي تحريم إسلام النقدين في الأشياء الأربعة، كما اقتضي تحريم إسلام أحد النقدين في الآخر، وأحد الأشياء الأربعة في الباقيات، ولا دليل -من حيث اللفظ -يوجب تقاطع النقدين عن الأشياء الأربعة؛ [فدل على] الرجوع إلى التعليل، وإنما معناه: فإذا اختلف الجنسان من هذه الجملة المشتركة في علامة الربا، لا من هذه الجملة المعلومة باسمها وصورتها، وهذا الإجماع نص في وجوب البحث عن العلة، والتجاوز

عن موجب اللفظ، وكيف يتماري فيه منصف مع قول أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه -: أن الناس ليقولون: أن عمر أعرف الناس بأبواب الربا؛ ولو كنت عالماً بها: لكان أحب إلى من حمر النعم؛ وإن الربا من آخر ما نزل على النبي صلي الله عليه وسلم، فمات [قبل أن] يبينه لنا، فدعوا الربا والريبة))، ولو كان الحكم يقتصر على المسميات: لما خفي على العوام؛ [فكيف عمر] مع ما اشتمل عليه اللفظ من التفصيل والتعديد، فكيف ينتهي أشكاله إلى أن ينسب عمر إلى الاختصاص بدركه من بين كافة الصحابة: وهم الغواصون في علم الشريعة، والمجتهدون في مصادرها ومواردها؟ وغرضنا الآن بطلان التعليل بالوزن، مع انعقاد الإجماع على إسلام النقدين في الموزونات. فإن قالوا: السلم محرم بالإجماع في الثمنية أو المثمنية؛ كان ذلك تحكماً مستحدثاً [لا أصل له] دعاهم إلى ذلك مساق مذهبهم،

ولا مستند له، وإن زعموا أنا فهمنا ذلك من الإجماع، قلنا: وهلا فهمتم من الإجماع اختصاص النقدين بعلتهما، كما فهمناه حتى لا تخرجوا إلى الضبط بالثمنية والثمنية؟ الوجه الثاني للإبطال، هو: أن التعليل بالكيل يوجب إخراج الحفنة [والحفنتين] عن حكم الربا؛ وإخراج الحلي عن ذلك، والربا جار فيهما بحكم النقص. قال الشافعي: وما ناقض الشبه فهو المنتقض دون الشبه؛ إذا موجب الشبه جريان الربا في كل ما باسم البر والذهب، وذلك جار في القليل والحلي؛ والعجب أنهم أخرجوا القليل وأدرجوا الحلي وخاتم [54 - ب] الفضة، ولم يطردوا ذلك في خواتم الحديد، فبه عرف تناقض هذا الأصل. فإن قيل: أبو حنيفة أساء [في] التفريغ؛ فيمكن التعليل بالكيل وطرده في الجنس، وإجراء الربا في الحفنة، وذلك لا يدل على أن الكيل غير صالح. قلنا: لا، بل استد في التفريع؛ فإنه أراد بالكيل والوزن

اعتبارهما لا إمكانهما، حتى قال أبو يوسف: كل مصر لا يوزن فيه اللحم، فلا بأس بطابق طابقين، والحفنة والخواتم لا يعتاد فيه التقدير، فلو قيل: أنه من جنس المقدر، لتعددت العلة، ولكانت العلة في الكثير أنه مقدر، وفي القليل: أنه من جنس المقدر، ولكان كقولنا: [أن كثير] الخمر محرم بعلة الإسكار، والقليل بعلة كونه داعيًا إلى السكر؛ وهما علتان: إحداهما خفية ضعيفة، والأخرى قوية، وتقسيم البر بتعدد علته، محال لا وجه له، فهذان وجهان لإبطال مذهبه، وقد أشار الشافعي إلى وجهين آخرين، يصلحان للترجيح، لا [للا] بطال: أحدهما: أن الطعم مقصود هذه الأشياء، ولأجه فطرت وخلقت؛

ولما ظهر مقصودها شح الناس عليها: فباعوها مقدرًا لا جزافًا، فتقدير المقصود الخاص علامة، أولى من تقدير ما يجري مجري العاصم للمقصود، والدراهم والدنانير متميزة بمقصودها الخاص: الذي لا يعدلهما [فيه] غيرهما؛ فكون الخاصة علامة للحكم - أغلب على الظن من العدول إلى الوزن المعرف للمقدار، لأجل المشاحة في المعاملات. الثاني: أن الكيل علامة الإباحة، فيبعد أن يكون علامة التحريم وان اختلف محله، ونحن قد عددنا علامة الإباحة وعلامة التحريم؛ وإحالة تضاد الأحكام على اختلاف العلامات أغلب على الظن من إحالتها على اختلاف المحال، مع اتحاد العلامة. وقد ترجح أيضًا بتأييده بقوله -عليه السلام -: ((لا تبيعوا الطعام بالطعام)). والعبارة المحررة لأصحابنا في الترجيح معروفة؛ وهي: أن علتنا سلمت عن المعارضة والمناقضة، واستندت إلى عموم أسمها، ولم تخرج عن حكم أصلها، ولم تتناقض في نفسها، وقد استقصي ذلك في التعاليق.

[فلسنا للأطناب فيه، وإنما الغرض التنبيه على طريقه؛ فإن الترجيح من المسالك الجارية في هذه المسئلة المتعينة فيها: في بعض أطرافها]. فإن قيل: [تأيدت] علتهم بقوله -عليه السلام -: ((إلا كيلا بكيل)). قلنا: ذلك مذكور للخلاص [من الربا]؛ وهو معتبر علامة للخلاص والإباحة. فإن قيل: إيجاب المماثلة -في القابل للمماثلة -أولى؛ فليعلم الشرط بإمكان حصوله، فللكيل والجنسية تأثير في إظهار محل الحكم؛ فهو أولى بأن يجعل علامة عليه. ولأن الربا شرع مقرونًا بالخلاص، وفي التعليل بالطعم إجراؤه في السفرجل والبطيخ وما لا خلاص فيه. قلنا: لهذا، ضم الشافعي في قول الكيل إلى الطعم، واعتبر اجتماعهما، وقال: قول ابن المسيب في هذا من أصح الأقاويل كما سبق نقله. وهذا قول قوي جامع لجميع أطراف الكلام، فتكون العلامة -على هذا القول -اجتماع الأمرين. ولعله رجع في الجديد عن هذا؛ لأنه وردت أخبار في الربا في حلي الذهب، والخرز الذي يباع عددًا. فقد علم النبي -عليه السلام -طريق بيعه: في عقد اشتمل على خرز الذهب

واللآلئ وذكرت الفضة في مسائلة مد عجوة، فعرف به أن المقصود هو المتبع، دون التقدير، وقد قررنا وجه ذلك في مسائلة الحفنة. فإن قيل: فتدواركم على المقصود الخاص، تنبيه على متانة طريق مالك -رضي الله عنه -في التعليل بالقوت: فإنه الأخص. قلنا: [لولا ورود] الملح: لكان التعليل به أخص، ولكن عدل الشافعي عنه لأجل الملح. فأما قوله: ما يستصلح به القوت [قوت]، ففاسد: لأنه

لا يخلو أما أن يكون علة على حيالها كالنقدية، فيلزم [على مسافة] جواز أسلام البر في الملح، وهو خلاف الإجماع، أو يقال: هو يرجع إلى القوت لاتصاله به بطريق الاستصلاح، وذلك يلزم أن يعدي إلى الحطب والتنور وما يتصل بإصلاح القوت؛ ومهما تعدي إلى ذلك على تبعية القوت، فتعديته إلى الفواكه التي تسد مسد القوت، وإلى الآدام التي تقع تبعًا للقوت: كاللحم وغيره -أولى. وعند ذلك يتداعي إلى القول بالطعم. وإذا قال: للملح خاصية ليست لغيره، قلنا: أن لم يكون هو القوت فهو علة أخرى، فليجز إسلام الأشياء الثلاثة فيه، كما جاز إسلام النقدين في الأشياء الأربعة [55 - أ] وهو خلاف الإجماع، فلولا الملح لكان ما ذكره مالك أولى وأخص. وعلى الجملة: تعليل الأشياء الأربعة بعلة واحدة، أولى: فإنه إذا [كثرت الأصول، كان ككثرة الشواهد، فإذا] اشتركت في الطعم، كان الطعم مشهوداً له من جهة الملح أيضاً، فهذا يتبين بطريق الترجيح. فإن قيل: فليكن تعليل أبي حنيفة بالتقدير للأشياء الستة

أولى؛ أو ليكن تعليل ابن الماجشون بالمالية أولى. قلنا: الوزن غير الكيل عند أبي حنيفة، كما ذكرناه، وإنما التقدير عبارة شاملة؛ ولذلك لم يتعد إلى الذرع والعد، وهو نوع تقدير، وأما [مالية ابن الماجشون] فهي أوسع الصفات وأعمها، وأبعدها عن الخاصية المقصودة، وهو مضطر إلى تجويز إسلام النقدين في غيرهما؛ وفيه التفريق في العلة، وعلى لجملة: لا تلغي أخص الصفات -مع صلاحها -بالأعم؛ فهو ليس آخذاً مذهبه من الشبه والعلامة؛ ولعله يأخذ من المنع من اجتاح المال وتفويته من غير منة ومجمدة ومثوبة، وإليه ترجع مقابلة الشيء بمثله؛ ثم يعتذر عن الجيد بالردئ، بما اعتذر أبو حنيفة به: من إسقاطه قيمة الجودة. فإن قيل: فهلا جمعتم بين هذه العلل؟ قلنا: اعتذر ابن سريج عن هذا: بأن ذلك يخرجنا عن قول العلماء، وسنذكر مستند قول العلماء، فإن التعليل - في مثل هذا المقام - بعلتين، غير جائز إلا أن يجعل الجميع علة؛ كما قال الشافعي في قول: أن العلة هي الطعم مع التقدير؛ وقال مالك: القوت، وفيه الجمع بين الكل.

القول في بيان الفارق بين الشبه والطرد فإن قال قائل: رجع حاصل نظركم -في القاعدة السابقة -إلى أن الوصف الذي لا يناسب، يجوز أن يكون علامة على الحكم؛ وزعمتم: أنها علامة متضمنة لوجه المصلحة وملتزمة لها، وإن كان لا يطلع على وجه المصلحة، فما الفرق بين ذلك وبين الوصف الطردي الذي اتفق المحققون على رده، مع الاعتراف بأن كل واحد منهما ينفك عن المناسبة بنفسه وإنما يتوهم اشتماله على مناسبة خفية، وقضية مصلحية: غابت عنا، وما من وصف طردي إلا ويمكن أن تدعي فيه هذه القضية، فكيف يتميز عن الطرد المردود، مع الاستواء في هذه الخاصية؟ قلنا: هذه غمرة عظيمة خاض فيها فريق: فدرات رؤوسهم، وخارت عقولهم، ولم يحصلوا على طائل، فمن طلب ما لم يخلق، تعب ولم يرزق؛ فإنهم التمسوا فرقًا بين الطرد والشبه [بأمر] يرجع إلى تمييز أحدهما عن الآخر، بوصف [في] ذاته، وأنشئ، لا يتميز عن جنسه ومثله، بوصف يرجع إلى ذاته، وها نحن نكشف الغطاء عن هذا السر، ونقول: الأحكام أنما تظهر -في حقنا -بعلامات منصوبة عليها؛ والعلامات للأحكام تنقسم: إلى الأسامي اللغوية، وإلى الأوصاف الزائدة على الأسامي. فأما المسميات المعلومة بعلامة الأسامي فهي التي يقتصر فيها

على مورد النص، ولا حاجة في بيانها إلى أطناب. وأما المعلومات بعلامات زائدة على الأسامي، فهي التي يقال فيها: أنها قياسية، وتلك العلامات تنقسم: إلى ما يناسب الحكم في ذاتها، على ما أوضحنا معني المناسبة، وإلى ما لا يناسب، ويعرف كونه علامة بالطرق أنتي ذكرناها في علة الربا. فما يناسب كله جنس واحد، يندرج تحته الشعب المنتشرة التي قدمناها. وما لا يناسب -أيضًا- كله جنس واحد: من حيث الذات والنفس؛ وهو متناول لما سماه المسمون: شبهاً، ولما سموه: طرداً، أيضاً، فلا فرق بين الشبه والطرد، عند النظر إلى ذات الأوصاف التي لا تناسب الأحكام. [فالكيل والقوت والطعم] كله طرد في لغة هؤلاء واصطلاحهم؛ وإن سموه شبهاً: فلا حرج في الإطلاق، وإنما الغرض بيان أن الوصف الذي لا يناسب جنس واحد بالنظر إلى ذاته، فطلب الفرق بتمييز البعض عن البعض بالجنسية، طلب لما لا ينال أبد الدهر. فإن قال قائل: كيف تنكرون هذا الفرق: وأنتم مضطرون إلى الاعتراف بأن كل وصف من الأوصاف وجد مع الحكم، لا يجوز أن يعلل الحكم به، وأن يجعل علامة عليه، ويتبع في إثبات الحكم ونفه؛ بل هو منقسم: إلى ما يصلح الاعتماد، وإلى ما لا يصلح؟ فما الفيصل الفارق؟ وقد سامحناكم بحذف لفظ الطرد والشبه. قلنا: نعم؛ الأوصاف التي لا تناسب -أيضًا -تنقسم [55 - ب] إلى [ما تصلح للاعتماد عليها، وإلى ما لا تصلح]؛ كما أن المناسب أيضًا

ينقسم: إلى ما يصلح للاعتماد وإلى ما لا يصلح، ولكن ليس انقسامه لافتراق راجع إلى الذات؛ وإنما هو بالإضافة إلى السلامة عن المعارضة بما [نقول: أنه] أولى منه؛ وإلى عدم السلامة عنه، وهذا يستوي فيه المناسب وغير المناسب. وإيضاحه [هو]: بأن نقسم الكلام ونجربه في طرفين؛ أحدهما: فيما يعتمده المجتهد، ويجوز له أن يفتي به والآخر: فيما يسمع من المعلل، ويسوغ له الاقتصار عليه في مبتدأ التعليل، إلى أن يستنزل عنه بالاعتراض والمعارضة بما هو أولى منه. أما المجتهد، فلا يحل له الاعتماد على مجرد ظهور الوصف الذي لا يناسب، ما لم يسبر سائل الأوصاف سبراً حاصراً: من حيث الإمكان والاستطاعة في حق المجتهد، وما لم يقابل الوصف الذي ظهر هل أولاً بسائر الأوصاف، فإذا قابله بها، وأبطل جميعها أو رجح ما ظهر أولاً على غيرها - على ما ذكرناه في مسئلة علة [الربا]-حل له الاعتماد عليه: في العمل والفتوى، وهذا السبر -أيضاً -واجب [عليه] في المناسب؛ فإنا سنبين أنه لا يجوز تعليل الحكم بعلتين مناسبتين: عرفنا

بشهادة الحكم، فلا بد أن تبطل سائر الأقسام، إذا لو ظهر مناسب أقوى مما ظهر أولًا: لصار الأول بالإضافة إلى الثاني كالطرد المهجور، ولذلك لم يلتفت إلى سلامته عن النقض والمعارضة وغيره. وكذلك لا بد من استقصاء السبر في الأوصاف التي لا تناسب، فإن ظهر وصف لا يناسب فبحث وسبر، فعثر على مناسب -انمحق الوصف الأول واضمحل؛ وإن لم يعثر على مناسب، ولكن عثر على وصف آخر لا يناسب - وهو أمس للمقصود، وأخص منه بالغرض -انمحق الأول وبطل، كما ذكرناه في الطعم بالإضافة إلى الكيل. فإذًا: كل وصف ظهر وسلم -بعد السبر -عن البطلان بظهور ما هو أولى منه، جاز الاعتماد عليه، وهو الذي عبر عنه: بالشبه. وكان وصف ظهر أولًا، ولكن ظهر في مقابلته وصف آخر -أما على البديهة أو بالتأمل -هو أولى وأخص من الأول: فالأول لا يجوز الاعتماد عليه، وهو الذي يعبر عنه: بالطرد، فرجع الافتراق بين القسمين، إلى الإضافة، لا إلى الذات، وهذا الافتراض جار في المناسبات. فلأجل هذا، رأينا أن نهجر عبارة الطرد والشبه: كيلا نخيل افتراقا من حيث الذات؛ فإن فهم ما إليه رجع الافتراق، فلا حرج بعده في الإطلاقات، والاصطلاحات بالتعريفات.

وعبارة الشبه [أيضًا] مستكرهة من وجه آخر، وهو: أنا قد بينا أن ذلك لا يقوم إلا بفرع وأصل؛ وأنا نعلل النقدين بالنقدية القاصرة، ونظن أنها هي الصفة الملتزمة المتضمنة للمصلحة الخفية الغائبة عنا، ولا فرع لهذا الأصل، وسنذكر ما نريده بالعلة القاصرة، وندرأ عنه [اعتراض الخصوم، واستبعادهم] وقد تبين أن الوصف الذي لا يناسب جنس واحد، وأن ظهور الفرق: بالإضافة؛ فالكيل يظهر أولًا: فيظن أنه علامة؛ فيظهر الطعم -بالطريق الذي ذكرناه -ويصير أولى منه؛ فينقلب الكيل ساقطًا مطرحًا؛ وقد يعبر عنه: بالطرد، وعن الطعم - الذي صار أولى-: بالشبه، وقد يظهر بالتأمل للناظر في الطعم ويطرحه، ويعبر عنه: بالطرد، وعن القوت: بالشبه، ثم قد يتبين له بطلان القوت بالملح كما سبق، فينعطف إلى الطعم ويقول: هو الوصف المعتبر الذي يغلب على الظن كونه علامة؛ ويجعل القوت طردًا مهجورًا. ولا فرق بين هذه الأوصاف الثلاثة: من حيث الذات؛ وإنما

افترقت: بالإضافات، فلهذا استكرهنا عبارة الطرد والشبه: فإنه يوهم جنسين مختلفين، ولا اختلاف: إذ الطارد يزعم أنه شبه بين الفرع والأصل، بما ذكره من الوصف؛ وتسميته شبهًا -بهذا التأويل -صحيح، والمشبه يسمي: طاردًا، من حيث أنه أتي بوصف لا يناسب، وتسميته طاردًا -بهذا التأويل -صحيح. فلم يكن [لفظ] الطرد والشبه إلا مشوشًا ومعميًا لمقصود الكلام؛ فوجب اطراحه والقول بأن الأوصاف تنقسم إلى [ما يناسب] وإلى [ما لا يناسب]؛ وغير المناسب ينقسم إلى ما يسلم عن المعارضة [56 - أ] بعلامة هي أولى منه؛ فيصلح لاعتماد المجتهد [عليه] بعد البر؛ وإلى ما لا يسلم عن وصف هو أولى منه، وهذا ينقسم فمنه: ما يكون قرب وصف آخر معلوماً بالبديهة، [ومنه: ما يعلم بالنظر. فما يعلم بعده، وقرب غيره، وكونه أولى منه بالديهة]-فهو: الطرد القبيح الذي لا يتصور أن يكون معول مجتهد. وما يعلم كون غيره أولى منه بالتأمل، يتصور أن يختلف في العثور عليه المجتهدون بحسب اختلاف قرائحهم؛ فيسميه من لم يعثر على

الأولى: شبهاً، ومن عثر على الأولى يسمي الآخر: طردًا. فإن قيل: فهلا حددتم الوصف المعتمد -الذي عبر عنه فريق بالشبه -[بالوصف] الخاص، أو بالمقصود - كما قاله المعبرون - لتمييز الشبه عن الطرد؟ قلنا: لأن الخاص إضافة؛ فالشيء يكون خاصاً: بالإضافة إلى شيء، عاماً: بالإضافة إلى غيره، فالطعم خاص بالإضافة إلى المالية، عام بالإضافة إلى القوت، والقوت خاص بالإضافة إلى الطعم، عام بالإضافة إلى الذات المسمي باسم البر والتمر، والأخص غير مشروط بالاتفاق عند القائلين بالشبه؛ فإن الأخص في النقدين: النقدية؛ ولم يبطل الوزن بالإضافة إليه لأنه أعم: إذا لو بطل لذلك، لبطل الطعم بالإضافة إلى القوت: لأنه أعم. وأما المقصود فليس يشترط في صحة التشبيه -عند المطلقين لهذه اللفظة -أن يقع التشبيه بالمقصود؛ وإنما يساعد ذلك في الربا، وقد يكون الشبه خلقيًا، وقد يكون حكميًا؛ فكيف يصح [حد الشبه] بهذا؟ فإن قيل: وهلا حددتموه بما حده به القاضي -رضي الله عنه -: من أنه الذي يغلب على الظن كونه في معنى الأصل؟

قلنا: لا حجر في هذه العبارات؛ وهي حاوية للمقصود إجمالًا، ولكن لا بيان فيه، فلم يشكل إلا تمييز الوصف: الذي يغلب على الظن الاشتراك [فيه الاشتراك] في الحكم؛ عن الوصف: الذي لا يغلب -بحد فاصل، ومعيار صادق: نرتفع به المنازعات، وهذه عبارة متسعة تشمل جميع أنواع القياس. ونحن الآن في طلب الوصف الذي يغلب، وتمييزه عما لا يغلب؛ أهو متميز [بذاته]؟ أم بالإضافة؟ فأقول: إذا كان الكل لا يناسب، فالتمييز: بالإضافة التي ذكرناها. فإن قيل: فهلا حددتموه: بأنه الوصف الذي يوهم الاجتماع في مخيل مبهم هو مأخذ الحكم، كما قاله القاضي؟ قلنا: ولا حجر -أيضًا -في إطلاق هذه العبارة، لمن يبغي عبارة حاصرة؛ لا لمن يبغي كشفًا ووضوحًا، فإنا رأينا جملة من الأوصاف تذكر [في محافل ومجامع، تجمع أفاضل وأكابر]؛ فتختلف آراؤهم [وتتفرق أهواءهم] في أنها من الأوصاف التي توهم الاجتماع في المخيل: فتسمي شبهًا؛ أو لا توهم: فتسمي طردًا، فلم يتجنس هذا

الوصف عندهم، ولم يتميز بعلامة يترفع معها النزاع، وإذا رد الأمر إلى ما يغلب [على الظن] أو ما يوهم؛ اختلف ذلك بالطباع والقرائح: على ما نشاهد ذلك من الفقهاء في المناظرات، وهي الخصومة الناشبة التي لا سبيل إلى قطعها. فيقول القائل: طهارة حكمية، فتفتقر إلى النية كالتيمم؛ أو: عبادة يبطلها الحدث، فتفتقر إلى الموالاة كالصلاة؛ أو: عبادة مختلفة الأركان يستحب الترتيب في متماثلاتها، فيستحق في مختلفاتها قياسًا للوضوء على الصلاة. ويقول في افتراض الفاتحة في الصلاة: عبادة ذات تحليل وتحريم، فيشترط في أركانها ما يتعدد سبعاً كالحجج. فهذا وأمثاله يعرض على الجمع من الفقهاء، فلا يتفق رأي اثنين منهم في أن هذه [هل] تغلب على الظن، أو هل توهم الاجتماع؟ بل يقول فريق: الكل طرد، ويقول آخرون: الكل شبه، وتقول طائفة: ما ذكره في نية الطهارة تشبيه، لكثرة تكررها على اللسان، فهو مغلب؛ وما ذكره -من القياس على الحجج -فطرد، وما ذكره -من الترتيب والموالاة في الطهارة -فمعتدل؛ وهو محتمل لأن يقال: أنه طرد ولأن يقال: أن شبه، وكل ذلك لعدولهم عن المنهاج السديد

[والصراط المستقيم]، وظنهم أن الفرق راجع إلى ذات هذه الأوصاف، هيهات هيهات، إنما افتراقها: لخفاء الأوصاف المقابلة لها مرة، ولجلائها [أخرى]، فقولنا: حكمية، يقابلها: أنها طهارة بالتراب والوضوء بالماء، وقولنا: يبطلها الحدث كالصلاة، يعارضها: أن الكلام لا يبطلها، بخلاف الصلاة، إلى أمثال لذلك لا نستقصيها، بل [نجتزي بالتنبيه لمن يفهمها ويعيها]، فهذه الأوصاف المتقابلة، كلها طرد غير مناسب كما ذكرناه في الربا، فطريق نصبها علامة وترجيح البعض منها على البعض -ما سبق، فإذا استنهج المجتهد الطريق [56 - ب]، واستتم السبر والتحقيق، [وشاء الله التوفيق] يحصل بالآخرة على ظن [غالب مستقر: يتكل عليه، و] يطمئن إليه. الطرف الثاني: الكلام في المعلل، فإن قيل: ما ذكر تموه سياق نظر المجتهد، فما الموظف على المجادل في ابتداء التعليل؟ وبماذا تنقطع عنه المطالبة؟ أيلزم أن يستوفي السبر ويبطل الصفات الفارقة بعد أن يحصرها؟ أم يكتفي منه بالاقتصار على ما أبداه، ويقال: على من ادعي بطلانه، إظهار ما يراه أولى أو مماثلاً له، حتى يتكلم عليه،

ويجعل الوصف الذي ذكره أول رتبة من مراتب النظر، ومرقاة من مراقية؛ إلى أن يستنزل عنه بالمعارضة بمثله، أو بما هو أولى منه. قلنا: ليس هذا السؤال عن مسئلة شرعية، حتى يفتي فيها بتحليل أو تحريم، أو إثبات أو نفين لا كالطرف السابق: فإن النظر فيه يتعلق بقطب ديني عظيم، وإنما هذه مسئلة جدلية؛ والجدليات رسميات واصطلاحات، وكل فريق اصطلحوا على أمر، فالوجه أن يساعدهم الواحد الفرد، ويندس في غمارهم، ويكلمهم بمعتادهم، هذا هو الأصل بعد استمرار العادات، وترسخ الاصطلاحات. نعم: لو سئلنا عن أولى ما يصطلح عليه، وأليقه بمقصود الجدال ومصلحته؛ فقد نبدي فيه ما نبديه، فنقول: أما الذين ذهبوا إلى [أنه لا يقبل] إلا المؤثر -وهو المراوزة وأهل سمرقند في عصرنا هذا -فلا يقطعون المطالبة إلا بإبداء التأثير؛ وقد يطلق الإنسان فيما بينهم الإخالة، فتنفر طباعهم، [وتشمئز نفوسهم] لرؤيتهم في كتاب أبي زيد -أن الإخالة باطلة في الجدال. فطريق المناظر معهم، أولًا: أن يهجر لقب الإخالة، ويسمي مخيلة: مؤثرًا؛ ووجه الإخالة: تأثيرًا، ويظهر الإخالة بلقب التأثير، فيروح عليهم -بعد التلقيب بهذا اللقب -كل ما سميناه مخلًا

مناسباً، كما [تقدم التفصيل فيه]. فمن استمسك- مع هؤلاء- بعلامة لا تناسب، ولم تقطع المطالبة عنه- فطريقه: أن يقيم البرهان الأصولي على جواز التعليل بالوصف الذي لا يناسب، كما قدمناه، فيبتدئ بالإيماء، والإضافة اللفظية، ثم ينحدر إلى الحكم عقيب الوقائع، ثم إلى الطرد والعكس، ثم إلى الشبه، وهو: إعلام الحكم بعلامة لا تناسب. أو يضرب لهم الأمثال نقلا عن الأئمة، ويقرر طريق الظن وثورانه من الوصف الذي لا يناسب، كما تقدم في مسئلة علة الربا-: إن صادف من نفسه منة التقرير، وساعدته حشمة: يستميل [بها] أساعهم للإصغاء إلى كلامه، إلى أن ينهيه إلى تمامه. فإن لم يجد هذه المنة، ولم تساعده هذه القوة [والحشمة] فليكلمهم بلسانهم، وليلقب كل ما سنح له-: من الخيالات البعيدة الإقناعية- بلقب التأثير؛ فيروج عليهم الغث والسمين، والنازل والثمين؛ وتنقطع عنه المطالبة وينغمس في غمرة المسئلة.

وإن جرت المناظرة مع فريق: يجوزون التعليل بغير المؤثر؛ فهؤلاء- أيضا- ينقسمون: فأهل بغداد وسائر العراقيين، يلقبون هذا الجنس: بقياس الدلالة؛ فإذا ذكر وصفا غير مؤثر: فليلقبه بهذا اللقب، ليقطع المطالبة عنه. وإن جرت المناظرة بنيسابور-[ومجامعها- في غالب الأمر، غاصة بالمتلقفين] من أستاذنا إمام الحرمين- قدس الله روحه- فليذكر من الأوصاف غير المناسبة، ما يراه سديدًا: غالبًا على الظن، سليما عن المعارضة؛ وليلقبه بلقب الشبه، وإياه والاعتراف بأنه طرد؛ فيعظم ثوران المستمعين وإنكارهم عليه، وتنفر عنه الطباع، وتنبو عن كلامه الأسماع؛ بحيث لا يصغى بعده إلى كلامه، ولا يزاد على الاستهزاء والتهجين، وليروج عليهم كل وصف طردي لا يناسب، بلقب الشبه [فهو رائج]؛ ولا تتوجه عليه إلا مطالبات بيان وجه التشبيه. فإذا أخذ في كلامه، وقرر وجه الجمع، وذكر: أنه لا فارق إلا كيت وكيت وهي باطلة، وأن لا مسلك للقول بالتشبيه إلا هذا- تلقى ذلك منه بالقبول، وانقلب الاستبعاد من جملتهم إلى المطالب، فهذا هو الطريق في [مجاملة هؤلاء الفرق ومجادلتهم].

ولو أحدث محدث رسما آخر، وأراد قطع المطالبة عن نفسه، بمجرد التعليل- لم يصغ هؤلاء إليه؛ وإنما يتلقاه بالقبول طوائف من المشايخ: هجروا وهجر كلامهم، وشهروا بالانفكاك عن التحقيق، بمصيرهم إلى القبول بنوع من التعليل: لا يناسب، ولا يؤثر. فإذا كانت المسئلة رسمية، فعلينا أن ننبه على المراسم، وطريق مكالمتهم. وقد فعلنا ذلك. فإن قال قائل: هذه حكاية مراسم [الجدال] مع التنبيه [57 - أ] على المراشد في مجادلة هؤلاء الفرق؛ [فما الذي ترونه أليق] بمصلحة المجادلة: الاشتغال بالاعتراض على كل طرد يذكر، أو المطالبة بإظهار الوجه الذي منه استقى غلبة الظن؟ قلنا: المعهود من عادة المشايخ- في الأعصار السابقة [على هذا العصر]- الاشتغال بالاعتراض، دون الجمود على المطالبة، فكانوا يسمعون كل قياس ذكر، اشتمل على جمع بين فرع وأصل برابطة؛ [و] كانوا ينقضونه: أن كان منقوضا؛ ويقابلونه بما هو أولى [منه]

من أوصاف الأصل: إن كان مقابلا. وهذا هو الواجب في مصلحة الجدال. وبيانه: أن الجدال لا يخلو أما أن وضع لمقصود الأفحام والإلزام، ومؤاخذة الخصم في مضائق الخصام؛ أو [وضع] لإبداء [مستند فتوى المجتهد] الذي يحل الاعتماد عليه في الفتوى. فإن وضع لإبداء مستند المذهب: فينبغي أن لا تقطع المطالبة عمن أبدى مناسبا أيضا؛ بل يكلف أن يسبر أوصاف الأصل وما يقدر فيها: من مخيلات؛ ثم يسبر الأصول التي تقدر ناقضا؛ ثم يسبر المعارضات بطرقها، ويبين سلامة ظنه عنها، فهو الذي يجوز الاعتماد عليه في الفتوى. وهذا ما أوجبه القاضي [أبو بكر]- رضي الله عنه- في كل مسئلة على كل معلل؛ وقال: ما لم يسبر سائر المعاني والمفسدات، ولم يدفعها- لا يستقر قدمه. وهذا قد اتفق أهل الأعصار على خلافه في مصلحة الجدال؛ لأن الجدال معاونة على النظر، ومصاولة بأسلحة الخواطر والفكر؛ ولو وظف على المعلل ذلك في الابتداء: لم يبق للخصم كلام؛ وانبث الأمر من غير جدوى.

وإذا بطل هذا المأخذ، فنقول: الجدل موضوع لتنقيح الخواطر وامتحانها بالتداور على درجات الفكر؛ ولإفحام الخصم، وقطعه بالإلزامات، ولذلك أجمعوا على قبول التعلق بمناقضات الخصم. وتعلق فريق بالتركيبات- وهم الأكثرون- ولم يجوزوا للمعترض أن يمنع النقض ويدل عليه. إلى غير ذلك: من أمور لا تخفى. فوجب- على الضرورة- رعاية مصلحة الجدال. فنقول الآن: كل طرد ذكره المعلل فهو مسموع؛ ثم هو مردود بطريقة: إن كان مردودا. ولابد وأن يذكر وجه رده بالنقض: إن كان منقوضا؛ أو بالمقابلة بفاسد يقاومه: إن كان فاسدا؛ أو بالمعارضة بتحكم يساويه: إن كان تحكما. حتى يجتزئ المعلل الطارد المفحش في طرده على قرب، ولا يطول الخصام بالمطالبة بإبداء وجه غلبة الظن، وتنازعهما في أن هذا مغلب أم لا، وتحاكمهما إلى أهل المجمع مع افتراق القرائح فيه. وهذا ما عهد من الأولين. فيقول: اتفقنا على جواز التعليل بما لا يناسب. ونفرض مثلا في الجص، فنقول [مكيل فكان ربويا. فقيل: ولم قلت: إن البر ربوي لكونه مكيلا؟ فنقول:]، لابد من طلب علامة [لحكم] الربا،

ولا علامة إلا الكيل. فهما مقدمتان، ففي أيهما النزاع؟ فإن [قال: لا أسلم] أنه لابد من طلب علامة، بل الحكم معلوم باسمه. فهذا سؤال صدره عن إنكار القياس [بل هو عين معتقدهم]؛ فإن قال: أوجب طلب العلامات، ولكن من الأحكام ما يعرف باسمه، فبم تنكر على من يقول: هذا من ذاك؟ فهذا السؤال مقبول، وهو مقاومة في علامة [الأصل] بما يقابله. إذ حاصله رجع إلى أن الحكم في البر معلوم بكونه برا؛ وهو [يقول: وهو معلوم بعلامة الكيل. فقد عارضه بطرد مثله؛ فعليه إبطال] ما ذكره، أو الترجيح. فنبين له- بطريقه- بطلان التخصيص بالاسم، وهو: الإجماع القاطع على أن الحكم غير مقصور على اسم البر والتمر، كما تقدم. أو بطريق آخر يساعده في كل مسئلة، على حسب النظر فيها. فرجع حاصل الأمر [فيه] إلى منعنا إياه عن قوله: لم قلت: إن العلامة هي الكيل، مع الاقتصار عليه؟ بل ننبه على علامة أخرى تقاوم كلامه في كونه طردا؛ وهو: كونه برا؛ إلى أن يفرق ويرجح. فإن قال: سلمت أنه لابد من طلب علامة زائدة على الاسم، ولكن

لم قلت [لا] علامة إلا الكيل؟ - فهذا السؤال مردود مع الاقتصار على هذا القدر؛ فإنه سؤال لا منتهى له. وفي تمهيده حسم طريق الجدال. إذ غايته أن نقول: لا صفة إلا الطعم والقوت [والكيل] والمالية؛ وقد بطل الكل، فللسائل أن يقول: وراء هذا صفة لم تطلع عليها، ولا يلزمني إظهارها. وإنما ينقطع عنه هذا النزاع، بحصر قاطع دائر بين النفي والإثبات- وذلك لا يلفى في الشرعيات- أو بحكاية إجماع على حصر العلل، وذلك لا يساعد إلا في مسئلة الربا: لأن العلماء قصدوا بالنظر الأصل، دون الفروع. وهو على خلاف سائر المسائل. ولو أحوجناه إلى أن يتكلم على القوت والطعم والمالية، ويذكر فيها مسالك الترجيح والابطال- للزمه أن يتكلم على نفس الكيل، وما وجه إليه: من الالزامات؛ وأن يعد شرائط العلل؛ وأنه لا يناقض نصا ولا أصلا. إلى [57 - ب] غير ذلك، ولا يستوعب في أول النوبة جميع المسئلة؛ وانخرم نظام التناوب في الجدال. فطريق المعترض أن يتكلم على الكيل بالنقض وطرق الاعتراضات، أو يقابله بالطعم أو غيره من الصفات؛ ويكفيه ذكرها. وتكليفه الذكر- من غير دليل- أهون وأقطع للخصام من تكليف المعلل حصر سائر

الصفات وسبرها وإبطالها؛ لأن الفوارق والعلامات لا استقلال بحصرها. فإن لم يعرف المعترض غيره، فالمعلل صادق في قوله: لا علامة سواه، وإن عرف غيره: فذكره هين حتى يتكلم عليه. ولو جوزنا [له] أن يضمر ولا يبدي، لانتهى الأمر إلى أن لا يضمر: وهو يدعى الإضمار والامتناع عن الذكر جدالا، وهو غير صادق فيه. وكان ذلك سؤالا لا منتهى له. وعن هذا، قلنا: [لو ذكر اخالة الكيل مثلا]، فليس يلزمه أن يبين [نفي] اخالة الطعم والقوت أو يبطلهما؛ لأن ذلك يقطع نظام التناوب، ولأن ذلك [إتمام للنظر]، والتعليل لابتداء النظر لا لإتمامه، فدل أنه إذا لم يمكن إبطاله لعدم المناسبة، لوجوب القول بما لا يناسب- كما تقدم-: فلو سلم قوله: لا علامة إلا هذا، استقر قدمه، وإن كان كاذبا: فنبين كذبه بذكر الطعم وغيره حتى يجتزئ فهو أولى وأقرب إلى الاقحام والاجتزاء، من أن تكلفه السبر الذي

لا [يتوصل إلى الوفاء] به. وحاصله يرجع إلى أنه لم يظهر لي. فإذا قبل منه بالآخرة [قوله]: لم يظهر لي إلا هذا، فليقبل [هذا] ابتداء، ولينبه على بلادته، وقصور نظره- بذكر الوصف الظاهر للخصم، حتى ينقطع. فإن قال: لا علامة أولى من هذا؛ فلا يقال [له]: [لم قلت؟ أو] بم عرفت أنه لا علامة أولى من هذا؟ بل يقال: بم عرفت أن هذه العلامة أولى من علامة الطعم؟ حتى يلزمه الكلام عليه. فإن قال: إنه لا يناسب. قيل له: والكيل لا ينسب. فكذلك يقاومه رتبة بعد رتبة، لينتظم ترتيب الجدال. ويبين أن هذا الوصف: هل سلم عن المعارضة بما هو أولى منه: فيعتمد، أو لم يسلم: فيطرح؟ فإن قيل: رجع حاصل استدلال المعلل إلى أن دليل صحة علامتي عجزك عن إظهار علامة [أخرى] أظهر منها؛ وهو راجع إلى

أن دليل [صحة ما ذكره عجزه] عن [علامة] الإفساد. ولو فتح هذا الباب؛ فلقائل أن يقول: وراء هذا الجبل غزالة، [ودليل صحته عجزك عن الإفساد]. وجبريل [الآن] في السماء [الرابعة]، ودليل صحته عجزك عن الإفساد. والإنسان قد يعجز عن إفساد [ذلك]، ولا يكون دليلا. قلنا: [نعم] إلى هذا يرجع؛ ونحن نقول: هذا فاسد، ولكن نذكر فساده؛ [فيقال: لا، بل ليس وراء هذا الجبل غزالة، ودليل صحة قولي عجزك عن إفساده]، وإذا صح قولي: فسد قولك. وجبريل ليس في السماء الرابعة بل في السابعة؛ ودليل ذلك عجزك عن إفساده. فهذا الطريق أقرب إلى إفحام الخصم، من الإصرار على بارد المطالبة، وصرفه إن كان الرجل مجازفا في قوله: لا علامة أولى مما ذكرته، ودليله عجزك عن إظهاره، وربما يكون صادقا ومعتمدا عليه؛ عرف ذلك بالبحث والعجز عن العثور على وجود وصف آخر أصلا، أو في وجود وصف آخر أولى منه. فيستقر قدمه، ويكون- في الابتداء- دليله على خطر الفساد:: بالمقابلة بما هو مثله، كما في المناسب.

وذلك لا يدل على خروجه عن كونه على مرتبة من الكلام يلزمه إفساده بطريقه. وعلى الجملة: لو سلم أن لا علامة أولى مما ذكره، لاستقام كلامه، ولا يعرف نفي العلامات إلا بالسبر؛ والوفاء بالسبر في الجدل غير ممكن على وجه يقطع السؤال؛ ويلزم عليه إلزام السبر في المناسب أيضا، كما ذكره القاضي. فإن قيل: المناسب إذا ظهر فهو بظهوره يستثير ظنا، ثم يزول ذلك الظن بالنقض والمعارضة، والوصف الذي لا يناسب [لا استثارة المظن إلا بظهوره وسبر] ما وراءه من العلامات والفوارق [فأول حصول الظن فيه] بالسبر؛ فيلزم ذلك بخلاف المناسب. قلنا: لا، بل رب وصف غير مناسب يصح التشبيه به؛ وهو بظهوره يستثير ظن الجمع قبل البحث عما وراءه. كقولنا: طهارة حكمية؛ فإنه ينبه في مبتدأ الأمر، على التقارب وعسر الفرق، قبل سبر الفروق الكثيرة المشهورة لأبي حنيفة بين التيمم [والوضوء]. ولو لم نكتف بما أظهره: للزمه أن يتكلم على كل [فرق مهم ويبين بطلانه]؛

ويتوجه عليه بالآخرة أن فرقا آخر غادرته ولم تطلع عليه. ولا منتهى له. فتكليف المعترض ذكره أولى من [تكليف المعلل] السبر؛ لأن المعترض لا يعدل عن الإظهار- مصرا على المطالبة [58 - أ]- إلا لعلمه بضعف الفرق، وأنه لا يقاوم الجمع. فإن قيل: فليقبض من المعلل الوصف الذي يستثير الظن، دون الوصف الذي لا يستثير. قلنا: شرط ذلك في الجدال مستحيل؛ لأن إثارة الظن تختلف بالأشخاص، ويطول فيه النزاع: فيدعى المجيب أنه مثيره، وينكره المعترض، ولا يمكن إثباته بيمين ولا بشاهد؛ فربما لا تجرى المناظرة في مع، فإن جرت: فالجمع يختلفون- أيضا- في اعتقاد كون الوصف مثيرا. فاستحال- في مصلحة الجدال- فتح هذا الباب؛ بل وجب القول بأن ما لا يثير الظن- عند المنصف- فذلك: لأنه يجاوره على القرب ما هو أولى منه. فليذكره حتى يفتضح؛ فهو أولى من رد الأمر إلى معيار مضطرب: تختلف فيه القرائح والفطن [ويبقى النزاع ناشبا

لا ينقطع]، وهذا قطعي عندنا في مصلحة النظر، يعرفه من كثر تدواره على الأشباه في المناظرات. فإن قيل: [إن كان في فتح هذا الباب نوع عسر لا وفاء به، وضرب خصام لا مقطع له؛ ففي المصير إلى ما صرتم إليه، فتح باب في الهذيان: لا منتهى لقبحه، وتعترفون ببطلانه] من غير احتياج إلى الاعتراض عليه، كقول القائل: الخل مائع لا تنبى النقاطر على جنسه، فلا تزال النجاسة به كالدهن واللبن. وكقولهم: [الخل مائع، فتجوز إزالة النجاسة بعينه كالماء] وكقول بعض المستهزئين: الذكر طويل مستدار فلا تنتقض بمسه الطهارة كالمنارة. ولا ينقطع هذا الجنس عما ذكرتموه: بأنها حسيات؛ فإن الأوصاف الحسية قد تصلح للتشبيه والتعليل عندكم. ورب وصف حكمي لا يصلح، بل هو باطل بلبديهة، كقول القائل: تجب قراءة الفاتحة في الصلاة، لأنها عبادة ذات تحليل وتحريم، فيشترط فيها ذو عدد سبع: كالحج، أو أحد عددي صوم التمتع، فلا تصح الصلاة دونه كالثلاث. والمراد به: آيات الفاتحة.

أو: الثلاث إحدى مدتي المسح، فلا يجوز الاقتصار عليها في الصلاة كالواحد، إلى غير ذلك: من الهذيانات، فإن [من] مساق كلامكم أن كل ذلك مسموع: يجب الاعتراض عليه. قلنا: الذين ذهبوا إلى وجوب الاعتراض على الطرد بطريقه- كما تقدم- حاولوا الانفصال عن هذا الجنس، فقالوا: إنما يجوز التعليل بوصف موجود مع الحكم- وإن كان لا يناسب- بشرط أن يصلح لإضافة الحكم إليه. ومنهم من قال: يشترط أن لا تستحيل إضافة الحكم إليه. ومنهم من قال: يشترط أن يكون له في القلب خيال الصحة. وقطعوا- بهذه الشرائط- أمثال هذه الأمثلة، عما قبلوه. ونحن نقول: هذه الشرائط في الجدال فاسدة؛ إذ يكثر النزاع فيها، فأكثر الأوصاف يتنازع الخصمان في أنها تصلح، أو [أن] لا تستحيل إليه الإضافة، أو له في القلب خيال الصحة. فإن هذا يختلف بالطباع؛ ورب طرف ظاهر تتفق الطباع عليه، ولكن يعاند المعاند بذكره. فلابد من طريق في قطع لسانه، سوى تحكيم العقلاء، [أو تحكيم]

الحاضرين؛ [فإن الأمثلة الواضحة على الطرفين- في النفي، أو في الإثبات- مما يقل؛ والأكثر هو الأوساط الدائرة بين الطرفين ويطول فيه النزاع]. فأقول: هذه الأمثلة لا يتصور أن يذكرها جاد في الكلام؛ وإنما تذكر على سبيل الاستهزاء؛ [أو على طريق] اللعب بالمبتدئين، أو على طريق التحدي بتمشية الفاسد، وإفحام الخصم بالسلاح الضعيف، كمن [يزعم: أنه] يقاوم الأسنة بأحداقه، [ويصادم النبال بأشداقه؛ شجعا على ضعيف: لا يحتمل السيف والسنان. فإن فرض معاند يذكر شيئا من ذلك، أمكن إفضاحه- على قرب- بما يقطع لسانه، دون أن يذكر له أنا نعلم- بالضرورة- بطلانه؛ فإنه يقابل ذلك] بالجحد؛ وإنما علم بطلان هذه الأمثلة بالضرورة: بالطريق الذي ذكرناه أولا، وهو: وجود ما هو أولى منه [وأقرب]، ودرك قرب غيره بالبديهة من غير احتياج إلى تأمل. [فإن ذكر معاند ذلك، فطريق الجدال عندنا]: إفحامه بطريقه، وهو: أن يقال مثلا: استويا في الطول والاستدارة، ولكن افترقا في أن

هذا ذكر، وذلك ليس بذكر؛ وأن هذا يخرج منه المني، وذاك لا يخرج. [وهلم جرا إلى هذيانات تقابله]. فينقطع به ويجتزئ؛ ويقال [له]: لم يكن امتناع الإزالة بالدهن، لامتناع بناء القنطرة عليه؛ بل لما فيه: من الدسومة؛ بخلاف الخل. فيجتزئ. [ويقابل قوله: الخل مائع، فتجوز إزالة النجاسة بعينه، كالماء: بأن الخل ليس ماء، فيتعين إزالة] النجاسة بغيره، كالدهن. ولسنا نذكر هذا: لأنا نقدر عاقلا يتعلق بمثله، ويهدف نفسه للافتضاح، وعرضه للتعرض، [وإنما ذكرنا هذا: لنبين] أن طريق الجدال الاعتراض، كما ذكرناه. إذ التمييز بما تقدم لا ينقطع عنه الخصام، [ولا ينبغي أن تنفر الطباع عن هذا الكلام؛ وليعلم] أن امتحان القرائح بالمجادلة [بهذا الجنس] كامتحانه بالمجادلة بالحقائق. فهو- من حيث الإلزام والإفحام، ورعاية الانتظام في الكلام، ومؤاخذة الخصم في مضائق الخصام- غير مختلف. نعم: الامتحان بنوع من التحقيق تكثير فيه الجدوى، [أولى. فلذلك نرى هذا الجنس مهجورا

من ذوي الجد]. [وإنما يذكر هذا الجنس للعب] والاستهزاء. [58 - ب] فبطلان هذا الجنس- عندنا- ليس لتمييزه عما تقدم بذاته، بل هو الوجه الذي يبطل به ما تقدم: من ظهور ما هو أولى منه؛ إلا أن ظهور غير ما ذكرناه في هذا المقام قد يدرك بديهة. وفيما تقدم قد يدرك بنوع تأمل. فهذا هو البيان الشافي في [إظهار] مصلحة المجادلة، وهي لازمة على كل قائل بالشبه لزوما ضروريا؛ وإن لم يقل به: انتهى في كل تشبيه نذكره، إلى الانقطاع الصريح الذي لا مخرج له منه بطريق الجدال، [إلا] بطريق الاستبصار والاستشهاد، ومجرد الاستبعاد من غير كلام ينصب في قال الجدال على السداد، فهذا منتهى المراد [في هذا الكلام].

القول في بيان ما يعده العامة من الشبه الذي قدمناه، وليس منه وهو أنواع ثلاثة ترجع جملتها إلى إتباع العلامات الجامعة، بعد قيام الدليل على وجوب طلب العلامة. فقد ذكرنا أن لقياس الشبه عمادين، يترجمها قولنا في حكم الربا: [انه] لابد من طلب علامة، ولا علامة إلا الطعم. وأن منشأ غموض هذا الجنس من القياس، قولنا: لابد من طلب علامة؛ والخصم ينكر هذا الوجوب، ويقول: العلامة المعرفة: الاسم المذكور في النص، أو الحد المعلوم بالإجماع؛ وإنما وجوب التعدي عند العثور على علامة مناسبة. فأما إذا سلمت المقدمة الأولى- وهو: أنه لابد من طلب علامة. فلا يسع لأحد من القائسين أن ينكر طريق السبر والترجيح، في تجاذب العلامات بعد حصرها بطريق الاجتهاد، إذا دل الدليل على وجوب إضافة الحكم إلى علامة زائدة على الاسم الخاص. النوع الأول من ذلك: إتباع الشبه في جزاء الصيد من التمثيل بالنعم، كمصيرنا إلى أن في النعامة بدنة، وفي اليربوع جفرة، وفي الغزال عنزا، وفي الظبية شاة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الضبع كبشا،

وفي الأرنب عناقا، وفي الضب جديا [جمع الماء والشجر]؛ إلى غير ذلك. فهذا وأجناسه عده عادون من جملة قياس الشبه؛ واستدلوا عليه [بصحة التشبيهات] بالصفات الخلقية؛ وهو خيال باطل، [وتمثيل مائل. إذ] قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، فمن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل سن النعم}. فأوجب المثل وحصر في النعم، فكان طلب الوصف- الذي به تقع المماثلة- واجبًا بحكم النص. فسلمت المقدمة الأولى، وهي الغامضة من قياس الشبه، وإذا سلم ذلك فلا يمكن طلب المماثلة إلا بالخلقة، ولا تعويل إلا على المماثلة في الصغر والكبر؛ فإن الصيد والنعم لا يتماثلان في الألوان والصفات والعادات؛ فصار النظر في تعيين الصفات التي إليها النظر في المماثلة- واقعا من جملة النظر في المقدمة الثانية؛ وذلك ضرورة كل [قابل للشرع] [وقائل به. ومثاله:] إيجاب الشرع مهر المثل. وتعرفنا ذلك بالنظر إلى مثل الموطؤة من نساء العشيرة؛

وإنما يعرف كون غيرها مثلا لها: بالجمال والورع، والصلاح والنسب، وجميع الصفات؛ [بنوع نظر]. وكذلك أوجب الشرع الكفاية في نفقة الولد، وقيس به الوالد؛ إذ قال عليه السلام لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»؛ وإنما تعرف كفاية الولد، بالنظر إلى مثله: في السن والصحة، والقوة والسلامة، وغير ذلك: من صفات تؤثر في الحاجة إلى الطعام. ويلتحق بهذه الجملة معرفة القيم [المختلفات]؛ فإنها تعرف بالقياس إلى الأشباه والأمثال والنظائر. وتقدير كفاية الولد [بما ظهر] بالاجتهاد في النظر إلى المثل، أظهر من قياس الوالد على الولد، مع أن اعتباره [به] برابطة البعضية، يلتحق بالأقيسة المناسبة. فإذا كان هذا القياس أجلى من المؤثر، فكيف يدرج في غمار الشبه الضعيف [الذي قدمناه؟] أو كيف يستدل به على صحة الشبه الضعيف؟ فكل صفة تبعدنا بطلبها، فطلبها بالسبر والحصر والترجيح والاجتهاد حتم لا يسع [لأحد] خلافه. ولهذا نقل عن أبي هاشم

- هو من منكري القياس- القول بإتباع الشبه في مسئلة جزاء الصيد، متعللا؛ بأن ذلك منصوص عليه. فبان بذلك أن هذه رتبة علية في الاجتهاد؛ وسببه: ثبوت المقدمة الأولى بالنقل؛ وهو منشأ الغموض في قيس الشبه. فإن قيل: احتمل أن يكون المعنى بالآية المثل من النعم في القيمة؛ وهو أن يشتري بقيمته مثله من النعم. قلنا: إن كان هذا هو المراد، فرعاية المماثلة وإيجاب [59 - أ] المثل من النعم أصلا بالشبه الخلقي- باطل قطعا؛ فإن كان المراد منه ما ذكرناه: فإيجاب القيمة باطل قطعا، أما النظر في أن المراد منه ماذا؟ [ف] طريقه طريق التأويل والتصرف في الألفاظ. وقد صح لنا- بعمل الصحابة وأفضيتهم في بلاد مختلفة، وأوقات متفاوتة، بمثل ما حكمنا به- أنهم فهموا من الآية ما ذكرناه. وغرضنا أنه إن بان [أن المراد] تلك المقدمة، لم يكن هذا من القياس؛ وإن لم يتبين: فليس طلبه من الآية على مذاق مأخذ وجوب

طلب العلامة في قاعدة الربا. النوع الثاني من ذلك: ما عرف مناط الحكم فيه بالإجماع، ثم سنحت واقعة تركبت من مناطين ازحما عليه، فتتجاذب أطراف الكلام في الترجيح. وهذا ينقسم: إلى ما يزدحم عليه المناطان المتناقضان، فيوجد كل مناط على كماله بتمام صورته. وإلى ما يتركب منهما، فيكون ممزوجا في ذاته، متركب المزاج من القسمين؛ فيتكلم فيه بالتغليب بالشوائب. أما مثال القسم الأول: فكنظرنا في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة؟ وهي تتقدر في نفسها؟ وذلك: لأن الإجماع منعقد على أن بدل الدم مقدر، وأن بدل المال غير مقدر، وقد ازدحم على العبد كلاهما؛ فهو إنسان كامل حامل لأمانة الله تعالى ومكلف كالأحرار؛ وهو مال متحول كالفرس والثوب. فمن قدر: لم يخرج عن تقدير بدل الدم، وهو مناط التقدير بالاتفاق. ومن لم يقدر: لم يخرج عن ترك التقدير في بدل المال، وهو علامة لعدم التقدير. ولكن ازدحمت علامتان: تناقض حكمها، وعلم كونهما علامة بالإجماع. فكانت العلامة في أصلها معلومة كونها مناطا، ومعلوم الوجود في المسئلة، فيتعين طريق الترجيح على كل قائل بالقياس. وكذلك القول في ضرب بدله على العاقلة. وكذلك القول في أنه

هل يملك أم لا؟ لأن الإنسان يملك والمال لا يملك؛ وهو موصف بكلا الأمرين: بالإنسانية والمالية. ولسنا نحيل أن يعثر باحث في هذه المسائل، على وصف يناسب حكمها في النفي والإثبات فيتبعه. ولكن لو قدر فقد المخيلات المناسبات، واعترف المعترف بها- وجب عليه طلب الحكم عن الطريق الذي ذكرناه. وكذلك قد لا يسلم أن المقدر بدل الدم، بل يقول: المقدر بد دم الحر؛ ويستشهد بالقليل القيمة. فيخرج النظر عن مقصود المنال. ولكن لو ترك ذلك الطريق- أيضا- فما ذكرناه- من طرق النظر-[متبع]، فلينتبه الناظر لمقصدنا من سياق كل كلام، ولا ينظرن بعين السخط، ولا يتشوفن- بسبب الحرص على الطعن- إلى تشويش هذه القواعد، بالتحوم على أمور غير مقصودة: قد لا نتعرض لأمثالها أحيانا، اتكالا على قرائح المسترشدين [وعلما منا بتنبههم لها دون التنبيه]. وإذا بان أن ما ذكرناه طريق، فليس هو من الشبه المقدم؛ فإنا قدمنا أن له عمادين، وأن الغموض في تمهيد العماد الأول، وهو: طلب العلامة مع الاستغناء عنها بالاسم المعروف. وهذا الغموض مندفع في هذا المثال أيضا.

وكذلك لا يبعد قول القائل: إن قياس الشبه- على الحد الذي تقدم في مسئلة الربا- في محل الاجتهاد، وليس مقطوعا [به]، وهذا- الذي ذكرناه الآن- القول به مقطوع به؛ بل يضطر إليه كل ناظر متقبل للشرع. ثم الترجيح في [مثل] هذا المقام، بين المناطين للحكم، قد يكون بالذات كقولهم: النفسية أصل والمالية عارض: إذا يبقى بعد العتق إنسانا، ولا تبقى المالية مع فوات الإنسانية. وقد يرجع بالالتفات إلى الأحكام، كقول أصحابنا: أن البدل مصروف إلى السيد؛ ترجيحا لقضية المالية، ورعاية لجبر جانبه، فليرع في القدر ما يحصل به الجبر، كما روعي في الأصل ذلك، إلى نظائر لذلك هو من مسالك الفقهاء، وقد استقصيناها في مواضعها. وقد لاح انفصال هذا- أيضا- عن الشبه الضعيف الذي قدمناه، وإن كان ذلك- أيضا- مقولا به. وقد نقل عن أبي هاشم أنه قال: لا يجوز أن يثبت بالقياس إلا حكم

ورد الشرع بجملته، فيدخل بالقياس تفصيل تحت الجملة الثابتة، حتى لو لم يثبت ميراث الجد والأخ على الجملة نصا، لما جاز الخوض في ميراثهما عند الاجتماع بالقياس. وظني أنه أراد بما ذكره استثناء القاعدة التي نحن فيها، عن محل إنكاره من المقاييس. فإنه ثبت جملة أن بدل الدم مقدر، وأن بدل لدال غير مقدر؛ ونحن- على أي وجه ترددنا- لم ننحكم بما لم يرد الشرع بجملته؛ بل أدخلنا واحدا مفصلا تحت جملة سابقة معلومة بالشرع. فبهذا يتبين انقطاع هذا عن الشبه المذكور الممثل بعلة الربا، وهو واضح لا شك فيه. وإذا عقل وجه الفرق: فلا حرج في إطلاق لفظ الشبه [59 - ب]، فهو صالح لأن يطلق على كل قياس. ومثال القسم الآخر- وهو: المركب المزاج في ذاته من العلامتين والمناطين للحكم- قولنا: أن [حكم] اللعان مشوب مركب من شائبة اليمين والشهادة؛ لأنه يتقيد بقوله: أشهد، ويتقيد بالحلف الذي يتضمن تصديق الحالف؛ فإذا سنح حكم في اللعان: لا يتوافق فيه اليمين والشهادة؛ وجب الترجيح بالتغليب لأحد الشائبتين. وكذلك إذا قلنا: إن حد القذف مركب من حق الله عز وجل،

وحق الآدمي. ففيه شائبتان؛ والكفارة مركبة من العقوبة والعبادة؛ وزكاة الفطر مركبة من المؤونة والعبادة؛ والظهار مركب من الطلاق والقذف. فإذا اتفق حكم هذه الشوائب: لم تشتبه، وإذا تناقضت: وجب النظر إلى الغالب. ويعرف الغالب مرة بالنظر إلى الذات، والبحث عن خاصية [نفس] كل ركن قدر شائبة. وقد يعرف بكثرة الأحكام، وقد يعرف بوجود حكم خاص قوي في الشهادة للمقصد المعلوم. وكل ذلك يعلم بطلب من هذه المسالك: إذا فقدت المعاني المناسبة. وغرضنا أنها إذا فقدت: فالأخذ من هذه الجهات واجب بالإتقان بين القائسين. وليس ذلك واقعا في محل الخلاف المقدم في قياس الشبه السابق: لأن مناط الحكم معلوم بالإجماع، وقد وجد على مزاج التركيب، فهو كمتولد من أصلين مختلفين، ومتركب في المحسوسات من لونين يعرف بالحس أن الغالب عليه أيهما، فكذلك يعرف بالنظر في هذا المقام. وقد يتقابل الأمر فيتوقف المجتهد، كما تردد الرأي في أن الظهار إذا تكرر على التوالي هل يتعدد حكمه؟

والقذف إذا تكرر لم يتكرر حكمه، وهو خبز زور كالقذف؛ والطلاق إذا تكرر: تكرر حكمه، والظهار من طلاق الجاهلية وهو سبب للتحريم؛ وقد تصرف الشرع فيه بنوع من التغيير. ويمكن إلحاق هذا المثال بالشبه السابق؛ فإنه ليس يتبين أن علامة التكرار كونه طلاقا، وأن علامة عدم التكرار كونه قذفا؛ فإن كان: فالظهار ليس طلاقا ولا قذفا. ولكنه جنس آخر: شابه القذف بصيغته، وهو: أنه كلمة زور؛ وشابه الطلاق بحكمه، وهو: أنه سبب للتحريم. فإذا قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ تكرر حكمه. وإذا قال: أنت زان أنت زان، أنت زان؛ لم يتكرر حكمه. فإذا قال: أنت علي كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي [أنت علي كظهر أمي] فهو دائر بين [هاذين] الأصلين، وقد قررنا عدم العثور على علة تناسب التكرار وعدمه؛ فالوجه أن يقابل الطلاق بالقذف، وتطلب علامة

فارقة: إذا لم نعثر على مناسب فارق. ونعرض الظهار على تلك العلامة. ويلتحق هذا الوجه- من التمثيل- بالشبه الذي تقدم وإنما غرضنا أن المركب تحقيقا يجب الحكم فيه بطريق التغليب، فلو [أنكرنا القول] بالشبه السابق لوجب القول بهذا الجنس. فإن قيل: فما وجه غلبة الظن فيه؟ قلنا: إذا ثبت أن إحدى الشائبتين أغلب، فثبوت الحكم على وفقها أغلب على الظن من ثبوت الحكم على وفق الشائبة المغلوبة؛ لأنا نقدر المناط الشرعي متضمنا لوجه في المصلحة واللطف غاب عنا، ونقدره مقرونا بالعلامة والمناط الظاهر، فإذا غلب ذلك المناط: كان ذلك دليلا على غلبة المصلحة التي هي في ضمنه، بحسب غلبتها. نعم: لا ننكر- من حيث التجويز- احتمال تغير المصلحة بهذا التركيب؛ ولكن كما نتوهم تغير مصلحة العلامة الغالبة، نتوهم- أيضا- تغير مصلحة العلامة المغلوبة. والتغيير إلى المغلوب أقرب، وبه أولى: إذ نقدر وجود حيزين من المصلحة بحسب وجود العلامتين؛ فنقدر غلبة مصلحة العلامة الغالبة، على مصلحة العلامة المغلوبة؛ فابتاعه أغلب عند المقابلة بمعارضة المغلوب في جواره. وإنما الغموض في بيان وجه

التغليب. فأما بعد وضوحه، فلا غموض في وجوب إتباعه. فإن قيل: إنما أثبت الشرع الحكم عند اتحاد مزاج المناط والعلامة؛ فإذا تركب كان المركب واقعة أخرى غير المفرد؛ فلم تكن إضافة الحكم إلى المناط فيه واجبا، فمن يدعي وجوب طلب العلامة، فعليه الدليل. وعند ذلك يلتحق القول بالشبه الذي قدمتموه؛ إذ تطرق النزاع إلى المقدمة الأولى، كما سبق. قلنا: ليس الأمر كذلك، فإن وجوب طلب المناط ها هنا ظاهر، لأن الحكم متناقض، والتخلية عنهما غير ممكن، والجمع غير ممكن، والتخصيص لا يعقل إلا بالترجيح؛ فكانت هذه الضرورة ظاهرة في وجوب طلب الترجيح. لا كواقعة الربا: إذ لا ضرورة في طلب علامة بعد معرفة الحكم باسمه؛ ولم يتركب الجص من أصلين: عرف [60 - أ] ارتباط الحكم بأحدهما على القطع في الشرع؛ حتى يتعين تغليبه. فكان هذا من فن لا ينازع فيه المنكرون للشبه، ولا تسعهم المنازعة فيه. والدليل على أن الاحتمال الأغلب يجب إتباعه في هذا الجنس، ما روى عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش وقد استحيضت: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي

عنك الدم وصلي». وهذا لا يقال إلا لمن تميز بين الدمين بلون السواد، على ما عرف؛ وهو علامة على الحيض تميزه عن الاستحاضة، وليست قاطعة، ولكنها علامة ظاهرة تحتذى، ويشبه ذلك قياس المعنى المناسب: فإن العلة المناسبة تحتذى وتتبع وجودا وعدما. وقد روى أنه- عليه السلام- قال لأخرى حين استفتت لها أم سلمة رضوان الله عليها: «لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، ثم لتغتسل ولتستتفر بثوب ولتصل». وإنما قال ذلك لمن أعوزها التمييز. وهو مشبه بقياس غلبة الشبه، فإن العادة تحتمل التغيير؛ ولكن- مع ذلك- الاستمرار أغلب من التغيير؛ فرد إلى الأغلب، وترك الاحتمال

المغلوب بالإضافة إليه. وقال صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش وقد استحيضت: تحيضي في علم الله ستا أو سبعا، كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرهن»، وهذه كانت قد أعوزها التمييز والعادة؛ فردت إلى عادة النساء: لأن الموافقة أغلب على الطباع- مع اتحاد الإقليم والبلد- من المخالفة، والمخالفة- أيضا- غالبة ليست نادرة؛ ولكنها- بالإضافة إلى الموافقة- مغلوبة، وهذه رتبة دون الرد إلى عادتها، والرد إلى عادتها دون الرد إلى التمييز. وكل ذلك إتباع للظن، وهو شاهد لصحة إتباع الأغلب في تغليب الشوائب: من حيث أن الحيض عرف حكمه نصا، والاستحاضة عرف حكمها نصا؛ ووقتها بعد مجاوزة يوم وليلة من أول الاستحاضة إلى خمسة عشر [يوما]، متردد محتمل للحيض والاستحاضة، فأمرنا أن نأخذ بأغلب الاحتمالات عند الاشتباه. وهو راجع إلى تمييز مناط عن مناط، معلومين بالشرع بالظن الغالب، فهو يشهد لهذا الجنس. وقد يشهد أيضا- من بعد- الشبه الذي ذكرناه في مسئلة الربا- وهو المختلف فيه بين العلماء- بعد ما ثبت وجوب طلب

العلامة؛ فأنا- في مدارج العلامات- نأخذ بالأقرب فالأقرب، والأغلب [فالأغلب]، كما أمرنا في هذه القاعدة بإتباع العادة مع التمييز؛ وهي علامة ناجزة قد تقرر ضعفها، ولكن عند عدمها تتعين؛ وعادة النساء مع وجود عادتها كالطرد الساقط المغلوب، ولكن- عند عدم عادتها- إتباعها أولى. ثم يحتمل أن يقال: إتباع نساء العشيرة أولى، لأن الموافقة فيه أغلب من إتباع نساء البلدة؛ ولكن قد يترك لنوع عسر يلفى فيه، فإنه ربما تختلف العادة بعمتيها وخالتيها، وأختيها: وكانت إحدى الأختين مثلا لأب وأم والأخرى لأب، إلى غير ذلك: من اضطرابات لا يمكن الوفاء بها، [وغالب عادة] النساء على الست والسبع أمر مستمر لا يختلف؛ فيرجع إليه لذلك. وهو بعينه نظير التدوار على مراتب العلامات: في القرب والبعد، والخصوص والعموم، كما سبق ذكره في مسئلة [علة] الربا. النوع الثالث من ذلك: ما علم مناط الحكم فيه على الجملة، ووقع

النظر في تنقيح المناط: بإلغاء بعض القيود والاختصاصات أو اعتبارها، والتداور فيها على أمور عقل من الشرع تأثيرها في الأحكام. وذلك ينقسم: إلى ما عرف المناط فيه بورود الحكم مرتبا على وقوع الواقعة، وإلى ما عرف بالإضافة اللفظية بصيغة التسبيب؛ من الترتيب بفاء التعقيب، وترتيب الجزاء على الشرط، كما سبق في مسالك الإيماء، وإلى ما عرف مناط الحكم فيه بحدوث الحكم عند حدوث العارض.

مثال القسم الأول- وهو المعلوم بالورود على الواقعة- ما روى أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: «أعتق رقبة». ففهم من مورد الشرع أمران، أحدهما: وجوب الكفارة على الأعرابي. والثاني: تعليقه بما صدر منه، وجعل الفعل الصادر منه موجبا. ولم يكن هذا كورود الشرع بتحريم الخمر، وجريان الربا في البر، فإنه لا يفهم من مجرد وروده إلا الحكم في المحل المسمى، ولا يفهم تعليق الشرع إياه بمناط [الحكم ومتعلقه]، بل تستثار- بالاستنباط والنظر- علته ومتعلقه. وفي مثالنا هذا، عرف الحكم على السائل، وعلم وراءه تعلقه بسبب، وهو الصادر منه. ثم الصادر منه مقيد بقيود، وواقع على [60 - ب] أنواع خصوص؛ فالنظر في حذف تلك القيود أو اعتبارها- تداورا على ما عقل من مورد الشرع، وفهم كونه داخلا في الاقتصار والإيجاب- نظر واجب مقول به بالاتفاق. ولا يجوز أن يكون واقعا في رتبة الشبه المختلف فيه، بل لا يجد قياس إلى إنكار هذا الجنس، سبيلا.

ولذلك قاس [به] أبو حنيفة في إلحاق الأكل بالجماع، مع إنكاره القياس في الكفارات. وقد عبر بعض الأصوليين- عن هذا الجنس- بالاستدلال على موضع الحكم، وزعم: أن ذلك لا يسمى قياسا، وسماه أبو زيد الدبوسي: دلالة الخطاب. وسماه فريق: قياس الشبه. وغرضنا أن نبين أنه [مقول به] بالاتفاق، وليس داخلا في قبيل الشبه الذي اختلف فيه المتقبلون للقياس. وبيان هذا الجنس من التصرف بالمثال: أن الجماع في حق الأعرابي وقع على وجوه في الخصوص؛ إذ كان حرا بالغا ذكرا، فالحكم به في العبد والصبي والمرأة إذا جومعت- مأخوذ من النظر في تنقيح المناط. وهو بالإضافة إلى المرأة- أيضا- تقيد بخصوص: إذ صادف آدمية حية أنثى منكوحة حرة. فالحكم به في الجماع المصادف للبهيمة، والميتة، والإتيان في غير المأتى من الرجال والنساء، وفي المملوكة التي ليست منكوحة، وفي المنكوحة الرقية، وفي الأجنبية المحرمة- مأخوذ من فهم المناط [وتنقيحه].

وهو بالإضافة إلى العبادة التي لاقاها وأفسدها، مقيد بكونه صوما فرضا أداء عن رمضان. فالحكم فيما ليس بصوم كالحج، وفي النفل في أداء صوم آخر، وفي القضاء- مأخوذ من فهم المناط. وهو بالإضافة إلى نفسه- أعني الجماع- مخصوص بكونه إفطارا بمقصود، وهو قضاء شهوة الفرج. فالحكم في ابتلاع الحصاة وليس بمقصود، وفي الأكل وليس بقضاء شهوة الفرج- مأخوذ من النظر في فهم المناط. فهذه وجوه من القيود والخصوص اتفقت [في الواقعة التي فيها الحكم]. وبعضها محذوف لا مدخل له في الاقتضاء، وبعضها معتبر، وبعضها مختلف [فيه، و] التدوار- في الإلغاء والإبقاء- على تأثيرات معقولة من مورد الشرع، ومناسبات مفهومة تترقى في رتبتها عن الشبه المقدم المختلف فيه، ولذلك لا يتصور الخلاف من القائسين، في [هذا] الجنس. والضبط في هذا: أن ما عرف كونه مؤثرا أو مؤيدا لتأثير الأصلي، فلا يلغي، وما علم أنه لا مدخل له في اقتضاء الحكم، فيلغى

وبيانه: أن القيد في حق المجامع بالحرية والذكورة والبلوغ. أما البلوغ فمراعى، فلو جامع الصبي في نهار رمضان وهو صائم، فلا كفارة عليه؛ لأنها- على الجملة- منوطة بنوع جناية على حق الله عز وجل، على مذاق العقوبات، وقد بان من الشرع أثر الصبا في إسقاطه، فلا يلحق به الصبي. وأما العبد، فيلحق به. وهو كالحر المعسر، لأنهما- في التكليف ووجوب عبادة الصوم- يستويان، ولم يعرف للرق تأثير في التسليط على إفساد العبادات. وأما المرأة فملحقة عند أبي حنيفة- وهو أحد قولينا- بالرجل، وإن لم يتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن كل عقوبة منوطة بالجماع، سوى الشرع فيها بين الرجل والمرأة. ونحن [قد] تفرق- على قول-: [لأنها ما] أفطرت بالجماع؛ أو لأن للأنوثة تأثيرا في إسقاط الغرامات المالية المتعلقة بالجماع: كالمهر، وثمن ماء الغسل، وغيره.

وأما القيود في حق المحل- وهو المرأة- فلا تأثير للحرية ولا للحل قطعا، فالأمة والأجنبية في معنى المنكوحة الحرة: إذ لم يعرف للنكاح وللحل مدخل في إيجاب الكفارة، فالتحق ذلك بالزمان المخصوص والمكان المخصوص، إذ لا مدخل لهذه الأوصاف في التأثير، ولا في تأييد المؤثر، إذ عقل أن الكفارة وجبت لنوع جناية [على حق الله تعالى] والجناية لا تتأثر بهذه الصفات، كما لا تتأثر بالزمان والمكان. وأما جماع الميتة والبهيمة والإتيان في غير المأتى، فهو في محل النظر: فالشافعي- رضي الله عنه- يوجب الكفارة؛ فإنه قضاء شهوة

بالجماع. بخلاف الإنزال بين [غضون السمن والأفخاذ]. فإن ذلك ليس جماعا. وأبو حنيفة يقول: هذا يسمى جماعًا مجازًا، وليس المحل محل الشهوة في الأصل، إلا في حق المضطر. فلا تتعدى إليه الكفارات. وأما قيود العبادة، فهي مرعية. فأما إفساد الحج بالجماع، فقد ورد نص بالواجب فيه، وأما القضاء والتطوع وغير صوم رمضان- فلا يلتحق به. إذ عرف من الشرع تعظيم هذا الشهر الحرام. فكان له تأثير في تفخيم الجناية وتفاحشها. فلم تحذف هذه القيود. وأما الجماع نفسه، فقد ذهب مالك- رضي الله عنه- إلى حذف

قيوده، وأوجب بابتلاع الحصاة، وقال: الجناية من حيث كان إفسادا، والكل مفسد: موجب للقضاء مفوت لفضيلة الوقت. وأبو حنيفة اعتبر كمال الإفطار بمقصود تتشوف النفس إليه [61 - أ] فإن هذه عقوبة بإزاء جناية، فتتأثر بما يؤثر في إثارة [باعثة] التشوف. فساعده عليه الشافعي- رضي الله عنه- وزاد، فاعتبر كونه جماعا: لأن توقان النفس إليه لا يسكن بمجرد وازع الشرع؛ وقد ظهر للجماع المحظور تمييز في الشرع عن غيره، إذا صادف الحج أو ملك الغير. فهذه وجوه من التصرفات معقولة من مورد الشرع. إذ فهم أن الكفارة منوطة بنوع الجناية، وفهم مناسبتها وتأثيرها. فحكم التأثير في إلغاء القيود وإبقائها. فكان ذلك كلاما واضحا، ومسلكا في التصرف لائحا؛ مترقيا عن غموض الشبه المختلف فيه الذي قدمناه. فمن سماه شبها- على ذلك التأويل- فقد غلط. لأن وجه الغموض فيه: [في] انتهاض طلب علامة متعدية [بعد] تعرف الحكم باسمه في محله، والاستغناء عن طلب المناط. وفي هذا المقام فهم الحكم، وفهم معه ارتباط

الحكم، وتعلقه [بسببه ومناطه]. فإن قيل: هذا الجنس الذي ذكرتموه هو الذي عبر عنه عامة الفقهاء: بما في معنى الأصل. فغيرتم العبارة عنه، وبدلتم كسوته بالتلقيب: بتنقيح مناط الحكم. قلنا: معظم الأغاليظ والاشتباهات، ثارت من الشغف بإطلاق ألفاظ دون الوقوف على مداركها ومآخذها، فلسنا نمنع من إطلاق هذه العبارة بعد فهم هذا المأخذ. وإنما المنكر أن يظن الظان- في هذه المسألة ونظائرها- أن غير الوارد ألحق بالوارد، بمجرد التقارب والتشابه، دون فهم الاستواء في السبب [بعد فهم] السبب، ورجوع الافتراق إلى ما لا تأثير له في السبب. وقد يظن العامة أن ذلك من القرب المحض، وهيهات، فإنا نلحق الأمة بالعبد [في قوله صلى الله عليه وسلم]: «من أعتق شركا له في عبد». ونلحق العبد [بالأمة] في قوله عز وجل: {فإذا أحسن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}. وقد انعقد الإجماع على إجبار السيد الأمة على النكاح. وليس يمكن إطلاق القول بأن العبد في معناها. فلئن كان [هذا] مأخوذا من القرب، فالقرب لا يختلف باختلاف الأحكام.

بل هو مأخوذ من العلم بأن مناط السراية: العتق من الشريك، ومناط التشطير: الرق، ولا مدخل للأنوثة والذكورة في الرق والعتق؛ فاستويا في السبب، واختلفا فيما لا مدخل له في [تغيير] السبب. وللأنوثة والذكورة تأثير في تغيير أمر النكاح. فإن الأنثى مملوكة بالنكاح والذكر مالك: فلم يغن قول القائل: إن [السبب المسلط على] إجبار الأمة: ملك اليمين؛ والعبد يشاركها فيه. فإنه- مع المشاركة- فارقها فيما لا مدخل له في التأثير في هذا الجنس من الحكم. وكذلك ألحقنا العبد بالحر المعسر في الكفارة في جماع الأعرابي، ولم نلحق العبد بماعز في الرجم على الزنا. والتقارب في المسألتين واحد من حيث الظاهر. وكذلك ألحقنا المرأة بماعز في الرجم، وترددنا في إلحاقها بالأعرابي في الكفارة، والتقارب في المسئلتين واحد من حيث الظاهر. فعلم أن المستند فيه ما تقدم، وهو ما عرف من الشرع: من تأثير الرق في تخفيف عقوبة الزنا؛ بالنص مرة، وبالنظر أخرى. فدل أن [مناط المعرفة] في هذه المسائل العلم بمقدمتين؛ إحداهما: الاشتراك في السبب. والثانية: رجوع الافتراق إلى ما لا مدخل له في

الحكم، وهو- على التحقيق- راجع إلى تتمة المقدمة الأولى. وهو الاشتراك في السبب. فإن كانت المقدمتان معلومتين: لم تختلف فيه القرائح، وعبر عنه: بأنه في معنى الأصل. وإن كانتا مظنونتين: أمكن تقرير النزاع فيه. ومن عرف هذه الحقائق فلا حرج عليه في إطلاق العبارات. مثال القسم الثاني- وهو: ما عرف كونه مناطا بالإضافة اللفظية- كقوله عليه السلام: «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي». فهذا بطريق الترتيب بصيغة الجزاء والشرط. وقوله عليه السلام: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبعا إحداهن بالتراب» وهذا من طريق الترتيب بفاء التعقيب، وهو- أيضا- للتسبيب. فقد علم- على الجملة- بمجرد سماع الحديث الأول أن إعتاق أحد الشريكين نصيبه سبب للسراية إلى الباقي، وأنه موجب له ومناط لحكمه، وإنما النظر: في تنقيح المناط بإلغاء قيود وإبقائها. ففي قوله: أعتق «قيد عن البيع والطلاق وسائر التصرفات، وفي قوله: شركا» قيد عن نصف العبد المستخلص، والبعض المعتق من العبد.

[وفي قوله: له» قيد عن إعتاقه ملك الغير]. وفي قوله: من عبد قيد عن الأمة. فأما قيد العتق فمرعى؛ فمن باع شركا له في عبد: لا يسري إلى الباقي ولا يقوم عليه؛ إذ عرف بالشرع نوع قوة وغلبة المعتق لم تعرف للبيع؛ ولذلك يستدعى البيع شرائط يفسد بفواتها، ويفسد بزيادة شرط فاسد، إلى غير ذلك من الأمور، فلم يلغ هذا القيد. نعم: لو ألحق به طلاق البعض وحكم بسرايته، فله وجه: لأن الطلاق والعتاق قريبان [61 - ب] في الشرع: في القوة والنفوذ وقبول التعليق بالاغرار وغيره فيظهر تساويهما في عدم قبول التجزي. وأما قوله: شركا فهو قيد عن نصف العبد المستخلص، وهو ملغي: فإن السراية إلى ملكة تلتحق بالسراية إلى ملك الغير بطريق الأولى، وجرى التقييد بالشرك للعادة. وقوله: له قيد معتبر لا يلتحق به توجهه العتاق على نصيب الشريك، لأن ذلك يخرج العتق عن كونه عتقا: [فإنه] لا ينفذ بنفسه. وأما قوله: من عبد» فقيد محذوف: لأن الأمة في السبب كالعبد؛

ولا مدخل للأنوثة في تغيير ما يناط بالعتق والرق، وإنما جرى ذكر العبد وفاقا بسبقه إلى اللسان. كقوله عليه السلام: «أيما رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه». والمعني بالرجل: الجنس. وكان إلغاء هذه القيود مستندا إلى فهم عادة البيان، إذ الفصيح قد يبين الجنس بذكر بعض الصور. كقول القائل مثلا: من باع ثوبا زال ملكه، وهو يريد به جميع الأمتعة: من الفرش والدار. ولكن نبه بالبعض على الكل. وبذكر واحد من الجملة على الجملة. فهذا ما يجزئا على إلغاء هذه القيود المصرح بها، مع [ما] تقدم: من الاشتراك في السبب، ورجوع الافتراق إلى ما يعرف أنه لا مدخل له [في الحكم]. وذلك قد يعلم كما ذكرناه. وقد يظن كقولنا في إعتاق البعض المعين. فإنا نقول: السبب- بعد التنقيح- هو: إعتاق بعض الرقيق، وهذا بعض، ولا أثر للشيوع؛ ولكن خروج الشيوع عن كونه داخلا في التأثير، مظنون غير معلوم. والغرض أن المظنون والمعلوم من هذه الجملة، دائر على مراتب في النظر معقولة، تترقى عن لا شبه المختلف فيه. والمنكرون لذلك الجنس قائلون بهذا الفن، لا محالة. فأما قوله عليه السلام «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله»، فالولوغ مقيد عن الكروع وغيره. والكلب قيد عن سائر الحيوانات، حتى

الخنزير، والإناء قيد عن الثوب وغيره. وقوله: فليغسله» قيد عن فعل آخر: من لفرك والتشميس وغيره؛ وقيد عن غسل غير صاحب الإناء. وقوله: سبعا» قيد عن سائر الأعداد سواه. وقوله: إحداهن بالتراب» قيد عن الصابون والأشنان وغيره. فلينظر الناظر: كيف يتصرف في هذه القيود؟ فنقول: المعقول الجملي أو تغليظ الشرع نجاسة هذا الحيوان. فأما الولوغ، ففي معناه الكروع: لأنه دل على نجاسة سؤره، وعرقه عند الشافعي- رضي الله عنه- في معنى لعابه، وأبو حنيفة لا يراه في معناه، ويرى هذا القيد مرعيا. وذلك: لتنازعهما في آن

المعقول من الحديث نجاسة الكلب، أو نجاسة سؤره على الخصوص؟ وهذا أمر فهمي عقلي، وقد يستمد من [شواهد] الشرع. فعند الشافعي- رضي الله عنه- جرى ذكر الولوغ على الغالب، تنبيها على النجاسة المطلقة، كما جرى ذكر الإناء على الغالب: فإنه يغسل الثوب من لعابه اتفاقا، كما يغسل من ولوغه الإناء، فذكر الإناء تنبيه على الجنس: إذ العادة أن الكلب [إنما] يلغ في الأواني. وأما تخصيص الكلب، [< فـ > لم يمكن الغاؤه]، وإلحاق سائر الحيوانات أو الحيوان الذي لا يؤكل لحمه، أو السباع [به]. فإن الكلب سبع وحيوان وغير مأكول اللحم وكلب؛ فكان لخصوص وصفه، أثر في التنجيس؛ عرف ذلك من شواهد الشرع: في تخصيصه بمزايد التغليظ والتشديد، فلم يلغ هذا القيد. نعم: ينقدح تردد في الخنزير؛ فإنه أخوه: في نظر الشرع، والأمر باجتنابها وتحريمها وتنجيسها، فيحتمل أن يقال: يغسل من [نجاسته سبعا]، فإنهما أخوان كالطلاق والعتاق. على ما ذكرناه في قضية السراية؛ فكأنا نعلل نجاسته بتغليظ أمره في الشرع؛

ونلحق به الخنزير على رأي، وهو من قبيل القياس المناسب المستنبط، لا من قبيل المناط. أما قوله: فليغسله» فلا يلتحق به الفرك والتشميس [ولا غيره]، لما عرف: من أثر الغسل في الشرع. ثم هو متناول للغسل بكل مائع؛ ولكنا نزيد قيدا: فنقيده بالغسل بالماء، لما عرف: من اختصاص الماء. وكما أن ذكر بعض القيود بالعادة من جملة البيان، فإخلال البعض- أيضا- اتكالا على الفهم بالعادة- من جملة البيان. فأما تقييده عن غسل غير صاحب الإناء، فساقط؛ فالمفهوم وجوب الإزالة [62 - أ] ولكن ذكر صاحب الإناء على العادة. وأما قوله: سبعا» فلا يقوم مقامه عدد آخر. وأما قوله: بالتراب» فاختلف فيه؛ فمنهم من ألحق به الصابون والأشنان، وقال: المعقول مزيد تغليظ بجمع غير الماء إلى الماء، وذكر

التراب لوجوده غالبا، وهذا كالضعيف الذي لا يصلح للاعتماد عليه. فهذا مساق هذه التصرفات؛ ومآخذها أمور معقولة من سياق الكلام، مفهومة من موارد الشرع. وليس من قبيل الشبه [المقدم ذكره] المختلف فيه بين الفقهاء والأصوليين. مثال القسم الثالث- وهو: ما عرف مناط الحكم فيه بحدوث حكم عقيب أمر حادث؛ يعلم على الجملة أن الحادث موجبه، ثم ينظر في تنقيح قيوده-: كالحكم بلزوم الوضوء بخروج الخارج من السبيلين؛ وقد اختلف العلماء فيه: فقال أبو حنيفة- رضي الله عنه- مناط الحكم خروج النجاسة؛ فألحق به الفصد والحجامة وكل نجاسة سالت، وقال: إحالة وجوب الطهارة على النجاسة- وقد عرف تأثيرها في الطهارة في محله- أولى من إحالته على المحل الذي منه ينفصل؛ فسائر أجزاء البدن وأعضائه له حكم واحد في الطهارة والنجاسة، فلا يعرف للمحل مدخل فيه. وقال الشافعي- رضي الله عنه-: المعتبر خروج خارج من

[المسلك] المعتاد، ولا يتبع [خروج] النجاسة؛ بل يجب بخروج الدود والريح وغيرهما. وتعلقه بالريح يدل على أنه لا تتبع النجاسة؛ وأن قدر اشتمال الهواء المنفصل بالريح على نجاسة، فيمكن تقدير ذلك في الريح الخارج من غير المسلك المعتاد، وفي الجشاء المتغير؛ ولا تتعلق به الطهارة بالإجماع. فكان المسلك المعتاد متبعا من حيث [أن] [سبب وجوب] الوضوء: الصلاة؛ ولكن جعلت الأحداث- التي تتكرر بالطبع على الدوام- مواقيت لها، فليس في معناها الفصد والحجامة؛ وفي معناها انفتاح ثقبة تحت المعدة مع انسداد المسلك المعتاد فإنه قائم مقامه. وقال مالك- رضي الله عنه- بما ذكره الشافعي رضي الله عنه؛ وزاد عليه الاعتياد في الخارج، فلا ينتقض بالدم إذا خرج من السبيلين، وبما يندر: لأنه لا يتكرر بالطبع. وأنكر الشافعي هذا: من حيث أنه رأى تتبع النجاسة والبحث عنها خبيثا قبيحا، مع اختلاف الطبائع، واختلاط العلل بالأمزجة.

فأقام المحل مقام الخارج، فما يخرج من المحل المعتاد يلتحق بالخارج المعتاد كيفما كان. فهذا منهم نظر في تنقيح المناط، ومدركه شواهد الشرع وإبقاء ما يقدر له أثر، وإلغاء ما لا يعقل له أثر. وكذلك عفا الشرع عن قريب [من] مقدار درهم من النجاسة، على محل النجو. فقال أبو حنيفة- رضي الله عنه-: [عفى عنه] لقلته وقدره؛ فهذا القدر معفو عنه على سائر المواضع: إذ جميع البدن- في وجوب تطهيره، وملابسته للصلاة- على وتيرة. وقال الشافعي- رضي الله عنه-: لهذا المحل اختصاص في تكرر نجاسته، ومسيس الحاجة إلى العفو والرخصة فيه؛ ولا يدرأ هذا قول أبي حنيفة- رضي الله عنه-: أن الواقف على شاطئ البحر جاز له

الاقتصار على [قدر] الحجر؛ فتبين به أنه ليس في محل الرخصة، فإن تكرار الحاجة إلى الغسل على الدوام- هو السبب في العفو، وهو الذي فهمه الأولون، ولذلك اخترزوا عن رشاش النجاسة، وتساهلوا في الاستنجاء. ومن هذا القبيل: طريان الخيار بعتق الأمة تحت العبد، فإنه تجدد بطريان حادث علم أنه متعلقه وموجب حدوثه، وهو- أيضا- متسع لوجه آخر، وهو: ورود الحكم مرتبا على واقعة؛ إذ عتقت بريرة، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والنظر في هذه المسألة بتعيين مناط الحكم لا بتنقيحه؛ فإنه احتمل أن يكون سببه ملكها نفسها، فيطرد في الحرة. ويحتمل أن يكون سببه نقيصة الزوج وظهورها عند حدوث الحرية، فالنظر في ترجيح أحد المناطين بالسبر، والامتحان بشواهد الشرع، وبقوة المناسبة والتأثير. والأمثلة السابقة وقع الاتفاق فيها على جملة، فانقسم الناظرون: إلى ن يضم الزيادة إلى المزيد، وإلى من يلغي الزيادة ويقتصر على الأصل: فسميناه تنقيحا. وفي هذا المثال تعدد المأخذ وتباين. وهو كالتنازع في أن الصغيرة زوجت لبكارتها أو لصغرها؛ فهما مناطان ليس

أحدهما مضموماً إلى الآخر عند فريق. بل كل فريق يعتبر أحد المناطين. واعتبار النقيصة في الخيار أظهر تأثيرا؛ إذ لا تطرق لخيار التروي إلى النكاح؛ ولذلك إذا بلغت الصغيرة [لم] تتخير، فليس خيارها اعتراضا على ما سبق من العقد بالرد، بل هو لمستأنف الحال فيعتبر النقصان. وتأثير الصغر- في مسئلة التزويج- أظهر من حيث العموم؛ إذ ظهر أثره في المال، وفي أمور فارق فيها الصبي البالغ. والشافعي- رضي الله عنه- يقول: للبكارة والثيابة تأثير في النكاح على الخصوص؛ ويشهد له أخبار وردت في إدارة أمر النكاح على الثيابة والبكارة. والغرض: أن متعلق كل فريق- في مسئلة الصغيرة، وخيار الأمة- مناسب مطرد؛ والنظر في التعيين بالترجيح، وهو دليل على امتناع تعليل الحكم [62 - ب] بعلتين، على ما سنذكره. فإن الجمع يمكن في المسئلتين، ولم يذهب إليه فريق. والمقصود من جميع هذه الأمثلة: أن مناط الحكم إذا صار معلوما [أما] على الجملة، أو على التفصيل- فالنظر في تنقيحه وتعيينه: بالتدوار على طلب التأثير. والمناسبة في

الإلغاء والإبقاء ليس من باب الشبه المجتهد فيه، الذي قدمنا مثاله في علة الربا. والعجب من بعض المصنفين في الأصول-: من أفاضل قدماء الأصحاب- أنه قال: إلحاق السفرجل بالبر برابطة الطعم، من قياس المعنى والعلة. وإلحاق النكاح الفاسد بالصحيح في أحكامه، من قياس الشبه؛ لدورانه بين الزنا والحلال، وغلبة الشبه الحلال. ونحن نقول: الأمر على العكس. فأما قاعدة الربا فقد قدمناها. وأما النكاح الفاسد فالمتبع [فيه] في إثبات النسب والمصاهرة، والعدة، والمهر، وسقوط الحد- المعني. فإن الأصل أن المولود على فراش الرجل والمخلوق من مائه، منسوب إليه. وإنما قطع النسب بجناية الزنا وعدوانه؛ ولا عدوان من صاحب الظن. والمهر جيب بالتفويت وقد حصل. والمصاهرة تتبع النسب؛ وإذا ثبت النسب: فلابد من صون الماء- عن الخلط- بالعدة. وأما الحد فيسقط بالشبهة، فكيف لا يسقط عمن لا يوصف بالمعصية؟ نعم: لو عبر معبر عن هذه المعاني: بالشبه، وعما تقدم في الربا: بالمعنى؛ وأفسد هذه المعاني في النكاح الفاسد- ليضطر إلى الأخذ من مجرد الشبه- فلا يبعد شيء من ذلك، بعد الوقوف على المقاصد التي نبهنا عليها. [وظني] أنه لا يبقى- بعد هذا التقرير والتفصيل والتمثيل-

أشكال في قواعد الشبه والطرد والمخيل، على كل من أتقن هذه القواعد، وأمعن النظر فيها بعين الإنصاف. وسنأتي على بقية البيان [في الطرد والشبه والمخيل].-[إن بقى منه شيء في الإمكان]- في [باب] بيان القياس على المعدول عن سنن القياس، إن شاء الله عز وجل. * * *

القول في بيان أشكال البراهين النظرية، الجارية في المسائل الفقهية والغرض: بيان المسالك الجارية في المسائل التي يعدها الفقهاء قياسية، لا نقلية. فأقول: هذه البراهين ثلاثة: برهان اعتلال، وبرهان استدلال، وبرهان خلف. أما برهان الاعتلال، فهو: الجمع بين الفرع والأصل، برابطة العلة؛ كما تقدم ذكره في القياس. وشكل هذا البرهان يرجع إلى مقدمتين ونتيجة، وبيانه أنك تقول: المغصوب مضمون. فهذه مقدمة، وتقول: العقار مغصوب. فهذه مقدمة ثانية، فنتيجتهما: أن العقار مضمون. وتقول: المغصوب مضمون، وولد المغصوبة مغصوب: فكان مضمونا. وتقول: المال مضمون بالإتلاف، والمنفعة مال: فتضمن بالإتلاف. وتقول: السارق مقطوع، والنباش سارق: فكان مقطوعا. وتقول: المطعوم ربوي، والسفرجل مطعوم: فكان ربويا. وكل ذلك راجع- في أول التمهيد- إلى دعوى دخول واحد معين، تحت جملة معلومة. وإن شئت قلت: الطعم علة الربا، والطعم موجود في السفرجل: فجرى الربا فيه. والغصب علة الضمان، وقد وجد في العقار: فوجب الضمان. وعبارة الفقهاء- في هذا الجنس- أنه مطعوم، فأشبه البر. أو جرى فيه الربا: قياسا على البر. أو مغصوب: فيضمن كالمنقول. وكل ذلك يرجع إلى دعوى دخول واحد معين، تحت جملة شاملة. وشكله من البراهين العقلية؛ مقدمتان ونتيجة؛ كما تقدم.

ثم قد يفرض النزاع في المقدمة الأولى مع تسليم الثانية؛ كقول الخصم: أسلم أن السفرجل مطعوم. ولكن لا نسلم أن الطعم علة الربا، وأن المطعوم ربوي، بل بعض المطعوم ربوي لا بعلة كونه مطعوما. وقد يسلم [المقدمة] الأولى وينازع في الثانية؛ كقوله: سلمت أن الغصب علة الضمان، ولكن لا نسلم وجود الغصب في العقار وولد المغصوبة والمنفعة. وسلمت أن السرقة علة القطع، ولكن لا أسلم أن النباش سارق. فإذا وقع النزاع في المقدمة الأولى، لم تثبت إلا بالأدلة الشرعية: فإن المتنازع فيه قضية شرعية، وهو: كون الطعم علة مثلا، فيثبت ذلك: بالنص، أو الإيماء، أو الترتيب على الواقعة، أو الحدوث بحدوث الوصف، أو بالتأثير، وهو: أن يثبت أثره في عين الحكم، في محل آخر، بنص أو إجماع، أو بالمناسبة كما تقدم، أو بالطرد والعكس، أو بالإجماع المنعقد على أنه لابد من طلب علامة، والسبر الواقع بعده في نفي علامة سوى المذكور، كما ذكرناه في مقدمات قياس الشبه. وهو يسمى علة أيضا عند أكثر الأصوليين؛ وإليها أشار كلام الشافعي في الطعم والنقدية. أما إذا وقع النزاع في المقدمة الثانية، وهو: وجود العلة في الفرع، بعد تسليم كون الوصف علة- فهذا يعرف تارة بالحس: إن كان الوصف حسيا؛ وقد يعرف بالعرف، وقد يعرف باللغة، وقد يعرف [63 - أ] بطلب الحد وتصور حقيقة الشيء في نفسه، وقد يعرف بالأدلة الشرعية النقلية. مثال الحسي؛ قولنا في الماء الكثير المتغير بالنجاسة- إذا زال تغيره

بوقوع التراب فيه-: أنه سبب مبطل للتغير الحاصل بالنجاسة، فصار كهبوب الريح، وطول المكث. وشكله: أن المزيل لتغير النجاسة يبطل حكم النجاسة [والتراب مزيل: فكان مبطلا. فيقول: نسلم أن المزيل للتغير مزيل حكم النجاسة]، ولكن لا نسلم أن التراب مزيل، بل هو ساتر كالزعفران والمسك. فيعلم ذلك بأدلة حسية طبيعية. ومثال العرفي: قولنا: إن بيع الغرر باطل، وبيع الغائب غرر: فكان باطلا. فيقول: أسلم المقدمة الأولى، ولكن لا أسلم أن بيع الغائب بيع غرره فيقال: إنما يعرف هذا من العادة، فيحكم العرف فيه. وأما مثال اللغوي، فكقولنا: العتاق يحصل بالكناية المحتملة، والطلاق محتمل للعتاق: فيحصل به. فيسلم المقدمة الأولى، وينازع في الثانية، وهي: كون الطلاق محتملا للعتاق، فيطلب من مدارك الكنايات ومآخذ التجاوزات والاستعارات. وأما ما يثبت بالنقل، <فـ> كإثباتنا كون النباش سارقًا، بقول عائشة رضي الله عنها «سارق أمواتنا كسارق أحيائنا» وإثباتنا

[كون] العقار مغصوبا، بقوله- عليه السلام-: «من غصب قيد شبر من الأرض» الحديث. وإثباتنا كون اللائط زانيا، بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى الرجل فهما زانيان». وشكل القياس فيه: [أن] الزنا موجب للحد، واللائط زان، فوجب عليه الحد. وأما ما يعرف بتصور ذات الشيء، وطلب حده الجامع المانع- < فـ > كقولنا: ولد المغصوب مغصوبا، لأن حد الغصب: إثبات يد عادية على المال على وجه تقصير يد المالك [عنه]؛ وقد جرى. فربما ينازع في هذا الحد وصحته، وربما يسلم، وينكر من وجود في ولد المغصوب، ويقول: ليس اليد عادية، ذا لا مانع من جهته أو لم تقصر يد

المالك عنه، فإنه غير دافع له عنه. فيثبت منعه بالتسبب: بإثبات اليد على الأصل، ويستشهد عليه بولد الصيد. ويثبت قصور يد الملك: بيان ثبوت يد الغاصب، وأن يد الملك منتفية شرعا لثبوت يده؛ فالانتفاء كالزوال. فإذا نوزع في أصل الحد، وقيل: لا، بل الغصب عبارة: عن إثبات يد تزيل يد المالك؛ ولا يد للمالك على الولد ولا على المنفعة حتى تزال- الغصب أو حكمه، حاصل دون تقدير الزوال؛ كالمودع إذا جحد الوديعة، فإنه لم يزل يدا ومع ذلك جعل غاصبا. فهذا ترتيب النظر في التحديات. وقد يتصل النظر- في هذا الجنس- بتنقيح مناط الحكم؛ مثل أن نسلم أن اسم الغصب غير حاصل، ولكن مناط الضمان من الغصب: حصول اليد العادية، ونسلم أن اسم السرقة غير حاصل للنباش، ولكن مناط القطع من السرقة: أخذ مال محترم من حرز مثله، ونسلم أن اللائط ليس بزان، ولكن مناط الحد من الزاني: تضييع النساء بقضاء شهوة الفرج في الفرج. وعلى هذا يتغير شكل القياس ويرتد النزاع إلى

المقدمة الأولى؛ إذ لا نقول على هذا الطريق: إن الزنا موجب، وإن اللائط زان؛ ولا أن السرقة موجبة، وأن النباش سارق، بل نقول: تضييع الماء بقضاء شهوة الفرج موجب، واللائط متصف بذلك. وأخذ المال المحترم من حرز مثله موجب، وقد وجد في النباش. فينازع الخصم في المقدمة الأولى، ويقول: لا أسلم أن الموجب ما ذكرته؛ بل الموجب: فعل يسمى زنا وسرقة. فليدرك المسترشد الفرق بين المسلكين؛ فإن النزاع يتحول من مقدمة إلى مقدمة. [فهذا هو] الطريق. وغرضنا أن [نبين أن] جميع براهين الاعتلال إلى مقدمتين ونتيجة يرجع حاصلها إلى [دعوى] علة لحكم، ودعوى وجودها في محل [النزاع]، ومحاولة ترتيب الحكم عليها. ومثاله في العقليات: أن العلم علة كون الذات عالمة، وقد قام العلم بذات الله تعالى: فكان عالماً. ومثاله من الحسيات، أن نقول: [أن] الحيوانية علة التغذي، والإنسان حيوان: فكان متغذياً. وشكله من البراهين أن نقول: كل حيوان متغذ، وكل إنسان حيوان؛ فكل انسان متغذ، فلا يعقل

النزاع في النتيجة بعد تسليم المقدمتين. وإذا وقع النزاع في المقدمات أثبت بطريقة. ولا تفارق الفقهيات العقليات [في ذلك]، إلا أن المسلك الذي [يثير ظنا] في المقدمتين -كاف في الفقه، ولا يكفي في العقليات. البرهان الثاني: برهان الاستدلال. [وهو: الاستدلال] على الشيء بما ليس علة موجبة له، ولكن تثبت علته بوجه من الدلالة معقولة. ولا حرج في تسمية برهان الاعتلال: استدلالا. فإن العلة مع الإيجاب للمعلول، تدل على المعلول. ولكن المعلول قد يدل على العلة، ولا يوجبها. وهذا النوع -وهو الاستدلال بما ليس موجبا -ينحصر في ثلاثة: الاستدلال على الشيء بوجود خاصيته، أو بوجود نتيجته، فوجود الخاصية [63 - ب] يدل على وجود ذي الخاصية، وعدمها يدل على عدمه. وكذلك وجود النتيجة يدل على وجود المنتج. وعدمها يدل على عدمه. والاستدلال على الشيء بمثله ونظيره، فإن ما يثبت للشيء: يثبت لنظيره ومساويه، على الضرورة. مثال الاستدلال بالخاصية، كقولنا: الوتر نفل، لأنه يؤدي على الراحلة، ويطرد هذا في النوافل، وينعكس في الفرائض. ووجه

دلالته؛ أن الأداء على الرواحل خاصية النوافل، فلا تؤدي فريضة على الراحلة بحال. وإذا وجد خاصية الشيء: دل على وجود ذلك الشيء .. وهذه الدلالة لا خفاء بها بعد تسليم الخاصية؛ إذ معنى الخاصية؛ الملازمة لذاته على وجه لا ينفصل عنه، ووجود الشيء يدل على وجود ما يلازمه، ولا ينفك عنه. فإن قال الخصم: لست أسلم أن جواز الأداء على الراحلة خاصية النفلية؛ لأني أقول: الوتر ليس بنفل، ويؤدي على الراحلة. فالسؤال على هذا الوجه فاسد: لأنا نقدر -في ابتداء النظر -حكم الوتر في الفرضية والنفلية مشكلا: يتلقى من الأدلة، ويتعرف منها؛ ونقدر أنه لم يقم دليل فيه على النفي والإثبات، فوجدناه ينجذب إلى النفل في خاصية: لا تعرض قط في فريضة، فيغلب على الظن كونه نفلا. ونحن نجوز أن يقوم للخصم دليل على كون الوتر فرضا؛ فيبين بذلك الدليل بطلان هذه الخاصية. أما هذه الخاصية، فثابتة، وبها يعرف حكم الوتر، ولا دليل فيه، فإن قام عليه دليل مقصود: سقطت هذه الدعوى؛ وعلى الخصم أن يذكر دليلا: إن كان عنده. نعم: للخصم أن يقول: جواز الأداء [على الراحلة] خاصية عدم الفريضة؛ فلذلك تؤد الفرائض، وأنا أسلم أن الوتر ليس فرضا

ولكنه واجب؛ فقد وفيت بموجب الخاصية. وهذا السؤال واقع، ولكن شرطه: أن يبين فرقا بين الواجب والفرض، وعندنا لا فرق بينهما، فنبطل عليهم ما ذكروه، ويسلم الاستدلال بالخاصية. ومن هذا القبيل -أيضا -قولنا: عتق المكاتب لا ينصرف إلى جهة الكفارة، لأنه وقع عن جهة الكتابة، ونستدل على وقوعه عن جهة الكتابة، باستتباعه الإكساب والأولاد؛ [وهو] من خاصية الكتابة، فدل على بقاء الكتابة وعدم انفساخها. وهي دلالة ظاهرة إلى أن يبين الخصم أن

الكتابة باقية فيما على السيد، ومنفسخة فيما له؛ بدليل انفساخها في حق قرار النجوم، حتى يسقط باعتاقه، وهلم جرا إلى كلامه في تلك المسئلة. وغرضنا: أن هذا ليس استدلالا بالعلة الموجبة؛ فليس الأداء على الراحلة [موجبا لفرضية] أو نفلية، ولا علة لها. ولا استتباع الإكساب [والأولاد] موجبا للكتابة، ولكنها خاصية ملازمة للذات؛ غرف ملازمتها بالشرع. ويمكن أن نقرر وجه التمسك بهاتين الخاصيتين، بطريق الاطراد والانعكاس، وبطريق الشبه. ولكن ذلك جار فيما لا يعد من الخاصية؛ ولهذا وجه في الدلالة يزيد على المشابهة والاطراد والانعكاس. النوع الثاني: الاستدلال بالنتيجة على المنتج، وبعدمها على عدم المنتج. ووجه دلالتها -بعد تسليم كونها نتيجة -واضح: فالعالمية نتيجة العلم وقيامه بالذات. فنقول: البارى سبحانه وتعالى عالم، فدل على قيام العلم به. ومأخذ هذا الجنس -أيضا -الملازمة؛ فإن الموجب يلازم الموجب، كالخاصية الملازمة؛ فدل وجوده على وجوده: فإنه ملازم.

ومثاله قولنا: بيع لا يفيد الملك، فلا ينعقد، أو نكاح لا يفيد الحل، فلا ينعقد. وقولنا: المقارض لو ملك الربح: لملك ربح الربح. فإنه نتيجته، فانتفاؤه يدل على انتفاء الملك. وقولنا: لو ملكه كاملا: لملكه ناقصا، ولما انحصر الخسران فيه. فلما انحصر فيه، دل أنه لم يملكه. وكل ذلك راجع إلى الاستدلال على انتفاء الشيء بانتفاء نتيجته. وهو -بعد تسليم كونه نتيجة -لا خفاء بوجه دلالته. والخاصية -أيضا -يمكن ردها إلى النتيجة، إذ يقال: استتباع الكسب والولد نتيجة الكتابة وموجبها، فوجوده يدل على وجود الكتابة الموجبة. وامتناع الأداء على الراحلة نتيجة الفرضية، فإنه إذا افترض كاملا: لم يؤد ناقصا؛ فعدم الامتناع يدل على انتفاء الفرضية. فإن أمكن تقدير خاصية الملازمة: ليس يجعل موجبا ولا موجبا، وكان لا ينفك عن الوصف الآخر -فالاستدلال بأحدهما على الآخر جائز، وهو زائد على الاستدلال بالموجب والموجب. النوع الثالث: الاستدلال على الشيء بنظيره، كقولنا: من صح طلاقه صح ظهاره، ومن وجب عليه العشر والفطرة وجبت عليه الزكاة، والمخرج الذي لا ينقض القليل الخارج منه الوضوء، فكثيره -أيضا -لا ينقص الوضوء. إلى نظائر كثيرة له.

وهذا -أيضا -يمكن تقريره بطريق الشبه، وبطريق الطرد والعكس، كما سبق في الوجه الأول من الطرد والعكس. ولكن ذكر الشافعي -رضي الله عنه -هذا بطريق الاستدلال على الشيء بنظيره. ووجه دلالته: أن ما ثبت للشيء [فهو ثابت] لمساويه ومثله. وهذا لا غموض فيه، وإنما الغموض في دعوى المماثلة، فالخصم لا يسلم أن الطلاق مثل الظهار، ولا أن العشر مثل الزكاة، ولا أن القليل النجس الخارج مثل الكثير [64 - أ] فيقول: المثل المحقق هو: الذي يسد مسد الشيء، ويقوم مقامه، ويساويه في الصفات الجائرة والواجبة والمستحيلة، وذلك لا يمكن أن يدعى في أمثال هذه المسائل على الإطلاق؛ ولكن تعقل المماثلة بالإضافة والتشبيه إلى جهة معينة، كما يعقل أن الأنثى مثل الذكر بالإضافة [إلى] العتق والرق، فألحق أحدهما بالآخر: في سراية العتق، وفي تشطير الحد. ولا يمنع من هذه الدعوى مفارقته لها في ولاية النكاح، وانقطاع العبد عن الأمة في اجبار السيد، ولا مفارقة المرأة الرجل في الشهادة والإمامة وغيرهما. فإن ادعينا مماثلة الذكر للأنثى بالإضافة إلى الرق والعتق. وكما يدعى:

أن العبد مثل الحر المعسر في الكفارة، وأن السرية مثل المنكوحة في لزوم الكفارة بمجمامعتها. فهذا معقول على القطع مع ما بينهما: من وجوه من المفارقة ترجع إلى تمييز النكاح عن التسري؛ ولكن بالإضافة إلى إفساد الصوم لا مفارقة. ولذلك جاز أن تتلاقى القواعد المتباينة الخواص، في قضايا جملية عامة. فيقال: الصوم كالصلاة في النية، والبيع كالنكاح في الإيجاب والقبول، فيقاس البعض على البعض في هذه القضايا، وتمتنع دعوى المماثلة في أمور أخر هي الخواص. فإذا تمهدت هذه المقدمة، اتجه للشافعي أن يقول: الظهار كالطلاق، معناه: [الظهار] كالطلاق بالإضافة إلى الكفر والإسلام؛ إذ كل واحد سبب تحريم في زوجته، ووجه منع الكفر الظهار: من حيث أنه يمنع تعلق خطاب الشرع عند أبي حنيفة، والتحريم حكم الشرع. فيقول الشافعي، تحريم الظهار في كونه خطاب الشرع

كتحريم الطلاق؛ ولا خفاء بالمماثلة بالنسبة إلى الخطاب ومنع الكفر، فإذا لم يمنع تحريم الطلاق: لم يمنع ما هو مثله. فهذا وجه الدلالة، فكأنه قدر للخصم مستندا، وقدر الطلاق نقضا عليه، وبنى عليه: أن الطلاق إذا لم يمتنع: [لم يمتنع] الظهار المماثل له في التحريم، بالإضافة إلى الخطاب وموانع الخطاب. وهذا الدليل واضح، إلى أن يقول الخصم: الثابت بالظهار تحريم ينقطع بالكفارة، ولا تعقل الكفارة في حق الكافر؛ بخلاف الطلاق. فيقول الشافعي: لا، بل تعقل الكفارة. وإن سلم أنه لا كفارة، فهذا امتناع قاطع [لامتناع] التحريم. إلى غير ذلك من طرق النظر في تلك المسئلة. وكذلك يقول الشافعي -رضي الله عنه -إذا وجب العشر وزكاة

الفطر، وجب سائر الزكوات، لأنهما: في كونهما عبادة، وفي مناسبة الصبا لهما بالقبول أو بالمنافاة -متساويان. فحسن دعوى التماثل بالإضافة إلى الخطاب. فإن الخصم يجعل الصبا مانعا من الخطاب بالعبادات. فيقول الشافعي -رضي الله عنه-: لو منع ذلك: لمنع العشر والفطرة؛ فإنهما عبادتان كالزكاة، وسائر العبادات المالية -بالنسبة إلى حال الصبي -على وتيرة واحدة: إذ تقدير لزومه في ذمته، وتسليط الولي على أدائه، وتأخير الخطاب بالأداء عنه إلى بلوغه معقول في الكل على وجه واحد، فكان ذلك دعوى مماثلة بالإضافة. ورجع حاصله إلى تقدير مستند للخصم في كون الصبا دافعا، وتقدير انتقاضه بالعشر، ومعرفة مماثلة الزكاة في تلك القضية العشر. وعلى الخصم أن يبدى وراء هذا مأخذه: بأن العشر يثبت على العين، وأن زكاة الفطر مؤونة. فلو ثبت ذلك: لا نقطع دعوى المماثلة. فنتكلم عليه: بأن العشر والفطرة يفتقر كل واحد إلى النية. ويجوز الإخراج من غير المعشر، وذلك يدل على أنه لم يثبت على العين. ولكن الدلالة الظنية قائمة من أول الاستدلال للمعلل، إلى أن يستنزل عنه

بالتنبيه على جهات الفرق. فنعود إليه بإبطال جهات الفرق. وكذلك نقول: قليل الدم إذا خرج من الفصد لا يبطل، [فكذلك] كثيره لا يبطل، لأن القليل كالكثير، وعرف مماثلته له بالإضافة إلى مأخذ الخصم. فإن مأخذه الحاق جميع المواضع بالمحل المعتاد، وفي المحل المعتاد يستوي القليل والكثير. فإذا لم تكن سائر العروق في معنى المخرج المعتاد في القليل، لم يكن في معناه في الكثير: الذي هو مثله في هذا المحل. فإن قيل: قول الشافعي -رضي الله عنه- ذكاة لا تفيد [حل اللحم]، فلا تفيد طهارة الجلد -ما مأخذه؟. قلنا: هو أن نقول: طهارة الجلد نتيجة حل اللحم، فإنه لما كان يؤكل على الرؤوس والأكارع والمسموط، حكم بطهارته: [فجلده] تابع. فإذا انقطع االمتبوع: انقطع التابع. فأما أن يجعل نتيجة، أو يجعل تابعا. وقد عرف التلازم بين التابع والمتبوع، كما عرف بين النتيجة والمنتج. وأما الاستدلال بطريق المماثلة -كما ذكرناه في الظهار والطلاق، والعشر والزكاة -فبعيد: لا وجه له في هذا المقام. البرهان الثالث: برهان الخلف، وهو: أن لا يتعرض للمقصود، ولكن يبطل ضده المقابل [له] وإذا بطل أحد الضدين، تعين الضد الآخر.

وحاصل ذلك يرجع إلى: تقسيم وسبر، وإبطال لبعض الأقسام، لتعيين ما بقى من الأقسام. وفيه نوع آخر، وهو: حصر لجملة [في] أقسام، وإبطال جميع الأقسام لإبطال الجملة. وبرهان الخلف في القسم الأول، هو أن نقول: لو لم يكن كذا لكان كذا، وباطل أن يكون كذا. فثبت أنه كذا. ومثاله أن نقول: لو انعقد بيع الغائب [64 - ب]: لصح الزامه بصريح الإلزام، وباطل أن [يصح الإلزام] بصريح الإلزام، فباطل أن ينعقد [البيع]. وإذا بطل جانب الانعقاد، ثبت جانب الفساد. وكذلك نقول: لو ملك المقارض الربح: لملك ربح الربح؛ وباطل أن يملك ربح الربح: لأن ذلك يؤدي إلى تفاوت في القسمة يخالف الإجماع، فبطل القول بالتمليك. وهذا ينقسم إلى الدائر بين النفي والإثبات كما ذكرناه، وهو القوي البالغ: لأنه برهان في العقليات. وإن لم يكن دائرا بين النفي والإثبات: فلا فائدة له في العقليات،

ولكن يفيد في الظنيات. كقولنا: لو لم يكن الطعم علة: لكانت العلة هي القوت أو الكيل أو المالية؛ وكل ذلك باطل: فثبت الطعم. وهذا -بعد وجوب التعليل -صالح للتعيين؛ ولكن الشك يتطرق إلى هذا الجنس في موضعين؛ أحدهما: في دعوى الحصر. والأخرى: في دعوى البطلان. وإذا كان التقسيم دائرا بين النفي والإثبات -اتحد مظنة الشك، وهو: دعوى البطلان في أحد القسمين. ولذلك جرى التقسيم -الدائر بين النفي والإثبات -في العقليات. فنقول: لو لم يكن العالم حادثا: لكان قديما؛ ومحال أن يكون قديما؛ لأنه يلزم أن لا يتغير؛ فيثبت أنه حادث. إلى أمثال له كثيرة. وإلى هذا البرهان يرجع ما لقبه فريق: بقياس العكس؛ ومثلوه بقول أبي حنيفة -رضي الله عنه -: لو لم يلزم الصوم بالاعتكاف، لما لزم بالنذر كالصلاة. وزعم فريق: أن هذا باطل، لأنه: استدلال بالضد، وهذا الخيال

فاسد لأنه راجع إلى برهان الخلف. وطريقه هو: أن الصوم لو لم يكن واجبا لما وجب عند النذر، وقد وجب عند النذر، فدل على أنه لازم. فهو برهان خلف، ولكن يقال لصاحبه: لم قلت: أنه لو لم يكن لازما لما لزم بالنذر؟ [وأي بعد] في أن يكون النذر سببا؟. فننازعه في هذه الاستحالة. فيبين استحالته ويقول: لو لزم الصوم بالنذر في الاعتكاف: للزم الصلاة بالنذر. فيرجع إلى الاستدلال على الشيء [بنظيره] ومثله، إذ يقول: الصلاة في اللزوم بالنذر، وفي مناسبة الاعتكاف -مثل الصوم؛ [ولا تلزم] الصلاة بالنذر، فكيف يلزم الصوم؟ فيرجع حاصل الدليل إلى أن من نذر الصوم مع الاعتكاف: لزمه الصوم في الاعتكاف؛ فلا يخلو: أما أن يكون ذلك لاشتراط الصوم في الاعتكاف، أو كان للالتزام، مع اعتقاد أنه ليس شرطا؛ وباطل إحالته على الالتزام: إذ لو صلح الالتزام لإيجابه -مع

أنه ليس شرطا -للزم ذلك في الصلاة، وهي مثله بالإضافة إلى النذر. فإذا بطل ذلك في مثله: بطل فيه، وتعين الجانب الآخر. فعلينا أن نبدي فرقا بين الصوم والصلاة، ونظهر أن الصوم كف من جنس الاعتكاف: فيمتزج به، ويتأثر بوجوده [معه] بخلاف الصلاة؛ على ما ألف في تلك المسئلة. النوع الثاني من برهان الخلف: أن تحصر جملة في أقسام، وتبطل آحاد الأقسام لإبطال الجملة. كقولنا: لو كان الايلاء طلاقا، لكان بطريق التصريح أو الكتابة. وبطل كونه صريحا، وبطل كونه كناية: فبطل كونه طلاقا. فيرجع إلى مقدمتين ونتيجة. وهو: أنه لا طلاق إلا بصريح أو كناية، ولا صريح ولا كناية: فلا طلاق. وكل ذلك من مسالك الأدلة؛ وأكثرها متداخلة. والتقسيم

وبرهان الخلف كثير الدخل في جميع المآخذ: إذ عليه تدور معظم النظريات. هذا تمام ما أردنا أن نذكره: في بيان الطرق التي تعرف بها علل الأصول. وهذا أحد الأركان الخمسة في معرفة القياس، على ما رسمناه. وإنما الأركان هي الأربعة الباقية تحقيقا. وهي: الأصل، والفرع، والحكم، والعلة. [وما ذكرناه: طريق معرفة أحد الأركان، وهو: العلة]. * * * *

القول في بيان الركن الثاني وهو العلة والنظر فيه [يتعلق] بطرفين؛ أحدهما: ما يجوز أن يجعل علة من جملة القضايا، والثاني: في وجه إضافة الحكم إلى العلة. الطرف الأول: فيما يجوز أن يجعل علة؛ فنقول فيه: يجوز أن تكون العلة حكما، كقولنا: حرم الانتفاع بالخمر، فبطل بيعه. ويجوز أن تكون وصفا محسوسا. ثم يجوز أن يكون ذلك الوصف عارضا: كالشدة، ويجوز أن يكون لازما: كالنقدية والطعم والصغر. ويجوز أن يكون [من فعل] المكلف: كالقتل والسرقة. ويجوز أن يكون وصفا واحدا، ويجوز أن يكون مركبا من أعداد. ويجوز أن يكون نفيا، و [يجوز] أن يكون إثباتا.

وكل ذلك من الواضحات، فلا نطنب فيه. ويجوز أن تكون وصفا مناسبا: كالاسكار يناسب تحريم [65 - أ] الشرب، ومشقة المرض تناسب الرخصة في القعود، وكذلك سائر المصالح: إذا اتبعت بأعيانها. ويجوز أن تكون إمارة المصلحة: كالسفر في التخفيف، فإنه مناط الرخصة لا عين المشقة، بخلاف قعود المريض؛ فإنه يتبع عين المشقة. وقد تكون أمارة المصلحة الخفية المجهولة التي لم يطلع عليها: كالطعم، ونقصان الرطب في ثاني الحال إلى غير ذلك: من الصفات التي لا تناسب، فإنا نقدرها متضمنة لوجوه من المصالح [التي] لا يطلع عليها؛ والأوصاف الظاهرة التي أطلعنا عليها أمارات المصالح. ويجوز أن تكون العلة في المذكور نصا وهو: الأصل. ويجوز أن تكون [فيما لم] يتعرض له النص، ولكن تتعلق بالمنصوص نوعا من التعلق. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكح الأمة على الحرة"، فعلل الشافي -رحمه الله -بارقاق الزوج جزءا من نفسه، مع الاستغناء عنه. وعداه إلى القادر على طول الحرة. وليس في القدر المنطوق [به] في النص تعرض للولد، ولا للزوج؛ ولكن النكاح

المذكور له تعلق بالزوج، وله مصير إلى حدوث الولد ورقه. وهذه أمور أطنب الأصوليون فيها، وليس فيها غموض. وأنا أوثر الإيجاز في غير محل الحاجة؛ وأدخر التقرير لمظان الغموض. وإنما الغموض في الطرف الثاني من النظر في هذا الركن. الطرف الثاني: في بيان وجه إضافة الحكم إلى العلة، وينكشف ذلك بالنظر في أربع مسائل؛ أحدهما: تخلف الحكم عن العلة مع وجودها؛ وهو الملقب بالنقض أو تخصيص العلة. والثانية: وجود الحكم دون العلة؛ وهو الملقب بالعكس أو عدم التأثير. وبه يتعلق النظر بتعليل الحكم بعلتين، وإضافته إلى كل واحدة. والثالثة: إضافة الحكم إلى العلة في المنصوص، وأن الحكم في محل النص مضاف إلى النص أو إلى العلة. والرابعة: بيان العلة القاصرة، وهي مبنية على إضافة الحكم في محل النص إلى العلة. فنبدأ بانتقاض العلة وتخصيصها: مسئلة: اضطراب رأي الأصوليين في تخصيص العلة الشرعية: فأنكره جمع، وجوزه آخرون، وفرق فريق بين العلة المنصوص عليها،

وبين العلة المستنبطة. ومن رأي التخصيص دفع النقض بقوله: إني لم أطرد العلة لمانع؛ وشبه ذلك بالتخصيص المتطرق إلى عمومات الألفاظ. ومن أنكر التخصيص زعم: أن العلة تبطل وتضمحل بانقطاع طردها في بعض الأطراف؛ بأن توجد ولا يوجد الحكم معها. وقال آخرون: المنصوصة لا تنقطع بانقطاع طردها؛ بل يجعل ذلك خصوصا، ويبقى الوصف في الباقي علة، كما يبقى العموم في باقي المسميات حجة. وإن كانت [مظنونة] مستنبطة: انقطع الظن بالانتقاض. ولقد عظم خوض الأصوليين في المسئلة، وعظموا الأمر فيها: فقال منكرو التخصيص: أن القول به يجر إلى مذهب المعتزلة، ويلزم القول بالاستطاعة قبل الفعل. وقال آخرون: القائل بالتخصيص فقيه محض، والمنكر له داخل في غمار الحشوية. ولقد أكثر [كل] فريق في إقامة الدليل على معتقده؛ وليس يلفى شفاء الغليل في شيء من ذلك؛ ولو حكيناها، وتتبعنا بالإبطال ما ضعف منها -لطال الكلام. فنرى أن [نبتدئ بالمختار] وما يتخيل لنا

فيه. ومن أحاط [علما بما نبديه الآن] علم أن وجه الخلل -فيما ذكر -[هو]: الإخلال ببعض الأطراف، وإجمال القول في محل التفصيل. ولم ينقل عن أبي حنيفة والشافعي -رضي الله عنهما -تصريح بجواز التخصيص أو منعه؛ ولكن نقل أبو زيد -رضي الله عنه -من كلام أبي حنيفة والشافعي -رضي الله عنهما -تعليلات بعلل منقوضة: يمكن دفعها بوجوه من النظر مقتبسة عما جرى التعليل به، لا بطريق التصريح. فاستدل بها على قولهم بالتخصيص. وقال المنكرون للتخصيص: إن ذلك جرى منهم في الكتب على طريق التساهل، وترك الاعتناء بما هو خارج عن الغرض. كما نقل عن الشافعي -رضي الله عنه -أنه قال: طهارتان، فكيف يفترقان؟. وهذا ينتقض بإزالة النجاسة. وقوله: النكاح ليس بمال، فلا يثبت بشهادة النساء. وذلك ينتقض بالولادة. إلى أمثال لذلك: نقلها ونشأ من المذكورات وجوها من الفقه سماها تأثيرا، ودفع بها هذه

النقوض. وليس -في شيء من ذلك -ما يدل على القول بالتخصيص مطلقا. وإنما غموض المسئلة: لغموض لفظ التخصيص، ومراد القائل به منه. ونحن نكشف الغطاء عنه بالتفصيل. فنقول: حكم العلة -مع وجود وصف العلة -يتصور انعدامه في ثلاثة أطراف، على ثلاثة أوجه: أحدها: أن توجد العلة [65 - ب] بكمالها، ولكن يندفع حكمها بمعارضة علة مضادة لها، فيسقط الحكم بطريق الاندفاع بالمضادة [به]، لا بطريق اختلال العلة أو نقصان شيء منها. وذلك كقولنا: أن ملك الجارية علة لملك الولد الحاصل منها، ويجرى ذلك في ولد الزنا وولد النكاح؛ ولا يجرى في ولد المغرور بالحرية، فينعقد الولد على الحرية، ويندفع الرق -بعد كمال سبب الرق -بسبب الظن المعارض، ولذلك يجب الغرم على المغرور [بالحرية]، فهذا وجه لانعدام حكم العلل. الوجه الثاني: أن ينعدم حكم العلة لا لخلل في ركن العلة وذاتها؛ ولكن: لعدم مصادفتها محلها أو شرطها أو أهلها. كقولنا: أن السرقة علة القطع؛ وينتقض ذلك بسرقة ما دون النصاب، وسرقة

الصبي، والسرقة من غير الحرز. وكقولنا: أن القتل العمد علة القصاص؛ وينتقض [ذلك] بقتل الأب، وقتل الصبي، والقتل الذي يصادف مهدرا: من حربي أو مرتد. وكقولنا: أن البيع علة زوال الملك؛ ويبطل ذلك ببيع الموقوف والمرهون والمستولدة، وبيع الصبي والمجنون. وكقول أبي حنيفة -رضي الله عنه -الغصب سبب ملك [بدل] المغصوب، فكان سبب ملك المغصوب؛ وينتقض بغضب المدبر والمستولدة. وكقوله: الاستيلاء سبب الملك؛ وينتقض ذلك باستيلاء المسلم على مال المسلم، وباستيلاء الكافر على [مال] المرتد. وكل هذا جنس واحد؛ وهو راجع إلى إنعدام الحكم لا لخلل في ذات السبب، ولكن: لخلل في المحل. وعلى هذا المذاق، قولنا: الطعم علة ربا الفضل؛ وينتقض بالبر مع الشعير. والزنا علة الرجم؛ وينتقض بزنا غير المحصن. فهذا وجه [آخر] يخالف الوجه الأول. الوجه الثالث: أن ينعدم الحكم في صوب جريان العلة، بورود [مسئلة في] الشرع على نقيض تلك العلة: مستثناة عن القياس، أو غير مستثناة. وهو الذي يسمى: نقضا مطلقا وفيه معظم الغموض.

فهذه وجوه ثلاثة متباينة المأخذ: في انعدام حكم العلل. والنظر في كل وجه منها يتعلق بأربع قضايا: قضية جدلية، وقضية اجتهادية فقهية، وقضية حقيقية عقلية، وقضية لفظية لغوية. وما من قضية -من هذه القضايا -إلا ولها التفات إلى سائر القضايا المباينة لها. فلأجل التفاتها، واشتباك الوجوه الثلاثة المتباينة -غمض مدرك المسئلة على الكافة، ولم يخل فريق عن إخلال وتقصير: لا طلاقه الكلام الجمال من غير تفصيل، وترتيب وتنزيل على هذه الوجوه المتباينة. والآن، فإذا بان مظان النظر جملة، فنعود إلى التفصيل، ونبدأ بالوجه الأخير -ففيه معظم النظر والأشكال -فنقول: إذا انتقضت العلة في صوب جريانها، فهي كقولنا: صوم، فيفتقر إلى تبييت النية؛ فينتفض بالتطوع. وكقولنا: حق مالي، فيورث؛ فينتفض بالأجل. وكقولنا: طهارة، فتفتقر إلى نية؛ فينتفض بإزالة النجاسة. وهذه علل مظنونة مستنبطة. وقد تكون العلة قطيعة إجماعية؛ كقولنا: متماثل الأجزاء، فيضمن بالمثل؛ فيبطل باللبن في مسئلة المصراة. أو نقول: فوت حق الغير، فيضمن. أو لم يجب ضمانه على الغير؛ فيبطل بضرب الدية على العاقلة. وكقولنا: نجس خارج من مسلك معتاد، فينتفض الطهر به؛ فيبطل بدم الاستحاضة، وبول سلس البول.

فنقول: العلة المنقوضة لا تخلو إما أن كانت قطعية، أو مستنبطة بالظن. فإن كانت قطعية: فلا فرق بين أن تكون منصوصا عليها، أو معلومة بالإجماع. والمسئلة -الواردة نقضا -لا تخلو إما أن يظهر فيها قصد الاستثناء بخصوص حالة، أو لم يظهر فيها قصد الاستثناء. فإن لم يظهر فيها [قصد الاستثناء] فهذا غير متصور عندي: إذا كانت العلة قطعية، بل إذا ظهر النقض: يتبين أن المذكور أولا بعض العلة لا جميعها. فإذا قلنا: نجس خارج [من أعماق البدن]، فينقض الوضوء؛ وبان لنا -بنص قاطع -أن الفصد والحجامة لا ينقضان الوضوء، كما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "أنه لم يتوضأ حين احتجم" -فلا نقول: أن العلة خروج [النجاسة] ولكن فعله ورد تخصيصا مانعا لحكم العلة؛ بل ننعطف ونقول: تبينا أن العلة خارج نجس من

المخرج المعتاد، وأنا كنا أخللنا ببعض العلة: فتنبهنا له بما حدث من المسئلة. فهذه هي القضية الاجتهادية الفقهية، وهو: أن الأول فسد جعله علة، ووجب أن يضم إليه [ضد] الوصف الموجود في مسئلة النقض. فأما القضية الجدلية، فيها وجوب الاحتراز عن هذا النقض، وانقطاع المعلل: إن لم يحترز، ولا يمكن من الاعتذار: بأنه خارج من غير المحل المعتاد؛ ويقال له: لم تتعرض لما ذكرته أولا، وكانت قرينة حالك تقتضي أن تذكر تمام العلة، فذكرت بعضها. والجدل اصطلاح؛ ولا نعرف خلافا في هذا الاصطلاح. وأشد الناس غلوا في تخصيص العلل، أبو زيد الدبوسي -رضي الله عنه -؛ وقد اعترف: بأن ذلك لا يقبل من المعلل؛ وأنه لا يمكن من أن يقول: العلة ما ذكرته، وأنا أطردها إن لم يمنعني [منه] مانع؛ وفي مسئلة النقض منعني [مانع، وهو]: النص [66 - أ] وإن كان ذلك يقبل في تخصيص العموم. وفرق: بأنه يحتمل أن يكون عدم الحكم -في مسئلة النقض -لمانع، ويحتمل أن يكون لعدم العلة، أو عدم كمالها؛ وما يدعيه علة كاملة:

إنما يقوله برأي يحتمل الغلط والفساد، فلعلل ذلك لفساد [العلة أو نقصانها. وأما تخصيص العموم، فلا يتردد بين أن يكون لفساد] العموم، فإن ذلك لا يحتمل الغلط. ثم مساق كلامه: أنه يلزمه أن يظهر مانعا في محل النقض، ولا يلزمه أن يظهر دليل الخصوص عند التعلق بالعموم. ومع هذا فلا يظن به قبوله من العلل إبداء مانع: ينعطف به وصف على أصل العلة، ويصير مضموما إليه، ولم يكن قد نبه عليه في اعتلاله. فإنه [قد] ذكر في الجدال طريقة دفع النقض، مأخوذا من نفس التعليل. إذ قال: مهما قلنا: نجس خارج، فينتفض الطهر به كالبول؛ فقيل لنا: ينتفض بالدم إذا لم يسل عن رأس الجرح -دفعناه بطريقين: أحدهما: أن نقول: ذلك ليس بخارج، وإنما هو ظاهر، وفرق بين من يظهر بالخروج من البيت، وبين من يرفع السقف من فوقه: فيظهر المناظر؛ والبشرة غطاء ساتر للدم، فإذا خدشت ظهر الدم، وإذا سأل:

خرج. وهذا النوع -من الاحتراز -مقبول بالاتفاق، لا خلل فيه: من حيث اللفظ. الوجه الثاني -الذي ذكره في الدفع -بيان [التأثير] وهو: أنه ظهر تأثير الخارج في إيجاب تطهير المحل عنه؛ فيؤثر في التطهير في غير محله. وينعكس هذا في الذي لم يسل. وفي قبول هذا الجنس -من الاحتراز -خلاف بين الجدليين: من حيث أن الكلام الأول لم يشعر [به] لفظا وتنبيها. فقال قائلون: لابد وأن نزيد في العلة، فنقول: نجاسة خارجة إلى محل يلحقها وجوب التطهير فيه، فيلحقها وجوب التطهير في غيره. وهذه مسألة اصطلاحية؛ وليس يبعد الاصطلاح على كل واحد من الوجهين. ولعل التصريح بلفظ الاحتراز أحسن في رسم الجدل، وأبعد عن المماراة. والخطب في هذا يسير، فلا نطنب فيه. هذا بيان القضية الجدلية والاجتهادية. وأما القضية العقلية -وهي: إضافة المعلول إلى العلة، على ما عقل من الشرع، على مثال العلل العقلية والحسية -فنقول فيها: بطلت

الإضافة بهذا الجنس من النقض؛ إذ الحكم مضاف إلى مجموع الوصفين. وليس [الإضافة إلى أحدهما] أولى من الآخر. فإن الحكم لم يجب بمجرده، ولا حدث عقيب حدوثه على تجرده، ولا ظهر عنده بمجرد وجوده؛ فتخصيصه بالإضافة لا وجه له. أما القضية اللفظية، فهي: تسمية [ذلك القدر علة؛ وإن كان الحكم لا يقترن به. ولسنا نرى لذلك وجها]: فإنا سنبين حد العلة، وطرق إطلاق هذه اللفظة على المعاني الشرعية. وعلى أي وجه فرض، فلا يجوز تسمية ذلك القدر علة. بل يقال: تبين أن ذلك القدر بعض العلة، لا كلها. هذا كله: في بيان أن مثل هذا النقض لا يتصور وروده على العلل القطعية؛ وإذا ورد: تبين للناظر أن ما كان يظنه كل العلة، بعض العلة [لا كلها]. فأما إذا ظهر قصد الاستثناء من الشرع، وعلم ذلك على القطع -: كمسئلة المصراة ومسئلة العرايا، ومسئلة تحمل العاقلة -فإنا إذا قلنا: متماثل الأجزاء، فيضمن بالمثل -كان هذا علة قطعية في إيجاب المثل: إذ به تتميز ذوات الأمثال عن غيرها. وإذا قلنا: باع الربوي المكيل بجنسه من غير كيل، فبطل -فهو قطعي في قاعدة الربا، وهو منصوص [عليه،

ويبطل] بصورة العرايا. وإذا قلنا: أتلف مضمونا متقوما من هو من أهل الالتزام، فغرم -كان ذلك قطعيا في إيجاب الغرم؛ وانتقض بصورة الضرب على العاقلة. فالحكم في هذه المسائل معلوم؛ والعلة التي ذكرناها معلومة، فما الطريق فيه؟. فنقول: بعد تعيين مسئلة المصراة مثلا -يتصدى فيها رأيان: أحدهما أن نقول: تماثل الأجزاء هو العلة لإيجاب المثل؛ وهو موجود في صورة المصراة؛ والموجود علة، ولكن [إنما] امتنع حكمها لمانع، وذلك المانع هو: النص. والآخر أن نقول: التماثل [هو] العلة، لا في هذه الصورة بل في غيرها، وعرف بالنص تخصيص العلة بغير هذه المسئلة؛ فالتماثل الموجود ليس علة في صورة التصرية، وهو علة في غير هذه الصورة. وهذا هو الأولى، وهو المقطوع به، إذ لا معنى لتسميته علة في هذه الصورة، ولا يثبت الحكم بها لا تقديرا ولا تحقيقا. بل نقول: عرف من الشرع أن التماثل علة في غير المصراة وليس علة في المصراة؛ وكان ذلك قولنا: إن الشدة والاسكار علة التحريم بعد نسخ الحل، ولم يكن علة

في الزمان السابق على النسخ، ولكن جعله الشرع علة في هذا الزمان، ولم يجعله علة في الزمان السابق. وربما يقول المعترض ملبسا: إذا كان التماثل هو العلة، والتماثل موجود -فالعلة موجودة. وإذا كان الاسكار هو العلة، والاسكار في الزمان الأول موجود -كانت [66 - ب] العلة موجودة؛ وكان كقول القائل: الإنسان حيوان، والإنسان موجود، فالحيوان موجود. فوزانه قولنا: الاسكار علة، والاسكار موجود، فالعلة موجودة. قلنا: هذا لازم لو كان الاسكار علة بذاته ثابت الإيجاب عقلا؛ وكذلك التماثل. وليس الأمر كذلك، وإنما صار علة بنصب الشرع، والشرع نصبه علة في زمان دون زمان، وفي محل دون محل، وعرف النصب على هذا الوجه، من موارد الشرع [ونصوصه]. فإن قيل: فهذا تصريح بأن مجرد الاسكار ومطلقه ليس بعلة؛ بل العلة: اسكار مضاف إلى زمان، [وتماثل أجزاء مضافة] إلى بعض الأشياء، فمن جعل مطلق الاسكار -دون قيد الإضافة -علة، فقد اقتصر على البعض. وكان هذا كما لو قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم مثلا:

اقتلوا زيدًا لأنه أسود؛ فيجب بموجب التعليل أن يقتل كل أسود: إذ عقل منه أن السواد علة؛ فظاهره أن العلة مجرد السواد. فلو بان لنا -بالشرع والتنصيص -أنه لا يقتل سوى زيد: [لانعطف] على ما تخيلناه أولا، فنقول: لم يكن السواد المطلق المجرد علة، بل كانت العلة سواد زيد؛ وسواد زيد المعين لا يفرض إلا في [زيد المعين]، فاطردت العلة ولم تنتفض، ولم تتخصص. بل سواد زيد -وهو السواد المضاف -هو العلة؛ والسواد الذي [ليس مضافا إلى زيد] ليس بعلة. وعن هذا التحقيق، قال الأستاذ أبو إسحاق -رضي الله عنه -: علة الشرع لا تقبل التخصيص ولا الانتقاض؛ بل إذا لحقها الخصوص: تبين به أن الوصف المخصوص بالقيد الذي لحقه، هو العلة. ولو ورد نص صريح -لا يقبل التأويل -بأن السواد المطلق هو العلة، فلا يجوز أن يرد نص [من الشارع] بامتناع قتل من هو أسود. وإن ورد: فيكون كالنسخ الرافع المناقض للأول. قلنا: هذا نوع من التحقيق لا سبيل إلى جحده؛ فلذلك

[لا نقول]: التماثل الموجود في مسئلة المصراة علة؛ ولا نقول: الاسكار الموجود قبل ورود التحريم علة، ولكنا نقول: هو علة في زمان، وعند عدم ذلك الزمان ليس بعلة، والتماثل علة في غير المصراة، وفي المصراة ليس بعلة. وليس يتعلق هذا النظر إلا بالقضية الجدلية والعقلية واللفظية. أما الاجتهادية، فلا نتغير به: إذ علم أن التماثل علة في الموضع الذي علمه، وعلم أيضا الاستثناء في الموضع الذي استثنى. فلم تكن علة مظنونة حتى ينقطع ظنه بما جرى من النقض؛ فيحكم المجتهد في غير مسئلة المصراة: بإيجاب المثل، وفي مسئلة المصراة بما ورد به النص. وقد فرغ المجتهدون من الفتوى؛ فتبقى قضية عقلية، وهو: أنا [هل] نتبين بالاستثناء قيدا للعلة وإضافة، ونقول: العلة تماثل في غير مسئلة التصرية، وهو تماثل مضاف لا تماثل مطلق. وأنا هل نسمى [مطلق] التماثل علة؟ وهل يكون هذا الاسم عليه صادقا؟ وأن المعلل [هل] يجب عليه الاحتراز لفظا؟ فنقول: إن كان الخصم لا يأخذ مخالفته من مسئلة المصراة، فتكليف الاحتراز لفظا قبيح، لأنا إذا تنازعنا في الخبز مثلا: أنه من ذوات

الأمثال، أو من ذوات القيم؛ فقلنا: أنه متماثل الأجزاء، فوجب المثل على متلفه؛ فقال: باطل بلبن المصراة -فهذا السؤال مردود؛ وهو الذي يقال فيه: إن المعدول عن القياس لا يرد نقضا على القياس؛ إذ تعين أن يقال: متماثل الأجزاء إلا في صورة التصرية؛ إذ ليس ينعطف من تلك المسئلة [على العلة، ما] يرجع إلى إثبات صفة، حتى ينضم إلى التماثل. ولست أبعد أن يصطلح فريق على وجوب الاحتراز عنه؛ ولكنه قبيح جدا. وأما إذا كان الخصم يأخذ مذهبه من مسئلة المصراة -كما إذا اشترى مصراة، ورضى بعيب التصرية؛ فاطلع على عيب آخر [قديم] فرد الأصل، ولزمه رد بدل اللبن الذي اشتمل الضرع عليه حالة العقد -فقال قائلون: يرد صاعا من التمر؛ لأنه في معنى المصراة: إذ هو المضمون بعينه. فإذا قال المعلل -في هذه الصورة -: متماثل الأجزاء؛ واقتصر على هذا، ونقض بالمصراة، فقال: أنا أطرد العلة ما لم يمنع النص -فهذا فيه نظر جدلي. فيحتمل أن يقال: إن مرجع الخلاف البحث عن كون المسئلة واقعة في محل الاستثناء، أو في محل العموم، وهو لم يتعرض له. ويحتمل أن يقال: ما ذكره علة، وإنما يترك بمانع النص وتخصيصه.

فليبين الخصم أن المانع متعد إليه بمعناه، وإن لم يتعد بلفظه. وهذا يستمد من المصير إلى أن المنكر لا دليل عليه، وكان الأصل إتباع العلة. ومن يدعي ورود التخصيص عليها: فعليه إبداء وجهه. ويعتضد هذا بالتمسك بالعموم. فلو قال الشارع مثلا: ما تماثل أجزاؤه ضمن بالمثل؛ فللمعلل أن يتمسك به في [هذه] الصورة التي فرضنا النزاع فيها. فإذا قيل له: العموم مخصوص في صورة المصراة، فيقول: وهو حجة في الباقي. فإذا قال: [67 - أ] والنزاع واقع في أن الصورة المفروضة، باقية تحت العموم، أو ملتحقة بمحل الخصوص؛ -فما الدليل على بقائها تحت العموم؟ -فليس على المعلل ذلك؛ بل على المعترض أن يبين كيفية تعدي دليل الخصوص إليه. وقد قال -صلى الله عليه وسلم -: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"؛ والتطوع مخصوص منه، وفي رمضان خلاف. وللشافعي

-رحمه الله -التمسك بالعموم. وعلى أبي حنيفة -رضي الله عنه -أن يبين وجه تعدي الخصوص من التطوع إلى رمضان. فإذا ثبت ذلك، فأي فرق بين أن يقول الشارع: ما تماثل أجزاؤه فهو مضمون بالمثل؛ وبين أن نعلم قطعا -من الإجماع ووضع الشرع -أن ما تماثل أجزاؤه فهو مضمون بالمثل، وأن التماثل هو العلة الموجبة له؟. فورود الخصوص على العلة المعلومة، كوروده على الصيغة المعلومة. نعم: لو كانت العلة مظنونة [تطرق بالخصوص] إمكان الفساد إلى الأصل؛ وإذا كانت معلومة فهي كالصيغة المسموعة. فإن قيل: الفرق، أن ورود [التخصيص] يبين أن لا تعويل على مطلق العلة؛ بل ينعطف عليه قيد الإضافة إلى بعض المواضع، فيكون [هذا] [هو] المنبع؛ والنزاع واقع في قدر ذلك القيد: [في] الاتساع والضيق، والاشتراك والقصور؛ والمعلل ذاكر مطلق العلة، ولم يتعرض للقيد المنعطف عليه، بسبب الخصوص. والنزاع

واقع في [تعرف قدر] القيد والإضافة. قلنا: وكذلك ورود الخصوص على الصيغة العامة بين أن الاعتماد على الصيغة اللغوية بإطلاقها باطل؛ إذ الصيام إذا أريد به بعض الصيام: صار مجازا بالإضافة إلى وضع اللفة؛ وصار الاعتماد فيه على قرينة انضافت إلى الصيغة. ثم قيل: يجب على المجتهد -في نظره وفتواه -أن يبحث عنه؛ وأن دليل الخصوص منتف [عنه] في صوم رمضان -حتى ينبني علمه على مجموع الصيغة، وانتفاء دلالة الخصوص. [ولا يحل قوله] أن يفتى بالصيغة في صوم رمضان -وهو يراها مخصوصة [في التطوع]-ما لم يتبين له أن صوم رمضان ليس في معنى التطوع؛ وأن دليل الخصوص غير متعد إليه: لا بلفظه، ولا بمعناه. ولكن: إذا كان معللا، كفاه التعلق بصيغة العموم من غير تعرض لانتفاء دلالة الخصوص؛ بل على المعترض لقيام دلالة الخصوص. فلا فرق بينه وبين العلة المعلومة، وإنما فارق العلة المظنونة المناسبة: من حيث أن صحتها أخذت من شهادة الحكم، فإذا ورد الحكم على مناقضتها في بعض المسائل، أوهم بطلان العلة، فأما إذا كانت العلة معلومة، فورود

الخصوص ليس مبطلا، وإنما غاية الخصوص أن نعطف عليها قيدا، كما نعطف على صيغة العموم التقييد بقرينة. فلا فرق بين التعلق بها وبين التعلق بالعموم: لا في حق المجتهد، ولا في حق المجادل. هذا وجه النظر في القضية الجدلية والاجتهادية. وأما القضية العقلية: فإنها تتعلق بطرفين: هما: أن التماثل -في مسئلة المصراة -هل نقول: إنه علة ولكن دفع النص حكمه؟ أو نقول: ليس بعلة في المصراة، وهو علة في غيرها؟ فإن قلنا: أنه علة في المصراة واندفع حكمها لمانع النص، لم نفتقر إلى أن نعطف قيدا على العلة في غير المصراة. وإن قلنا: إنها خرجت عن كونها علة في المصراة، وإنما هي علة في غيرها -فهل نقول: إن مطلق التماثل هو العلة ولكن في غير المصراة؟ أو نقول: تبين أن العلة تماثل مقيد مضاف إلى غير المصراة؟ فهذان نظران عقليان [وبهما نلتفت إلى القضية اللفظية] في

تسميتها علة. ومن هذا المضيق نشأ معظم الغموض في تخصيص العلل؛ فنقول: أما تسمية التماثل علة في صورة المصراة، ولا حكم لها: لا تحقيقا، ولا تقديرا -فلا وجه له؛ وإن سماه مسمى علة: فهو مجاز، ومعناه: أنه علة في غير المصراة، وهو موجود في المصراة. كما نقول: العلة هي الشدة، والشدة موجودة في أول الإسلام؛ فهي علة: ولا حكم لها. فيكون ذلك استصحابا للاسم الثابت بإزاء حقيقته، على الصورة المنفكة عن الحقيقة، كما يسمى الميت أنسانا بطريق الاستصحاب؛ مع العلم بزوال الإنسانية: فإنها بطلت بالموت و [إنما] بقيت الصورة. ويضاهي [هذا] أيضا تسمية العموم حجة في محل الخصوص. فقوله -عليه السلام -"لا صيام" يتناول التطوع بالصيغة اللغوية؛ فالصيغة موجودة لغة، ولكن تسميتها حجة لا وجه له: فإن الحجة ما يوجب الحكم، ولا حكم لهذه الصيغة فكيف تكون حجة؟ فلو قال قائل: أمكن أن يقال: الصيغة حجة أوجبت

الحكم، ولكن اندفع الحكم لمعارض. كما يقال في تعارض النصين: إذ كل واحد موجب، ولكن اندفع حكمه بالتعارض. وكذلك يقال: التماثل أوجب ضمان المثل في مسئلة [المصراة]؛ ولكن اندفع حكمه لمعارضة النص، ويلتحق ذلك بما ذكرتموه في الوجه الأول: من امتناع أحكام العلل بالاندفاع بالمعارضة، لا بطريق تطرق الخلل إلى ركن [67 - ب] العلة وصفتها. قلنا: هذا خيال لا حاصل له؛ فإنا لو قلنا: العموم أوجب الحكم في صورة التطوع، واندفع بالدليل الوارد في التطوع -لكان الاندفاع في حكم الارتفاع والانقطاع، فيجرى مجرى النسخ: فيتضمن أثباتا ثم نفيا. وإنما الخصوص -بالاتفاق -لبيان أن المخصوص لم يندرج تحت العموم؛ لا لبيان أنه اندرج ثم ارتفع. وهذا متفق عليه؛ والحجة فيه: أن النفي معلوم، وأمكن أن يكون أصليا: بأن لم يندرج؛ وأمكن أن يكون اندفاعا: بأن يقدر اندفاعه بعد الاندراج تقديرا. وفيه إثبات ونفي؛ والنفي متفق عليه، وتقدير هذا الإثبات تحكم لا مستند له؛ وقد وقع الاكتفاء

بتقدير الانتفاء من الأصل؛ وبهذا فرق بين الخصوص والنسخ. وأما النصان: إذا تعارضا، فلا يحتمل أن [لا] يكون النص متناولا لما هو نص فيه. إذ معنى كونه نصا فيه: أنه [غير] محتمل لأن لا يتناوله. فهذا مقام ضيق دقيق: لا يدرك إلا بالفكر الصافي، والذهن النقي عن شوائب البلادة والتقليد. وإذا ثبت ذلك: الطرد هذا في خصوص العلة، فيقال: تبين أن الشرع جعل التماثل علة في غير المصراة؛ وفيه نفي حكم التماثل في المصراة أصلا. واحتمل أن يقال: هو علة فيه أوجب الحكم، واندفع الحكم فيه بعارض النص. وفيه إثبات ونفي؛ والنفي متفق عليه، والإثبات تحكم لا مستند له، فهذا واضح للمتأمل. وعلى هذه الحقيقة، تنبني القضية اللفظية؛ فلا وجه لتسميته علة؛ فإن الوصف الشرعي إنما يسمى علة: أما لإيجابه الحكم، كما في العقليات. وأما لظهور الحكم والتغيير بحدوثه كما في الحسيات. وأما لكون الحكم [معقولا به، على ما سنذكر اضطراب هذه الوجوه. وكيف ما قدر، فالتماثل لم يوجب الحكم في المصراة كما سبق، ولا عقل به الحكم فيه، إذ لم يعقل الحكم فيه،

ولا تغير حكم المحل به: إذ لم] يتغير به المحل. فلا وجه لتسميته علة، ولا لاعتقاده علة. وعند هذا ننعطف على غير مسئلة المصراة، فنقول: التماثل المطلق هل نسميه علة فيه، فتكون العلة مخصوصة [فيه]؟. أو نقول: لا، بل التماثل المضاف إلى المواضع المعلومة هي العلة مع القيد، والتماثل المضاف إلى غير المصراة لم يوجد في المصراة، ولا الشدة المضافة إلى زمان وجدت في غير ذلك الزمان، ولا السواد المضاف إلى زيد وجد في غير زيد؛ فيكون الحكم منعدما بانعدام العلة، ويكون ذلك عكسا لا خصوصا؟. فهذا -أيضا -من المغمضات؛ ومنشأ الغموض: أن الناظرين فيه لم يتنبهوا على مطلع النظر؛ ومطلع النظر: معرفة حد العلة وحقيقتها، وتسمية الوصف علة للأحكام الشرعية استعارة. فلينظر: من أين استعيرت هذه اللفظة؟ وذلك يحتمل ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يقال: هو مستعار في الشرع من العلل العقلية. والعلة العقلية: ما تستقل بإيجاب الحكم، ويحصل الحكم بمجردها، فكل ما وجد بمجرده، ولم يحصل به الحكم -لم يكن بمجرده

علة. ويقتضي هذا أن لا يسمى مطلق التماثل علة؛ لأن مجرده موجود في المصراة، ولم يوجب الحكم. فالموجب للحكم: تماثل مقيد مضاف. وإذا قال: اقتلوا فلانا لأنه أسود؛ اقتضى ظاهره أن العلة مجرد السواد [المطلق]؛ فيقتل كل أسود. فلو بان بالنص أنه لا يقتل غير زيد، [قلنا]: تبين أن السواد المطلق المجرد ليس بعلة؛ وإنما العلة: سواد زيد، وسواد زيد لا يوجد في غير زيد: فينعدم الحكم بعدم العلة، ويستحل الخصوص على العلة -على هذا المأخذ: لأن العلة ما توجب الحكم بمجردها؛ فإذا وجب الحكم بمجموع أمور -من إثبات ونفي وإضافة -فالعلة المجموع لا البعض. ولما كثر ممارسة الأستاذ أبي إسحاق للبحث عن العلل والمعلولات العقلية، ولم [يثبت عنده] للعلل الشرعية استعارة إلا منها -أثبتها على مثالها، وقال بموجبها: لا يتصور الخصوص: لا على العلل المستنبطة، ولا على العلل المنصوصة، إذ العلة: ما توجب المعلول، فإذا لم توجب: انعطف قيد على العلة لا محالة، كما ذكرناه في السواد المنصوص عليه. المأخذ الثاني لاستعارة اسم العلة: البواعث العرفية؛ فإن الباعث على

الفعل يسمى في العادة: علة للفعل، فيعطي الإنسان غيره مالا، فيقال: لم أعطيته؟ فيقول: لأنه فقير؛ فيقال: فقره علة إعطائه، على معنى: أنه داعية وباعثه. وجنس هذه العلل يحتمل الخصوص؛ إذ لو سأله فقير آخر فلم يعطه، فقيل له: لم لا تعطيه وهو فقير؟ فينتظم أن يقول: لأنه عدوي؛ ولا يعد ذلك مناقضا للكلام الأول في العادة، ولو سأله ثالث فلم يعطه، فروجع في ذلك وقيل له: أنه فقير، فلم لا تعطيه؟ فيقول: لأنه معتزلي -فهذه الكلمات [68 - أ] لا تعد مناقضة في العادة. نعم: الذي غلب على كلامه جدال المتكلمين، قد يقول له: ناقضت كلامك؛ لأنك عللت عطيتك الأولى بالفقر، فكان من حقك [أن نقول] أعطيته لأنه فقير، وليس عدوي [ولا] معتزليا، فإن الباعث لو كان هو الفقر بمجرده، فقد وجد في العدو وفي المعتزلي. فالباعث مركب من وجود الفقر ونفي العداوة والاعتزال. فهذا يعد -في العادة -من عجرفة الطبع، واعوجاج الكلام. إذ قد تنبعث داعية العطية والصدقة من العلم بالفقر؛ وليس يخطر بالبال العداوة ولا الاعتزال. وكذلك كل ما يتصور أن يقدر من الصوارف وباعث الفعل، لا يتصور أن [لا]

يكون معلوما للفاعل، ولو كانت السلامة عن صارف العداوة والاعتزال جزءا من الباعث، لوجب أن يكون معلوما حالة الفعل، وقد تصور أن لا يكون معلوما؛ وهو -مع ذلك -باعث، ويسمى: علة. فعلى هذا المأخذ في الاستعارة، يجوز تسمية التماثل المطلق -في غير المصراة -علة؛ ويكون ضم شرط السلامة عن صورة التصرية إلى العلة، وتقدير التركب منه -برودة في الكلام: تنفر عنها الطباع، كشرط السلامة عن صوارف العداوة والاعتزال. ومن جوز الخصوص على العلل، وسماها -بعد لحوق الخصوص -علة؛ فهذا منشأ نظره وخياله. المأخذ الثالث: تسمية ما يظهر الحكم به -: أما في نفسه، أو في حق علم الناظر -علة. وهذا يستند إلى الحسيات، [كمن عرض له سقام] وفارقته الصحة بعلة عارضة عليه، يسمى ذلك العارض -المغير لحاله من الصحة إلى السقام -علة، فيقال: حدث به علة البرودة مثلا فمرض. وربما يكون ذلك العارض مستمدا من وصف سابق خلقي: كغلبة البياض على اللون مثلا؛ فيكون الضعف حادثا [با] لعلة الحادثة مع المزاج السابق؛ ولكن الحادث بمجرده يسمى: علة؛ لأن الضعف ظهر -[في حق المحل] وفي حق علمنا -بحدوث ذلك العارض.

وكذلك: من وقف على شاطئ شط أو بئر، فلطمه إنسان لطمة رداه في البئر وهلك -سمي لطمه وترديته علة لهلاكه وإن لم يتصور أن يكون ذلك موجبا للهلاك إلا بشرط خلو الهواء عن [الجسم الممسك] بحدوث عمق البئر. ولكن أشارت العقول إلى إضافة الهلاك إلى الضرب، لا إلى أهواء البئر؛ وإن كان لا يوجب الهلاك إلا به. وبهذا التأويل، استقام للفقهاء تسمية البيع والقتل والزنا: سببا للحكم وعلة؛ دون الإضافة إلى المحل والأهل، لأنها من الحوادث التي إذا حدثت: ظهر الحكم بها. أما صفات الأهلية والمحلية، فسابق مطرد. فعلى تأويل الاستعارة من هذا المأخذ، يجوز تسمية التماثل المطلق علة: لأنه يظهر الحكم بمجرده في سائر المواضع، دون أن يعرف الناظر إضافته إلى غير مسئلة المصراة، إذ لا يعرف هذه الإضافة من لا يعرف مسئلة المصراة، وقد يظهر للناظر هذا الحكم بهذه العلة، دون أن يسمع مسئلة المصراة. فهذا منشأ هذه الخيالات. ولكل طريق من ذلك وجه، وإنما اشتد إنكار فريق على فريق: من حيث إنكارهم للتسمية مأخذا سوى ما اعتقدوه. فمنكر خصوص العلل مستمد من فن الكلام. والقائل بخصوصه

ملتفت إلى العادات؛ وعلى منهاجه يجري نظر الفقهاء، وهو عن منهاج الكلام أبعد، ولذلك قيل: إن القائل بالخصوص في العلل فقيه محض، لأنه يجرد نظره إلى العادات والمعتقدات الظاهرة. فنقول للذي سماه علة: ما الذي عنيت به؟ إن عنيت وجوب الحكم بمجرده -وهذا حد العلة عندك -فهذا بمجرده لا يوجب الحكم، دون نوع من الإضافة. وإن عنيت به أن الحكم يعرف بمجرد معرفته، دون أن تخطر بالبال الإضافة -فهذا على هذا التأويل مسلم. وإذا كان اسم العلة مستعارا في هذا المقام، فطريق الاستعارة متسعة، ولا حجر فيها بعد الإحاطة بالمقصود المتعلق بالقضايا الاجتهادية، والجدلية، كما قررناها. وتبين أن منشأ هذا الخصام العظيم: أنهم لم يتفقوا على حد واحد للعلة معلوم؛ ولو وقع الاتفاق عليه: لهان عرض الوصف -المذكور في محل النزاع -على ذلك [المحك]. فهذا كله في العلة القطعية. ونحن نتعرض للوجوه الأخر في امتناع أحكام [العلل، قبل أن نتعرض لخصوص العلة المستنبطة -: لنستوفي أولا الكلام] في وجوه الإضافات العقلية واللفظية؛ إذ النظر في العلة المظنونة له مأخذ آخر. الوجه الآخر لامتناع الحكم: أن يندفع بعد كمال العلة، بمعارضة علة دافعة، كرق ولد المغرور: فغنه جرى فيه علة كاملة، وهو: ملك الأصل؛ غذ لا سبب لملك أولاد الحيوانات إلا ملك الأصل. ولكن عارضه

علة الحرية: اقترنت به، فدفعت حكمه. ولو لم يكن ذلك اندفاعا: لم وجب الغرم: لأن الغرم لا يجب إلا بتفويت؛ ولا تفويت: إذ لا مفوت، ولكن: قيل: دفعه في معنى قطعه. ولو اختل سبب الرق وانعدم، لكان انعدامه لا يوجب الضمان؛ فإنه لو اعتق نصيبه من الجارية المشتركة، فأتت بولد -لم يغرم قيمة الولد: لأنه انعقد على الحرية لانعدام سبب الرق. ولا غرم على معدم سبب الرق في الولد: لأجل الوالد. وكذلك: إذا زوج أمته من عبده، فاستحقاق البضع، علة استحقاق المهر. حتى نقول: [لا ينفك عنه مع التفويض، ولا مهر في هذه الصورة، ولكن نقول:] سقط بالرق المقارن، فكان في حكم الواجب [الساقط] لا في حكم المنتفى من أصله لانعدام سببه: لأن ملك السيد على العبد لو طرأ: [68 - ب] لبرأ ذمته من غير أن يطرق خللا إلى سبب الاستحقاق؛ فإذا قارن دفع: وكان كما لو طرأ وقطع؛ فالمندفع في حكم المنقطع. وكذلك القصاص الواجب: إذا انتقل بحكم الإرث إلى ابن من عليه القصاص -سقط. ولو كان سبب استحقاق ابن القاتل مقترنا، لم يجب القصاص؛ وكان في معنى الواجب الساقط. وقد عبر بعض أصحابنا عنه:

بأنه وجب ثم سقط. فقيل له: إن سقط فلم وجب؟ وإن وجب مع الأبوة واقترانها، فلم سقط؟ فكانت هذه اللفظة مختلة. والمعنى أنه في حكم الواجب الساقط: إذ الحكم ثابت تقديرا. ولذلك قال بعض المحققين: من اشترى قريبه لم يدخل في ملكه؛ بل عتق عليه واندفع ملكه. فاندفاع ملكه له حكم العتاق: إذ لو ملكه لدام ملكه، والقرابة توجب نفي الملك: فتوجب دفع الملك، وهو دفع في معنى القطع. وهذا استبعده فريق، وهو عندي سديد على هذا التأويل. وكذلك قال الفقهاء: من نصب شبكة في مدارج الصيد، فتعاق به صيد بعد موته -حصل الملك لورثته بطريق التلقي من المورث: حتى تقضي منه ديونه، وتنفذ فيه وصاياه. ومعناه: أن علة ملك المورث جرت بكمالها؛ ولكن الموت دافع له فلتقاه الوارث؛ فكان ذلك في معنى

الانتقال تقديرا: لأنه بطريق التلقي منه، وإن كان الملك لا يصادف الميت بحال. فالتلقي [منه] كالانتقال. وكذلك قال بعض الفقهاء: الجناية في حق الجاني -في شبه العمد والخطأ -سبب للوجوب؛ والعاقلة يتعرضون له بطريق التحمل، ولكن يجرى ذلك على وجه مختطف لا يحس؛ ولكن يعقل تقديرا. وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه -: عقد الوكيل سبب في [وجوب حق الموكل]، والملك يحصل للموكل بطريق التلقي منه على تقدير مختطف لا يدركه الحس، فيكون في معنى الانتقال. حتى جوز لوكيل المسلم أن يشتري الخمر -إذا كان الوكيل ذميا -بهذا الطريق. فهذا متفق عليه بين العقلاء والفقهاء، وهو معقول كما تقرر، وهو: [أن ما] إذا طرأ قطع الحكم لا بتبعيض العلة، فإذا أقترن دفع، وكان

الدفع في معنى القطع. والغرض في هذا المقام أن نبين أن الحكم وإن اندفع، فالموجب علة محققة من حيث اللفظ، والعقل، والاجتهاد، والجدل. ولا حاجة إلى الاحتراز عن مواضع انتفاء الحكم، بهذا الطريق. الوجه الثالث: لانتفاء الحكم مع وجود العلة: أن ينتفي لا لخلل في ركن العلة، ولكن لخلل في المحل والأهل والشرط، كقولنا: أن البيع سبب لزوال الملك وعلة له. وللبيع ركن، وهو: صيغة الإيجاب والقبول. وله مصدر، وهو: العاقد. وشرطه: [أن يكون عاقلا بالغا مالكا. وله موقع ومنزل، وهو: المبيع، وشرطه]: أن يكون مالا متقوما مقدورا على تسليمه. إلى غير ذلك من الشرائط. والفقهاء يطلقون القول بأن البيع هو السبب والعلة، مع علمهم بأن الحكم لا يتعلق بمجرد وجود صيغة البيع، ما لم تصدر عن مصدر مخصوص، ولم تضف إلى محل مخصوص. فنقدم في هذا الطرف القضية العقلية واللفظية، فنقول: لا وجه لتسميته علة على مذهب من يأخذ العلة من مثال العلل العقلية؛ فإن الموجب للحكم بيع مضاف إلى عاقد مخصوص مصادف لمعقود مخصوص، فالعلة عبارة عن البيع الموصوف بسائر الأوصاف. فإذا لم يحصل الملك: كان

ذلك لانعدام العلة والسبب. وإليه يشير مسلك الأستاذ، فيقول: لا فرق بين أن يمتنع الحكم لفقد الإيجاب والقبول أو لخلل فيه، وبين أن يمتنع لصدوره من الصبي، وبين أن يمتنع لمصادفته خمرا. فالكل ممتنع لامتناع السبب. فإذا باع الصبي، بطل: لعدم السبب. وإذا بيع الخمر، بطل: لعدم السبب. وإذا بيع واختل الإيجاب والقبول، بطل: لعدم السبب. فإن السبب المشروع -الذي هو علة لإفادة الحكم -: بيع مضاف إلى عاقد مخصوص، وإلى معقود مخصوص. ففقد بعض الأوصاف فقد لسبب والعلة. فعلى هذا، إذا قال الحنفي مثلا: الغصب سبب لملك بدل المغصوب، فكان سببا لملك المغصوب أو كان علة له -ينتقض بالغصب في المدبر. وقد اختلف الجدليون في ذلك، فمنهم من قال: هذا النقض غير لازم؛ فإنا نقول: الغصب في المدبر سبب، ولكن المحل غير قابل للتمليك، ولذلك لا يقبل البيع. ومن الجدليين من زاد احترازا وقال: فينبغي أن يفيد الملك في المحل القابل [للتمليك]. وكذلك إذا قلنا: ملك الصبي كامل: فكان سببا لوجوب الزكاة؛

فقيل لنا: باطل بملكه فيما دون النصاب. إلى أمثال له، فهو النقض المائل عن مقصد التعليل، الوارد على صورة اللفظ. ونحن نقول: القضية الاجتهادية في هذا الجنس معلومة؛ إذ لا يجوز للمجتهد أن يفتي بحصول الملك بمجرد ملاحظة البيع، ما لم يلحظ اتصافه بقيوده، وإضافاته. فإنما الموجب للحكم بيع موصوف بالإضافة إلى شخص مخصوص ومحل مخصوص. فإذا صادف جميع القيود والإضافات [حاصلة]: حكم بالملك وإلا فلا. وأما القضية الجدلية، فالذي نراه فيها أن هذا النقض غير لازم: لأنه مائل عن مقصد الكلام. فإنا وإن كنا نعلم أن موجب الحكم مركب من جملة الأوصاف، ولكن جهات النظر ونواحيها متباعدة. فليس بطلان بيع الصبي من جهة بطلان بيع الخمر. بل يقال: لا خلل في الركن وهو: الإيجاب والقبول. وإنما الخلل في صفة العاقد. فيطلب مأخذه؛ ومأخذه يبعد [69 - أ] عن مأخذ صفات المعقود وصيغة الإيجاب والقبول. فنقول: بيعه سبب صادف محله ولكن لم يصدر من أهله، وبيع الخمر صدر من أهله ولكن لم يصادف محله؛ فتتباعد مقاصد النظر، وتتباين مآخذه.

فإذا كان المقصود البحث عن جهة، فتعرض المعلل لمأخذها -فلا ينبغي أن يناقض بما ينشأ النظر فيه من ناحية أخرى بعيدة عن مقصد النظر. فإذا قال القائل: الصبي أهل للبيع، لم يحسن أن يقال: لو كان أهلا لصح منه بيع الخمر. وإذا قال: المبيع [الغائب] محل للبيع، لم يحسن أن يقال: لو كان كذلك لصح [فيه] بيع الصبي، فإنه وإن بطل بيع الصبي فيه، لم يناقض قوله: هو محل البيع. وكان مثاله من كلام الشارع صلوات الله عليه قوله: "في سائمة الغنم الزكاة" وما دون النصاب سائمة، ولا زكاة فيه. ولا يعد نقضا لهذا الكلام: لأنه منحرف عن مقصود الكلام. وقد قال عز وجل: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا" فجعل السرقة علة للقطع؛ وسرقة ما دون النصاب سرقة

وليس بعلة، ولا يعد ذلك نقضا ولا مناقضا؛ لأن مقصود الكلام التعرض للجهة والسبب، لا للمحل الذي يعمل فيه السبب. فهذا ما نراه في القضية الجدلية، وهو: رد كل نقض منحرف عن مقصد الكلام؛ كما ذكرناه. وكذلك لا نرى انتقاض قول الحنفي بالمدبر، إذ قال: الغصب سبب ملك البدل، فليكن سبب ملك الأصل، لأنه يقول: هو في المدبر -أيضا -سبب؛ فليس من مقصوده التعرض للمحل الذي يعمل فيه السبب. وهذا عبر الجدليون عنه: بأن المعلل للجملة لا يناقض بالتفصيل. فهذا ما يتعلق بالقضية الجدلية، والاجتهادية. أما القضية [العقلية والاسمية]، فنقول فيها: تسمية السرقة المطلقة علة في القطع لا يستقيم على مذهب من يأخذ حد العلة من العقلية؛ لأن العلة الموجبة سرقة مضافة مخصوصة، فلا يضاف الحكم عقلا إلى السرقة المطلقة، ولا تسمى السرقة المطلقة عن قيد الإضافة علة، فالعلة سرقة مقيدة بجميع قيودها. وكذلك البيع والقتل والزنا، وجميع الأسباب، فلا يسمى مطلقها علة. أما من يأخذ اسم العلة من ظهور الحكم بسبب حدوثه، فالحادث المتجدد هو السرقة والقتل والبيع [والزنا].

فأما أوصاف الفاعل والمحل فسابق؛ فيضاف الحكم إلى الحوادث لا إلى أوصاف المحل، وإن كان أوصاف المحال والفاعلين شروطا لحصول المقاصد، كما ضربناه: من أمثال المردي في البئر؛ والعلة العارضة الموجبة للضعف. وهذا المسلك أقرب إلى الفقه. وقد فرق الفقهاء بين ما قبل وجود السبب، وبين ما بعده -في الأحكام؛ والوجوب منتف في الحالتين جميعا. فجوزوا تقديم الزكاة بعد وجود ملك النصاب وقبل انقضاء الحول، ولم يجوزوا قبل ملك النصاب. وجوزوا تقديم الكفارة على الحنث بعد وجود اليمين، ولم يجوزوا [قبل اليمين]؛ والوجوب منتف في الحالتين: اعتمادا على سبب الوجوب. فسموه سببا وإن لم يتصل به الوجوب، فتسميته علة على هذا التأويل -أيضا -غير بعيد. وكذلك جوزوا التكفير عن القتل بعد الجرح، بالمال وبالصوم

الذي هو عبادة لا تقدم على وقتها. وتستمد هذه التسمية الفقهية المعتضدة بالعرفيات التي قدمنا أمثلتها من قضية في الإضافة عقلية؛ فإن الذات الموصوفة بصفات، إذا أوجبت حكما: أشارت العقول إلى الإضافة إلى الذات دون الصفات، فإن الصفات توابع، فلا تجعل ركنا مع الذات وجزءا من الموجب. فالكتابة إذا حدثت من جهة الكاتب: أضيفت إلى الكاتب لا إلى العلم والقدرة والقصد والإرادة وإن كنا نعلم أن ذات الكاتب لا تحدث الكتابة إلا بعد الاتصاف بهذه الصفات. وكذلك: إحداث العالم مضاف إلى الإله -عز وجل -في ذاته، فيقال: هو المحدث؛ وتستقيم الإضافة إلى مجرد الذات، دون التعرض للصفات. فإن قال قائل: هو إشارة إلى ذاته الموصوفة بصفاته، قلنا: يجوز أن يقال: زيد محدث هذه الكتابة، فيضاف الإحداث إلى ذات زيد:

وليس زيد عبارة عن الذات مع العلم والإرادة والقصد، فإنه -مع الانفكاك عن هذه الصفات -تعقل ذاته، وزيد إشارة إليه لا إلى الصفات. فكذلك بهذه القضية العقلية، تستقيم إضافة حدوث الملك إلى البيع في ذاته، وحدوث وجوب العقوبات إلى القتل والسرقة والزنا في ذواتها. فإن قولنا: بيع مكلف"، [إضافة؛ وهو:] صفة البيع لا يعقل قيامه إلا بالبيع. وقولنا: سرقة نصاب"، إضافة إلى السرقة. والإضافة صفة تابعة للمضاف إليه، فكان الذات في نفسها هي التي يضاف إليها، دون الأوصاف التابعة. وبهذا تنفصل عن أجزاء العلة وأبعاض أركانها: إذ ليس بعضها، تابعا للبعض، فهو كالإيجاب والقبول: لا يضاف الحكم إلى واحد، بل يضاف إليهما. فالسبب يتركب منهما، وليس أحدهما وصفا للآخر. ولذلك، قلنا: لو ملك نصف النصاب وعجل نصف شاة: لم يجز، ولو ملك كمال النصاب وعجل الزكاة قبل انقضاء الحول: جاز. لأن الموجب هو نصاب باق حولا؛ وكونه باقيا صفة النصاب: فلم يكن ركن العلة وبعض السبب. فجاز التقديم بعد وجود أصل

السبب. ونصف النصاب بعض السبب وأحد أركانه؛ فلم يمكن أن يجعل تابعا وتقدم بسبب وجوده الزكاة. فهذه قضايا عقلية: تتأيد بالعادات، وتؤيد المصير إلى تسمية الأسباب [عللا]، وإضافة الأحكام إليها إذا حدثت، وإن كان الحكم لا يجب بمطلقها وبمجردها؛ وإنما يجب بموصوفها بإضافات. ولكن الحكم يضاف -عقلا [69 - ب] وعرفا ولغة -إلى الذات الموصوفة؛ فجاز تسميتها علة بهذا الطريق. وبان أن ذلك جار في الجدل على الوجه الذي قررناه، ونبهنا على القضية الاجتهادية فيه أيضا. فإن قال قائل: سياق كلامكم يدل على أن العاقد والمبيع في مقام الشرط والمحل في البيع، وليس في مقام الركن. ونحن نعلم أن البيع لا ينعقد بيعا دون مبيع، فالمبيع هو الركن، فكيف يقال: أنه محل يجري مجرى الشرط؟ قلنا: الشرط والمحل والركن عبارات أطلقها الفقهاء، وغمض مدركها على الأكثر؛ لأنهم يعبرون بها عن مقاصد مختلفة، ولم يتفقوا فيها على حد معلوم بالاصطلاح. ونحن ننبه على الغرض، ثم لا حرج في الاطلاقات، فنقول: القتل لا يتصور إلا بقاتل وقتيل وفعل يسمى قتلا؛ وإذا وجب القصاص فإنما يجب بالقتل. ولا يتصور [أن ينفعل القتل قتلا] إلا بالقتيل والقاتل، [وفعل يسمى قتلا]. ولكن لا تجعل

حياة القتيل ووجوده بعضا من موجب القصاص ولا ركنا، ولكن يحال الحكم على القتل المجرد، ثم نعلم أن القتل لا ينفعل قتلا إلا بحياة المقتول ووجوده ووجود الفاعل، ولكن القصاص يضاف إلى ما يضاف إليه الهلاك، والهلاك يضاف إلى الفعل وهو: الجرح، لا إلى محل الجرح وفاعل الجرح؛ وإن كان الجرح لا ينفعل جرحا إلا بفاعل ومحل. فهذه أمور معقولة ينبغي أن تتحقق أولا، ثم إذا تحققت: اصطلح الفقهاء على التعبير عما يضاف إليه [الحكم]: بالسبب والعلة؛ وعلى التعبير عما لا ينفعل السبب إلا بوجوده: بالشرط والمحل. ثم ركن السبب عبارة عن نفس السبب وذاته، فإن اتحد ذاته: اتحد الركن؛ وإن تعدد ذاته كالإيجاب والقبول: سمي أحد العددين ركنا من أركان العلة وبعضا من أبعاضها، ولم تسم الشروط ركنا وبعضا من ذات السبب. فهذه اصطلاحات الفقهاء بينة، ومقاصدها معلومة، ولا حجر -بعد الإحاطة بها -في المضايقة فيها، والمساهلة عليها. هذا: مع العلم بأن الحكم ينتفي عند انتفاء الشرط والمحل، كما ينتفي عند انتفاء السبب. فلا رجم عند عدم الزنا، ولا رجم -أيضا -عند عدم الإحصان، ولكن جهات الانتفاء هي المختلفة. ولما تباينت جهات النظر، وتعددت في

أنفسها، واختلفت خواصها -اصطلح الفقهاء على عبارات متعددة: تنبئ -باصطلاحهم -عن مقاصدها. فهذا فن الفقه. وهو اللائق به. والقول المائل عنه، بتقدير جميع الأوصاف قيودا للعلة وأبعاضا وأركانا لها: من حيث كان الوجود موقوفا على جميعها -مستمد من فن الكلام، كما نبهنا عليه. ولن يتصور الخلاف في هذه المسئلة: من حيث المعنى؛ وإنما يرجع ذلك إلى التسمية، أو إلى الإضافة المعلومة بالعادة؛ على ما ذكرناها. هذا تمام البيان فيما يتعلق بامتناع الحكم [لعارض مدافع] هو في حكم القاطع، وفي امتناعه لفقد شرط ومحل. والآن ننعطف على المقصود الذي كنا فيه، وهو: بيان ورود النقض على العلة المظنونة؛ فالنظر فيه كثير الجدوى في الفقه، فنقول -وبالله التوفيق -: المسئلة الواردة نقضا على العلة المظنونة، لا تخلو: أما أن يعلم

قطعا أنها وردت مورد الاستثناء عن القاعدة لخصوص معنى وحالة؛ أو لم يعلم كونها واردة على طريق الاستثناء وأستبقاء العلة فيما وراءه. فإن علم أنها وردت مورد الاستثناء، لم يكن نقضا على العلة جدلا، ولا ينقطع به ظن المجتهد في مجرى نظره. وبيان ذلك بالمثال: أنا إذا عللنا -لإيجاب المماثلة بالكيل في الربويات -بعلة الطعم، فأورد علينا مسئلة العرايا نقضا -لم ينقطع الظن عن العلة [به]: لأنه علم أنه ورد مورد الاستثناء عن جملة القاعدة، بخصوص حالة؛ والاستثناء صريح في استبقاء المستثنى [منه]: فإنه لم يرد مورد النسخ لقاعدة الربا، بل ورد مورد اقتطاع طرف لنوع حاجة. والدليل على كونه استثناء: الإجماع، فإنه وارد على المعلل بالكيل والقوت والمالية، فكيف يستقيم -في الجدل من هؤلاء -النقض به، وعلتهم -أيضا -منقوضة به؟ وكيف ينقطع ظن المجتهد عن الطعم، وعلى أي وجه تقلب فهو مضطر إلى أن يفهم أن الحكم في العرايا لم يرد لدفع قاعدة الربا، بل ورد

[مقررًا لها] بما جرى فيه: من التقييد بخمسة أوسق وغيره. ولكنه اقتطعت صورته لحاجة مخصوصة؟ وهذا يلحق النظر فيه بالعلة القطعية، وهو: أن ورود الاستثناء على العلة يعطف قيدا على العلة. وهل يخرج مطلقها عن أن يسمى علة أو يضاف الحكم إليه؟ وقد ذكرنا بيانه. وحد ما يعلم كونه واردا مورد الاستثناء: أن يضطر إليه كل فريق على أي وجه ردد النظر؛ لا يختص ذلك بمذهب دون مذهب. فإذا علم المجتهد أنه على أي وجه تقلب في نظره، وعلى أي علة اعتمد: اضطر إليه -كان ذلك إجماعا في وروده مورد الاستثناء، فلا ينقطع نظره. وإن كان مجادلا، فلا يلزمه النقض، لأنه منقلب على الخصم في علته ومذهبه -أيضا -. وهل يجب الاحتراز عنه بصورة لفظ، وتقييد بقيد عبارة؟ اختلف فيه الجدليون. والأصح -عندنا -: أن تكليف ذلك قبيح في الاصطلاح، كما تقدم. ومن أمثلة ذك: تمسكنا -في إيجاب تعيين النية في الصوم -بكونه عبادة مفروضة، فيفتقر إلى التعيين. فقيل [لنا]: يبطل [هذا]

بالحج، فإنه لا يفتقر إلى التعيين. فأقول: أما المجتهد فلا ينقطع ظنه الحاصل بمخالفة الحج له؛ فإنه كيف ما تردد، فالحج على خلاف قياس العبادات في النية؛ فإنه لو أهل بإهلال كإهلال زيد -وهو لا يدري -: انعقد. وتطرق إليه أمور لا تتطرق إلى سائر العبادات. فعلم أن الشرع قطعه عن قياس غيره، واستثناء عنه؛ لا أنه رفع به قياس [70 - أ] العبادات. إذ لابد من إتباع نوع من النظر في افتقار العبادات إلى النية، فكيفما ورد فالحج على مخالفته. هذا نظر المجتهد. وربما يسنح في هذا المقام أن المعنى المناسب -لو ظهر -متروك، ووجب العدول إلى التشبيه. وهو: أن الصوم إلى الصلاة أقرب منه [إلى] الحج. وعلى الجملة: انعطف من الحج قيد وإضافة على العلة المطلقة؛ وذلك القيد لا يناسب، وإنما هو تمييز بعلامة فاصلة لمحل جريان الحكم -عن محل انقطاعه؛ وهو: الشبه الذي قدمناه. فأما أن يستعمل الشبه والعلامة كاستعمال المخيل وتخصيصه، وأما أن يعتبر العلامة ويضيف الحكم إلى نفس العلة. ولذلك اضطر النكرون للتعليل بأوصاف لا تناسب، إلى جواز الاحتراز -في مثل هذه المواضع -بوصف

لا يناسب؛ فإنه مضموم [إلى المناسب] غير مستقل بنفسه. وبه يتبين أن القول بالعلامات الفاصلة التي لا تناسب -وهو الذي يسمى: الشبه مرة، والطرد أخرى -حق لا محيص عنه. إذ لو سبر السابر جميع المناسبات المخيلة، لم يصادف واحدا منها يطرد من غير احتياج إلى تقييد، وتخصيص، وإضافة إلى جنس دون جنس. وتلك الإضافات: [إضافات] قيود بعلامات لا تناسب؛ كتخصيص معنى مناسب بالبيع، وقطعه عن النكاح. وتخصيص مناسب بالقصاص، وقطعه عن السرقة؛ مع أن صرف المناسبة ومحضها ينسب إلى الكل على وتيرة [واحدة]. ولكن يقال: علم أن الشرع راعى هذا المعنى في موضع دون موضع؛ والتقييد ببعض المواضع على خلاف المناسبة؛ فالمناسبة منقوضة، ويتعين الرجوع إلى العلامات المعرفة لمجارى الأحكام ومقاطعها؛ وهو: القول بالوصف الذي لا يناسب في تعريف محل الحكم به، سمي ذلك شبها أو طردا. وإذا نبهنا على هذه الدقيقة، فنعود إلى الغرض ونقول: كما لا ينقطع ظن المجتهد بورود الحج نقضا -: لعلمه بأن الحج يخالف كل قياس

ذكر، ونزول الحج منزلة العرايا، وكونه نقضا لكل علة ذكرت في الربا -فليعلم أن المجادل أيضا يدفع النقض بهذا الطريق، ويقول: معول الخصم على عدم التعيين [في الحج] والحج -أيضا -لا يتعين وقته. وقياسه الافتقار إلى التعيين. فهو نقض على كل فريق؛ فليخرج من اللبس وليعلم أن حكم الشرع فيه وارد في معرض قطعه، واستثنائه بخصوص اسمه وصفاته عن غيره. فالنظر في الباقي -على ما يقتضيه التعليل -مستمر، والحج لا يورد نقضا على شيء منه. فإن المعلل لا يفارق خصمه في أصل التعليل؛ وإنما يفارقه في عين العلة. والحج نقض على كل علة عينت، فليس يختص الخصم بالتزامه، وهو على خلاف الكل بالإجماع. فكأنا عرفنا بالإجماع أن وروده مورد الخصوص والاستثناء، لا مورد النقض والدفع للقاعدة الجارية. فهذا وما يضاهيه لا يرد نقضا. ثم للجدليين خلاف: في أن الاحتراز عنه بلفظ، هل يجب؟ كقولنا: صوم، مثلا. وقد نبهنا عليه، والأمر فيه قريب.

فإذن الحد في هذا الجنس: أن يعلم بالإجماع وروده على مخالفة كل قياس، أو يعلم بإجماع الخصمين وروده على الفريقين. وإذا أحاط الإنسان بهد الحد، علم أن قول أصحابنا: حق مقصود، فيورث -قياسا لخيار الشرط على خيار [الرد] بالعيب -منقوض بالأجل. ولا يغنيهم قولهم: أن الأجل خارج عن القياس. لأن الخصم لا يعترف به، بل يزعم أنه يسويه على قياس نفسه. وكذلك إذا قلنا: الكتابة الفاسدة خارجة عن القياس، فلا تلزم نقضا في البيع الفاسد -لم يسمع ذلك؛ لأنها غير خارجة عن قياس مذهب الخصم، على ما يعتقد في انعقاد الفاسد. وإن صوم التطوع: إذا ورد نقضا [على] غلتنا في تبييت النية، لم يسمع قولنا: أنه خارج عن القياس؛ لأن الخصم يزعم أنه غير خارج عن قياسه. وكذلك: إذا عللنا للمساواة في القصاص في مسئلة [قتل] الحر بالعبد، والمسلم بالذمي؛ فأورد قتل الجماعة بالواحد نقضا -لم يسمع قولنا: أنه خارج عن القياس؛ لأن الخصم يزعم أنه جار على قياسه: في أن المساواة غير مرعية، وأن كل واحد قاتل على الكمال [والتمام]

إلى نظائر لذلك: اشتهر في المجادلات؛ ولا وجه لشيء من ذلك. فإن قيل: فالخصم قد يقول: إن استغناء الحج عن التعيين ليس خارجا عن قياسي، وإنما القرينة عندي تعين، كما أن القصد يعين. فقد حصل التعيين بالقرينة. قلنا: إن استقام له ذلك، فتلك المسئلة لا تصلح للتمثيل. [فيرد التمثيل] إلى مسئلة العرايا: فإنها ترد بالاتفاق على كل فريق؛ ولا يجرى تعليل معلل فيه بحال. وإذا ضبطنا قاعدة برابطة وقيدناه بمثال، فإن سنح للناظر في عين ذلك المثال شيء، فليطلب مثالا أمثل وأقرب منه؛ ولا ينعطف على القاعدة المعلومة بالإبطال، لما يتطرق إلى الأمثلة من الاختلال. وإنما المقصود أن ورود المسئلة على الكافة -إذا لم يكن معلوما -لم يسمع مجرد الدعوى بالخروج عن القياس. وهذا كله بيان ما علم [أن] وروده مورد الاستثناء [مع أن العلة مظنونة، فأما إذا لم يعلم وروده مورد الاستثناء] كالتطوع في مسئلة

تبييت النية -فالاحتراز عنه في الجدل واجب لا شك فيه: إذ لا تبقى إلا الدعوى المجردة في خروجه عن القاعدة. أما المجتهد، فهل ينقطع ظنه عن العلة التي ظنها؟ وهل يجوز أن يبقى الظن مع ورود النقض؟ فقد ردد القاضي -رضي الله عنه -كلامه [في هذا]، وردد رأيه في أن القول ببطلان العلة بمثل هذا [النقض] معلوم، أم مظنون؟ والتفصيل [70 - ب] الحاوى للغرض فيه -عندي -أن يقال: إن انقدح الاعتذار عن مسئلة النقض بفقه على مذاق التعليل، [وهو المناسبة: إن كان التعليل مناسبا؛ أو الشبه: إن كان التعليل] شبها -فلا شك في انقطاع الظن: إذ تبين به أن ما سنح بعض العلة، وينعطف عليه قيد مناسب. فالعلة مجموع الأمرين. فإذا قلنا: طهارة فافتقرت إلى النية"، وانتقض بإزالة النجاسة -وجب التقييد بأنها طهارة حكمية. وظهر للمجتهد والمجادل أن علامة الحكم كلا الوصفين، لا أحدهما. وكذلك: إذا كانت العلة مخيلة، وانقدح عذر مخيل ينضاف إلى الأول ويصير جزءا منه -فلا شك في أن العلة صارت منقوضة، وانعطف عليها قيد.

أما إذا كانت العلة مخيلة، وكان لا ينقدح في مسئلة النقض عذر وجه من الوجوه -ولنقدر مثاله: التطوع في مسئلة التبييت؛ إذ المعنى المخيل: أن العبادة تفتقر إلى النية، والنية لا تنعطف على ما مضى، وأول العبادة لا يستغنى عن النية؛ فهذا كلام مناسب مخيل، وهو منقوض بالتطوع، ولنقدر أنه ليس ينقدح في التطوع عذر مخيل على مذاق العلة، وهو كذلك -فالظن الذي ذكرناه هل ينقطع بورود التطوع.؟ هذا محل [النظر: إذ يحتمل] أن يجعل التطوع معرفا لفساد العلة، ويحتمل أن يجعل استثناء بخصوص صفة مع بقاء العلة التي ذكرناها معتبرة. وقد تردد الأصوليون في هذا؛ وأنا أفصل القول في جنسه، فأقول: إن كان المناسب -الذي ذكره المعلل -على رتبة لا يستقل بنفسه مرسلا، ويفتقر إلى أصل يشهد له -كما قدمنا فيه التفصيل -: انقطع الظن بالنقض: لأنه لا طريق [إلى معرفة] كونه علة إلا شهادة الحكم له بوروده على وفقه. كما ذكرنا طريق التعليل بالمناسبات. وإذا كان يعتقد صحته بورود الشرع على وفقه؛ فمسئلة النقض على خلافه -تشهد بأنه ليس ملحوظا. فمن أعطى فقيرا ولم يذكر سببه، ظننا أنه أعطاه: لكونه فقيرا. إذ الفقر مناسب يصلح أن

يكون باعثاً. فإذا حرم فقيرا مثله في الفقر: علم أن الفقر لم يكن باعثا، وانقطع الظن؛ أو علم أن الفقر مع وصف آخر كان باعثا، وقد عدم ذلك الوصف في الفقير الآخر، ولسنا نطلع عليه، فهذا الجنس يقطع بانقطاع الظن فيه. فأما إذا كانت المناسبة على رتبة لا تفتقر إلى شهادة الأصل، وهو: المعنى الملائم والمؤثر -كما ضربنا أمثلته في الاستدلال المرسل -فإذا ورد نقص عليه، واحتمل أن يكون قد سلك به مسلك الاستثناء -فلست أجل بقاء الظن وحمل النقض على الخصوص والاستثناء بخصوص حالة. ولست أعني بالمناسب المستغني عن الأصل: الوصف الذي دل الإجماع أو النص على كونه مؤثرا في عين الحكم؛ فإن ذلك يلتحق بالعلة المعلومة، وهو الذي زعم أبو زيد -رضي الله عنه -أنه مشروط في العلل، ولم يقبل عليه النقض. وذلك سبق مثاله في المصراة، وضرب الدية على العاقلة. ولكن: ربما تعرف العلة بالظن لا بالعلم اليقيني، ويكون استدلالا مرسلا بمعنى يلائم تصرفات الشرع، وورود النقض عليه لا يقطع الظن. وأقرب مثال له. مسئلة [تبييت النية]؛ فإن قولنا: العبادات مفتقرة إلى النية"، كلام معلوم. وقولنا: أن كل اليوم يجب صومه"، [كلام]

معلوم. وقولنا: أن [صوم بعض] اليوم بعض العبادة وقد خلا عن النية"، معلوم. وقولنا: أن النية عزم وقصد لا ينعطف على الماضي"، معلوم في العقل؛ وعدم انعطافه حكما مظنون، مستنده: عدم انعطافه عقلا وتحقيقا. فهذا كلام لا يفتقر إلى الاستشهاد بالقضاء؛ ولكنه منقوض بالتطوع. ولا [يخطرن الناظر بالبال] منع بعض المتقدمين أن العبادة من

التطوع: بعض اليوم؛ فذلك من المنكرات في الشرع. فإذا نظر المجتهد في التطوع، احتمل عنده احتمال الشرع انعطاف النية على السابق حكما؛ وإن لم ينعطف تحقيقا. واحتمل أن يقال: استثنى التطوع عن هذه القضية: رخصة، وترغيبا في تكثير النوافل، وتساهلا فيها. فلقد تساهل الشرع في النوافل في أمور فارق فيها الفرائض. ولو كان كذلك: لبقيت العلة التي ظهرت أولا باقية في الظن؛ ولو كان بخلافه: لا ينقض. وليس يبعد أن يترجح للمجتهد ظن الاستثناء على ظن الإبطال؛ فيعتمده. فهذا في محل الاجتهاد، ويختلف بآحاد المسائل، وبقوة المناسبات وبظهور وجه خيال الاستثناء. وحظ الأصول أن كلا الأمرين مجوز في الإمكان، والنظر في تعيين آحاد المسائل إلى المجتهد. ثم إذا استقر الظن على العلة السابقة للمجتهد، فطريق المجادل: أما الاحتراز ظاهرا، وأما الإبداء للمقصود إجراء على ما يجرى به رسم الاصطلاح، وهو: أن يبين أن ظن الاستثناء -مع ظن إبقاء المعنى معتبرا -أغلب من ظن الانعطاف على المعنى بالإبطال. وعند هذا تكاد تظهر الحاجة إلى الاستشهاد بالقضاء: لنتبين به أن هذا المعنى لم

يعطله الشرع مطلقا، بل أبقاه مستعملا في الفرض. والأداء: بأن يكون محل استعماله، كما كان القضاء محل استعماله -أولى من أن يكون محل تعطيله. كما في التطوع. وبالاحتياج إلى هذا الاستشهاد، يتبين أن التعلق بالعلامة الشبهية أولى من التعلق بالمناسبة التي لا تطرد؛ فإن الحكم إن كان يتبع المناسبة المحضة: فقد صارت منقوضة. وإن كان يتبع العلامة الحاصرة القاطعة لمجرى الحكم عن موقعه -وهو: علامة الفرضية -: فليتعلق به [71 - أ] بطريق الشبه، كما سبق. وكل متعلق بمناسبة فهو مضطر إلى تقييد مناسبته بقيود، وتخصيصها بمواضع. مع أن المناسبة لا تختص بتلك القيود. ولأجله قال قائلون -وبه تشبث أبو زيد -رضي الله عنه -: أن المناسبة لا وجه للتعلق بها، ولكن الأوصاف -التي عقل من الشرع ضبط الأحكام بها، وعرفت فواصل بين النفي والإثبات بموارد الشرع

ومصادره -هو المتبع. وكل ذلك يرجع إلى إتباع أسباب وأوصاف موضوعة من جهة الشرع: لا تناسب بأنفسها. نعم: قد يتخيل للشرع حكمة فيها؛ والحكم يتبع الوصف الظاهر والسبب المنصوب، دون الحكمة: فإنها لا تطرد، بل يضطر في سياقها إلى قيود لا يوقف على حكمتها؛ وإن وقف على حكمتها بنوع من التوهم، لم يوثق به. وهذا كلام متين؛ وفيما قدمناه -من بيان المناسبة ومراتبها -ما يشفي الغليل. [ويلغي غموض هذا السؤال عند من أحاط به واحتوى على جميع دقائقه، كما قررناه]. مسئلة: اضطرب رأي الأصوليين في إضافة الحكم إلى علتين: فمنهم: من منعه؛ واستدل: بإجماع العلماء على الترجيح في مسئلة علة الربا، مع توافق العلل وإمكان الجمع. ومنهم: من جوز؛ واستدل: بأن المرأة الحائض المحرمة المعتمدة بحرم وطؤها بهذه الجهات؛ فالتحريم حكم واحد، وقد ثبت بهذه العلل.

وكذلك الشخص: يقتل ويرتد، فيستحق قتله بجهات، فيتحد القتل، ويتعدد السبب. والمسئلة في غطاء من الأشكال: لا يكشفه إلا التفصيل، فأقول -والله المستعان -: النظر في المسئلة يتعلق بقضية عقلية، وأخرى جدلية، وأخرى اجتهادية فقهية. أما القضية العقلية، فلا بد من تقديمها؛ فأقول: جواز إضافة الحكم الواحد عقلا إلى علتين، ينبني على درك حد العلة وحقيقتها، وما هو المراد [من إطلاقها] في لسان الفقهاء. فقد أطلق الفقهاء اسم العلة على ثلاثة معان متباينة -من لم يعرف تباينها: اشتبه عليه معظم أحكام العلل في [هذا] الركن -الذي رسمناه لبيان العلة -وفيما عداه من الأركان -: أحدها: تسميتهم البواعث والدواعي إلى الفعل: علة الفعل؛ وهو المسمى مناسبا في لسانهم. وعلى هذا التقدير، ليس يبعد -في قضية العقل -تعدد البواعث، وترادفها على الشيء الواحد. هذا من حيث

[التجويز العقلي]. كمن يعطي الفقير لفقره، وقد يعطي القريب -أيضا -لقرابته، فيكون كل واحد باعثا على الإعطاء [وداعيا إليه]، ويسمى علة بهذا الطريق. ومن مجوزات العقل أن تجتمع القرابة والفقر في شخص واحد، ويكون كل واحد باعثا مستقلا، على معنى: أنه لو ويسمى علة بهذا الطريق. ومن مجوزات العقل أن تجتمع القرابة والفقر في شخص واحد، ويكون كل واحد باعثا مستقلا، على معنى: أنه لو انفرد لاستقل داعيا إلى الفعل. ويجوز أن يكون اجتماعهما هو الباعث، حتى لو انفرد أحدهما: لم يكن باعثا. وعند ذلك تتحد العلة، ويرجع التعدد إلى وصف العلة. فعلى هذا، لا يبعد في العقل تقدير ترادف مصلحتين على قضية واحدة: بحيث يكون لكل واحدة رتبة الاستقلال لو تجردت عن صاحبتها. فهذا أحد مآخذ التسمية باسم العلة. المأخذ الثاني: العلامات المعرفة التي لا تناسب ولا تدعو، وإن كان يتصور أن تتضمن مناسبا لا نطلع عليه. فهذا -أيضا -قد يسميه الفقيه: علة، على معنى: أن الحكم يظهر في حق المتعبد بوجوده. وهذه العلل على مذاق الشروط: التي لا توجب بنفسها، ولا يضاف الإيجاب إليها إلا غلى نوع من التأويل. وعلى هذا -أيضا -لا يبعد أن يكون على

الحكم الواحد علامتان: يثبت الحكم -في حق المتعبد -بأية علامة كانت. كما يقول الرجل: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن كلمت زيدا فأنت طالق. فيتعلق الطلاق في حق المرأة، بكليهما. فكذلك: [للشرع] أن يضيف أحكاما متماثلة إلى علامات؛ ثم تجتمع العلامات، أو نتفرق. المأخذ الثالث للعلة: أن يكون الشيء موجبا؛ كالزنا للرجم، والقتل للقصاص، والسرقة للقطع. إلى غير ذلك: من الأسباب التي عقل جعل الشرع إياها موجبة، ولم تعقل الأحكام بأنفسها منفصلة، [بل عقل] كونها موجبة للأسباب، وكون الأسباب موجبة لها. فهذا -أيضا -إذا كان كونه موجبا مأخوذا من جعل الشرع إياه موجبا فلا يبعد في العقل أن يجعل الشرع سببين موجبين لجنس واحد من الحكم يتماثل في نفسه. كما نقول مثلا: القتل يجب بالزنا، ويجب بالكفر [بعد الإسلام].

وها هنا نظر دقيق عقلي، وهو: أن العلة -على هذا المأخذ -أثبتت على مثال العلل العقلية؛ ولا يجوز إثبات الحكم الواحد، في المحل الواحد -بعلتين؛ كالعالمية الحاصلة للذات بشيء واحد: لا يجوز أن تكون بعلمين. فعلى هذا المذاق، لا يجوز تعليل حكم واحد، في محل واحد، من وجه واحد -بعلتين؛ فإن المعلول واقع بالعلة. وكما لا يجوز أن يحدث شيء واحد عن [جهة] محدثين، لا يجوز أن يقع المعلول الواحد بعلتين، لأن من ضرورة إضافة الحادث إلى محدث، قطعه عن الآخر، فلا يتصور أن يكون واقعا بهما، مع اتحاده في المحل. ومن علل الشرع ما أثبت على مثال العقليات: إذ جعلت موجبة، ولم يعلم في الشرع ما أثبت على مثال العقليات: إذ جعلت موجبة، ولم يعلم في الشرع موجباتها منفصلة عن الموجبات؛ بل عقل من الشرع نصب الموجبات لها، كأسباب العقوبات أجمع. فلا يتصور تعليل حكم واحد، في محل واحد، بعلتين؛ على معنى: [أنه تقدر كل واحدة منهما موجبة له]. فإن الإيجاب إذا كان على مثال إيجاب العقليات: ففي اعتقاد الإيجاب لواحد، نفي الإيجاب عن الآخر.

وهذا [ما] يليق بمذهب الأستاذ أبي إسحاق -رضي الله عنه- في مصيره إلى استحالة التخصيص، فإنه ليس يعتقد للعلة مأخذا إلا على هذا الوجه. وهو اللازم على جميع الفرق في الأسباب [71 - ب] التي عرف من نصوص الشرع انتصابها موجبات للأحكام. فإنا وإن قلنا: إنها ليست موجبات لذواتها، فنعني به: أنها لولا ورود الشرع لما أوجبت. والآن فقد ورد الشرع بنصبها موجبة. ونصب الشيء موجبا: حكم من الشرع معقول، وإذا صار موجبا، وأضيف إليه الموجب -انقطع إضافته عن غيره. فإن قيل: فالقول بالأسباب الموجبة ضروري في الشرع؛ ونحن نرى جملة من الأسباب تترادف ويتحد موجبها. قلنا: اتحاد الموجب، مع تعدد الموجب، لا يعقل. فإذا أشكل شيء من هذا الجنس: فإما أن يكون الحكم متعددا متغايرا، ويتخايل إلى الناظر الاتحاد؛ وأما أن يكون السبب متحدا في جنسه، ويتخايل للناظر التعدد؛ وأما أن تسقط إحدى العلتين وتخرج عن كونها

موجبة، ويحال الإيجاب إلى الأخرى بطريق الترجيح: أما بالتقدم في الوجود، أو بالقوة في نفسه. فإن كل موجب يستدعى موجبا. وإذا لم تختلف الأحكام: تماثلت، والمتماثلات متضادة في العقل لا تجتمع في محل واحد. وهذا يتبين بإيراد الصور في معرض الأسئلة، ودفعها بطريق الانفصال. فإن قيل: المحرمة الحائض المعتدة يحرم وطؤها. فالوطء واحد، والتحريم واحد، والعلل متعددة. وكذلك: من زنا وكفر وقتل، قتل بهذه الأسباب. فالحكم واحد، والأسباب متعددة. قلنا: عماد القاعدة العقلية -التي قدمناها -أمران؛ أحدهما: أن المتماثلات متضادة، فلا تتعدد أحكام متماثلة في محل واحد. والآخر: أن كل موجب يستدعى موجبا بالضرورة؛ فإن لم يكن له موجب: خرج عن الإيجاب. ونحن وراء الوفاء بهذين الأصلين، في كل سؤال.

أما الحيض والعدة والإحرام، فكل واحد موجب تحريما على حياله، فهذه تحريمات متعددة وليست متماثلة، بل هي متغايرة: فلا تناقض فيما ذكرناه. ودليل تغايرها: أن القول بتحريم الوطء في الحيض -تجوز؛ إنما المحرم: مخامرة [الأذى؛ وفي الوطء مخامرة الأذى]. والمحرم: إفساد العبادة؛ والوطء يفسد العبادة. والمحرم: خلط الأنساب؛ والوطء يتضمن خلط الأنساب في العدة. فمن جامع -بعد اجتماع هذه الأسباب -فقد جنى على العبادة بالإفساد، وجنى على الأنساب بالخلط، [وخامر الأذى]. فيتضمن فعل واحد هذه الوجوه المتعددة المتباعدة. فإذا زال الحيض: زال تحريم مخامرة الأذى؛ وإذا زال الحج: زال تحريم الجناية على العبادة. وكذلك على هذا الترتيب. والدليل القاطع عليه: أنا لو قدرنا لكل واحد من هذه الجنايات مرتبة في العقوبة في [الدار] الآخرة -لكان الوطء في هذه الحالة تستحق به جميع العقوبات؛ والعقوبات مترتبة بترتيب المعاصي، كما يترتب الثواب بترتيب الطاعات. والثواب الموظف على طاعة لا ينال إلا بمثلها. وكذلك العقاب. وحد المثلين: ما يسد أحدهما مسد الآخر في كل قضية. وهذه

التحريمات متباينة الرتب والدرجات؛ فكيف يقدر تماثلها أو اتحادها؟. وكذلك الرجم غير القتل: فإنه -في صورته -يتميز عنه؛ والشيء لا يتميز عن نفسه بحال. وقتل الردة يخالف قتل القصاص: فإن قتل الردة يسقط بالإسلام [وهو دعاء إلى الإسلام]، وقتل القصاص يسقط بعفو المستحق، والشيء لا يفارق نفسه. فكيف يفرض الاتحاد ولا يفرض التماثل [أيضا]؟ فإن أحدهما لا يسد مسد الآخر: في جميع القضايا الواجبة والجائزة والمستحيلة. [فإن قيل: من قتل رجلين، فوجب] القتل الواحد بعلتين: أو وجب عليه قتلان متماثلان؟ وكيفما قدر، فهو نقض لأحد القضيتين العقليتين اللتين ذكرتموهما. قلنا: لا، بل وجب قتلان لمستحقين مختلفين وليسا متماثلين: إذ لا يستويان في جميع القضايا الواجبة والجائز والمستحيلة. إذ لو عفا

أحدهما: لم يسقط [حق] الآخر، ومأخذ استحالة اجتماع المتماثلين: أن الأسود لا يعقل أن يسود، كما أن الموجود لا يعقل أن يوجد. ومن لا يستحق زيد قتله يعقل أن يستحقه وإن كان قد استحقه عمرو من قبل، فهما مختلفان: يعقل اجتماعهما من هذا الوجه. فإن قيل: لو قتل ابني رجل واحد: فالمستحق واحد [والقتل جنس واحد] والقصاص جنس واحد. فيم تندفع المماثلة؟ وبم تثبت المخالفة؟ قلنا: إنما يثبت -في الأصل -للقتيلين: [فهما المستحقان الأصليان] وثبت للأب بطريق التلقي بالوراثة. ولذلك لا يثبت له: إذا لم يكن أهلا للوراثة. فقد عقل الاختلاف بالإضافة إلى مستحقين مختلفين. ولذلك لو عفا عن أحدهما لم يسقط الآخر. وذلك يدل على التعدد. واختلاف المستحق في الأصل، يدل على التغاير والاختلاف: فقد ثبت أنا أضفنا -إلى علتين -حكمين مختلفين؛ لا حكما واحدا، ولا حكمين متماثلين. فإن قيل: الولادة سبب لتحريم النكاح بين الوالدة والولد، والرضاع -أيضا -سبب؛ فلو ولدت وأرضعت، فهل تقولون: التحريم حاصل

بعلتين على نعت الاتحاد؟ فإن قلتم ذلك: أبطلتم إنكار [إضافة] الموجب [الواحد] إلى موجبين؛ وإن أثبتم تحريمين؛ فهما متماثلان، فلا يعقلان بزعمكم. قلنا: لا، بل التحريم واحد، وهو حاصل بالولادة. والإرضاع ليس بعلة: فإنه لم يوجب تحريما؛ فهو ساقط بالإضافة إلى الولادة، لأنهما لا يختلفان -أعني التحريمين -حتى نقضي بإحالة كل واحد منهما إلى موجبه، فإن المحل متحد، والتحريم متحد. ولكنا نحيل الحكم على الولادة من وجهين: أحدهما: أن الولادة بعضية حقيقية. والرضاع [72 - أ] مشبه بالبعضية شرعا، وشبه الشيء ساقط بالإضافة إلى حقيقته، عند وجود الحقيقة. وعلى الجملة، العقل يشير إلى إحالة الأمر على الأقوى؛ لأن الأضعف لا يعتد به مع الأقوى. وهذا كما أن البلدة: إذا كان إليها

طريق يبلغ مرحلة، وطريق يبلغ عشر مراحل -فالطريق البعيد لا يعد طريقا؛ وسالكه لا يترخص بالقدر المنوط بالسفر الطويل: مهما استوى الطريقان [في الأغراض]. وكذلك قال الشافعي -رضي الله عنه -وعن جميع الأئمة -: إذا نكح المجوسي أمه وولدت منه ابنا، فهذا ابنه وأخوة من أمه، فإنه ابن أمه أيضا. ولكن الوراثة عند الشافعي بالنبوة، وأخوة الأم لا تعد قرابة مع البنوة. والتقديم بالقوة يشهد له المشروع والمعقول: أما المشروع: فالحائض إذا صامت ليلا [فلا نقول]: بطل صومها بعلتين، أحداهما: الليل. والأخرى: الحيض؛ بل الحيض ساقط بالإضافة إلى نبو الوقت عن القبول.

و [كذلك] من باع حرا أو خمرا بشرط خيار مجهول أو أجل مجهول، فلا نقول: البيع فاسد بالشرط وبالحرية؛ بل الشرائط ساقطة بالإضافة إلى نبو المحل عن القبول، فإن محل العقد أقرب إلى العقد من شرطه وحكمه. فأحيل على الأقرب. وهذا مما تشهد له العقول، ويشهد لذلك انفساخ النكاح والإجارة بملك اليمين، لاستحالة إحالة الاستحقاق للمنفعة على الجهتين، واستحالة تعرية السبب عن فائدة، فقدم الأقوى، وحكم بانفساخ الأضعف واندفاعه. وكذلك في المحسوسات: فإن الحيوان المقيد تمتنع عليه الحركة، والطائر المحبوس في القفص يمتنع عليه الطيران بسبب القيد [والقفص]. فلو مات: خرج القيد عن كونه مانعا، وأحيل الامتناع على عدم الحياة؛ ولا يقال: إنه ممتنع بعلتين، إحداهما: الموت. والأخرى: القفص. ولو جاحد مجاحد ذلك: شهد عليه عقله بالخبل والضلال إن كان ذا عقل؛ وإلا فصدر [المراء فيه] عن غباوة وجهالة. الوجه الثاني لإسقاط أثر الرضاع: أن الرضاع طرأ على محرم

بالولادة: فإن الولادة سابقة بالضرورة. والمحرم لا يحرم، فيسقط أثر الرضاع، وامتنعت الإضافة إليه: إذ السابق من التحريم مضاف إلى الولادة، والطارئ غير معقول. وكما لا يعقل أن يوجد الموجود ويسود الأسود، لا يعقل أن يحرم المحرم ويتصف بالتحريم الذي هو متصف به. فلم يجد محلا فارغا حتى يؤثر فيه فسقط أثره، لفقده محلا. ووجه فقد المحل: أنه لا يعقل تحريم المحرم، كما لا يعقل تجدد السواد على السود. وكذلك لا يعقل بيع المبيع، ولا رهن المرهون من المرتهن والمشتري: لأن المحل مشغول بمثله. فلا يقبل ورود ما هو مشغول به. وكذلك: إذا أحدث الرجل وانتقض طهره [بأن بال مثلا، فبال] بعد ذلك أو تغوط -فلا نقول: إن الثاني علة لانتقاض الطهر؛ وإن كان مثل الأول. ولكن: لم يصادف طهرا حتى ينقضه، فإن المنتقض لا ينتقض. فهذه قضايا عقلية لا ينكرها من له ذهن سليم. فإن قيل: ما قولكم في الصغير المجنون؛ الثابت للأب عليه: ولايتان مختلفتان؟ أم ولاية واحدة مضافة إلى علتين؟ أم تلغى إحدى العلتين؟

قلنا: لا سبيل إلى القول بإثبات ولايتين متماثلتين، فإنه لا يعقل: إذ حاصله أن يقال: يلي عليه ويلي عليه؛ والمتكرر العبارة دون المعبر، فالولاية واحدة. وهي مضافة إلى الصغر: فإنه سابق. فإن الجنون لا يعقل إلا في سن التمييز، وقد صادف الجنون محلا مشغولا بمثل حكمه، فسقط. نعم: لو اطرد حتى بلع الصبي، فهو بعد [زوال] الصبا محال على الجنون الكائن بعد الصبا. وقد صادف محلا فارغا، فأفاد حكمه هذا فيه، إذا لم يبن بين الولايتين فرق. فإن بان فرق [في قضية] بين ولاية الجنون والصبا -عقل التعدد وحكم بالاختلاف. فإن قيل: فلومس ولمس معا، أو بال وتغوط معا -[فلا تقدم] ولا ترجح بالقوة فماذا تقولون؟. قلنا: الجواب عنه من وجهين: أحدهما أن نقول: الحدث ليس موجبا حكما. وإنما هو ميقات تكرر الأمر بالوضوء لأجل الصلاة؛ فهذا كالعلامة، لا تأثير له في الإيجاب. ويجوز أن يعلم الشيء بعلامتين ثم تزدحمان. وليس للعلامة مدخل في

الإيجاب حتى يقال: الإضافة إلى أحداهما توجب قطع الإضافة إلى الأخرى. الثاني: أنه لو قدر كونه موجبا نقضا، على قياس الأسباب المؤثرة -فنقول: الحكم متحد وهو: الانتقاض؛ والعلة -أيضا -متحدة، ولها حكم الاتحاد، وإن تعددت صورها. فالجنس واحد. فإنه لو بال: فالقطرة الأولى ناقضة [للطهارة وهي] تشتمل على أجزاء تستقل آحادها بالنقض، ولكن الحكم مضاف إلى الجملة، والجملة في حكم الشيء الواحد. وكذلك: إذا تعدد المخرج وتعددت الصورة؛ فعلة الانتقاض: الأصل، لا قدر ما به الحدث؛ فالإضافة إلى الأصل. وهذا كما أن سارق ألف دينار يجب عليه قطع واحد؛ ولا نقول: إضافة الوجوب تختص بربع دينار من الجملة؛ بل الربع فصاعدا هو الموجب. فكيفما كان، فالوجوب مضاف إلى الكل على وجه واحد: لا بطريق التعدد، ولا بطريق التمييز والتعيين. وكذلك الموضحة اليسيرة توجب خمسا من الإبل. وكذلك

الواسعة، ولا يضاف [الحكم] بالوجوب إلى الأقل ويعرى بالباقي، بل يقال: الكل جنس واحد، والإضافة إليه. وكذلك القول في زيادة قدر الشهود إذا شهدوا. وكذلك من [72 - ب] استوعب [جميع] رأسه بالمسح، يقال: أدى الفرض بجميعه، ولا يقال: إن الواقع منه فرضا أقل ما يسمى مسحا، والباقي نفل: فإن ذلك القدر لا يتعين. ولو جاز ذلك -مع الإبهام من غير تمييز، حتى يبقى على الإبهام في علم الله سبحانه أيضا، ويجري مجرى خصلة من خصال الكفارة في تعلق الوجوب بها لا على التعيين -لجاز طرد مثله في الأحداث المجتمعة، في أمثال هذه الالتزامات ويقال: النقض حاصل بواحد لا على التعيين. ولا فرق بين هذه الصور في هذه القضية. ويقرب منه أن مالك نصف العبد إذا أعتق النصف عتق الباقي. والعتق مضاف إلى جميع النصف، وإن كان عتق العشر وأقل منه علة كاملة في إيجاب السراية. وكذلك من يملك نصف الدار يأخذ الباقي بالشفعة؛ وقدر العشر

وأقل منه [علة] كاملة في الاستحقاق عند الإنفراد، ولذلك يسوى بين الشريكين المتفاوتين في النصيب: في مسئلة العتق، وفي مسئلة الشفعة على أصح القولين. وهذا: لأن العلة [أصل] الشركة وأصل العتق. فلا نظر إلى مقدرا ما به العتق وما به الشركة، ولم تتغير الإضافة به. فكذلك الأحداث: النظر فيها إلى أصل الحدث، وهو: جنس واحد؛ وما به الحدث مختلف طريقه وقدره، فلا تتغير [به] الإضافة. فإن قيل: إذا حصل الموت عقيب جراحتين، أو عقيب القد نصفين وحز الرقبة، ووجدا معا من غير تقدم وتأخر -فالموت محال على أيهما؟.

قلنا: قد يقول الخبير بصناعة الكلام: إن إيجاب العلة المعلول إنما يتلقى من العقل في المعقولات، ومن الشرع في المشروعات. وحصول الموت عقيب الجرح ليس شرعيا، والعقل قاض بأن مزهق الأرواح هو الله تعالى، وأن الجرح ليس بعلة أصلا. وهذا له مسلك واضح في صناعة الكلام. ولكنا -في مساق كلامنا هذا -نستنهج منهج الفقهاء، ونتبع فيه الاعتياد. فنقدر الجرح علة الموت، ونخرجه على المنهاج الذي ذكرناه في الأحداث ونظائرها على ما تقدم. هذه قضايا عقلية أثرتها وحركتها، ولم أجد أحدا من النظار تعرض لها؛ فلابد من الإحاطة بها في معرفة قضايا [العلل الثابتة على مثال] العلل العقلية. فأما العلامات، فلا تؤثر في الإيجاب حتى تضاف الأحكام إليها، فالعلل الثابتة على مذاق العلامات: لا تجرى فيها هذه القضايا. إلا أن تقدر العلامة علة في حق حصول العلم بالحكم. فعند ذلك قد تجري هذه القضايا والبواعث والدواعي التي يعبر عنها بالمناسبات في هذه القضايا؛ وربما تلتحق بقبيل العلامات: إذا لم يظهر أثرها في الإيجاب. هذا تمام النظر في القضية العقلية.

أما القضية الاجتهادية والجدلية، <ف> هو: أنه إذا سنحت علة في الأصل، فظهرت علة أخرى أمكن إحالة الحكم عليها، أو أبداها الخصم -فهل يبطل به النظر الأول حتى يحتاج إلى الترجيح؟ هذا مما اختلف فيه: فقال قائلون: هذا اعتراض فاسد؛ فإن تعليل الأصل بعلتين جائز، فلتكن تلك العلة -أيضا -ثابتة معه، فليس [في هذا] ما يناقض الأولى. وعلى هذا بنوا بطلان الاعتراض بالفرق، وقالوا: لا معنى له إلا إبداء علة في الأصل، وبيان عدمها في الفرع. فلا وجود العلة التي ذكرها المعترض: يبطل علة الأصل، ولا عدم [تلك] العلة في الفرع: يوجب عدم الحكم مع قيام علة أخرى. ومنهم: من قبل الاعتراض بالفرق، على خلاف ما ذكره هؤلاء. والقول بالنفي والإثبات مطلقا [عندنا] مختل من الجانبين؛ فالوجه أن نقول: إن كانت علة الأصل مما تثبت بشهادة الحكم لها، فظهور علة أخرى يدفع الظن الحاصل من شهادة الأصل.

وإن كانت العلة ثابتة بالنص، [أو بإيماء النص]، أو بتأثير معلوم من غير الأصل بالإجماع -فظهور علة أخرى: لا يقدح. وكل هذا الجنس لا يحتاج إلى الاستشهاد بالأصل. وهو الذي سميناه: المؤثر، [الذي] يرجع حاصل النظر فيه إلى إدخال تفصيل تحت جملة. وإنما المفتقر إلى الأصل: ما يفتقر إلى إثباته بشهادة الحكم له على وفقه. وقد بينا أمثلة المؤثر. وأما الثابت بالمناسبة، أو الوصف الذي لا يناسب: إذا عرف بالطريق الذي ذكرناه في الطرد والعكس، أو بطريق الشبه الذي ذكرناه -فظهور علة أخرى يقطع الظن. لأن مأخذه: أن الحكم الثابت في العين أو الثابت في الذات، لابد له من معنى باعث عليه ومتقاض له بالمناسبة؛ فإذا ورد وفق مناسبة موجودة، غلب على الظن أنه الداعي، كما أن من علمنا فقره فأعطاه معط شيئا، غلب على الظن أنه أعطاه لفقره، فإذا علمنا أنه قريبه: ارتفع الظن الأول، واحتمل أن يكون للقرابة. فلابد من ترجيح لأحد الظنين. وإذا ثبت هذا في المناسب، فهو

في الطرد والعكس والشبه: أولى. لأن مأخذ الكلام فيهما: أنه لابد من علامة فاصلة لمجرى الحكم عن موقفه ومقطعه، ولا علامة إلا كذا. فإذا ظهرت علامة أخرى، بطل قولنا: لا علامة إلا كذا، وانقطع الظن. وقد قررنا ذلك في موضعه. فإن قيل: فلو انعدمت العلة المؤثرة، فهل يجب انعدام الحكم [بها؟ وهل] هو المعنى بالعكس؟. قلنا: نعم، [الحكم] الحاصل بتلك العلة ينتفي عند انتفاء تلك العلة، ولكن يجوز تقدير علة أخرى: يناط بها الحكم عند عدم العلة الأولى. وإلا، فلو قدرنا انتفاء جميع العلل: لانتفى الحكم. وكذلك: إذا وقع الاتفاق على اتحاد العلة، فمن ضرورة [انتفاء العلة] انتفاء الحكم: إذ لا يستغنى الحكم عن موجب. ولكن: يجوز أن تنتفي علة، ولا ينتفي الحكم: لموجب له من علة أخرى، أو نص يرد فيه. ولما جاز ذلك: لم يجب على المجادل التعرض له، [73 - أ] لأنه يقع خارجا عن مقصود الكلام. وإنما

مقصود الكلام إثبات الحكم عند جريان العلة. وإلا فعلى المجتهد الوفاء بعكس العلة عند انعدامها، كما يجب الوفاء بطردها عند وجودها. فلاح [أن] كل كلام يفتقر إلى الاستشهاد بأصل، ليكون حكم الأصل شاهدا لكونه علة أو علامة -ينقطع الظن الحاصل منه عند ظهور غيره. ونزل ذلك -في التقدير -منزلة من قال: مس الذكر، فصار كما لو مس وبال. لأنه إذا وجد في الأصل علة [أخرى] مستقلة: لم يصلح للاستشهاد به على كون المس موجبا. وإن استند إلى الإيماء أو النص: في إثبات أن المس سبب -استغنى [به] عن الاستشهاد بالأصل، وجرى دليله في الأصل والفرع على وتيرة واحدة. وكذلك إذا قلنا: أمة كافرة فلا يتزوجها المسلم كالأمة المجوسية، كان ساقطا؛ لأن التمجس مستقل [بإثبات التحريم]، فكيف يشهد الأصل لكون الرق معتبرا. ولو قام دليل على أن الرق مؤثر من نص أو إيماء أو إجماع، لاستغنى عن الاستشهاد بالأصل. وبهذا يتبين وجه مصير العلماء إلى الترجيح في علة الربا، فإنها علامات شبهية عرفت بورود الحكم، لا بشهادة نص أو إجماع لتأثيرها في

الحكم، فهذا منتهى النظر في المسئلة. مسئلة: اختلفوا في صحة العلة القاصرة: فذهب الشافعي -رضي الله عنه -: إلى صحتها، لأن جواز تعدية العلة ينبني على معرفة صحتها بطريقة. وليس للتعدي مدخل في التصحيح، وهو نتيجة التصحيح. وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه -: إنها باطلة. فإنه لا حكم لها: إذ الحكم في محل النص ثابت بالنص، ولم يثبت بها حكم في غيره. ونشأ من هذا أمر، وهو: أن الحكم في الأصل هل يضاف إلى العلة، أم لا؟ فهم يزعمون أن المضاف إلى العلة حكم الفرع. فأما حكم الأصل فمضاف إلى النص لا إلى العلة. وهذه المسألة -عندي -لفظية: تنبني على بيان حد العلة، وما هو المراد بإطلاقها. وقد بينا أن الفقهاء يطلقون اسم العلة: على

العلامة الضابطة لمحل الحكم. وقد تطلق على الباعث الداعي إلى الحكم، وهو: وجه المصلحة. وقد تطلق على السبب الموجب للحكم الذي يتنزل: في الإيجاب وإضافة الموجب إليه، منزلة العلة العقلية، بنصب الشرع. وإذا خرجت المسألة على هذه المآخذ ارتفع الخلاف. فإذا أريد بالعلة: السبب الموجب الذي يقتضي إضافة عقلية، كما في العلل العقلية؛ فهذا يقتضي أن يقال: إن كانت العلة منصوصا عليها، كالسرقة مثلا -جاز إضافة الحكم إليها [وإن كانت قاصرة]. وإن كانت مستنبطة بالظن، فلا: لأن المضاف -[وهو الحكم]-مقطوع به، فيستحيل أن يكون المضاف إليه مظنونا. والعلة المستنبطة مظنونة، فالحكم بأن الحكم [حصل] بها، إضافة مقطوع به إلى سبب مظنون. وإضافته إلى النص القاطع -والحكم مقطوع به -أولى من إضافته إلى العلة المظنونة، وقطع إضافته عن السبب الظاهر المقطوع [به]. وعن هذا المنهج، فرق فارقون بين العلة المنصوصة والمستنبطة.

وإن أطلق [اسم] العلة لإرادة الباعث على الحكم والداعي له، وهو: وجه المصلحة. فيقول الناظر: الحكم ثابت بالنص ومضاف إليه. والسبب الباعث للشرع على النص: المصلحة الفلانية. فهذا لا حجر في إطلاقه. ثم تلك المصلحة قد يستوفيها النص ويستوعب مجاريها، وقد يقصر النص عنها، فيلحق به غيره. وقد تقصر على النص، فيخصص النص به. فإن قيل: وأي فائدة فيه إذا كان حكم النص [يستغنى عنها، فلا يثبت بها] غيره؟ وما لا فائدة فيه فهو عبث. قلنا: إن عنيتم بالفائدة إثبات حكم به، فهذا لا فائدة له. وإن عنيتم بالبطلان أنه لا فائدة لها، فالبطلان -بهذا التأويل -مسلم. وإنما نعني بصحتها: أن الباحث لا يدري في أول الأمر: أيعثر على مصلحة مطابقة للنص، أو على مصلحة زائدة على محل النص متعدية؟ فإقدامه على النظر -وهو يتوقع الفائدة -لا يعاب عليه، فلا يعد عبثا. وإذا

عثر عليه ونظر فيه، فرأى النص مستغرقا جميع مجاريه. فالمعني بصحته: أن وقوفه على قصوره لا يقطع الظن الحاصل، ولا يبطل مستند الظن ومثاره؛ بل يبقى الظن كما كان. فيتوهم -برأي غالب، واعتقاده قوي في النفس -أن الباعث للشارع على التنصيص على الحكم، هو الذي ظهر له. وإذا فسرنا الصحة بهذا [القدر]، وفسروا البطلان بذلك القدر الذي ذكروه، وأنصف كل فريق منا ومنهم -انكشف الغطاء، وارتفع الخلاف. فإن قيل: نعني ببطلانها أن القول بها رجم بالظن، وحكم على الغيب مع الشك والريب؛ وهو ضد العلم. وإنما جوز الركون إليه لحاجة العمل [به]. فإذا لم يكن معمولا به، فهو من قبيل العلوم والاعتقادات، لا من قبيل التعبدات العملية. وشرط الاعتقادات: العلم دون الشك والظن. قلنا: سلمتم لنا حصول الظن وبقاءه، وأن الوقوف على عدم التعدي لا يعطف ضعفا وخللا على الظن السابق. وهذا ما عنيناه بالصحة فقط،

وإن سلمنا خلوه عن كل فائدة. على أنا نظهر فيه فائدتين: أحداهما: من حيث الاعتقاد والإحاطة بمحاسن الشرع، وما فيها: من طمأنينة النفوس، وثلج الصدور. فإن ذلك لا يحصل من التحكم الجامد. وإذا وقع الوقوف على وجه المصلحة: اطمأنت النفوس، وانقادت للقبول عن طوع، وترقت عن مرارة التقليد [73 - ب] وقهر التحكم. ولذلك تأثير في استمالة القلوب للإذعان والاطمئنان. وقولهم: إن ذلك ظن [وليس بعلم]؛ فليس ذلك قادحا في الغرض. فمعظم اعتقادات الخلق تخمينات وظنون، ومعظم بواعثهم وصوارفهم -في مواردهم ومصادرهم، وتصرفهم في معايشهم -فنون الظن والتوهمات. وتأثيرها في التحريض على الفعل تأثير العلوم. ونحن نقول: تقرير النفوس على موارد الشرع -بالتنبيه على المحاسن والمصالح المستخرجة بدقيق الفكر -من أحسن المواعظ. والوعظ في الأصل إما واجب وإما مندوب. فسلوك هذا الطريق [حق لا] يمنعه كونه مظنونا. والدليل عليه: أن رواية أخبار الآحاد على وفق القرآن جائز؛ ولا فائدة فيها: ففي القرآن المقطوع به غنية عن الحديث المظنون. ومع ذلك لا يمنع منه. فهذه فائدة اعتقادية وعملية -أيضا -في جواز

النظر، والترغيب في قبول الأحكام عن طواعية من النفس، وطمأنينة من القلب. ومن أنكر رسوخ أحكام الشرع في النفوس، وتسميرها بضبات المحاسن ومسامير المصالح -وإن كانت مظنونة -فقد أنكر ما يعلم على القطع بقضية من مطرد العادة. فهذه فائدة ظاهرة. والفائدة الثانية: إبطال إلحاق غير منصوص، بالمنصوص، بعلة متعدية. فإن قيل: وفي الاقتصار على النص، والإقلاع عن التعليل -ما يفيد هذه الفائدة. قلنا: ربما يبدو لبعض الناظرين علة متعدية، [فيلحق. فإن قيل: فلو ظهرت علة متعدية]، فليس في ظهور القاصرة ما يمنع التعليل بها: إذ يجمع بين العلتين؛ ثم تكثر فروع علة، وتقل فروع الأخرى. قلنا: قد بينا أنه لا يجوز الجمع بين علتين: عرفنا بالمناسبة، ودلالة الحكم عليهما. فإذا ظهرت علتان: انقطع شهادة الحكم عن أحداهما على الخصوص، ولا يشهد لهما على الجمع؛ فيتعين الترجيح. فالأقوى والأظهر هو الذي يحال عليه [الحكم]، أو كلاهما

بطريق الاجتماع: بأن يقال: العلة مجموعهما. فإذن: العلة القاصرة إذا صحت وقويت: دفعت المتعدية، ومنعت الإلحاق. فتظهر بها الفائدة. الوجه الثالث في إطلاق العلة: العلامات الحاصرة لمجرى الحكم عن مقطعه وموقعه؛ كالنقدية في الدراهم والدنانير: فإنها قاصرة، وليست جارية مجرى السبب المنصوب للإيجاب حتى تنقطع [به] الإضافة عن النص. ولا هي من وجوه المصالح حتى يكون في الوقوف عليها فائدة في الاعتقادات. وإنما المقصود الحصر والتمييز؛ وذلك حاصل بمجرد الاسم، فأي فائدة في ترك الإضافة إلى الاسم المنصوص، والإضافة إلى وصف لا يناسب؟ فالكلام عليه من وجهين: أحدهما: أنا نريد بالصحة أن الظن الحاصل لا ينقطع بالوقوف على عدم التعدي، فهو كالمتعدي. ولا نعني بالصحة إلا هذا القدر. وما عدا هذا فإطلاق البطلان عليه -بعد التفصيل الذي ذكرناه -لا حرج فيه. على أنا نقول: فيه فائدة. وهي: دفع العلامة المتعدية، كالوزن؛ فإنه يندفع بالنقدية إذا كانت النقدية أظهر منه. وقد بينا أنه لا يجوز الجمع بين علتين، نعني بكونها علة أنها علامة الحكم، إذا كان يعرف كونه

علامة للحكم بالطريق الذي ذكرناه. ولذلك لم يجمع العلماء بين النقدية والوزن؛ ومستند إجماعهم ما نبهنا عليه في مسئلة الجمع بين علتين، ومسئلة علة الربا في إثبات قاعدة الشبه والطرد. فإن قيل: إعلام الحكم بالاسم المنصوص [عليه] ممكن، وهو: كونه ذهبا وورقا؛ كما ورد النص به. فأي فائدة في قطع الإضافة عن الاسم المنصوص وإضافته إلى وصف مظنون؟ قلنا: تعليل ربا الورق بالنقدية تشهد له الدنانير، وتعليله بكونه ورقا لا تشهد له الدنانير. فإذا قوبل أحدهما بالآخر، كان الوصف الجامع لمجارى الحكم أحرى بأن يناط به الحكم المشترك. وهذا: لأنا نظن أن الربا معلل بمصلحة خفية لم نطلع عليها؛ ونظن أن وصف النقدية يتضمن تلك المصلحة ويشتمل عليها: لأنه مقصود خاص مطلوب من هذين المعنيين، لا يشابههما غيرهما فيه. فالغالب أن المصلحة الداعية إلى الحكم، مودعة في هذه الصفة [الجامعة]؛ وهذه الصفة كالطرف والغالب [لها]، وهو أغلب على الظنون من تقدير ذلك في كونه ورقا:

ولا يشهد له الذهب؛ وفي كونه ذهبا: ولا يشهد له الورق. ومن أحاط بالمسلك الذي قررناه لإعلام الحكم بعلامات الأشباه -كما تقدم -علم أن الظن الحاصل في مثل هذه الصورة [قائم]. [ولا] ينعطف فساد وضعف على الظن الحاصل المقدم، بسبب الوقوف على عدم التعدي. فهذا بيان العلة القاصرة؛ وعليه تنبني إضافة الحكم في محل النص إلى العلة وإن كانت متعدية. ويتضح فيه وجه آخر، وهو: أنه إذا لم نقل: إن الحكم في الأصل معلل بهذا، والعلة موجودة في الفرع -لا ينتظم القياس، وقولهم: إن حكم العلة [التعدي] كلام غير معقول، فإن الحكم لا يتعدى ولا يسري. وإنما الثابت في الفرع: مثل حكم الأصل، وهو غيره لا عينه. ويستحيل أن يكون وجود الطعم في البر علة الربا في الأرز، بل يقال: الطعم في البر علة الربا [74 - أ] فيه، وطعم الأرز مثل طعم البر، فكان موجبا لمثل حكمه. فأما القول: بأن التعدي هو حكم العلة، فتعقيد في اللفظ لا وجه له. وقد أجاب بعض محققيهم عما ذكرناه: بأن الحكم في الأصل يضاف إلى العلة في حق الفرع، وليس مضافا إلى العلة في حق نفسه.

وهذا جمع بين النفي والإثبات، وارتكاب تناقض يدرك بطلانه على البديهة. فقضية الإضافة إذا ثبتت في نفسها: فهي [قضية] معقولة، لا تختلف بالإضافات. وهي كقول القائل: العالمية في زيد مضافة إلى علمه في حق عمرو، وليس مضافا إلى علمه في حق نفسه. فهذا تهافت في الكلام بين. وقد انكشف الغطاء عن العلة القاصرة، وبان أن مرجعها إلى إطلاق لفظي لا جدوى له. ... *

القول في بيان الفرق بين العلة والشرط وهذه قاعدة غامضة المجرى، متوعرة المرقى؛ ولكنها غزيرة الجدوى. ولقد أطلق الفقهاء عبارات أضافوها إلى العلة؛ كركن العلة، وشرط العلة، ومحل العلة، ووصف العلة، وبعض العلة، ونفس العلة. أما محل العلة، فأرادوا به: شرط العلة. وأما بعض العلة وركنها وذاتها، فأرادوا بها: نفس العلة، أو بعض أجزائها: إذا كانت العلة متركبة من أوصاف. فليقصر الناظر نظره على معرفة العلة والشرط، كلا ينتشر نظره، فإنما الغامض: الفرق بين شرط العلة وبعضها الذي يسمى ركنا. مع أن الحكم -في حصوله -موقوف على الكل؛ حتى لا يحصل دون شرطه، كما لا يحصل دون علته. هذا مع أن علل الشرع أمارات وعلامات، وما افتقر الحكم في حصوله إليه فهو أمارة. فكيف يتضح الفرق بين أمارة وأمارة؟. فنقول -وبالله التوفيق -: المقدمات التي تبتني على وجودها النتائج والمسببات في المحسوسات، يقضي العقل فيها بالفرق بين ما تحصل النتائج بها، وبين ما تحصل عندها

بسبب آخر يوجبها، ويقضي العقل بالإضافة إليها. مثاله: أن الهلاك المترتب على التردية في البئر، لا يتصور حصوله اعتيادا بهذا الطريق، إلا بوجود البئر ووجود فعل المردي؛ فالتلف موقوف عليهما، والعقل يفرق -في الإضافة ودرك الإيجاب -بين البئر والفعل، ويقضي: بأن التردية علة الهلاك، والبئر شرط ليصير فعل المردي مهلكا. ففعل المردي إنما يوجب الهلاك عند وجود البئر. إذ لولا البئر: لاستمسك على الأرض ولم يهلك. ولكنه إذا هلك عند وجود البئر: هلك بالتردية. هذا معلوم من قضايا العقل. وعليه رتب حكم الغرم؛ إذ لم ينزل المردي وحافز البئر منزلة الشريكين، وإن [كان] الهلاك في حصوله موقوفا على فعل كل واحد منهما: بل اختص المردي بالالتزام، وقيل: إنه مباشر علة الهلاك. وحافز البئر [هنا] شرط العلة، لا نفس العلة. وكذلك القول [في القاتل مع] الممسك. إلى نظائر له كثيرة. وإذا تمهدت هذه المقدمة في المعقول والمحسوس، فالأحكام الشرعية

ترتب على الأسباب الموجبة بنصب الشارع وترتيبه، كترتيب المسببات المحسوسة على الأسباب الواقعة بحكم اطراد الاعتياد. وكذلك قد تركب المقدمات الشرعية التي تترتب الأحكام عليها، وينسب بعضها إلى الحكم انتساب البئر إلى الهلاك، وبعضها ينسب انتساب التردية [إليه. فما وقع موقع البئر عبر عنه: بالشرط؛ وما وقع موقع التردية] عبر عنه: بالعلة. وأصل الانقسام معلوم بالعقل والشرع، وإنما الغموض في المسلك الذي به يعرف تمييز أحد القسمين عن الآخر في آحاد المسائل؛ ونحن نحد كل واحد [منهما] بعبارة حاوية جامعة مانعة؛ ثم نهذبها بالتفصيل: ففيه تحصيل شفاء الغليل، وتبيين سواء السبيل. أما العلة في وضع اللسان: فعبارة لما يتغير به [المحل] من حال إلى حال. ولما تغير حال المريض من القوة إلى الضعف بالوصف العارض، سمي العارض: علة.

وفي لسان الفقهاء: قد يعبر به عن العارض الموجب لحدوث الحكم، [وقد يعبر به عن البواعث والصوارف وهي: المصالح]. وقد يعبر به عن العلامات المظهرة للحكم؛ كما سبق تقريره. وأما الشرط: فهو -في وضع اللسان -عبارة عن العلامة، فأشراط الساعة: أعلامها؛ وسمي الشرطي شرطيا: لا علامة نفسه بلباس يميزه عن غيره؛ والصكوك شروط: لأنها أعلام التذكر. وفي لسان الفقهاء، عبارة عما يمتنع وجود [عمل] العلة إلا بوجوده، لا لما تجب به العلة أو يجب به الحكم. أو يقال: هو عبارة عما يجب الحكم عنده بوجود علة الحكم. وفي الشرط مشابهة للعلة، لأن العلل الشرعية أمارات، وفيه معنى العلامة المحضة؛ ولكنه -في غرضنا -يتميز عن العلة،

و [عن] العلامة [المحضة]، فإن العلامة المحضة: ما يدل على الشيء من غير أن يكون لذلك الشيء تعلق به، كالميل علم على الطريق. وأشراط الساعة: أعلام، فهي علامات باصطلاحات لا تعلق للمدلولات بها، ولا هي بذاتها تدل على مدلولاتها، بل دلالتها بنوع اصطلاح. وأما الشرط، فللمشروط به نوع تعلق؛ إذ للهلاك نوع ارتباط بالبئر من حيث الوجود ظاهرا، وللبينونة نوع [تعلق بدخول الدار إذا علق عليه؛ على معنى ظهوره عقيبه في الظاهر. هذا وجه] تمييزه عن العلامة المحضة. ووجه تمييزه عن العلة [المحضة] أنه لا يمكن أن يقال: الحكم حصل به ووجب حدوثه بسببه. فالطلاق غير واقع بالدخول [74 - ب]، بل بالتطليق عند الدخول. فهذا وجه التمييز بالحدود والمراسم، على وجه الإجمال. أما التفصيل، فتمييز الشرط عن العلة الموجبة -الثابتة على مثال العلل العقلية -واضح؛ ونعني بالموجبات: الأسباب المنصوبة للمغارم واللوازم والعقوبات والاهلاكات، وكل حكم حادث، وتغير طارئ

بسبب طريان أمر لم يكن. فهذه هي العلل الموجبة الجارية على مذاق العلل العقلية في الإيجاب لا تفارقها إلا في [أن إيجابها] عرف شرعا: بأن جعل الشرع إياها موجبة. فالبيع سبب ملك الرقبة. والنكاح علة لملك المنفعة. والسرقة والزنا والقتل والإتلاف والالتزامات والعقود، علل لموجباتها وقضاياها. ثم ملك النكاح لا يحصل إلا بالنكاح [الجاري بمشهد الشهود؛ وإذا حصل قيل: أنه حصل بالنكاح عند] حضور الشهود، لا بالشهادة. وبراءة الذمة عن الصلاة، حصلت بفعل الصلاة عند اقتران الطهارة، لا بفعل الطهارة. والملك في البيع حصل بالإيجاب والقبول -وهو: البيع -لا بذات البائع، ولا بذات البيع، ولكن [البيع] لا ينعقد بيعا إلا عند وجود مبيع وبائع: [إذ] لا يتصور ولا يتكون دونه. والرجم يجب على الزاني عند وجود الإحصان بالزنا، لا بالإحصان. والقطع يجب على السارق البالغ بالسرقة عند البلوغ، لا بالبلوغ. إلى أمثال كثيرة لا مطمع في إحصائها. فإن قيل: [قد] يتمادى المتماري في بعض الأوصاف التي

ذكرتموها، وأنها من الشرائط أو من أجزاء العلة وأركانها، فما المعيار الصادق، والفيصل الفارق في مظان الاشتباه؟. قلنا: الذي يظهر لنا في ضبط مجارى النظر فيه -والعلم عند الله سبحانه وتعالى -أن كل وصف يناسب الحكم، أو يتضمن المعنى المناسب تيقنا أو توهما: فهو العلة. وما وراء ذلك =من الأوصاف التي عرف وقوف الحكم عليها، ولا مناسبة بينها وبين الحكم: لا على طريق المناسبة بنفسها، ولا على طريق التضمن للمناسب -فهو الشرط. ثم الشروط تنقسم: إلى ما تتأثر به العلة، كالإحصان مع الزنا، وإلى ما يعلم اعتباره من جهة الشرع تحكما، ولا يعرف له تأثير معقول: لا في الحكم ولا في العلة؛ وذلك مما يقل اتفاقه، ولكنه جائز -على الجملة -وقوعه. فإن قيل: فهلا عولتم في الضبط على ما يحصل الحكم عقيبه، فيقال: أنه العلة. وما سبق وجوده ولم يحدث به الحكم فهو الشرط؛ كالزنا مع الإحصان، والتردية مع الحفر، وصفات الأهل والمحل في سائر الأسباب؟

قلنا: لا تعويل على هذا الضبط؛ لأن الطلاق المعلق على الدخول يظهر عقيب الدخول؛ والعلة هو الطلاق السابق: لأنه المناسب. ومن اشترى قريبه: عتق عقيب الشراء؛ والعلة هي: القرابة، لأنها المناسبة للصلة بالإعتاق. فإن قيل: فكيف ميزتم الطعم عن الجنسية في الربا، ولا مناسبة؟ قلنا: هذا فيه غموض؛ وقد يتخيل للناظر أن الشافعي -رضي الله عنه -قال ذلك من جهة الإضافة المفهومة من قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام"، كما عرف من إضافة القطع إلى السرقة، والجلد إلى الزنا، وهو فاسد: لأن النقدية متميزة عن الجنسية في هذه القضية، ولا إضافة فيها. ولأن الإضافة إلى الجنسية أظهر، إذ قال: فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد"، فبين [أن] ربا الفضل زائل بزوال الجنسية؛ ومن أقوى درجات التأثير: أن يوجد الحكم بوجود وصف ويعدم بعدمه؛ فهذا أظهر من الإضافة اللفظية في قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" وربما يتخيل للناظر [أيضا] في الجواب أن الطعم هو الوصف المظهر للحكم، لأنه إذا قوبلت الأشياء الأربعة -وهي مجرى الربا -بالعبيد والثياب ولا يجري فيها الربا: ظهر فيها المفارقة بالطعم؛ كما ذكرناه في وجه تقرير العلامة. وهو -أيضا -فاسد: فإن انعدام الحكم

لانعدام الجنسية مفهوم من قوله -صلى الله عليه وسلم -: "فإذا اختلف الجنسان" وأظهر مما ذكرناه. كيف ولو قيل: لو باع صاعا من حنطة بصاعين من حنطة فهو محرم، وبصاعين من شعير جائز. ولا فارق إلا الجنسية، فهو أظهر مما تقدم؟. وربما يقول القائل: لا معنى لتسمية أحدهما علة والآخر محلا؛ فإن ذلك لم ينقل من كلام الشافعي -رضي الله عنه -وإنما المنقول من كلام أصحابنا: أن الطعم في الجنس [الواحد] هو: العلة. [كما يقول أبو حنيفة: الكيل في الجنس هو: العلة]. فمن هذه اللفظة تخيل كون الجنسية محلا، إذ جعل كالظرف للطعم. وعلى هذا يقال: مسألة تحريم النساء بالجنس المجرد غير مبني على هذه القاعدة، بل نسلم أنها وصف، ولكن لا يستقل بتحريم النساء؛ بخلاف الوصف الآخر، لأن تحريمه بمجرد وصف الطعم مأخوذ من قوله: "فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد". فعلم أن الباقي بعد زوال الجنسية علة في تحريم النساء، وأن زوال الجنسية لا يعدم ربا النساء. وهذا بأن يدل على سقوط أثر الجنسية، أولى من أن يدل على كونها علة مستقلة.

وهذا الخيال، وإن قررناه في "كتاب المآخذ" و"كتاب تحصين المآخذ" ففيه نظر: لأنه إذا ثبت أن علة ربا الفضل مركبة من الطعم والجنسية [75 - أ] وأنهما وصفان لا يتميز أحدهما عن الآخر في التأثير في الربا؛ ثم ثبت استقلال أحد الوصفين بإفادة أحد الأحكام -دل ذلك على استقلال الوصف [المساوي] له: لأن ما ثبت للشيء يثبت لمثله، على ما قررناه في وجوه الاستدلال في باب أشكال البراهين. وكونه مثلا [له] يعرف بالإضافة إلى الربا؛ وقد سلم كونه مثلا [له] من زعم: أنه أحد الوصفين، [وأن لا] تميز من حيث التأثير. فنقول: سبيل الفرق ومدركه: [توهم تضمن] المعنى المناسب. فإنا بينا أنا نظن أن الطعم أمارة على مصلحة خفية غابت عنا، وهي علامة عليه. ولسنا نتخيل ذلك في الجنسية: فكانت الجنسية في حكم المحل الخالي عن المناسبة وتضمنها، ولا تأثير لها -على حيالها- في إيجاب جنس حكم الأصل؛ كالإحصان المجرد: لا يؤثر في إيجاب العقوبة. وأما الطعم فهو متضمن للمصلحة: [فيعقل] أن يؤثر على حياله، وإن

فقد محله، [تأثيرا] متقاصرا، ولا يلزم منه أن يساويه المحل المنفك عن توهم المناسبة. وانضم إليه أمر، وهو: أن الجنسية لا تتأثر بالطعم؛ ومقصود الطعم يتأثر بالجنسية. ومن علامات الشرط: أن تتأثر العلة به دون الحكم، والحكم يتأثر بالعلة. وهذا لو سلم فهو واضح. ولكن لو قال قائل: ما الذي حملكم على هذا التحكم؟ ولم أبعدتم أن تكون الجنسية -أيضا -متضمنة نوع مناسبة ومصلحة لم تطلعوا عليها؟. فإنكم إذا كنتم تحكمون على الغيب بما لا تعرفون ولا تطلعون عليه، [بتوهمات] غير محسوسة -فليتوهم ذلك في الجنسية كما في الطعم؛ إذ كل واحد بنفسه غير مناسب. فنقول: هذا التوهم مستنده ظن غالب، وهو أن الطعم هو المقصود الذي به قوام [الخلق، و] نظام العالم، [وبقاء] الجنس، وهو المعاش والغذاء، وإليه ضرورة كل حيوان. وكذلك النقدية: مقصود الدراهم والدنانير، وعليها تدوار

المعاملات وفيها حياة الأموال، وبها تقوم المتلفات. فيغلب على الظن أن المصلحة المتخيلة المتوهمة تتضمنها هذه المقاصد العظيمة الظاهرة، وإن كنا لا نطلع على وجه تلك المصلحة. فالجنسية -بالإضافة إلى هذه المقاصد -بعيدة عن الغرض المطلوب. وقد ظهر بهذا القدر تمييز الطعم عن الجنسية، وامتنع على الخصم أن يدعي: أن ما ثبت للشيء ثبت لمثله. إذ بهذا القدر ينقطع ظن التماثل، وتندفع دعواه. ولم نعن بكونه محل العلة إلا أنه لا يساوي العلة في الاستقلال بإفادة ما استقلت العلة -أعني الطعم -بإفادته؛ فإذا سلم لنا هذا القدر: فلا حرج على من يعبر عنه بركن العلة ووصفها؛ فلا مضايقة في الاطلاقات. هذا طريق تقرير مذهب الشافعي -رضي الله عنه -، وهو دقيق خفي: لأن أصل إثبات العلة خفي، وتمييزها عن الشرط يقع وراءه في الخفاء؛ ولأجل دقته تنفر عن قبوله قريحة من لا تتسع فطنته إلا لدرك الجليات، وبكل ذهنه عن الإحاطة بالدقائق والخفيات. فإن قيل: هذا [تصرفكم في] المناسب أو متضمن المناسب،

ومن الأسباب ما يعرف كونها أسبابا: بالإضافة اللفظية من جهة الشرع، وبحدوث الحكم عقيبب حدوثه وإن كان لا يناسب. كما قدمتموه. فيم يتميز فيه الشرط عن الركن؟. فهل تعولون فيه على الحدوث، حتى يقال: الحكم محال على الحادث آخرا، والسابق في رتبة الشرط؟ قلنا: لا، بل إذا ثبت أن السابق معتبر في الحكم كالعارض اللاحق، فلا يرجح بالتقدم والتأخر، بل إن [كان] يتخيل كون أحدهما متضمنا للمصلحة الخفية كما في الطعم والجنسية، اتبع ذلك. وإلا سوى بين جميع [هذه] الأوصاف، ولم يرجح [غير] المناسب على غير المناسب: [بالتأخر واستعقاب الحكم]؛ كما لم يرجح الوصف المناسب على المناسب: بالتأخر؛ بل لا يختص بالإضافة الوصف الأخير من العلة. وذهب أبو حنيفة -رضي الله عنه -: إلى أن الوصف الأخير من العلة يضاف الحكم إليه؛ لأن الوصف السابق به صار موجبا، فيصير في حكم علة العلة، وبنى عليه أن شراء القريب اعتاق، لأن ملك القريب هو العلة، وقد أحث الملك حتى صارت القرابة السابقة مؤثرة

معه؛ فهو في معنى المباشر. ونحن نقول: الملك محل، فإنه لا يناسب العتق الذي هو ضده، وإنما المناسب هو القرابة؛ وإن سلم كونه وصفا: فلا يختص الوصف الأخير بالإضافة. ولهذا نقول: إذا تعدى جماعة بوضع أحمال في سفينة حتى غرقت، فالضمان على الكل لا على الوضع الأخير. [وإن تحريم المسكر يوجب تحريم سائر الأقداح، وإنه لا يختص بالقدح الأخير] لأن السكر حاصل بالكل لا بالأخير. والدليل عليه: أن الإجماع منعقد على أن الإيجاب والقبول في البيع لا يترجح أحدهما على الآخر بالتأخير. حتى إذا اشترت الزوجة زوجها، وانفسخ النكاح، وأردنا جهة في حوالة الفسخ: لتشطير المهر، أو لإسقاطه -لم نأخذ ذلك من التقدم والتأخر. وكذلك شهود الدخول: يترتب على شهادتهم -بعد سبق شهود التعليق -حصول الفرقة. وليس لقائل أن يقول: إنهم بشهادتهم جعلوا التعليق السابق تطليقا، فيختصون بالضمان. وعلى الجملة: إذا آل الأمر إلى هذه الإضافات في الأحكام، فهي اجتهادية. وقد اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه -ورأي أصحابنا في

معظمها؛ واختلف قولهم [75 - ب] في أن شهود التعليق والزنا: إذا رجعوا هل يختصون بالغرم، أم يشاركهم شهود الإحصان الصفة؟. ولذلك نظائر كثيرة، وكل ذلك يبين اتفاق العلماء على الفرق بين الشرط والعلة، وأن هذه قاعدة مهمة لابد من معرفتها، ولا يجوز التساهل فيها: اتكالاً على أن الحكم موقوف على الجميع، وأن علل الشرع أمارات: إذ الإيجاب فيها معلوم من الشرع -أيضًا- فجرى على مذاق الموجبات العقلية. فإن قيل: مالك السفينة إذا شحنها بأحمال، فألقى أجنبي فيها حملا فغرقت -فلم اختص بالضمان؟ وهلا وزع وعطل ما يخص المالك: إن لم يكن التعويل على آخر الأوصاف؟. قلنا: لأن فعل المالك لا يصلح لأن يحال عليه الهلاك ويناط به الضمان؛ فأحيل على فعل المتعدى، [إذ بعض] أوصاف العلة لا يتقاعد

عن الشرط. والضمان واجب على الحافز للبئر: إذا ترىدى فيها الماشي عن جهل؛ لأن مشيه لا يصلح لأن يكون سببًا ويضاف إليه؛ فأضيف الهلاك إلى الشرط، [وهذا وجه] غير منفك عن الخلاف. ونحن [الآن] نتعرض لمسائل يدور [النظر فيها على البحث عن المحل والشرط]، والعلة. فمن ذلك: شراء القريب بنية الكفارة، فإنه لا ينصرف إليها عندنا: لأن الواجب عليه التحرير، والتحرير عبارة عن إيجاد علة العتق بطريقة المباشرة، وعلة العتق: القرابة دون الشراء؛ فإن الشراء سبب الملك:

فلا يصلح أن يجعل سببًا لزواله؛ والقرابة نسبة تستدعي الصلات والمبار، والعتق صلة ومبرة؛ فكانت نيته عند الشراء كنيته عند الصفة التي علق العتق عليها، [ومع ذلك علق العتق عليها] دون النية. وإنما أوجبنا عليه ضمان السراية: لأن الضمان يناط بالشرط والمحل إذا لم يمكن إحالته على العلة. والقرابة لا يمكن [إحالة] إيجاب الضمان عليها، ولا على المتسبب إليها؛ فأحيل على الشراء كما في صورة التعليق. وأبو حنيفة -رضي الله عنه- يدعي: أنه أحد وصفي العلة وهو الأخير: فيضاف إليه. ولسنا نسلم أنه أحد الوصفين؛ فإنه لا مناسبة له. وأن سلم: فالأخير لا يتعين للإضافة، كشقي الإيجاب والقبول. ومن ذلك: مسئلة شريك الأب؛ فأنها أديرت على الفرق بين العلة

والمحل. ولقد تكلفت في "كتاب المآخذ" طريقًا يستغني بها عن اقتحام ورطة الفرق بين العلة والمحل؛ وبينت أن الموجب بكمال شرائطه جرى. وأن القصاص في حكم الساقط الواجب، وأن اندفاع القصاص به، في معنى انقطاعه: بطريان العفو، أو طريان استحقاق الابن. وهو متين بالغ. ولكنه غير واف بنصرة مذهب الشافعي -رحمه الله- في جميع الأطراف؛ إذ قطع الشافعي -رضي الله عنه- بوجوب القصاص على شريك المسلم والحر في قتل الكافر والرقيق، إذا كان الشريك كفئًا؛ والكفاءة شرط لا ينعقد القتل سببًا لإيجاب القصاص عندنا إلا بوجودها. فقد فقدت العلة شرطها. وليس التفاوت في الكفاءة من الدوافع؛ ولذلك لو طرأ: لم ينقطع الوجوب؛ بخلاف استحقاق الابن. فلابد من مسلك آخر لتقرير المذهب. وطريقة "المآخذ" كافية في الجدال. فأنا لا نلتقي بأبي حنيفة -رضي الله عنه- في هاتين المسئلتين: فأنه يوجب القصاص فيهما، على

كلا الشريكين. فنذكر طريق الفرق بين العلة والمحل في صورة شريك الأب؛ وترجمته أن نقول: لا شركة في محل الشبهة، ولا شبهة في محل الشركة. فإن الشركة في القتل -وهو عمد محض- لا شبهة فيه، والشبهة: في القاتل، ولا تتصور فيه الشركة؛ وإنما تتعدى الشبهة من الشريك إلى الشريك: للمشاركة؛ ولم تقع المشاركة إلا في الفعل. ولا خلل في ذات الفعل: فإنه علة لإيجاب القصاص؛ وإنما الخلل في الأب الذي هو محل لعمل العلة في الإيجاب فيه. فإن قيل: كيف يقال: إنه موجب، ولم يوجب، [والعلة ما يوجب] الحكم؟ قلنا: [قد] تكلمنا على هذا في مسئلة تخصيص العلة؛ بينا المراد بإطلاق اسم العلة، فليطالع المنتهى إلى هذا المقام، تلك المسئلة أولاً: حتى يستمد منها. ونحن الآن نذكر ما يتعلق بخصوص هذه المسئلة، فنقول:

نعني بالعلة: ما يضاف إليه الحكم من جملة ما يترتب الحكم عليه، أو ما يناسب الحكم. والحكم يضاف إلى القتل العمد، لا إلى [الأبوة]؛ وهو المناسب. والأجنبية لا تناسب [الحكم]. وهذا مع الفقهاء سهل: فإنهم سلموا الفرق بين الزنا والإحصان، وأن أحدهما علة والآخر شرط. وإنما الغموض مع من ينكر الأصل، على ما سننبه عليه [إن شاء الله تعالى]. فإذا لاحظنا -في تمييز العلة عن الشرط- مسلك الإضافة العقلية، وقلنا: إنه يضاف إلى القتل لا إلى صفة القاتل- تصدى في مساقه نظر مشكل في التفاصيل. إذ ينقدح للمزني أن يقول:

شريك الخاطئ مقتول، لأن العلة هو: القتل عند قيام القصد والمعرفة بذات القاتل. وهو متعلق بالقتل لا بصفة القاتل، فإن تخيل أن الفعل يتصف به، إذ يقال: قتل عمد؛ فوجه اتصافه [به]: إضافة القصد إليه [76 - أ]. وكما يضاف القصد إلى الفعل فيتصف الفعل به، فيضاف الفعل إلى الفاعل -أيضًا- فيتصف به. ومن الصفات العقلية: الإضافات، والنسب؛ والأخوة صفة يعقل وجودها وعدمها؛ وهي نسبة محضة، معناها: أن الأخ ابن الأب وابن الأم. ومعنى كونه ابن الأب: نسبة؛ فالنسب من الصفات العقلية. ولكن: لم يجعل الشافعي -رضي الله عنه- النسب من الصفات، وجعل الفعل من الصفات، وعن هذا نشأ اضطراب القول في شريك السبع. وشريك النفس. وشريك المستحق والمأذون والحربي والمجنون

والصبي. وشريك السيد. فتارة يكتفي بالفعل العمد، ويجعل فعل السبع والصبي عمدًا. وتارة يضم إليه المضمون، فيقول: لابد من عمد محض مضمون. ثم قد يكتفي بضمان الكفارة، فيوجبه على شريك النفس، وشريك السيد. وتارة يشترط ضمان الدية، ولا يوجبه على هؤلاء، ولا على شريك الحربي والسبع، ويوجب على شريك الصبي. وهذا مسلك غامض ونظر متشابه. وإذا نصرنا قول الإيجاب في هذه الصورة، قلنا: العلة قتل العمد؛ وقتل السبع والمجنون والحربي عمد، ولكن الخلل في محل اللزوم في حق السبع: من جهة فقد صفة الإنسانية؛ وفي الحربي: من جهة فقد الالتزام؛ وفي الصبي [والمجنون]: من جهة فقد العقل والتكليف. وقد تستثنى عن هذا فعل السبع، فيقال: هو ليس بعلة. وتأثير [إلغاء] الفعل بالبهيمية يزيد على تأثيره بالخطأ. فإذا قطعنا بالإسقاط عن شريك الخاطئ ففي شريك السبع أولي. وما من صورة إلا ويتعلق بها نوع غموض. ولكن ذلك ينشأ من

غموض الفرق بين ركن العلة وشرطها. هذا ما أردنا أن نقرره على مذاق كلام الفقهاء. ولقد سبق صور منه: في مسئلة تخصيص العلة. ونحن هنا نعكر عكرة على كلام الفقهاء، ونبين وجه قول القائل: إن الشرط والمحل لا معنى له، وأن الحكم لا يفتقر إلا إلى العلة؛ ثم العلة قد تكون ذاتًا مطلقة، وقد تكون ذاتًا موصوفة بصفات. ونعرض الكلام في الزنا والإحصان: ليقاس به غيره، فنقول: العلة عبارة عن موجب الحكم؛ والموجب: ما جعله [الشرع] موجبًا، مناسبًا كان أو لم يكن. وهي كالعلل العقلية: في الإيجاب؛ إلا أن إيجابها بجعل الشرع إياها موجبة، لا بنفسها. والعلة للرجم: [زنا المحصن] لا الزنا المطلق. والإضافة إلى المحصن وصف الزنا؛ والإضافات والنسب أوصاف معقولة؛ فكما يعقل وصف الإنسان بالطول والسواد، يعقل وصفه بالأخوة والأبوة. إلا أن الأخوة من صفات النسب، وهي ثابتة: إذ يعقل نفيها ووجودها؛ وهي قائمة بالغير: فكانت صفة.

نعم، لا يجوز تسميتها عرضًا على اصطلاح المتكلمين؛ وإنما نعني به الأوصاف والقضايا، كما يعقل كون السواد لونًا وعرضًا، وهذه قضايا متعددة. وأوصاف السواد معقولة، على ما تقرر طريقها في إثبات الأحوال في فن الكلام. ونقول: الزنا بالإضافة إلى المحصن وصف ينتفي عند صدوره من غير المحصن؛ وتلك الإضافة وصف العلة. ومناط الرجم: الزنا المضاف الموصوف؛ وهو كما قررناه: من تعليل القتل بالسواد، إذ قال الشارع: اقتلوا زيدًا لأنه أسود. وأن مساقه [يقتضي] قتل كل أسود. فلو بان أنه لا يقتل سوى زيد بالنص. انعطف منه قيد على السواد، وتبين أن السواد المطلق ليس بعلة؛ وإنما العلة: سواد زيد. فكذلك يتبين أن الزنا المطلق ليس بعلة، وإنما العلة: زنا محصن؛

فالإضافة من أوصاف العلة. ويجري هذا في القتل، فأنا نقول: القتل المطلق ليس بعلة، بل العلة: قتل عمد مضاف إلى فاعل مخصوص، وهو: العاقل المكلف الأجنبي المتكافئ، الذي ليس بمستحق ولا مأذون؛ وهلم جرا، إلى سائر صفات القاتل. وصفات القتيل -أيضًا- كذلك. فإذا صدر القتل من صبي: فالعلة ناقصة؛ إذ قد نقص منها وصف الإضافة إلى البالغ. وكذلك في كل صفة تنعدم. وكذلك علة الملك: بيع مخصوص بقيود وإضافات، لا بيع مطلق. وهو: بيع عاقل مكلف لمال متقوم معلوم مقدور على تسليمه. ولا يقال: حصل الملك بالعقل والتكليف والتقوم والعلم وصفات الأهل والمحل؛ بل: بالبيع الموصوف بقيود الإضافات إلى هذه الصفات. فبيع الخمر باطل: لنقصان العلة؛ بيع الصبي باطل: [لنقصان العلة. ولكن جهات النقصان متفاوتة؛ فبيع الصبي باطل]: لنقصان وصف من البيع،

يحصل ذلك الوصف بالإضافة إلى [الفاعل] العاقل. وبيع الخمر باطل: لنقصان وصف الإضافة إلى المحل. فلما تفاوتت جهات النقصان: تباعد مآخذ النظر فيها ومداركها؛ وكل ذلك راجع إلى نقصان في العلة. والعلة عبارة عن مجموع أمور رتب الشرع عليها الحكم؛ إلا أن تلك الأمور تنقسم؛ فمنها: ما هو موصوف، ومنها: ما هو وصف تابع. وآحاد الأوصاف متساوية، وآحاد أجزاء الموصوف -أيضًا- متساوية. ونعني بتساوي آحاد الأوصاف: أن نقصان الإضافة إلى [غير] عاقل في البيع، كنقصان الإضافة إلى الخمر: في قضية الوصفية. ونعني بتساوي أجزاء الموصوف: أن الإيجاب كالقبول، في أن كل واحد منهما جزء لصورة البيع؛ وليس أحدهما وصفًا للآخر تابعًا. وهي في التساوي كآحاد الأحمال: في إغراق [76 - ب] السفينة، وآحاد الأقداح: في إثارة الكر. [حتى] لا يترجح البعض على البعض -من هذا الوجه- عند تعدد الجهات، وتوزعها وتعارضها. وقد يترجح الموصوف على الوصف: عند التعدد والتزاحم في تغليب الإضافة. ومن هذا [الفرق] نشأ اختلاف النظر في المسائل التي أديرت على الفرق بين العلة والمحل. وإنما ينكشف الغطاء عن هذا، بإيراد المسائل

الفقهية، اعتراضًا على هذه القاعدة، والانفصال عنها. خيال وتنبيه: فإن قيل: كيف تنكرون الفرق بين العلة والمحل، وقد قضيتم بأن الضمان يجب [على] المرادي لا على الحافر، والهلاك لا يحصل إلا بهما جميعًا؟ وكذلك توجبون الغرم على شهود [الزنا في الرجم]، دون شهود الإحصان إذا رجعوا. وتوجبون على شهود التعليق، دون شهود الصفة إذا رجعوا؟. قلنا: أما مسئلة التردية، فإيجاب الغرم [فيها] على المردي [لا على] الحافر، لا يدل على فرق بين الشرط والعلة؛ فأنا قد نوجب الضمان على الحافر: إذا كان الماشي جاهلاً [بها]؛ وبالجهل لا يخرج التخطي عن كونه علة التردي. ولكن ليس تأثير الحفر في الإهلاك، مثل تأثير التردية. بل هما مختلفان، والرأي فيه رأيان: إما بالتقسيط، وإما الترجيح. والتقسيط إنما يعقل في المتساويات: كآحاد الأحمال في إغراق السفينة؛ فإنها متساوية المنهج في التأثير، وكأحد شقي العقد: فإنه مثل النسق الآخر، فقد يقسط ثم. أما تأثير الحفر، فليس من جنس تأثير

التردية. فطلبنا مسلك الترجيح، ورأينا الإيجاب على المردي أو [لي]: لاتصال فعله بالهلاك مع التعمد. وفعل الحافر قد انقطع بالحفر. وإنما المتصل [الهلاك هو: ما أحدثه بحفره]. وإن كان الماشي جاهلاً: رجحنا الحفر؛ لأن المشي لا يقصد به التردي. وكذلك الحفر لا يقصد به التردي؛ ولكن الحفر عدوان في الأصل: فترجح. فإن كان الرجل قد حفر في ملك نفسه، وتردى [فيه] الرجل جاهلاً -حكم بالإهدار: إذ لا مناسبة بين الفعلين حتى يوزع، ولا ترجيح. أو يقضي بترجح التردي والمشي وبهدره لصدوره من صاحب الحق. فهذا مأخذه، وهو في مظنة الاجتهاد: يتصور وقوع الخلاف فيه. وليس فيه ما يناقض كلامنا. وأما شهود الإحصان والزنا، فمأخذ النظر فيه: أن من أثبت الإحصان، لم يثبت ما يجب به الرجم ولا جزءًا من الموجب؛ إذ الرجم يجب بالزنا المضاف إلى المحصن؛ والإضافة صفة للزنا. فشهود الزنا أثبتوا الزنا، وهو بعض الموجب. وبقيت الإضافة، وتلك حصلت عند

ثبوت الحرية، متولدة من الإحصان والزنا: لا من الزنا على الخصوص، ولا من الإحصان على الخصوص. فإن الإضافة نسبة بين المضاف والمضاف إليه. فيحتمل أن يقال: تولدت هذه الإضافة من الجهتين على وتيرة واحدة؛ فيتوزع الغرم: إذ ليس لأحد الجانبين ترجيح؛ وهما كجنس واحد -أعني: ركني الإضافة- في توليد الإضافة. ويحتمل أن يرجح جانب الزنا: لأن الرجم تعلق بالزنا المضاف، لا بالإحصان المضاف [إليه]. فإن الإضافة إذا صارت صفة الزنا: صار الزنا الموصوف موجبًا؛ فالموجب: زنا المحصن، لا إحصان الزاني. فكانت هذه الإضافة في الإيجاب صفة للزنا وتابعة له: فرجح جانب الموصوف والمتبوع. وهذا في غاية الدقة، فليتأمله الناظر. وليعتقد به غرض الشافعي -رضي الله عنه- في ترديد القول في هذه المسئلة، من هذا الوجه. وهذا هو العذر أيضًا في شهود التعليق والصفة؛ وقد اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه- فيه. ويقرب من هذه [المسئلة]: إرضاع الزوجة الكبيرة [الزوجة]

الصغيرة وحصول الفراق به، ووجوب المهر على المرضعة. فإن اللبن يصل إلى الجوف بالتقام الثدي، وامتصاص الصغير. فرجح أصحابنا [الغرم في] جهة الكبيرة، وجعلوا امتصاص الصبي طبيعة لا يثبت لها حكم الاختيار، بالإضافة إلى التقام الثدي. ومنهم: من خالف فيه. وكذلك فتح باب القفص والاصطبل: فإن الفوات بالفتح، وطيران الطائر. واختلف القول في الترجيح: فقد يرجح جانب [الفاتح المختار] على الفعل الطبيعي الصادر من البهيمة [فيسقط]: إذ لا مناسبة. وقد يرجح جانب الطيران، ويلتحق ذلك بحل قيد العبد المختار.

فهذه مسائل اجتهادية، ومأخذها ما ذكرناه، وليس فيها إبطال ما قدمناه. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: فبم قطعتم الجنسية عن الطعم في مسئلة ربا النساء؟. قلنا: لأن وجه دلالة أبي حنيفة -رضي الله عنه- أن أحد الوصفين مثل الآخر؛ وقد ظهر لنا أن تضمن الطعم المصلحة المناسبة أولى من الجنسية، على ما [تقرر]. فلم يثبت التماثل، فلم تجب التسوية بين الوصفين، وإن كان كل ذلك جزءًا من علة ربا الفضل، على ما [تقدم تقريره]. خيال وتنبيه: فإن قيل: فكيف تخرجون على هذه المسئلة شراء القريب، ومعتضدكم: أن الملك محل، والقرابة علة؟ قلنا: وإن سلمنا أنه أحد الوصفين، فالحكم لا يحال على أحد عند إيجاد العلة. على أن الوصف المنعطف من المحل على العلة إضافة، وهي تابعة [للمضاف إليه] وقيامها بها؛ ولا حكم للتابع على حياله -في

مقابلة المتبوع، ومساواته له-: في جواز الإضافة [77 - أ] إليه. وبهذا فارق ضمان السراية: إذا أوجبناه على المشتري؛ لأن إضافة الضمان إلى القرابة غير ممكن، فترجح جهة الإضافة على ذات المضاف، فهذا طريق الكلام. خيال وتنبيه: فإن قيل: كيف تخرجون [على هذه المسئلة]، مسئلة شريك الأب؟ قلنا: الذي نقطع به أن فعل الأب، وفعل الصبي، وفعل المسلم والذمي- إلى أمثال ذلك- ليس موجبًا على مذاق هذه القاعدة، فلا يكون علة. فلا يستقيم القول: بأن الموجود علة القصاص؛ بل الموجود علة ناقصة، والناقصة ليست بعلة. إلا أنا نقول: لم ينتقص منها إلا الإضافة؛ والشريك أجنبي، فإذا أضيفت إليه: كملت العلة، لأن وصف الإضافة يختلف باختلاف الإضافات، بخلاف أوصاف الذات. وبيانه: أن فعل الشريك معتبر في حق الشريك لا يجاب القصاص به عليه؛ ووجه إضافته إليه: أنه معين له على غرضه، وهو مستعين به. فكأنه حصل مقصوده بنفسه وبغيره؛ وغيره آلة لانتهاضه عونًا له على غرضه. ولو حمل الأب، [وضرب به] على الابن -وجب عليه

القصاص: لأن الأب صار في حكم الآلة، وصارت حركة الأب مضافة إلى الحامل: وهو أجنبي، فكملت به العلة. فعلى هذا [كل] نقصان ينشأ من الإضافة، لا يظهر في حق الشريك؛ فإنه إذا أضيف إليه: صار الشريك في حكم الآلة. ويرجع اختلاف أقوال الشافعي -رضي الله عنه- في تلك المسائل، إلى أن النقصان يرجع فيها إلى فوات الإضافات، وإلى فوات أوصاف ذات القتل؛ فيحكم -في كل مسئلة- بما يستقيم على السبر. فإن قيل: لو كان تقدير إيجاب القصاص على الشركاء ما ذكرت، لوجب أن يقال: إذا قطع يميني رجلين، فتمالا على قطع يمينه -يجعل كل واحد منهما مستوفيا لتمام حقه، ويقال: شريكه آلة [له]، ومعبن له على غرضه. قلنا: كما ينقدح أن يجعل الشريك عونًا له وآلة من وجه برابطة الاستعانة، ينقدح أن نقطع إضافته إليه: لكون الشريك مستقلا

بالاختيار والإرادة. ولكن رجح الشرع إحدى الجهتين في الإبتداء: محافظة على القاعدة الكلية، ولا يلزم طرد ذلك في الاحتذاء والاقتصاص؛ مع انتفاء الحاجة التي نهبنا عليها. فإن قيل: فإذا عفى عن أحد الشريكين ينبغي أن يسقط عن الآخر، لأن الفعل -في نفسه- صار معفوًا عنه. ولو جرح جراحتين، [فعفى عن إحداهما] سقط القصاص [به] وقد عفى عن بعض فعله؛ فإن فعل الشريك مضاف إليه على هذا التقدير. قلنا: العفو عن الشريك: بإسقاط القصاص عنه؛ ولا يتأثر الفعل به. ولفعله وجهان: وجه إلى الفاعل، ووجه إلى الشريك. فالعفو لاقاه من الوجه المتعلق بالفاعل، لا من الوجه المتعلق بالشريك. فنزل ذلك منزلة موت أحد الشريكين وتعذر القصاص بسببه. فهذا وجه التردد على هذه القضايا الدقيقة. ولا يطمعن المتساهل على الوقوف عليها بمبادئ النظر، ولا يظن المتكاسل الناظر إلى هذه الخفايا -من بعد- بمؤخر عينيه، ما يتراءى له -من ضعف هذه المعاني- صادرا إلا عن كلالة بصيرته، وكدورة قريحته. فلا إحاطة بهذه المغاصات إلا بجد واف وذهن صاف، وقلب مشحون بإنصاف.

خيال وتشبيه: فإن قال قائل: كيف تخرجون على هذا تقديم الكفارة على الحنث، ومعتمد أصحابكم: أن السبب هو اليمين؛ وقد وجد، ولم يتأخر إلا الحنث، وهو شرط الوجوب؟ قلنا: العلة في الكفارة -عندنا- يمين كاذبة؛ فاليمين أصل، وكونها كاذبة صفة لها. وإنما تصير كاذبة بالحنث، فبه تحصل هذه الصفة. وإذا وجدت ذات العلة، ولم توجد صفتها -لم يتنجز الوجوب؛ ولكن: دخل وقت التقديم والأداء، وإنما عرف في هذا من الزكاة؛ فإن العلة: نصاب باق حولاً؛ فالنصاب أصل، والبقاء صفة. ونقصان الصفة لا يمنع التعجيل في عبادة مالية. فرأينا نسبة نقصان صفة اليمين بفوات الحنث، كنقصان صفة النصاب بانتفاء البقاء؛ فألحقناه به، ورأيناه في معناه. وكذلك جوز الشرع تقديم الكفارة على الزهوق بعد وجود الجرح؛ والكفارة تجب بالقتل، والقتل عبارة عن جرح مزهق. والجرح [هو الأصل]، وكونه مزهقًا وصف لا يحصل إلا عند الزهوق. وتراخي الوصف -مع وجود الأصل- لا يمنع الأداء. فهذا وجه

التصرف، وهو نوع من القياس معقول. فإن قيل: فهلا جورتم التعجيل لمن ملك نصابًا غير سائمة: إذا أسامها من بعد؛ وقد وجد الأصل، وتراخت الصفة؟ قلنا: يمكن أن يجاب عن هذا: بأن السوم والملك وصفان متساويان، فليس [أحدهما تبعًا] للآخر؛ إذ نفرض ملك غير سائمة، وسائمة غير مملوكة. وليس في بطلان أحدهما ما يتضمن بطلان الآخر؛ فينزل منزلة نقص النصاب، ولا ينزل منزلة الصفات التابعة. وقد يقاومه السائل: [فيفرض غنمًا باقية] حولا غير مملوكة، [ومملوكة غير باقية]. فلم جعل أحدهما تبعًا للآخر، والملك تارة يوصف بالبقاء [77 - ب] وتارة بالأسامة؟ والجواب عنه: أن منشأ هذا الغلط إجمال لفظ الملك، فإنه قد يراد به المملوك، وهو: الغنم في هذا المقام. وقد يراد به الملكة والقدرة الشرعية؛ والسوم صفة الغنم الذي هو المملوك ومتعلق الملك؛ و [الملك]-الذي يعبر به عن القدرة والمالكية- لا يقبل الوصف بالسوم،

ويقبل الوصف بالبقاء؛ والبقاء اعتبر صفة للملك الذي هو [الملكة و] القدرة؛ والسوم اعتبر صفة للملك الذي هو المملوك والمحل للملكية. فهذا منشأ هذا الغلط. وقد يجاب عنه، فيقال: المراد بالباقي هو: الذي يبقى في علم الله سبحانه حولا؛ فإذا انقضى الحول: تبين أن الموصوف بالبقاء هو الموجود أولاً؛ فإن من يعيش مائة سنة، إذا طال بقاؤه: عاد الوصف إلى المولود الذي حدث حالة الولادة، فتبين بالآخرة أنه المعمر. وكذلك المرض: إذا اتصل بالموت تبين أن المرض الأول هو المميت؛ والجرح إذا اتصل بالزهوق تبين أن الجرح -في أول الأمر- كان مزهقًا. وهو كما إذا قال: آخر عبد اشتريه فزوجتي عنده طالق؛ فإذا اشترى عبدًا لم تطلق زوجته: لأنه لم يبن كونه آخرًا؛ فإذا مات ولم يشتر بعد [ذلك عبدا]: تبينا وقوع الطلاق من وقت الشراء؛ لأن كونه آخرًا وصف يرجع إليه. وكذلك اليمين: إذا جرى الحنث فيها صارت اليمين السابق حلفًا، ولكن بان ذلك في حقنا الآن.

وأما السوم الطارئ، فلا يعطف وصف السوم على الزمان السابق. هذا ما ذكره أبو زيد الذبوسي: في الفرق بين السوم والحول؛ وهو ضعيف إذ هذا التقرير يجري في مرض الموت، وشراء آخر العبيد. ونحن نحكم فيهما: بأن الحكم موقوف في حق علمنا؛ لأن العاقبة غائبة عنا. فإذا انكشفت العاقبة: انعطفنا على تصرفات المريض، وعلى زوجة المعلق على آخر شرائه -بطريق التبين؛ وفي الزكاة واليمين لا ننعطف -بطريق التبين- على الأول. والدليل عليه أنه [لو] قال: [والله لا] تطلع الشمس غدًا، فلا يحكم بتنجيز الوجوب عليه؛ وإن كنا نقطع بأن اليمين كاذبة. وقد قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: لو قال: والله لأصعدن السماء غدًا: انعقدت يمينه، ولم تلزمه الكفارة في الحال. وكذلك لو أنبأ صادق عن بقاء النصاب حولاً في علم الله تعالى، لكنا لا نحم بتنجيز الوجوب.

فإن قال [قائل]: لأن موت الحالف والمالك ممكن، وبقاؤهما شرط لوجوب الكفارة [والزكاة]. قلنا: لو صارت اليمين كاذبة في الحال بطريق التبين، لكان السبب تامًا في حياته، فلم [يشترط بقاؤه بعد] تمام السبب. فكذلك في الزكاة. فدل أن هذا ليس من قبيل التوقف بعد توهم كمال العلة؛ بل نقطع بأن الموجود علة ناقصة بوصف، لا كاملة بجميع صفاتها. وطريق الجواب ما سبق. وعلى الجملة: هذه قضايا [جميلة] ظنية، وموازنات تخمينية تنبني الأحكام في الاجتهاد عليها؛ وهي معقولة دون تمييز الشرط عن العلة. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: ما ذكرتموه هو الفرق بين العلة والشرط؛ ولكنكم غيرتم العبارة: فنشأتم من الشرائط للعلل إضافات، وعبرتم عن تلك الإضافات بأوصاف العلة، واجتنبتم عبارة الشرط

والمحل. [ثم اعترفتم بالفرق بين تلك الأضافات، وبين ذوات العلل المضافة. فلم تزيدوا إلا] تغيير عبارة. فليضبط الفرق بين العلة والشرط، بالإضافة والمضاف إليه. قلنا: ليس كذلك؛ فإن الإضافة لا تصلح للضبط: فإن اليمين الكاذبة هي علة الكفارة، والكذب وصف للخبر لا يرجع إلى الإضافة. فليس قولنا: يمين كاذبة، كقولنا: يمين بالغ؛ بل يقع الكذب من اليمين، موقع العمدية من القتل. وقد جعل الشافعي -رضي الله عنه- وصف العمدية للقتل وكنا في العلة، وجعل الإضافة محلاً. أعني: أنه فرق بينهما في تلك المسئلة. فكيف يستقيم هذا الضبط؟. فإن قيل: فليضبط بالأوصاف مع الذوات؛ فذوات الأشياء علل. والأوصاف شرائط. فإن كونها كاذبة صفة لليمين أيضًا، وإن لم تكن من طريق الإضافة. قلنا: وهذا ينتقض بالعمدية، فإنها صفة بالإضافة إلى القتل. ويبطل بالطعم والجنسية: فإنهما وصفان متقابلان: ليس أحدهما تابعًا للآخر؛ إذ يعقل الطعم دون الجنسية، والجنسية دون الطعم. ولو قال قائل: العلة الطعم في الجنس، فصار الجنس محلاً، ورجع إلى الإضافة -قابله أن العلة: الجنسية في المطعوم؛ ولم يكن أحدهما أولى

من الآخر. فإن قيل: فليضبط الفرق بالمناسبة، أو توهم تضمن المناسبة؛ فعليهما التعويل في مسئلة شريك الأب، ومسئلة ربا النساء. قلنا: وهذا بالضبط -أيضًا- لا يستقيم من وجهين: أحدهما: أنك تجوز أن تتركب العلة من وصفين: أحدهما يناسب، والآخر لا يناسب. ويكون كل واحد منهما ركنا في العلة: من حيث التسمية والتحقيق؛ ويعرف ذلك بالنص. والآخر: أن البقاء حولا في المناسبة كالسوم؛ لأن السوم: لخفة المؤونة، والبقاء: لكثرة الدفق. فإن المال -بوصف النماء-[78 - أ] صار سببصا لايجاب المواساة؛ وإنما نماؤه: بانقضاء الأوقات، فهو في المناسبة كالسوم. ثم سلك بالسوم مسلك بعض النصاب: في حكم التعجيل، دون البقاء. فإن قيل: فإذا لم يكن بد من فرق بين بعض أجزاء العلة وبعضها، ولا ضبط، فما الطريق؟. قلنا: عبارة الشريط والمحل هي المختلفة. والضبط به -مع أنه غير مضبوط- لا مطمع فيه. ولكن الوجه أن يقال: مجموع الأمور -التي يترتب الحكم عليها- متساوية في افتقار وجود الحكم إليها.

نعم: لو ثبت في الشرع لوجود بعضها حكم، فهل يلحق بهما سائر الأبعاض؟ [قلنا]: إن كان مثلاً لها: ألحق؛ وإلا فلا. والمفارقة تارة تدرك بكون أحدهما صفة [والآخر موصوفًا]، وتارة تدرك بالمناسبة، وتارة تدرك بزيادة المناسبة، وتارة تدرك بتوهم التضمن. على ما قررناه في الأمثلة السابقة. فتلك المسالك المعقولة متبعة في الفرق والجمع؛ وذلك يختلف باختلاف المسائل، واختلاف الأحوال. وطريق المجتهد [يعتمد] في اتباع غلبة الظن؛ فإن أفضى به [الاجتهاد إلى الفرق] بين أمرين -كان الحكم موقوفًا على مجموعهما، [وعبر] عن أحدهما بالشرط، وعن الآخر بالعلة، فلا حرج عليه في الإطلاقات بعد فهم هذه المقاصد. وغرضنا من هذه الترديدات: الكشف عن حاصل ما ترجع إليه هذه الألفاظ؛ وبعد الإيضاح لا حرج في الاصطلاح. وإنما منشأ الأشكال التخاوض في هذه الأمور، دون التوافق على حدود معلومة لمقاصد العبارات. فيطلق المطلق عبارة لمعنى يقصده، والخصم يفهم منه معنى

آخر يستبد هو بالتعبير [به] عنه، فيصير به النزاع ناشبًا قائمًا: لا ينفصل أبد الدهر. هذا ما أردنا أن ننبه [به] على غور هذا الأصل.

القول في بيان معنى السبب في لسان الفقهاء لا ينبغي أن يظن [أن] السبب جنس زائد على [جنس] العلة والشرط. ولكن لما تداولته الألسنة، وأطلقه الفقهاء لمعان مختلفة -أحببنا بيانه. فالسبب -في وضع اللسان- هو: الحبل والطريق أيضًا؛ ثم عرف أن نزح الماء لا يتأتى دون الحبل، وأنه إذا حصل: حصل بالاستقاء لا بالحبل. والاستقاء -الذي هو علة نزح الماء من البئر- ليس حاصلاً أيضًا بالحبل. وكذلك الوصول أيضًا إلى البلد المقصود: لا يحصل دون الطريق؛ وإذا حصل: كان حاصلاً بالسير لا بالطريق؛ ولا يحصل السير أيضًا بالطريق. فلما فهم نسبة الحبل والطريق من المقصود، استعير اسم السبب لكل ما يقع من المقصود هذا الموقع. وهو: كل ما لا يحصل المقصود دونه؛ وإذ حصل: حصل بعلة مستقلة لا بذلك السبب.

ثم أطلق الفقهاء لفظ السبب على أربعة أوجه: الوجه الأول: إطلاقه في مقابلة المباشرة، فإذا قوبل بالمباشرة: أريد به الشرط المحض. واستعملوا هذه اللفظة في الضمان، وقالوا: الضمان على المباشر لا على المتسبب. فيراد بالمباشرة: إيجاد العلة، وبالتسبب: إيجاد الشرط. فقالوا: الحافر متسبب، والمردي مباشر؛ من حل قد العبد حتى أبق فهو متسبب؛ والمباشر هو العبد: إذ [الفرار حصل] بالأباق عند حل القيد، لا بحل القيد. وزعموا: أن الإحصان من الرجم، يقع موقع الشرط. فهذا أقرب وجوه الإطلاق إلى وضع اللسان. الوجه الثاني: تسميتهم علة العلة سببًا، كالرمي، فإنه يقال فيه: إنه سبب الموت، لأن الموت لا يحصل بالرمي، فكان الرمي سببًا من هذا الوجه. ولكن لما حصل بالسراية والجرح -وهي حاصلة بالرمي- كان الرمي علة العلة. [فلهذا كان] موافقًا لوضع اللسان، من أحد الوجهين. فهذا مأخذ الاستعارة، وهو: أن الحكم لم يحصل به إلا بواسطة العلة، كما لا يحصل الوصول بالطريق إلا بواسطة العلة. إلا أن السير ليس حاصلاً بالطريق؛ والعلة ها هنا حاصلة بالسبب. وهذا الجنس

من السبب له حكم المباشرة من كل وجه: في إيجاب الحكم؛ فلا ينبغي أن تشتبه المباشرة بالسبب، بهذا الإطلاق. الوجه الثاني: تسميتهم ذات العلة -مع تخلف الصفة عنها- سببًا: كتسميتهم اليمين سببًا للكفارة، وتسمية ملك النصاب سببًا، دون الحنث وانقضاء الحول. ووجه الاستعارة: أن الحكم غير حاصل بمجرده، كما لا يحصل الوصول، [والماء] بمجرد الطريق والحبل. وهذا الجنس قد استقصيناه. وبينا أن نقصان الصفات التابعة، قد يفارق [نقصان] أبعاض ذات العلة في بعض الأحكام؛ كما سبق. الوجه الرابع: تسميتهم العلة الموجبة سببًا، كتسمية علل الغرامات والعقوبات والكفارات: أسبابًا. وتسمية البيع: سببًا للملك إلى غير ذلك. فهذا أبعد الوجوه في الاستعارة عن وضع اللسان؛ لأن المقصود مضاف إلى العلة، ولا يضاف إلى السبب في الوضع. ولكن وجه الاستعارة: أن العلل الشرعية في معنى الشروط والأمارات من [كل] وجه؛ لأنها لا توجب الأحكام بذواتها، بل يجب الحكم عندها بإيجاب الله تعالى. فمن

هذا الوجه [حسنت] الاستعارة. فهذه مدراك مختلفة لمعنى السبب. فإذا أطلق الفقيه لفظ السبب، فإن فهم بالقرينة مقصوده [78 - ب]-كمعارضته إياه بالمباشرة- فذاك. وإن لم يفهم: فلابد من الاستفصال: إذا كان الغرض يختلف باختلاف الوجوه التي ذكرناها. فإن قيل: السبب المذكور في مقابلة المباشرة، هل يناط القصاص بمثله وهو الشرط المحض؟ قلنا: نعم: فإن القصاص عندنا يجب على شهود القصاص؛ والهلاك حصل بفعل مختار من الولي أو القاضي؛ والصادر من الشاهد تمكين يجري مجرى الشرط. ولكن: لما رأى الشافعي -رضي الله عنه- إيجاب القصاص على المكره، ورأى الإكراه سببًا في مقابلة مباشرة المكره- قاس الشهادة به. وأبو حنيفة -رضي الله عنه- لا يوجب القصاص إلا بالمباشرة؛ [وتخيل: أن المكره مباشر]، والمكره آلة. فمنشأ النظر بيان أن الإكراه مباشرة أو تسبب. فأبو حنيفة -رضي الله عنه- يقول: المباشرة عبارة عن إيجاد علة القتل، [وإيجاد] علة العلة. والإكراه علة فعل المكره. ويزعم: أن

فعل المكره حصل به، فإلجاؤه يحدث داعية القتل في نفسه؛ وتلك الداعية تحدث الفعل [فكان القتل متولدًا] من إكراه المكره، بواسطة داعية تولدت من الإكراه. والشافعي رضي الله عنه يقول: لو كان كذلك لما أثم المكره؛ فإثمه يدل على بقاء اختياره حسًا وشرعًا، وفيه إخراج الإكراه عن كونه علة. نعم: فيه مشابهة العلة من حيث أنه يثير داعية على الجملة، وإن كانت تلك الداعية مقرونة بخيرة يتسع معها مخالفة الداعية. فكذلك في الشهادة معنى العلة، على معنى: أنها تثير داعية في نفس القاضي من جهة الشرع؛ وتلك الداعية تفضي إلى الهلاك بواسطة الفعل؛ فكانت في معناه؛ ولهذا كان الكلام في طرف الرجم أظهر منه في طرف القصاص: لأن اختيار الولي ظاهر في إحالة الهلاك عليه، وتلك الداعية لا تحدث بالشهادة. لكن يقرر ذلك بطريق آخر، وهو: أن بطلان العصمة

وحصول الإهدار [حصل] بالشهادة، وكان ذلك هلاكًا حكيمًا، فإذا اتصل بالهلاك الحسي: [تم، ووجب] القصاص على الشاهد: لأنه تعاطى سبب الهلاك الحكمي المقترن بالهلاك الحسي المفضي إليه. فهذا وجه النظر في تلك المسئلة. فإن قيل: بأي تأويل سميتم تعليق الطلاق سببًا، حتى شرطتم اقتران النكاح به للانعقاد، ومنعتم التعليق على الملك، وأبو حنيفة -رضي الله عنه- ينكر كونه سببًا؛ ويزعم: أنه يمين في الحال؛ وينقطع حكم اليمين بوجود الحنث: فلا يكون سببًا [لما يرتفع به]، فإن السبب هو الطريق إلى المقصد، فأما ما ينعدم بالاتصال بالمقصد فلا يكون سببًا؟ قلنا: تسميته سببًا بمعنى العلة: التي فقدت [صفة] الإضافة إلى محل، أو فقدت الشرط على اصطلاح الفقهاء. فإن الفراق يقع -عند وجود الصفة- بالطلاق السابق، لا بالصفة الحادثة. وظهر أثر ذلك في

الشهود: إذا رجعوا في قضية الغرم. فإذا حصل الفراق عند الدخول، كان مضافًا إلى الكلام السابق [لا] إلى الدخول: فهو العلة. فلذلك شرط اقتران شرط الطلاق به، وهو ملك النكاح. فإن قيل: إنما يصير كلامه علة للفراق عند الدخول؛ وقبله يمين وليس بعلة للفراق. قلنا: إذا وجد الدخول واللفظ، وحصل الفراق؛ فهو مضاف إلى اللفظ لا إلى الدخول، فهذا هو المراد بكونه سببًا وعلة. أما قولهم: إنه قبل الدخول ليس بعلة، فإن عنوا به: أنه ليس بموجب للفراق في الحال، فمسلم. وذلك: لنقصان وصف الإضافة الحاصل من الاقتران بالشرط. وأن عنوا [به]: أن ذات العلة وركنها وما يضاف [إليه الحكم] عند حصوله غير موجود -[فهو باطل. فإن الزنا يسمى علة وسببًا على ما سبق وجهه؛ وهو غير موجب] بمجرده دون وصف الإضافة إلى المحصن؛ ولكن عند حصول الوصف يضاف إلى الزنا، لا إلى وصف

الإضافة. [فهذا -على منهاج] كلام الفقهاء- واضح. فإن قيل: فإن سلم كونه سببًا وعلة بهذا التأويل، فلم يشترط أن يقترن به ملك النكاح، وملك النكاح يراد لاتصال الطلاق بالمحل، وهو لا يتصل به قبل الشرط، والمحل مهيأ للطلاق عند وجود الشرط. وليس يشترط في حال التكلم إلا أهلية العاقد لصدور السبب منه؛ فكما لا تشترط صفات المتكلم عند وجود الصفة والشرط، [حتى وقع] وإن كان الزوج مجنونًا عند الدخول -فكذلك صفة المحل: لا تشترط عند صدور السبب من العاقد؟ قلنا: من سلم كونه علة وسببًا كما ذكرناه، لزمه أن يعترف بمذهبنا؛ إذ صفات المحل يشترط وجودها حالة وجود السبب، وإن كان السبب في الحال لا يتصل بالمحل ولا يتنجز حكمه. فإذا قال الرجل لأجنبية: تزوجتك على ألف، وطلقتك على مائة؛ فقالت المرأة: زوجت نفسي،

وقبلت الطلاق- لم يقع الطلاق عندهم، لأن الإيجاب تقدم [حكمه] على النكاح؛ والإيجاب لا يتصل حكمه بالمحل إلا بعد وجود القبول؛ فهي منكوحة بعيد القبول ومعه. وكذلك قال الشافعي [79 - أ]-رحمه الله-: لو قال لعبده: كاتبتك على ألف، وبعتك الثوب بدينار؛ فقال العبد: قبلت الكتابة، واشتريت الثوب -لم يصح شراء الثوب. وقد كان الموجب أهلا للإيجاب حالة الإيجاب، والعبد كان أهلا للشراء حالة القبول؛ ولكن: لما لم يقترن شرط أهلية القابل بحالة الإيجاب، لم ينعقد سببًا. فدل [على] أن مأخذهم ما سبق: من أن التعليق في الحال يمين، وليس بعلة للفراق ولا سبب له. وقد بينا وجهه. وأما قولهم: أن السبب ما يتقرر عند الوصول إلى المقصد، واليمين يرتفع بوجود الصفة.

قلنا: هو -من حيث كان يمينا- ليس موجبًا للفراق. ومن حيث كان موجبًا للفراق، يتقرر عند الدخول، ويتنجز الفراق، [ولا يرتفع كالتطليق] الناجز؛ فإنه [سبب] يستعقب الفراق، ويكون ذلك تقررًا في حقه لا ارتفاعًا. وإنما سمي يمينًا: من حيث أنه بالعادة يمنع من الفعل، وهو من هذا الوجه ليس بسبب للفراق. وكذلك اليمين: سبب للكفارة [والمنع الشرعي]؛ ولا نقول: ارتفع بالحنث [بل تقرر]؛ فإن اليمين الكاذبة موجبة للكفارة، وقد تحقق الوجوب واستقر. وإنما [المرتفع] المنع الطبيعي: من حيث محاذرته لزوم الكفارة. والمنع الشرعي لا نقول: ارتفع، بل اليمين لم تقتض المنع إلا [في] مرة واحدة، فتقرر موجبها: أن سلم كون اليمين موجبًا للمنع. هذا ما أردنا أن نهذب به مقاصد الفقهاء من إطلاق لفظ السبب والعلة والشرط، ووجه إضافة الأحكام إليها تحقيقًا وتمثيلاً [والله أعلم].

القول في بيان ركن الحكم من أركان القياس وهو الركن الثالث يجوز أن يثبت بالقياس كل حكم شرعي، لم يتعبد فيه بالعلم. ويتبين هذا بالضبط بالنظر في المسائل: مسئلة: لا يجوز أن يثبت بالقياس الشرعي القضايا العقلية واللغوية، لأن القياس دليل شرعي: فلا يدل إلا على قضية شرعية. ويخرج عليه: [أن] تسمية النبيذ خمرًا بالقياس، لا وجه له: لأنه أمر لغوي، فيعرف من وضع اللغة. وإذا لم ينقل الاسم، ولا نقل من أهل اللغة تجويز [الإثبات] للأسامي بالقياس -لم يكن الاسم لغويًا؛ والأسامي اللغوية أعلام للمسميات: فلا وجه للتعرف فيها بالقياس.

نعم: الطريق أن نسلم أنه لا يسمى خمرًا؛ ولكن الخمر محرمة لعلة الإسكار، فتحريم غير الخمر كما حرم الربا في غير البر: لمشاركته البر في معنى الطعم، وإن لم يشاركه في الاسم. وكذلك: إثبات اسم الزنا للواط، واسم السرقة للنباش، واسم اليمين لليمين الغموس، [بالقياس]-لا وجه له: فإن هذه أمور لغوية. فإن سلمنا اتباع الأحكام هذه الأسامي، وجب إثبات الأسامي بالنقل؛ كما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان"، وأمثال ذلك. أو نزعم: أن الأحكام غير منوطة بهذه الأسامي، وإنما هي منوطة بمعان تتضمنها. فمناط الحكم من الزنا: تضييع الماء بالجماع المشتهي المحرم؛ ومناطه من السرقة: أخذ المال المحترم من الحرز؛ إلى أمثال لذلك: وكذلك النظر في أن الطلاق هل يحتمل العتاق [أم لا]؟ وأن قوله: أنت طالق هل يحتمل العدد [أم لا]؟ إلى أمثال هذه المسائل. [فأمثال هذه المسائل] إنما تتعرف من البحث عن وضع اللغة: بطريق الاستعارة والكناية؛ فالقياس في هذه المسائل باطل.

وكذلك القضايا العقلية: كالقتل مثلاً، وأن المكره متسبب أو مباشر، وأن كل واحد من الشركاء قاتل أم لا. فهذا يعرف بتعرف حد القتل، وهو أمر عقلي: لا يعرف بالقياس الشرعي. نعم: يجوز أن يثبت [الشرع لفعل] ليس قتلاً تحقيقًا، حكم القتل، فيعبر عنه: بأنه قتل شرعًا، أي هو قائم مقام القتل: في إفادة الحكم. مسئلة: ما تعبدنا فيه بالعلم لا يثبت بالقياس؛ [لأن القياس] لا يفيد إلا ظنًا، ولا يثمر العلم. ويخرج مخرجون على هذا الأصل: أنا إنما لم نثبت صلاة سادسة [القياس، لهذا الأصل. وهذا فيه نظر؛ فإن تقرير الوجوب بالظن ممكن كما في الوتر؛ وإنما لم نوجب صلاة سادسة] [لا] لأنه [لا] قياس يدل عليه، [بل: لا] نعقاد الإجماع على الانحصار، ولأنه

لو كانت واجبة: لتواتر [نقل] فعلها، كما تواتر [في] سائر الصلوات؛ [فعدم] التواتر -في ممحل وجوب التواتر عرفًا- يفيد العلم بالانتفاء؛ فلا يستعمل القياس على ضد المعلوم. فإن أراد هذا التصرف بما ذكره ما أشرنا إليه، فلا نعترض عليه. مسئلة: الحكم الثابت من جهة الشرع، نوعان: أحدهما: نصب الأسباب [عللا] للأحكام؛ كجعل الزنا موجبًا للحد، وجعل الجماع موجبًا للكفارة، وجعل السرقة موجبة للقطع. إلى غير ذلك: من الأسباب التي عقل [من] الشرع نصبها عللا للأحكام. والنوع الثاني: إثبات الأحكام ابتداء من غير ربط بالسبب. وكل واحد -من النوعين- قابل للتعليل والتعدية مهما ظهرت العلة المتعدية. فيجوز أن يقال: الجماع إنما نصب سببًا لعلة كذا، فينضب [الأكل] سببًا لوجود العلة. والزنا إنما نصب سببًا للرجم لكذا، فاللواط ينصب سببًا لوجود تلك العلة؛ وإن لم يكن اللواط زنا [79 - ب]

والأكل جماعًا؛ لأن نصب الشيء موجبا للحكم، قضية شرعية. كما أن [إثبات] الحكم قضية شرعية. فإذا قال الشارع: حرمت عليكم الخمر، كان ذلك حكمًا على سبيل الابتداء. فيبحث عن علته، ويقال: لأي معنى حرم الخمر؟ وكذلك إذا قال: اقطعوا السارق، فيقال: جعل السرقة سببًا، فلأي علة جعلها [موجبة] للقطع؟. فيجوز أن نطلع على علته، ونجعل غير السرقة موجبًا: لوجود العلة التي لأجلها جعلت السرقة موجبة. ولقد نقل عن أبي زيد -رضي الله عنه- كلامان [يكادان يناقضان] ما ذكرناه: أحدهما: ما تداولته ألسنة المتلقفين عنه: من أن الأحكام تتبع الأسباب دون الحكم، وأن الأسباب لا تعلل، وأن وضع الأسباب بالرأي والقياس لا وجه له، وأن الحكمة ثمرة الحكم ومقصوده لا علته. وإذا ذكر معنى الردع والزجر مثلا -في قواعد العقوبات- قالوا: [إن]

هذه حكمة العقوبة، لا علتها. والآخر: ما صرح به في "كتاب التقويم": من أن الاختلاف إذا وقع في موجب الحكم، أو صفة [الموجب أو في شرط الحكم، أو في صفة الشرط، أو في أصل الحكم أو في صفة] [أصل] الحكم -لم يجز إثبات شيء من ذلك بالقياس، وإنما يثبت بالقياس حكم معلوم بوصفه من غير منازعة تثبت في محل؛ فيرجع النظر في أنه مقصور على محله. أو هو متعد عنه إلى غيره؟. فأما الأقسام الثلاثة السابقة فلا مجال للقياس فيها: أما قسم الموجب، فنحو الاختلاف في أن الجنس بانفراده هل يوجب تحريم النساء؟ وأن السفر هل هو سبب مسقط لشطر الصلاة؟ وأن إسلام [الحربي] هل هو سبب لجعل نفسه وما له مضمونًا بالإتلاف؟ وأما صفة الموجب، فنحو الاختلاف في أن النصاب سبب للزكاة بصفة النماء أو دونه؟ واليمين سبب للكفارة بصفة الحرمة وحدها، أو بصفة

الإباحة والحرمة؟ والإفطار سبب للكفارة باسم الجماع، أو باسم قضاء إحدى الشهوتين؟ وأما الشرط، فكالاختلاف في الشهود والولي في النكاح، [والتسمية في الذبح؛ وأن شرط نفوذ الطلاق على المرأة: النكاح] أو العدة؟ وأما صفة الشرط، فكالاختلاف في عدالة شهود [النكاح]. وأما أصل الحكم، فكالاختلاف في أن الركعة الواحدة مشروعة صلاة أم لا؟ والأربعة مشروعة على المسافر أم لا؟ والمسح على الخفين مشروع أم لا؟ وصوم بعض اليوم مشروع أم لا؟ والقراءة تسقط بالاقتداء أم لا؟ وأما صفة الحكم، فكالاختلاف في القراءة المشروعة في الشفع الثاني: فرض أم سنة؟ وأنها فاتحة أم لا؟ وأن الطلاق يملكه الزوج مباحًا والكراهة لعارض أو يملكه مكروهًا والإباحة

لعارض؟ إلى أمثلة كثيرة ذكرها لهذا الأصل. وهذا الذي ذكره ليس يتعلق به نظر أصولي لنخالف فيه؛ فإنه ليس يدعي نبو هذه الأحكام عن القياس لأمر يرجع إلى ذات الحكم. ولكن المفهوم من كلامه: أن الحكم لا يجوز أن يثبت بالرأي ابتداء؛ وإنما الثابت بالقياس: احتذاء مورد الشرع، على معنى أن الوارد في محل يعدى. وإذا وقع النزاع في أصل الحكم: أشرع أم لا؟ فلا يلفى مشروعًا بالاتفاق في موضع، حتى يعدى. وهذا لا معترض عليه. وحاصله راجع إلى أن القياس من غير أصل، غير صحيح، وهو كما ذكر. ولكن قد ننازع في دعواه -في بعض الأمثلة- أنه لا يلفى له أصل يقاس عليه. فيخرج الكلام عن مقصود الأصول: فإنه يسلم أن ما يوجد له أصل يجوز القياس عليه؛ إذا قال بقياس المطعومات -في نفي شرط القبض- على العبيد والثياب. وهو قياس [في] نفي الشرط. واعتذر بأني وجدت الصحة من غير شرط القبض، حكمًا ثابتًا بالشرع في العبيد؛ فعديته: ما لم يمنع منه نص. وعلى من يدعي النص إظهاره. وزعم: أن من يتمكن من إبداء [أصل] مثل ذلك -في الأمثلة السابقة- يصح تعليله. وعند هذا يرتفع [الخلاف و] النزاع الأصولي.

والغالب: فقد أصل ينتفع به في الأمثلة التي ذكرها؛ فإنها أحكام مبتدأة لا على مثال سبق، و [لا] مضاهاة أصل تقدم. [ثم الثابت] بالقياس حكم معدى إلى محل، من أصل آخر ثبت فيه بتمهيد الشرع، لا بطريق التعدي. وذلك لا يلفى في القواعد المبتدأة. ويمكن أن يتكلف طلب أصول ترد الفروع إليها: بجوامع عامة، وروابط متسعة؛ يقل الانتفاع بها في غالب الأمر. كمنكر شرط الشهادة في النكاح: يقيسه على نكاح الكافر، أو يقول: عقد معاوضة فأشبه البيع. ولا انتفاع بهذا القياس: فإن الكفار لم يؤاخذوا -في أنكحتهم- بشرائط الإسلام؛ فلا يتعرف سقوط [الثرط] عن المسلمين، بسقوطه عنهم؛ والبيع بعيد عن مضاهاة النكاح لما يشتمل النكاح عليه: من النسب والولد، وأمر الفراش، ووجوب الاعتناء بصيانة الولد [ونسبه] [وافتقار ذلك لصيانة الفراش]، وافتقار

صون الفراش إلى الشهادة. فما يتفق من الأصول -في هذه الأمثلة- يقل جدواها. وقد يعرض على الندور أصل ينتفع به؛ فليس يرجع النزاع إذن إلى مقصود أصولي. فلنتجاوز هذا المقام. أما كلامه الثاني في أن الأسباب لا تعلل، ولكن تتلقى على وجهها بالقبول -فهذا فيه نوع لجمال، [80 - أ] فلعل المراد به ما قالوه: من أن الكفارات والحدود لا تثبت قياسًا، ولكنها تتبع الأسباب المنصوبة من جهة الشرع المنصوص عليها؛ وإنما المعقول من معانيها: حكم ومصالح؛ والأحكام تتبع الأسباب دون الحكم والمصالح. وعلى هذا بنوا منع قياس النباش على السارق، بعد تسليم أنه ليس سارقًا؛ ومنع قياس اللائط على الزاني، بعد تسليم أنه لا يسمى زانيًا. ويدل على فساد هذا الكلام مسلك كلي قاطع؛ وهو: أن نصب السبب علة للحكم، حكم من جهة الشرع. فجاز أن تعقل علته، ويفهم بالبحث باعث الشرع وداعه؛ ويتبع ذلك [المعنى] المفهوم، كنفس الحكم الثابت الذي لم ينط بسبب. وهذا قاطع في إثبات

الجواز العقلي. فإن سلم ذلك، وقال: هذا مجوز ولكنه غير واقع؛ لأنه لا تلفى الأسباب علة مستقيمة تتعدى. فنقول: الآن ارتفع النزاع الأصولي، فلا ذاهب إلى تجويز القياس: حيث لا تعقل العلة، ولا يستقيم على السبر المعنى المفهوم. ونحن الآن نبين تصور ذلك بالأمثلة، ونستنطق الخصم بالاعتراف به، ونذكر طريق القياس في تعليل الأسباب من وجهين: أحدهما: أن قياس اللائط على الزاني، وقياس النباش على السارق، إلى أمثال ذلك -مع الاعتراف بزوال اسم الزنا- كقياسهم الأكل على الجماع في الكفارة في نهار رمضان، من غير فرق. وقد قالوا بأجمعهم: إفطار كامل بمقصود في نفسه، فيوجب الكفارة؛ قياسًا على الجماع. فنحن نقول: إيلاج فرج في فرج محرم قطعًا مشتهى طبعًا، فيوجب الحد كالزنا. وأخذ مال محترم من حرز مثله ولا شبهة له فيه، فيلزمه القطع كالسارق. فما الفرق بين المسئلتين؟ ولسنا ندعي أن الاعتراض لا يتوجه على هذه الأقيسة؛ ولكن: كل قياس مستهدف لاعتراض المعترضين. وإنما الغرض إثبات أصل القياس.

فإن قيل: ليس ذلك قياسًا؛ فإن الكفارة ليست كفارة الجماع، وإنما هي كفارة الإفطار. قلنا: وليس القطع قطع السرقة، وإنما هو قطع أخذ المال المحترم من حرز مثله. ولا الحد حد الزنا، بل هو حد تضييع الماء- لا على طريق طلب النسل- في محل مشتهي طبعًا، محرم قطعًا. إذ لا معنى لهذا الكلام، إلا أن الكفارة ما نيطت باسم الجماع، بل نيطت بمعنى يتضمنه. و [نحن] كذلك نقول في الزنا والسرقة. [وكل ما أطلقوه] في ذلك المثال، لم يمتنع عن مثله في هذه الأقيسة. فإن قيل: لسنا نعلل الكفارة، ولا نقول: إنما علق بالجماع لعلة أنه إفطار. بل يتبين- بدلاته النص من الشرع- أن الكفارة ما نيطت من الجماع إلا بوصف الإفطار. فإن وصف كونه جماعًا ساقط فيكون تعلقه بالأكل بحكم النص داخلاً تحت عمومه لأنه إفطار. ورجع النظر إلى تنقيح مناط الحكم، على ما قدمتم أمثلته في أحكام الأشباه. قلنا: ونحن نلقب قياسنا أيضًا: بتنقيح مناط الحكم؛ وندعى: أنا

بأدلة النص والشرع- تعرفنا أن الحكم ما يناط بالزنا: لكونه ملقبا بلقب الزنا، بل مناط الحكم ما ذكرناه. ورجع حاصل هذا إلى تغيير عبارة عن القياس. فإن قيل: بين هذا الجنس الذي هو تنقيح مناط الحكم، وبين جنس القياس- فرق: فإن القياس أن نقول: علق الشرع الحكم على الجماع لعلة كذا، فنعلقه على [الأكل]: لوجود تلك العلة؛ وهذا ممتنع. ونحن نبين بالنظر أن الحكم ما علق بالجماع وإنما علق بالإفطار؛ فلا نعلقه بغير ما علق الشرع به. فيرجع النظر إلى الاستدلال على موضع الحكم، [ويتعلق بالبحث عن مورد النص]. فإن سلم لكم جنس هذا في الزنا والسرقة وسائر الأسباب: لم نمتنع منه. فإنه يرجع إلى تعرف متعلق الحكم؛ وهذا جار دون البحث عن الحكمة التي هي الباعثة للشرع على نصب السبب؛ فاتباع الحكمة هو المستنكر، دون [هذا] الجنس. قلنا: الآن إذن انفتح الباب بهذا الجنس في الأسباب، ورجع النظر إلى تلقيب هذا الباب، فننحدر منه إلى الوجه الآخر، وهو اتباع

الحكمة؛ ولسنا نعني بالحكمة إلا العلة المخيلة والمعنى المناسب، كقولنا: إن الجوع لمفرط والألم المبرح في معنى الغضب: في تحريم القضاء؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقض القاضي وهو غضبان". لأنه جعل الغضب سببًا لتحريم القضاء، فعقلت حكمته، هو: أنه يدهش العقل، ويزيح عنه أبواب الصواب، ويمنعه من استيفاء الفكر في طلب النصفة، وتحري العدل في القضية؛ وهذه الحكمة بعينها تدعو إلى نصب الجوع المفرط والألم المبرح مانعًا؛ فهذه حكمة معقولة في تعليل السبب وتعديته. وكذلك: إذا ورد الشرع بأن الصغير مولى عليه، فنحن نقيس عليه المجنون؛ لأنا نعقل الحكمة في نصب الصغر سببًا للولاية، وهو: ضعف العقل والافتقار إلى الناظر؛ فنقيس به المجنون. فمن زعم: أن مثل هذا النظر غير ملحوظ في تصرفات الشرع، أخرج عن حزب النظار. وإن اعترف به وغير العبارة، وزعم: أن هذا يرجع إلى تنقيح المناط -وهو: أن مناط التحريم من الغضب: دهشة العقل، لا صورة الغضب. ومن الصغر: ضعف العقل، لا عين الصغر. وهذا موجود في الفروع

الملحقة بها- قلنا: وبم عقل ذلك إلا بالمناسبة ودرك وجه الحكمة، على ما قررناه في أمثلة المناسبات؟ ولقد أجمعوا على أن قياس النبيذ [80 - ب] على الخمر جائز في القدر المسكر؛ وفهمه الحمة في مناسبة الإسكار لتحريم الخمر، كفهم هذه الحكمة، إلا أن تيك الحكمة في إثبات الحكم وهو التحريم، وهذه حكمة في نصب السبب؛ ونصب السبب -أيضًا- حكم: فلا فارق. وكما تبين بحكمة الإسكار أن التحريم غير منوط بلقب الخمر، تبين -أيضًا- أن التحريم ما نيط بصورة الغضب، ولا نيطت الولاية بصورة الصغر. فلا فرق بين البابين. فإن قيل: إنما نعني بالحكمة معنى الزجر في العقوبات: من القتل، والرجم، والقطع [في السرقة]؛ فإن ذلك حمكة الحكم وثمرته، لا عليته: إذ الزجر [يحصل] عند إقامة العقوبة؛ وما يحصل مرتبًا على الشيء لا يصلح أن يكون علة فيه. فإن العلة تتقدم في الرتبة على المعلول، وتسلوقه في الوجود. [وأما التراخي] فغير معقول. قلنا: الحاجة إلى الزجر هي العلة في نصب القتل سببًا لإيجاب القصاص؛ ولا ننكر أن [القصاص يجب بالقتل وأنه علته؛ ولكن إنما يجعل] القتل [سببًا لإيجاب القصاص]: المحاجة إلى الزجر

عنه، لما فيه: من الفساد، وفوات النفس المقصود بقاؤها. والحاجة سابقة على السبب، فصلحت لأن تكون [علة] باعثة [عليه]؛ ولا نعني بالحكمة والمعنى المخيل إلا الباعث على شرع الحكم. وهذا كقول القائل: خرجت من البلد اتقاء [من] عفونة هوائه، فالعفونة هي العلة الباعثة المحركة وهي سابقة في الوجود على الخروج. وقد يقول: خرجت من البلدة للقاء زيد الذي هو خارج البلد؛ فاللقاء مرتب على الخروج، ويسمى علة الخروج، وهو ثمرة الخروج ومقصوده؛ وصلح لأن يجعل علة، وحقيقته ترجع إلى التعليل بحاجة اللقاء؛ وحاجة اللقاء مقدم على الخروج. فكذلك القول بالتعليل بالحكم التي هي مقاصد الأحكام؛ وهذا واضح. فإن قال قائل: إنما لم يجز التعليل بحكمة الزجر، لأنها تنتقض ولا تنضبط أطرافها، وتنثلم حواشيها وجوانبها. فإذا قال

القائل: علة نصب الزنا سببًا للجلد هو: الحاجة إلى الزجر، فلينتصب اللواط علة -بطل ذلك بكل معصية تتشوف [النفس و] الطبع إليها، وبطل بالقبلة والمعانقة والأنزال بين معاطف السمن والأفخاذ، فيضطر إلى أن يقول: [ليس كل حاجة علة]، وإنما العلة حاجة خاصة، وهو: الحاجة إلى الزجر عن فاحشة الزنا، فإذا وقع مقيدًا بهذا، لم تظهر له فائدة، وإن لم يقيد به: استهدف للنقض. قلنا: حاصل الكلام راجع إلى أن العلة المنقوضة لا يصلح الاعتماد عليها؛ وهذا مسلم. فليبطل الحكم بالنقض لا بكونه حكمة؛ وليسلم أن الحكمة إذا عقلت ولم تنتقض، جاز التعليل للأسباب بها، حتى يرتفع الخلاف المتعلق بالنظر الأصولي. ويرتد التخاوض إلى طريق الاحتراز عن النقض. على أنا نبين [لهم] طريق التعليل بالحكمة، فنقول: ماصين بالقصاص عن المنفردين بالجناية، يصان بالقصاص عن المشتركين: قياسًا للأيدي على النفوس.

فإن قيل: ولم قلتم ذلك؟ قلنا: لأن المصلحة المقتضية لقتل النفوس الواحدة، تقتضي استيفاء الأيدي باليد الواحدة. فإن قيل: القطع منوط بالقطع، والحم يتبع السبب دون المصلحة؛ فأثبتوا أن الشريك قاطع لكل اليد، حتى يجب عليه القطع. قلنا: لسنا ندعي أن الشريك قاطع لكل اليد، ونسلم أن الحكم يتبع السبب. ولكن: كما نيط [القتل بالقتل، نيط القطع بالقطع] ثم الشرع الحق المشاركة في القتل بالقتل، ونصبه سببًا للقصاص؛ وإن لم نعقل مستندًا لمصلحة معلومة. وتلك المصلحة تقتضي أن تجعل المشاركة [في القطع مساويًا للانفراد في كونه] سببًا. [وإنما التعليل لجعل المشاركة سببًا] ولنصب فعل الشريك موجبًا، إلحاقًا له بفعل المنفرد، كما في النفس. وهذا الكلام -على هذا المنهج- معقول. فإن قيل: وما تلك [المصلحة و] الحكمة؟ قلنا: هو أن السر في نصب قتل المنفرد موجبًا للقصاص؛ الحاجة إلى عصمة الدماء؛ وهذه الحاجة تقتضي نصب فعل الشريك سببًا: إذ لو فتح هذا [الباب] لا نخرم مقصود الأصل. فهذا كلام معقول.

فإن نقض بالشركة في السرقة، أو قيل: إن كل واحد من الشريكين قاتل -تكلمنا عليه بما ذكرناه في بيان الاستدلال المرسل؛ وبينا طريق دفع النقض. وجرى التعليل بالحكمة في نصب السبب، على مذاق سائر التعليلات. وكذلك نقول: جعل الشرع القتل بالجارح سببًا للقصاص، بمعنى مقعول ومصلحة ظاهرة. وتلك المصلحة جارية في القتل بالمثقل، فألحق به. وكذلك [نصب] الزنا سببًا للرجم: صيانة للنسل عن الانقطاع، وزجرًا عن تضييع الماء؛ وهو جار في اللواط. ونصب السرقة علة للقطع: صيانة للأموال المحرزة عن الاختلاس؛ وذلك جار في أخذ النباش. وطريق الفقهاء -في الاحترازات عن النقوض [فيها]- مشهورة؛ فإذا استتب ذلك، وجب القول به. فإن اعترف به الخصم: ارتفع الخلاف، وإن زعم: أن هذا تعليل بالبواعث، والبواعث مستنبطة لا يطلع

عليها؛ فالحكم بها رجم بالظن على الغيب، وجزم في محل الريب -فقد أقمنا بالبرهان على هذا، في بيان وجه التعلق بالمناسبات. وهذا مسلك بين، فإن أراد بمطلق هذه الألفاظ معنى خارجًا عن هذه الأقسام التي ذكرواها، لم ننازعه فيه؛ فإنما الغرض [إثبات] متعلق بالأجناس التي فصلناها. [والله أعلم]. مسئلة: اختلف الأصوليون في أن انتفاء حكم الشرع، وهو: البقاء على الحكم الأصلي قبل الشرع؛ هل يعرف بالقياس؟ والوجه فيه -عندنا- أن يقال: أما قياس الدلالة فجار فيه، وأما قياس العلة فلا. وقياس الدلالة هو: أن يستدل على انتفاء [81 - أ] الحكم بانتفاء نتيجته، أو انتفاء خاصيته. أو يستدل بانتفاء الحكم عن الشيء على انتفائه عن مثله، على ما قررناه في برهان الدلالة. وأما العلة فلا تصور لها في النفي الأصلي، وتتصور في النفي الحادث الطارئ على الإثبات السابق. وبيانه أنا إذا قلنا: لا تجب الكفارة بالأكل والشرب، رجع حاصله إلى إنكار دعوى الخصم تغيير الأكل عما كان عليه في الأصل، وانتصابه موجبًا. فليس بقاؤه على النفي الأصلي بموجب،

ولكن: إذا تغير عما كان [عليه] فصار موجبًا بعد أن لم يكن -افتقر إلى مغير، وهو النص مثلا. فإن قيل: فبم عرفتم ذلك؟ قلنا: بانتفاء دليل الإيجاب، فـ[أن دليل الإيجاب] هو النص الوارد في الجماع، وإنما يتعدى إليه بإلغاء وصف الجماع؛ [ولوصف] الجماع أثر: فلا سبيل إلى إلغائه؛ إذ دليل الإيجاب [قوله]: "من أفطر فعليه ما على المظاهر" وهذا الحديث مطعون فيه. وإذا انتفى دليل الإيجاب: [انتفى الإيجاب] ويعني بانتفائه: بقاؤه على ما كان، وعدم تغييره عنه. فإن قيل: فعدم علة الإيجاب، على انتفاء الوجوب. قلنا: هذا تعقيد في عبارة؛ فعدم السبب يدل على عدم المسبب؛

فأما أن يوجب العدم [فلا]: لأن العدم الأصلي كائن دون تقدير السبب، فإنه ليس أمرًا حادثًا، حتى يفتقر إلى محدث. ومثاله: عدم العالم قبل وجوده في الأزل، مع وجوده الحادث، فإنه إذا طرأ الوجود: افتقر إلى سبب موجد وهو الإرادة؛ وبقاؤه على العدم الأزلي كان لا يستدعي سببًا، وإن كان جائز التغيير إلى الوجود. وقد يقول القائل: سبب [العدم] عدم إرادة الوجود، فيقال: هذا باطل، إذ لو قدر عدم الإرادة والمريد، لكان العدم مستمرًا أيضًا. بخلاف الوجود المحال على الإرادة: فأنا لو قدرنا انتفاء [إرادة الصانع: امتنع الوجود. ولو قدرنا انتفاء] إرادة العدم: لما انقلب العدم وجودًا. نعم: إذا وجد الشيء وطرأ عليه العدم، افتقر العدم الطارئ إلى موجب. فكذلك البراءة الطارئة على الشغل في الذمة: تفتقر إلى سبب موجب. فأما البراءة الأصلية فلا تفتقر إلى سبب، بل انتفاء أسباب الشغل كاف في انتفاء الشغل، والبقاء على البراءة الأصلية. وهذا: [لأن تغير المحل] بالسبب المغير أمر ضروي، فإن السبب المغير من غير تغير لا يعقل، ولا تغير في هذا المقام.

فإن قال قائل: البراءة الأصلية والنفي الأصلي هل هو حكم من الشرع؟ فإن كان من الأحكام الشرعية: فالأحكام [الشرعية] حادثة بحدوث الشرع، فافتقر إلى محدث. وإن لم يكن من أحكام الشرع: [فهذا من المحال. لأن قولنا: لا تجب الكفارة بالأكل، حكم من أحكام الشرع]، كقولنا: تجب الكفارة بالجماع؛ وأحكام الشرع تنقسم إلى النفي والإثبات. قلنا: النفي الأصلي ليس من حكم الشرع، على معنى: أنه لم يحدث بورود [الشرع فإنه] ليس بحادث. فكيف بحال حدوثه على الشرع، ولا حدوث له؟ نعم، قد يقال: إنه من الشرع على تأويل معرفته بدلالة الشرع عليه؛ وإذا ورد دليل عليه: رجع حاصله إلى دلالته على كف الشرع عن التغير [عما كان عليه قبل الشرع، لا على إثبات حكم له. ولكن كف الشرع عن التغيير] يعرف من الشرع، كما أن أقدامه على التغير يعرف منه أيضًا. فإن قيل: التبقية على النفي الأصلي، فعل من الشرع حادث.

قلنا: معنى التبقية: الامتناع من التصرف والتغير مع تعري الامتناع بدلالة؛ وتلك الدلالة: إما ظن وإما علم بعدم التغيير. فإذا قلنا: الوتر لا يجب، لم يكن لانتفاء وجوبه علة شرعية، بل معناه: أنه لم يرد دليل الوجوب، فبقى على ما كان. وهو كقولنا: لا تجب صلاة سادسة لا بعلة، ولكن لم يرد دليل الوجوب [فبقى على ما كان. وهذه دقيقة عظيمة] عقلية: لابد من الإحاطة بها، ويرجع لحاصلها إلى الفرق بين الدلالة المعرفة، والعلة المغيرة. فالدلالة المعرفة لا تستدعي حدوث أمر، إذ القديم يعرف كما يعرف الحادث. والعلة المغيرة تستدعي حدوث التغيير، ولا تغيير في النفسي الأصلي. فإن قال قائل: فما وجه إقامة البرهان على النفي الأصلي، في الجدال؟ قلنا: [له] ثلاثة أوجه: أحدها: قياس الدلالة، كقولنا: صلاة تقام على الراحلة، فلا نحكم بوجوبها: كركعتي الفجر. وكقولنا: لا يملك المقارض ربح الربح، فلا يملك الربح. وهذا استدلال بانتفاء النتيجة. وقولنا: عقد لا يفيد

الحل، [فلا نعقد]. إلى أمثاله. الوجه الثاني: السبر لمدارك الوجوب، وهو أن نقول: المدارك من الكتاب والسنة [والإجماع] والقياس؛ وهي منتفية. ونقول في كفارة الأكل: مأخذ وجوبها الجماع، وليس [هو] في معناه لكذا وكذا. وهذا في الجدال عسير: لأن حاصله يرجع إلى الجهل بقيام الدليل؛ وهو صالح للدفع لا للإلزام؛ فإن المعلل وإن استقصى في السبر، فللخصم أن يقول: الدليل أمر آخر وراء ما قدرت، وأنت لم تعثر عليه؛ والحصر غير ممكن. وإن قال: غلب على ظني بالسبر الذي ذكرته؛ فيقال له: وسبرك -على قدر استطاعتك- عذر في حقك؛ فأما أن يكون دليلاً على انتفاء الدليل، فلا. فإن حاصل كلامك: أني عثرت على هذه المسالك وهي فاسدة؛ فنسلم لك ذلك. فإن قلت: ولم أعثر على غيرها، فهو -أيضًا- مسلم. فإن قلت: ما لم أعثر عليه ينبغي أن لا يكون؛ فمن أين [لك هذا] والناس يختلفون في العثور على المدارك؟ فإن قلت: غلب على ظني -ببحثي- انتفاء مدرك [آخر]؛ فيقال: وما مستند

ظنك: ما عثرت [عليه]، أو ما لم تعثر [عليه]؟ وما عثرت عليه لا يغلب على الظن عدم ما لم تعثر عليه؛ وعدم عثورك على الدليل لا يغلب على الظن عدم الدليل. وإن غلبه: فهو عذر في حقك لا يلزم الخصم الانقياد له. فغاية الممكن أن يقال: إذا أتى المعلل بسبر المدارك المعروفة، فعلى المعترض إبداء ما عنده حتى يتكلم عليه فيثور نزاع لا قطع له: في أن السبر الذي ذكره هل استوعب المشهور، مع عسر ضبط المستور، واختلاف الكتب والتعاليق في الاشتمال على الأدلة، والانفكاك عنها؟. فإذا انحسم هذا الطريق، فأنا أقول الآن: ما قاله [81 - ب] بعض الأصوليين: من أن النافي لا دليل عليه؛ فإنه لا يدعي أمرًا حتى يطالب بإثباته، بل هو جاحد منكر، وإنما عليه الدفع؛ فعلى المثبت إقامة الدليل. [وقد عبر بعض الأصحاب عن هذا: باستصحاب الحال، وأنه حجة. ولا وجه له: فإن استصحاب الحال يرجع حاصله إلى الجهل

بالدليل] المغير؛ وذلك يصلح للدفع لا للإلزام. وإذا كان يقتصر على الدفع: فليقصتر على ما ذكرناه، وليشمر لإبطال ما يدعي عليه. فإن نازع منازع في قولنا: لا دليل على النافي؛ قلنا: هذا اصطلاح، وهو ينبني على المواضعة، ولكل فريق أن يصطلحوا على ما يرون. ولكنا نقول: الأليق بمصلحة الجدال، وإظهار مقاصد المسائل -ما ذكرناه. ويدل عليه أمران: أحدهما: أن المنازعة في المسائل، على مثال المنازعة في الأملاك. وليس على النافي لشغل الذمة إلا الدفع؛ وإنما الدليل على مدعي الشغل. فإذا قال المدعي: لي عليك ألف، فانكره -فليس له أن يقول: ما الدليل على أن ليس لي عليك شيء؟ بل هو المطالب بإثبات ما يدعيه. وبه تنتظم مراتب الخصام. فللمدعي الإثبات، وللمنكر الدفع الإبطال. والآخر: أن وضع الجدال على وجه -لا يتصور القيام به في جميع الصور- محال؛ ولو طولب النافي [الدليل]، لعجز عن

القيام به، فأنا قد بينا أن النفي الأصلي لا علة له؛ وإنما يعرف بالدلالة. وقد لا تساعده دلالة سوى اعتقاده انتفاء دليل الإثبات؛ وانتفاء دليل الإثبات لا يتصور إثباته في الجدل؛ فإنه وإن استقصى في الاحتواء على الاحتمالات، فللخصم أن يقول: وراء ما ذكرته [مدرك: غادرته ولم تعثر عليه؛ فيضطر إلى أن يقول: لم أعثر عليه أنا؛ فان] عثرت أنت عليه، فأبرزه حتى نتكلم عليه. وتضطره المطالبة بالآخرة إلى هذا لا محالة، فليبتدئ بها قبل أن يضطر إليها؛ فإنها أقرب إلى فصل الخصام، وتحصيل المرام. فأي فائدة في عد المدارك المنتشرة، والنهوض لإفسادها: والخصم قد لا يثبت الحكم بها، أو لا يثبته بجميعها؛ وإنما يثبته بواحد ليس منها؟ فلينبهه عليه حتى يعتني به، ويتسغني عما لا يعنيه. فاضماره له نكد محض، يطول المراء، ولا يقطع الخفاء، ولا يكشف عن المقصد الغطاء. وإلى هذا، ترجع دعوى المعلل: جرى السبب ولا شبهة. إذ يقال: لا أسلم انتفاء الشبهة. فيقول: الشبهة كذا وكذا، وقد انتفت، فيقول: سلمت انتفاء ما ذكرت، ولكن لا أسلم الانحصار فيه، بل وراء ما ذكرت شبهة. فلا طريق إلا أن يكلفه الإظهار حتى يتكلم عليه؛ فليكلفه أولاً:

فهو أقرب إلى الغرض. فإن قيل: إذا تمسك المسؤول بالاستمرار على النفي. وطالب السائل بالدليل، [وامتنع عن إظهار الدليل الذي اختص بالتغيير]- رجع حاصله إلى دعوى الجهل بالدليل المغير؛ والسائل يسلم له جهله بالدليل، [ويمتنع عن إظهار الدليل] الذي اختص بمعرفته؛ ومنصب المسؤول يرتفع عن أن يتضمخ بمثل هذا القصور ويعترف بالجهل؛ فمن اعترف بالجهل على نفسه، فقد ألزم نفسه نهاية الذل والركاكة. قلنا: منصب المسؤول يقتضي إحاطته بخيالات الخصم، واستقلاله بإبطالها بعد بذل المجهود: في الاستيعاب والحصر. ويتبين ذلك بقدرته على استئصال كل خيال بيديه. فإن أظهر مسلكًا [آخر] عجز المسؤول فيه -توجهت الدبرة عليه، وسدد سهام التشنيع والتعيير إليه. ولكن: ليس يلزمه في الابتداء إبداء تمام سبره؛ لأن ذلك يحوجه إلى ذكر الاحتمالات وتشعيب النظر في إفسادها؛ ثم لا ينتهي إلى حصر: يقطع لسان المجادل، ويمنع تجويز قسم آخر لم يعثر عليه. فتكليف الخصم إبداء

ما يدعيه -ليطعن المنكر فيه- أضم للانتشار، وأحوى لأطراف الاعتبار. فإن قيل: المجتهد لا يفتي [بالنفي] والبقاء على الحكم الأصلي، ما لم يعتقد انتفاء الدليل: إما علمًا، وإما ظنًا، وظنه وعلمه يحصل بمستند؛ فليبد في الجدال مستند ظنه. قلنا: مستند ظنه السبر والبحث؛ وحاصله يرجع إلى عدم العثور، بعد بذل المقدور؛ وهو صالح لأ [ن] يكون عذرًا له بينه وبين الله سبحانه وتعالى؛ ولا يصلح أن يكون حجة ملزمة للخصم، فإنه يرجع بالآخرة إلى أن يدعي عدم الدليل وراء ما لاح له؛ ودعواه العدم لا تكون حجة على خمصه. فإنما يقدر على دعوى العدم: في حق نفسه، لا في حق خصمه؛ فيضطر بالآخرة إلى أن يكلف الخصم [إبداء] ما يضمره حتى يتكلم عليه؛ وتقوم مراتب النظر بينهما [به]. فليكلف ذلك ابتداء: لينتظم نشر الكلام، ويستلين قياد المرام، وتتذلل للخصمين مدارج الخصام.

فإن قيل: فإذا تصور الاستدلال على النفي بقياس الدلالة، فليكلف المسؤول إيراده. قلنا: ذلك متصور؛ ولكن قد تعرض صور لا تساعد فيها دلالة، وإنما يعرف [انتفاء الحكم] بدلالة انتفاء الدليل، [وبيان انتفاء الدليل] بطريق الحصر -في الجدال- غير ممكن، فيضطر إلى ما ذكرناه. فإن قيل: أبو حنيفة -رضي الله عنه- ينفي شرط الولي في النكاح؛ ويذكر فيه قياس العلة [ويقول]: حرة عاقلة، فتستقل بالنكاح كالرجل. وينفي شرط الرؤية في المبيع، ويذكر قياس العلة [ويقول]: مبيع [معلوم العين] مقدور على تسليمه: فكان محلاً للبيع كالمرئي. إلى أمثلة [له] مشهورة، من انتفاء شروط العقود من الجانبين. قلنا: في هذه الأدلة نظر؛ ولكن ليس ذلك من غرضنا، والذي يتعلق بمساق هذا المقصود: أن هذه العلة ما نصبت لنفي الشروط والبقاء

على الحكم الأصلي، بل نصبت للصحة، والصحة في العقود حكم شرعي حادث بالشرع. فجاز أن يقال: علة الصحة من الرجل كذا، وقد وجدت العلة في المرأة، [82 - أ] وهذا متصور: من حيث الإمكان؛ وهو -مع ذلك- عسير المجرى؛ فمتى سلم الخصم أن العلة الحرية والعقل، وأن الذكورة ليست مضمونة [إليها]؟. ولكن لما كان الوصف العارض لإثبات الشرط، حكمًا شرعيًا وهو: الصحة، وكان الانتفاء حاصلاً في ضمنه -أمكن نصب العلة للصحة. فإن قيل: فهل تكلفون نافي الشرائط نصب الدليل، أو تكتفون منه بأن يقول: لا دليل علي، وعلى من يدعي مزيد شرط إثباته؟ قلنا: لا، بل نكلفه الدليل. فإنه يدعي الصحة دون الشرط، وهو حكم شرعي يستند إلى موجب لا محالة. نعم: يكتفي منه بالعمومات المتسعة، كقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم}، وقوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. فيستند إلى العموم [ويقول: كل ما يسمى باسم النكاح فالظاهر يقتضي صحته؛ وعلى من يدعي التخصيص

بالشرط] الدليل. فبهذا القدر ينقلب وجوب الدليل على مثبت الشرط. وليس يمكن التعلق بالعمومات في النفي المرسل: إذ لا يساعد ذلك. فلا عموم من جهة تدل على أن الأكل، وابتلاع الحصاة، والقبلة، والمعانقة، والبيع والشراء، ومس الجدار، وجميع الحركات والسكنات والأفعال -لا توجب الكفارة؛ فما لا يوجب لا حصر له. وإنما النص يرد بالإيجاب في محل؛ فيقتصر أو يتعدى إلى القدر الذي يشاركه في المعنى. فأما ما بقى على النفي الأصلي، [فلا يرد فيه دليل. بل يكفي في معرفة بقائه على النفي الأصلي]، [عدم ورود الدليل] المغير. فإن قيل: كلامكم هذا يشير إلى أن الإباحات ليست من الشريعة، وأن الإباحة ليست حكمًا من أحكام [الشرع]. وهذا مذهب الكعبي زعيم المعتزلة. فكيف ارتضيتم لأنفسكم موافقة أهل البدعة؟

قلنا: تهجين قضايا الأدلة -بسبب قبول بعض المبتدعة لها، واعتقاده إياها- من دأب ذوي الخور والجبن. فلقد عرفنا بالدليل حدوث العالم وافتقاره إلى محدث، وصدق الرسول وتأييده بالمعجزة. وهو -أيضًا- مذهب المعتزلة والروافض والكرامية. ولا سبيل إلى اجتناب الحق: ترفعا من خسة الشركاء. فنقول: المباح يطلق ويراد به: انتفاء الحرج عن فعله وتركه. وهذا ليس من [حكم] الشرع: فإن انتفاء الحرج عن الفعل والترك جار قبل الشرع، وجار في فعل البهائم. وقد تطلق الإباحة ويراد بها: تخيير الشرع بين الفعل والترك بخطابه. فإن ورد خطاب التخيير، فه من [أحكام الشرع]: إذ حكم الشرع خطابه. وإن لم يرد فلا يقال: إنه [من] حكم الشرع ولم يرد الخطاب. فإن مس الجدار -مثلاً- يستوي فعله وتركه في شهر رمضان: في إيجاب الكفارة. ونحن نحكم بأنه لا يوجب الكفارة: لا بورود خطاب فيه. أو دلالة خطاب عليه؛ ولكن: لأنه لم يرد دليل على إيجابه، فلم يكن هذا من أحكام الشرع، على التأويل الذي ذكرناه.

فالمفتي لا يحكم ببراءة ذمة السائل عن الكفارة، إذا سأله عن مس الجدار، بل يمتنع عن الفتوى بالشغل: لفقد دليل الشغل. فتبقى الذمة [على البراءة الأصلية]. والدليل القاطع على الفرق بين النفي والإثبات: أن العلم بعدم دليل الإثبات كاف في [النفي؛ والعلم بعدم دليل النفي غير كاف في] الإثبات. فليس قول القائل: لا أثبت لأنه لم يقم دليل الإثبات، كقوله: أثبت لأنه لم يقم دليل النفي. وهذا واضح للمتأمل المنصف إن شاء الله تعالى.

القول في الركن الرابع من أركان القياس وهو ركن الأصل للأصل المقيس عليه -الذي منه استنباط العلة- شرائط: الشرط الأول: أن يكون حكم الأصل ثابتًا؛ فإنه إذا لم يكن ثابتًا، وتوجه المنع عليه من المعترض -لم يترتب الفرع عليه: إذ ثبوته في الفرع، فرع ثبوته في الأصل. الشرط الثاني: أن يكون ثابتًا بطريق سممعي شرعي؛ إذ لو كان ثابتًا بطريق عقلي أو لغوي -لكان الحكم عقليًا أو لغويًا، ولم يمكن إثباته بالقياس الشرعي. الشرط الثالث: أن يكون الطريق الذي عرفت به علة الحكم -وهو: كون الوصف المشروط علة لحكم الأصل- أيضًا شرعية؛ إذ لو عرفت علته بطريق العقل: لكانت العلة عقلية، وحكمها عقليًا؛ يستغنى -في إثباتها طردها- عن القياس الشرعي. الشرط الرابع: أن يكون حكم [الأصل] ثابتًا بطريق سوى

القياس على أصل آخر، وهو: النص أو الإجماع. فإنه لو كان ثابتًا بالقياس على أصل آخر، فالجامع بين الفرع وبينه، لا يخلو: إما أن يكون موجودًا في الأصل الأول، أو كان مفقودًا: فإن كان موجودًا، فليقس عليه. فرده إلى أصل، ثم رد الأصل إليه -عبث. وهو كمن يقيس الذرة على الأرز برابطة الطعم، ثم يرد الأرز إلى البر. فليقس الذرة على البر أولاً: إذ ليس الأرز بأن يجعل أصلا، أولى من الذرة. فلا يقتضيه وهما فرعا أصل واحد. وإن كانت العلة مفقودة في الأصل الأول، موجودة في المسئلة المتوسطة التي جعلها أصلا لفرعه -كان ذلك باطلاً؛ لأن العلة لا تخلو: إما أن كانت شبهية من قبيل العلامات، أو كانت مناسبة مخيلة واقعة في رتبة المؤثرات: فإن كانت شبهية -وذلك الشبه [ليس موجودًا] في الأصل الأول -لم يتصور أن يعرف كونه علامة الحكم، مع إثبات الشرع أصل الحكم. حيث لا وجود لتلك العلامة. ومن تأمل ما ذكرناه في طريق إثبات العلامات في الركن الأول من الكتاب، ظهر له وجه الفساد في هذا التركيب. على أنه لو فتح هذا الباب: لجاز أن نشبه بالثالث رابعًا بوصف

لا يشبه الثاني به؛ وكذلك القول في الخامس وما بعده من الأعداد، فننهي بالتدريج إلى رتبة: نعلم -على القطع- أنه ليس في معنى الأصل [82 - ب] وهو كمن وجد حصاة: فالتقط أخرى لمشابهتها لها، ثم التقط ثالثة لمشابهتها الثانية، ثم التقط رابعة لمشابهتها الثالثة؛ هكذا إلى أن التقط مائة حصاة. فلو نظر [إلى] الأخيرة وقاسها بالأولى، لم يجد بينهما مشابهة، وكان بحيث لو وجدها ابتداء: لما شبهها بالأولى. وهذا شيء لا شك فيه. فأما إذا كانت العلة مناسبة، فلا تخلو: أما أن كانت لها رتبة الاستقلال [ووقع في رتبة الاستدلال] المرسل الملائم الذي يستغني عن شهادة أصل معين؛ كما ذكرنا أمثلته في الركن الأول، وأما أن افتقر إلى شهادة الأصل المعين. فإن وقع في رتبة الاستدلال المرسل: فليستدل به على الفرع. ولا حاجة به إلى الأصل؛ فوجوده وعدمه بمنزلة واحدة.

وإن كان يفتقر إلى شهادة الأصل له، حتى تعرف -بإثبات الشرع الحكم على وفقه- إجابته لذلك المعنى، [وملاحظته إياه على ما قررناه في بيان المناسب: لم ينتفع بهذا الأصل الذي] لم يرد من الشرع فيه حكم مقصود، وإنما أثبت الحكم فيه بالتعدية بعلة أخرى، ثبت الحكم على وفقها. فلاح أن هذا التصرف مائل عن سنن القياس. فإن قال قائل: فأي فائدة في الفرض؟ ولقد عرف من دأب المعللين فرض الكلام في مسئلة لينبني عليها محل السؤال؛ فإذا شرطتم أن تكون على الأصل شاملة لجميع مجاري الحكم، فلا يبقى للفرض فائدة. قلنا: للفرض محلان، هما: أن تعم صيغة السؤال من السائل. وقد لا يساعد المسؤول دليل يشمل جميع الصور، فيفرض في البعض: ليقتصر على دليل واحد، أو يساعده في بعض الأطراف حديث ورد فيه، وباقي الأطراف معلوم بالقياس، فيلوذ من غموض القياس إلى وضوح النص. أو يساعد الخصم في بعض الأطراف إشكال يعارض به كلامه: فيجتنب الخوض فيه؛ كمن يفرض الكلام في مسئلة قتل المسلم بالذمي: في المعاهد، ليدرأ به إشكال [قول بعضهم]: أن العصمة مستوية في التأييد. أو يفرض في عتق الراهن: في المعسر، ليدرأ به إشكال

التعلق بسراية العتق، فإن سلم الخصم المعسر مثلا، [استفاد بتسليمه] إبطال قوله: أن العتق صدر من أهله، وصادف محله. وليس من شرط المفروض فيه أن يكون فرعًا لأصل آخر. بل قد يفرض فيما هو أصل: كفرضه في المعاهد، وتمسكه بقوله: لا يقتل مؤمن بكافر. وفائدته: درء قياس الخصم في معرض تأييد التأويل. إلى أمثال ذلك. الشرط الخامس: أن يكون دليل ثبوت العلة مختصًا بالأصل؛ فلو كان الدليل يعم الأصل والفرع، كان القياس عبئًا. وهو كمن قال: السفرجل مطعوم، فيجري فيه الربا كالبر. فقيل له: وما دليل كون الطعم علة في البر؟ فقال: قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام"، وإضافته إلى اسم مشتق من معنى. فهذا فاسد: لأن الحديث بعمومه يشمل السفرجل والبر [جميعًا] عمومًا واحدًا، فليس أحدهما بأن يثبت حكمه بالآخر بطريق التعدية، بأولى من نقيضه. وهو: كقياس الدراهم على الدنانير، وقياس البر على الشعير؛ مع شمول النص للكل. ولو قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: حرمت كل مسكر؛ لكان قياس النبيذ على الخمر، كقياس الخمر على النبيذ؛ وكان الحكم فيهما ثابتًا بعموم النص. فهذه دقيقة لابد من التنبيه لها. الشرط السادس: أن يدل دليل على أن الأصل المتعلق به، مما

يجوز القياس [عليه]-وهذا كلام مجمل: ذكره [بعض] الأصوليين، وحكى ذلك عن عثمان البتي -رضي الله عنه-[وأنه لا يقاس على الأصل ما لم تقم دلالة على جواز القياس عليه. إذ من الأصول ما لا يعلل]. وحكى -أيضًا- عن بشر المريسي، أنه [قال]: لا يجوز القياس على أصل ما لم ينص الشارع على علته، أو لم يجمعوا على تعليله. وهذه مذاهب مجملة؛ والتفصيل الشافي للغليل -عندنا- أن يقال: العلة المستنبطة إن كانت مناسبة ومؤثرة، فمناسبتها دليل على ترتيب الحكم عليها، وإتباعها أينما وجدت. وهو كاف في الدلالة على جواز القياس عقلاً وشرعًا. أما العقل: فهو أن المناسبات ترجع إلى المصالح وأماراتها؛ وكما يشير العقل إلى اتباع المصلحة اجتناب المضرة: يشير -أيضًا- إلى اجتناب أمارة المضرة. ونعني بما ذكرناه: إشارة العقل من حيث العادات، لا من حيث الذات. وما دل من جهة الشرع [على إثبات أصل القياس، والاكتفاء بالظن -فهو دال على ذلك. وأما الشرع]: فهو أن مستند [أمر] القياس الإجماع؛

وقد تكلموا في مسائل ورودها إلى أصول، ولم يذكروا دليلا على جوار القياس عليها. كاختلافهم في قوله: أنت على حرام. منهم: من شبهه بالإيلاء، وجعله يمينًا. ومنهم: من جعله ظهارًا، [تشبيهًا بقوله: أنت على كظهر أمي]. ومنهم: من جعله طلاقًا ثلاثًا، تحقيقًا لكمال التحريم. ومنهم: من جعله طلاقًا واحدًا، اكتفاء بأصل التحريم. وإن لم تكن العلة مناسبة -بل كانت من قبل العلامات الحاصرة لمجرى الحكم؛ كالطعم والكيل- فلا يبعد فيه التوقف على قيام الدليل على أن الحكم غير مخصوص بالمنصوص عليه؛ كما ذكرناه: من ظهور الإجماع على تعدي الربا إلى الرطب والدقيق. فإن لم يقم مثل هذا الدليل: ففي جواز تعدي [الحصر بالاسم، إلى الحصر] بوصف

متعد -نظر. والميل الأظهر: إلى جواز ذلك. كما تقدم في قاعدة الطرد والعكس والشبه. الشرط السابع: أن لا يتغير النص -الذي منه الاستنباط-[83 - أ] بالتعليل، بل يبقى على ما كان قبل التعليل. وهذا يبين فيما اللفظ نص فيه. أما إذا كان اللفظ عامًا أو ظاهرًا، لم يبعد أن يتغير بالتعليل ظهوره وعمومه؛ فيتطرق إليه تخصيص وتأويل. وقد فصلنا هذه القاعدة، في المسلك الثاني من الركن الأول في إثبات العلة. الشرط الثامن: أن لا يكون الأصل مخصوصًا بالحكم بدليل آخر، أو معدولاً به عن سنن القياس. وهذه قاعدة غامضة المدرك، ثار منها أغاليط: ضل بسببها بعض الناظرين عن سواء السبيل. وها نحن نأتي بتفصيل يشفي الغليل، ونقول: الأصل الذي يمتنع القياس عليه للمقصد الذي ذكرناه، لا يعدو ثلاثة أوجه: أحدها: "أن يدل نص أو إجماع على اختصاص الحكم بمورده، فيمتنع إلحاق غيره به. لما فيه: من إبطال الاختصاص. والثاني: ما لا تعقل منه علة ولا علامة متعدية؛ فإذا لم يعقل المعنى: تلقي العبد بالقبول، ولم يتصرف فيه. وقد يعبر عن هذا: بأنه على خلاف القياس. والمعنى به: أنه لا يجري فيه القياس. والثالث: أن يعقل المعنى، ولكن لا يلفى مشارك للمنصوص في

المعنى فيمتنع الإلحاق: لفقد المشارك. ويجري ذلك مجرى العلة القاصرة. وذلك: كورود الحكم في محل تجتمع فيه ضروب من المصالح والحاجات، ولا يلفى في غير محل النص إلا بعض تلك المصالح؛ فلا يناط الحكم بالأبعاض بعد وروده: عند اجتماع هذه الوجوه. ونحن نبين هذه الأقسام بالأمثلة: مثال القسم الأول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة خزيمة وحده، وكان مخصوصًا به، وشهر بين الصحابة بهذه الفضيلة: فامتنع قياس غيره عليه، لما فيه: من إبطال الخاصية، ولأنه لو قيس عليه غيره: لجرى القياس في الكل ولارتفع التقييد بالعدد في نص الكتاب. فاقتصر على محل التخصيص، واستعمل النص في الباقي. وكذلك: حل تسع نسوة لرسول الله صلى الله عليه سلم، وحل

البضع له من غير مهر، أو بلفظ الهبة؛ تلقيا من قوله تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين}. وكذلك: خص بصفي المغنم وخمس الخمس، وأنه لا يورث،

وأن ما تركه صدقة، ولا تتجاوز هذه الأحكام إلى غيره. وكقوله لأبي بردة في العناق: "تجزى عنك، ولا تجزى عن غيرك". وكقوله في مكة: "إنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت

كحرمتها بالأمس". وكرضاع سالم: كان له وحده. إلى أمثال ذلك. والحد في هذه الجنس: أن يعرف بالنص أو الإجماع اختصاص الحكم بالمعين؛ كما ذكرناه في هذه الأمثلة. فأما إذا لم يعرف ذلك: تطرق إليه القياس؛ ولا يمكن دعوى الاختصاص بمجرد التشهي؛ كدعوى أبي حنيفة -رضي الله عنه-: أن

قوله -عليه السلام- في الأعرابي الذي وقصت به ناقته في أخاويق جرد: "أن لا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبا، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيًا"- إنه كان مخصوصًا بذلك الأعرابي، ولا يتعداه [إلى غيره]. وأن امتناعه من الصلاة على شهداء بدر، كان مخصوصًا بهم. وأن أمره بإراقة الخمر والمنع من التخليل، كان مخصوصًا بابتداء الإسلام.

وكل ذلك فاسد: فإن الاختصاص هو المتنازع فيه؛ ولم تقم عليه دلالة. فالأصل التعدي بتعدي العلة. فإن قيل: فإن كانت العلة [المتعدية] منتقضة بإجماع الفريقين، فهل يكفي ذلك في الدلالة على الاختصاص؟ قلنا: لا يتبين به الاختصاص، ولكن تمتنع التعدية بالعلة المنقوضة، ويبقى جواز التعدية وإمكانها بعلة أخرى، أن اتفق العثور عليها. ويلتحق بالقسم الثاني وهو: الذي لا يعقل معناه. فإنه يقتصر عليه [لا] لقيام دليل الاختصاص، بل: لعدم العثور على دليل الإلحاق. فليدرك الفطن الدقيقة الفاصلة بين الرتبتين. فإن قيل: ما قولكم في الأعرابي الذي جامع في نهار رمضان، وكان يراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القضية المشهورة، حتى عاد أمره إلى [أن] أخذ عرقًا من تمر [وصرفه إلى] أهله؟ أفتقولون: أن ذلك كان مخصوصًا به، أو يتعدى إلى من يساويه

في مثل حاله؟. قلنا: قال صاحب التقريب: إن فرض رجل معسر: لا يقدر على الصوم لشدة [ما به من] الشبق؛ يحكم بأن لا شيء عليه: إلحاقًا له بالأعرابي. وذهب جماهير العلماء إلى مخالفته، وقالوا: أن المعسر يجب عليه الصوم لا محالة، ولا ينتصب الشبق عذرًا في الصوم بحال. فإن قيل: فليس في النص والإجماع ما يدل على الاختصاص؛ فما مستند التخصيص؟ قلنا: المستند فيه غالب الرأي. وطريقه: أنه يحتمل أن يجعل ذلك مخصوصًا بعين ذلك الأعرابي، واحتمل الإلحاق؛ ولو ألحقناه: لزمنا ذلك في كفارة الظهار، وهو مخالف للنص: فإن النص أوجب أحد أمور ثلاثة على اختلاف الأحوال. ثم إن كان المظاهر عاجزًا في الحال، استقر في ذمته إلى أن يتمكن [منه]. فتبرئة ذمته: تخالف النص والمعلوم من قياس الشرع.

فهذا هو الذي يقال فيه. أنه معدول به عن سنن القياس، وحده: أن يرد نقضًا على قياس معتبر شرعًا بالاتفاق؛ فنعلم أنه لو طرد: لبطل المعلوم من نص الشرع وقياسه؛ فيعرف به اختصاصه بالعين. فهذا الجنس لا يقاس عليه، ولا يقبل نقضًا على القياس. وقد قررنا طرفًا من هذا الجنس، في مسئلة تخصيص العلة. فإن قيل: ما قولكم في الصائم إذا أكل ناسيًا؟ الحكم ببقاء صومه منقاس، أو معدول به عن القياس؟ قلنا: قال أبو زيد -رضي الله عنه-: أنه معدول به. [عن] القياس؛ فلا قياس عليه المكره والمخطئ في المضمضة، ولا كلام الناسي

في الصلاة، ويلحق به جماع الناسي: من حيث أنه في معنى الأكل. فإن الجماع والأكل: من حيث الإفطار، باب واحد لا يختلف. والشافعي -رضي الله عنه- قد يقيس كلام الناسي في الصلاة عليه؛ وتردد قوله في [الحاق] المخطئ والمكره [به]. ووجه نظر الشافعي في قياس كلام الناسي [عليه]: أن يعلل بأن المناهي يعذر فيها الناسي، فيجعل فعله كالعدم؛ بخلاف المأمورات. والأكل منهى عنه في الصوم؛ فسلك الشرع به مسلك المنهيات. وهو كالعدم: إذا صدر [83 - ب] من الناسي في حق التأثيم، فكان كالعدم في حق الإفساد. فإن قيل: الصوم من قبيل المأمورات؛ فإنه ركن من أركان العبادات ولأجله افتقر إلى النية. وهو عبارة عن الكف عن قضاء الشهوة، ومن أكل: فقد ترك الكف، وانعدم الصوم. فصار كما إذا ترك

الصلاة ناسيًا؛ وإبقاء صومه على خلاف القياس. فهو معدول به عن عن سنن القياس. وهذا ما احتج به أبو زيد -رضي الله عنه- في تقرير مذهبه. قلنا: الصوم من حيث أنه عد من أركان العبادات، ويفتقر إلى النية -يضاهي المأمورات حكما. ومن حيث -هو في نفسه وحقيقته، يرجع إلى الترك لا إلى الفعل -[يضاهي المنهيات]. وإذا دار بين الجنسين، لم يبعد أن يقال: له في الافتقار [إلى] النية حكم المأمورات؛ وقد بقى على حقيقته في التجاوز عن الناسي كسائر المنهيات. والدليل عليه: أن من أطبق عليه النوم أو الإغماء في جميع النهار، حصل صومه. ولا عهد لنا بفعل مقصود: يعتد به مع هذه الحالة، وإنما التروك هي التي تحصل مع انتفاء الاختيار، فأمكن إجراؤه على القياس من هذا الوجه. وأما المأمورات إذا تركت نسيانًا: [لم نقس عليها]؛ لأنها ليست من قبيل التروك بوجه، وهذا من قبيل التروك حقيقة، وهو

كذلك حكمًا في قضية الإغماء والنوم. هذا وجه البيان في أحد الأقسام، وهو الذي بان بدليل اختصاص الحكم بعين المنصوص، [و] يسمى: خارجًا عن القياس، ومستثنى، ومعدولًا، على هذا التأويل. القسم الثاني: أن لا يعقل المعنى في مورد النص؛ فيجب الاقتصار عليه، ويسمى هذا الجنس: خارجًا عن القياس، على تأويل أنه خارج عن مجانسة الأصول المعلولة: من حيث أن القياس لا جريان له فيها، لا لمخصص ومانع، ولكن: لفقد المعنى. ومعظم التقديرات جارية هذا المجرى. ولأجله امتنع التنقيص من المقدرات والزيادة عليها؛ لأنه لم يعقل معنى التقدير: حتى يثبت الحكم بما دونه، أو بما فوقه. والحد في هذا الجنس: أن لا يستقيم على السبر تعليل. وأمثلته كثيرة: فحكم الربا -عند فريق- من هذا القبيل. وقد بينا وجه التعليل فيه بطريق العلامة. ويقرب من هذا إيجاب الشرع غرة: عبدًا أو

أمة؛ في الجنين. فإنه سوى فيه بين الذكر والأنثى. ولم يجره على قياس الأعضاء والجوارح، ولا على قياس الحيوان المستقل، ولا على قياس الحي، ولا على قياس الميت. وكذلك [القول في أولاد الأم]: سوى بين الذكور والإناث؛ ولا يلفى له نظير في الفرائض. فقد يقال: أنه لا يعقل معناه. وعلى الجملة: أمثلة هذا الجنس لا تخفى، وقد ينقدح الناظر أن يلحق مثال الغرة بالقسم الثالث، كما سنذكره. القسم الثالث: أن يعقل وجه المصلحة في الحكم، ولكن لا يلغى مشارك لمورد النص في الاحتواء على جميع أطراف المصلحة، فيمتنع القياس بسببه. وقد يعبر: عنه بأنه خارج عن القياس. وفي هذا الإطلاق -من غير وقوف على التفصيل الذي ذكرناه- خلل. ومعظم الرخص والقواعد المبتدأة، داخل تحت هذا القسم: كرخص السفر، والمسح على الخفين،

وإباحة الميتة عند الضرورة. ومن القواعد: كالقسامة، وضرب الدية على العاقلة، وتعلق الأرش برقبة العبد، وتقدير لبن المصراة. ولا يبعد أن تلحق الغرة -أيضًا- بهذا القسم. والشفعة -أيضًا- من هذا القبيل. وبيانه: أن إباحة الميتة عند الضرورة معقول المعنى، وهو جار على قضية العقل. فقول القائل: أنها رخصة لا يقاس عليها؛ إن عنى به أنه لا يعقل معناها: فليس كذلك؛ فإنه على وفق العقل. وإن هو عنى به أنه لا يلحق به غير الضرورة، فسببه عدم العلة بعد معرفة العلة، فمستند المصلحة فيه الضرورة، فلا توجد عند عدمها. وكذلك رخص السفر: عقل معنى إثباتها من جهة الشرع؛ ولكن لا يلفى سبب يضاهى السفر: في الاشتمال على أنواع الحاجات. أما المرض، فهو مساو له في الفطر بحكم النص؛ فلم يفتقر إلى القياس. وأما حاجة المريض إلى القصر والجمع، فلا تضاهي حاجة المسافر؛ بل حاجته: إلى الصلاة قاعدًا وتفريقها في الأوقات لتخف عليه؛ فلم يكن مساويًا للسفر في وجه الحاجة. وكذلك [جوز الشرع] المسح على الخفين، فلا يقاس عليه المسح على العمامة والبرقع والقفازين: لاختصاص الخف بنوع حاجة، مستندها:

كثرة الحاجة إلى استصحابه، مع المشقة في نزعه عند كل وضوء؛ وهذه السواتر: [لا تساويه] في هذه الحاجة. وكذلك القسامة: بدأ الشرع فيها بالمدعى، والمصلحة معقولة فيها، وهي: تحصين الدماء والاحتياط [لها]، من حيث أن الغالب أن القتل يجرى خفية وغيلة [وغفلة]: حيث يعسر الإشهاد. والقاتل يستحل اليمين: إذا استحل القتل، واستحقر ذلك القدر في مقابلته؛ ويمتنع عن الإقرار في غالب الأمر؛ واللوث وظهور العداوة وتتابع الأخبار من الجهات المختلفة، إذا انضم إليها خمسون يمينًا -يقوى في النفس ويثير غلبة الظن، فكانت هذه المصلحة -مع خطر أمر النفوس وشدة الشغف بها-كافية في أمر القسامة. وقد عمل بها في

الجاهلية، وأقرها الإسلام. ولولا ظهور وجه المصلحة: لما عمل بها. فكيف يقال: أنه لا يعقل معناه؟ وقول القائل: أنه يخالف سائر الأصول؛ قلنا: لأنه يخالف [84 - أ] [سائر] الأصول بصورته ومصلحته؛ فخالفها بحكمه. وهي قاعدة على حيالها كسائر القواعد. وغيرها بالإضافة إليها مخالف، كما أنها بالإضافة إلى غيرها مخالفة، والمتبع المعنى. وهذه المصلحة الظاهرة لا تبين في الأموال وغير الدماء: فلم تلحق بها لفقد المشارك. وكذلك اللعان وهو: تحليف الزوج المدعى وتصديقه. ووجه المصلحة فيه بين استقصيناها في «مآخذ الخلاف» وهو قريب من القسامة. وكذلك ضرب الدية على العاقلة: معقول المعنى، والمصلحة فيه ظاهرة، وهو -أيضًا- من أمور الجاهلية التي ورد الشرع بتقريرها. فكيف ينكر فيها وجه المصلحة، مع اتفاق أهل الجاهلية عليها اختيارًا وتواطوا؟. ووجه المصلحة: مسيس الحاجة إلى معاناة الأسلحة، وتعلم

استعمالها للحرب والصيد وغيره؛ وأن الخطأ في ذلك مما يكثر، والنفس خطيرة لا تهدر، وبدلها كثير: فيثقل على الشخص الواحد؛ ولو وزع على القبيلة: لخف محملها عليهم، فكان ذلك علامة القرابة الداعية إلى التعاضد والتناصر. ونشأت المصلحة من كثرة الدية، وقلة اتفاق القتل على [غير] هذا الوجه. إلى غير ذلك من الوجوه. فلم يعد إلى الغرامات والكفارات والزكوات وسائر الواجبات؛ لأنها لم تشاركها في الاحتواء على مجامع المصلحة. وكذلك: قدر الشرع [بدل] لبن المصراة بصاع من تمر؛ على [خلاف] ذوات القيم وذوات الأمثال. وهو معقول السبب والمصلحة: إذ اللبن -الذي اشتمل عليه انضرع حالة العقد- تناولته الصفقة ووجب رده؛ وما حدث عقيب العقد وانفجر من العروق واختلط به، حادث على ملكه لا يرد. ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يميزوا ويعرفوا قدر الكائن، وقدر اللاحق-لم يطلعوا عليه؛ فيتعلق به نزاع لا ينقطع أبد الدهر. مع أن الخطب فيه قريب، والخطر يسير. فكفى الشرع هذه المؤونة، بتقديرٍ أرهقت إليه الحاجة، فعقل ذلك، وطرد في

رد المصراة بعيب آخر سوى التصرية. ولم يطرد في مال اختلط بمال: وقد عهد أولًا [مقدرًا] مفردًا، وأمكن الوقوف على قدره: لأنه لم يشاركه في وجه المصلحة، لا لأنه غير معقول المعنى. وكذلك الشفعة: أثبتت لدفع الضرار؛ وهو معقول على القطع. ولكن يختص بالعقار في حق الشريك، لأنواع ضرر: لا توجد في المنقول، ولا في الجار. فامتنع الإلحاق: لفقد المشاركة، بعد الإحاطة بالمعنى. وكذلك إيجاب الغرة في الجنين: معقول الأصل؛ فإن إهداره عظيم، وسبب الحياة جار. والجناية إما أن دفعت الحياة، وإما أن قطعتها. وتنقيصه عن المولود المنفصل معقول: فإنه دونه في الرتبة والاستقلال. وقطعه عن الأطراف -أيضًا- معقول: فإنه لا يساوي الأطراف في صورته، وهو حيوان مستقل. نعم: لا يطرد ذلك في شخص ملتف في ثوب قبل، ولم تدر حياته ولا موته. ولا في رجل هدم عليه سقف، ولم تدر حياته ولا موته: لأنه ليس مشاركًا له في المعنى الذي ذكرناه. وأما التقدير بالغرة فلا يمكن تعليله، كما لا يمكن [تعليل تقدير]

الدية وسائر المقدرات. لأنه لا يطلع على السر الذي أوجب تعيين القدر والجنس؛ فلا يلحق به قدر آخر ولا جنس آخر: لعدم العثور على المعنى. فهذه وجوه مختلفة المدارك؛ والفقهاء يطلقون لفظ الخروج عن القياس، ولابد فيه من هذا التفصيل. فإن هذه المدارك متباينة في المعنى، ومتباعدة في الحكم. فلابد من الاطلاع عليها. فرجع الأمر إلى أن الاختصاص في القسم الأول: لقيام دليل الاختصاص؛ وفي الثاني: لفقد دليل الإلحاق؛ وفي الثالث: لقصور العلة وفقد المشارك. فيسمى الأول: مخصوصًا، والثاني: غير معقول المعنى أو خارجًا عن القياس؛ على تأويل أنه لا جريان للقياس [فيه. ويسمى الثالث: مفقود النظير، منفردًا بالحكم لانفراده بالعلة. فلا ينبغي أن يسمى هذا الأخير مخالفًا للقياس]، ولا خارجًا عنه، ولا معدولًا به عن سنن القياس. وقد غلط بعض الناظرين، فسمى هذا خارجًا عن القياس. ومنشأ غلطة: انفراد المسئلة بالحكم مع كثرة المسائل المخالفة لها؛ ولا تأثير

للكثرة ولا للقلة. وإنما التأثير للعلة. فكل أصل منفرد بعلته. فالنكاح لا يتأقت، ولا يسمى خارجًا عن القياس. إذ يلزم أن تسمى الإجارة خارجة: لأنها تخالف قياس النكاح. والقراض يتأبد، والمساقاة تتأقت؛ وكل واحد يخالف صاحبه: لاقتضاء المعنى المفارق، وليس ذلك على خلاف [القياس. وكل قاعدة على خلاف] سائر القواعد. وكذلك قال بعض الفقهاء: تعلق الأرش برقبة العبد، مخالف للقياس. وليس كذلك: فإنه -بالإضافة إلى الحر والبهيمة- مخالف لقياسهما، وهما -أيضًا- يخالفان قياسه، وكل واحد منفرد بقياسه. أما البهيمة: فجرحها جبار، وإتلافها ليس به اعتبار؛ إلا إذا استند إلى تقصير المالك: فيؤاخذ به المالك. وأما الحر: فيتعلق موجب فعله بذمته، وله مال كائن أو متوقع على قرب وكثب، من غير تقدير انقلاب حال. وأما العبد: فهو [مختار ومسترسل] بنفسه، بخلاف البهائم. وتكليف المالك ملازمتهم في ترداداتهم محال؛ وإهدار جنايتهم -مع شغف النفوس بالظلم- ممتنع؛ وإحالة الأمر إلى أوان العتق تعطيل؛ ومطالبة السيد بفعله بعيد؛

وتعليقه برقبته -أيضًا- فيه نوع من البعد: لتعلقه بمال السيد. فهذه وجوه بعيدة تصادمت، ولابد من ارتكاب واحد منها. والبعيد قريب بالإضافة إلى الأبعد؛ فالأقرب: تعليقه برقبته، حتى تكون [فيه] مزجرة عن الهجوم على الإتلاف. فالعبد إنما يذوق مرارة الرق عن العرض على البيع. وإلا: فهو آدمي ساع لنفسه [84 - ب]، ومكتسب بتعبه وعمله لغيره. وهذا المعنى لا جريان له: لا في البهيمة، ولا في الحر، فلا تقاس البهيمة على العبد، ولا يقاس العبد على البهيمة. فلم تنتظم دعوى مخالفة القياس. ولذلك نظائر كثيرة؛ ومستند من [زل فيها]: كثرة الأصول من جانب، وانفراد أصل من جانب، فيسمى المنفرد بحكمه مخالفًا للقياس؛ وهو فاسد. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: إذا ظهرت المصلحة من وجوه متفرقة، [ومعاني

شتى، والمناسبة] حاصلة في بعض تلك الوجوه -فهل يجوز إلغاء البعض والاكتفاء بالبعض، مصيرًا إلى [أن] ذلك القدر مناسب ومستقل بالحكم، حتى يتسع محل الحكم بإلغاء بعض الأجزاء؟ وإن جاز إلغاء بعضه: فالأصل الاعتبار، وعلى من يلغيه دليل؛ أو الأصل الإلغاء، وعلى من يعتبره دليل؟ قلنا: هذا يستدعى تفصيلًا؛ فنقول فيه: الوصف المستبقى إذا كان يناسب الحكم: استقل كلام القائس بمناسبته، ولم يسمع قول المعترض: بم تنكر على من يقول: لعله اقترن بهذا الوصف وصف آخر تزداد به مناسبته؛ فلم ألغيته؟ بل يجب على المعترض إبراز ذلك الوصف؛ فإذا أبرز وصفًا آخر: فإن لم يكن مناسبًا، ولا زادت به المناسبة -[كان ذلك دليلًا على إلغائه. وإن كان مناسبًا أو زادت به المناسبة]- فعلى المعلل إقامة دليل على إلغائه: إما ببيان [أن] المناسبة التي تخيلها تخيل لا حاصل له، أو ببيان، أن الحكم ثبت في بعض الأحوال دونها. ومثال: أن الخصم يعلل الشفعة بضرار اتصال الملك، ويعديه

إلى الجوار. ونحن ندعى: أن الشركة تختص بمزيد ضرر: في تضايق المرافق مع الاتحاد عند التزاحم عليه: كالمبرزة، والمطبخ، ومصعد السطح، والبالوعة، ومطرح التراب وغيره. والضرار يزداد بهذا؛ وإذا نيط الحكم بضرورة غالبة: فكيف يناط بما دونها؟ فعلى أبي حنيفة أن يبين أن هذا الضرر غير معتبر، بأن يقول: الشفعة جارية في ساحة من الأرض، وعرصة لا شيء فيها؛ وهذه الأنواع مفقودة، فلو كان هذا مناطًا: لما ثبت دونها. فنقول: المتبع ضرار الامتزاج، لا ضرار الاتصال، فكيفيه أن يقول: وأي أثر للامتزاج؟ فهو وصف، لا مناسبة له، فيلغى. فنقول: المحذور ضرار القسمة، والتزام المؤونة عند الاقتسام، [وهذا مؤثر مناسب]. فلا يتمكن الخصم من إبداء جريان الشفعة حيث لا تجرى القسمة: فإن ما لا ينقسم لا تجرى فيه الشفعة؛ كالطاحونة والحمام. فإن قال: هذا الضرر جار في المنقولات، والشفعة غير جارية -

لم [يغنه ذلك]، لأنا [لا نعول] على مجرد هذا [الضرر]؛ والضرر في العقاد فوق الضرر في المنقولات. هذا فيما يقع من قبيل المصالح. أما الأوصاف المقرونة بالأصول؛ فالأصل إلغاء ما لا يناسب منها، إذا ظهرت علة مناسبة: ككون الأعرابي حرًا، وكون الموطوءة منكوحة؛ إلى غير ذلك من الأوصاف. [و] هذا إذا لم يتناوله الذكر، فإن تناوله الذكر، كقوله عليه السلام: «من أعتق شركًا له في عبد»، إذ قيد بالعبد: فعلى من يلغي [هذا] الوصف المذكور، ويجرى الحكم في الرقيق الأنثى -دليل؛ لأن التعرض ظاهر في اعتباره، ويكفى في إلغائه أن يدل [على] عدم مناسبته: إذا كان المستبقى مناسبًا. وإن لم يكن مناسبًا، وكان الملغي مساويًا للمستبقى، ولم ينقدح حمل القيد على موافقة عادة أو غيرها -لم يجز إلغاؤه. ومن القيود ما يمنع إلحاق الغير به: كالقيود التي لها مفهوم، وهو: كل وصف يناقض وصفًا في معارضته

وتعاقبه، فيتضادان على المحل. كالسوم في قوله: «في سائمة الغنم الزكاة» وكالثيابة في قوله: «الثيب أحق بنفسها من وليها». فهذه القيود -في عرف اللسان- تساق لطرفي النفي والإثبات. وقد قررنا وجه ذلك في «كتاب تحصين المآخذ» في مسئلة بيع النخيل التي ليست مؤبرة. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: المخصوص بعدد، هل يلتحق بالقسم الأول حتى لا يلتحق غيره به؟ قلنا: هذا -أيضًا- مزلة القدم، فقد قال عليه السلام: «خمس يقتلن في الحل والحرم»، فظن ظانون امتناع القياس عليها: لكونها محصورة معدودة مصيرًا إلى [أن الإلحاق] زيادة على

[الحصر] وظنوا أن ذلك من قبيل العدد في المقدرات: كالعدد في مائة من الإبل في الدية، وثلاثة أيام في خيار الشرط وغيرها. وهذا فاسد: فذكر الخمسة في حيوانات الحرم، كذكر الستة في الربويات. وإذا ظهر معنى الضراوة فيما يقتل: ألحق به في معناه، ولم يبال بالزيادة على العدد كما في الربا. وليس [ذلك] كالعدد في الدية، والتقدير في أيام الخيار، لأن ذلك تقدير في نفس الواجب وقدر الثابت من الحكم، ولا ينشأ ذلك إلا للتقدير. وأما العدد في مسئلتنا، فراجع إلى محل الحكم، لا إلى نفس الحكم. فإن قيل: فلم خصص هذا العدد؟ قلنا: ولم خصص الأشياء الستة؟ وذلك محمول على أنه [الذي] حصره وجرى ذكره في الحال، ولو فتح هذا الباب: لا نحسم باب التعليل بالقياس؛ إذ كل قياس يتضمن إبطال التخصيص.

وهذه الدقيقة في الفرق لابد من التنبه لها؛ فهو ظاهر: إذا ظهر المعنى المناسب. وإن كان تعدية الحكم لعلامة على مذاق علامات الربا -فإجراؤه مع الحصر أبعد. وإنما يجرى إذا دل الإجماع على أنه غير مقصور على العدد؛ فإن لم يدل [فتبعد الزيادة إلا بمعنى مناسب. كما في الضراوة في حيوانات الحرم]. خيال وتنبيه: فإن قيل: هذه الأقسام الثلاثة التي [85 - أ] قدمتموها هل يتطرق إليها نوع من القياس والإلحاق بحال من الأحوال؟ قلنا: إذا مهد الشرع قاعدة فسيحة عامة، واقتطع عنها طرفها وخصصه بنقيض حكم القاعدة؛ فإن لم تعقل علة الاختصاص وعلامته، أو عقلت ولم يوجد له نظير يشاركه في المعقول -امتنع القياس: إذ لو ساغ ذلك لالتحق به كل ما في ذلك الباب، حتى لا يبقى

من الأصل شيء إلا ويلتحق به. وعند ذلك يبطل الاستثناء والمستثنى عنه. وإن كان المحل المخصوص بالاستثناء يشتمل على معنى ظهر كونه داعيًا إلى التخصيص، [فقد تفرض مسئلة] غير منصوص عليها: تدور بين أن تبقى تحت عموم القاعدة، وبين أن تلتحق بمحل الخصوص. فإن شاركت محل الخصوص في السبب الداعي إلى التخصيص -التحق به، وانقطع من العموم. وإن شاركه في العلة: بقى على حكم العموم. لأنه كما فهم علة القاعدة، فهم أيضًا علة الاستثناء. والدائر بين المحلين غايته: أن يشارك المخصوص في علته، ويشارك المخصوص منه أيضًا في علته، وهي العلة العامة، فيكون انجذابه إلى المخصوص من وجهين، وانجذابه إلى المخصوص [منه] من وجه واحد. والاعتماد على اجتماع الشبهين أولى.

مثاله: قوله سبحانه وتعالى -وقوله الحق-: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدةٍ}، جعل الزنا علة إيجاب المائة؛ ثم استثنى الإماء فقال: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}، فدار العبد بين الأمة المخصوصة، وبين القاعدة، فألحقناه بالأمة: لمشاركته بالأمة: لمشاركته إياها في الرق الذي [هو به ظهر] وجه المصلحة في الاستثناء. وكذلك مهد الشرع قاعدة الربا، ثم استثنى صورة العرايا، وأقام فيها الخرص من أحد انجابين مقام الكيل: لنوع حاجة؛ وجرى ذلك في الرطب: فألحقنا به العنب، وإن كان ينجذب إلى الأصل بعلة التحريم، ولكن انجذب إلى المخصوص بعلة الاستثناء، وهي: الحاجة المخصوصة. ولم تلتحق [به] سائر الفواكه: لأن الخرص هو الذي أقيم مقام الكل؛ والخرص لا جريان له في سائر الفواكه. وكذلك: اقتطع الشرع حكم الطعام عن سائر المغانم، [ثم جوز] التبسط فيه قبل القسمة؛ فألحقنا به علف الدواب: لأن المصلحة

ظهرت في الاستثناء، من حيث [أن الأطعمة] يعسر استصحابها، ويتكرر مسيس الحاجة إليها في كل [وقت و] يوم؛ وقد لا تكون الأسواق قائمة في بلاد الحرب. وهذا المعنى جار في علف الدواب وأظهر. ولم يلحق به سائر العروض: محافظة على القاعدة. وكذلك: اقتطع الكلب عن سائر الحيوانات في إيجاب الغسل من ولوغه سبعًا؛ لاختصاصه بنوع خسة في نظر الشرع، وتمييزه بضرب تغليظ. والخنزير دار بينه وبين سائر الحيوانات. فظهر للشافعي رضي الله عنه -على رأي- الحاقة بمحل الخصوص: لظهور معنى التخصيص، ولمساواة الخنزير الكلب في نظر الشرع في التغليظات. وهذا دون إلحاق العلف بالطعام، [وإلحاق العلف بالطعام] دون إلحاق العبد بالأمة في الزنا. فهذه مراتب مختلفة: في العلم والظن؛ وقد يتطرق إلى هذا الجنس ما يرجع إلى ضبط محل الاستثناء بعلامة حاصرة متضمنة للمصلحة، وإن لم يطلع على وجه المصلحة. كما قررناه في باب الشبه [والطرد]. فهذا ما أردنا أن نذكره في تفصيل هذه القاعدة، بعد أن قدمنا

طرفًا منه في مسئلة تخصيص العلة، ثم ينقدح في هذه الأمثلة نظر: في أن [حكم] العموم نناول محل الاستثناء، وجرى الاستثناء رفعًا ونسخًا لحكم ثابت؟ أو ظهر به أنه لم يندرج تحت العموم، ووقع ذلك خصوصًا؟ وهذا هو الأولى: فإن في النسخ إثباتًا ونفيًا، وفي التخصيص إبقاء على أصل النفي؛ فهما مشتركان في النفي، وهو معلوم، والإثبات غير معلوم. فلا يحكم به من غير أصل. والله أعلم.

القول في الركن الخامس من أركان القياس وهو ركن الفرع [للفرع المقيس على الأصل المنصوص خمس شرائط]: أحدها: أن تكون علة الأصل ثابتة في الفرع. فإن ثبوت الحكم بطريق التعدي، فرع تعدي العلة. فإذا توجه المنع على وجود العلة في الفرع: وجب القيام بإثباته. الشرط الثاني: أن لا يتقدم الفرع في الثبوت على الأصل. هذا ما ذكر مطلقًا، وفيه نظر، ومثاله: قياس الوضوء على التيمم، مع تأخر التيمم عنه. والتفصيل فيه: أنه لابد أن يعتقد لافتقار الوضوء إلى النية -دلالة سوى التيمم؛ فتعتضد تلك الدلالة، بدلالة أخرى؛ والدلالات قد تتلاحق. وإن لم يعهد للنية في الوضوء مستند سواه، كان ذلك محالًا: إذ يؤدى الحكم بثبوت وجوب النية قبل ورود التيمم، [إلى القول بوجوب النية] من غير دليل. فإذا اعتقدنا عليه دليلًا: لم يمتنع الاستدلال

بالتيمم -أيضًا- عليه. هذا بطريق الدلالة بين؛ إذ العالم يدل على علم الصانع وإرادته ووجوده، وهو متراخ عنه، ولكن ليس وجوده حاصلًا بالدليل. فأما بطريق التعليل، ففيه نظر: من حيث أن الحكم في الفرع والأصل يحدث بالعلة. وإذا كان الحكم ثابتًا، لم يكن حادثًا بما تجدد [85 - ب] ولكن: يتخيل ثبوت الحكم في الوضوء بعلة موجودة في الوضوء، دل دليل على كونها علة. وإثبات الحكم في التيمم -مع وجود العلة على وفقها- يشهد أيضًا لكونه ملحوظًا، فيرجع النظر إلى الاستدلال بحكم التيمم على ملاحظة العلة، بعد ثبوت كون ذلك الوصف علة بدلالة أخرى سابقة، فإن لم يكن: لم يتصور ذلك لما سبق. الشرط الثالث: أن لا يباين موضوع الفرع موضوع الأصل: في التخفيف والتغليظ، والتعرض للسقوط، والبعد عن السقوط، وابتناء أحدهما على الغلبة والنفوذ، والآخر على نقيضه. وهذا أيضًا مما ذكر وفيه إجمال، فنقول: إذا كانت العلة الجامعة للفرع والأصل مناسبة: لم يبال بالافتراق

في هذه الأمور [المتسعة]. وإن كانت من العلامات الشبهية: فلا يحصل منها الظن مع التباين في هذه القضايا، على ما قررناه من قبل. الشرط الرابع: أن يكون الحكم في الفرع مما يثبت بالنص جملة، وإن لم يثبت بعينه. وهذا ذكره أبو هاشم. ومثل ذلك: بنظر الصحابة -رضي الله عنهم- في توريث الجد مع الإخوة، فإن ذلك إنما جاز: لورود النص بتوريث الجد والإخوة على الجملة، ورجوع النظر إلى تعيين المحل. وهذا لا وجه له؛ فإنهم تكلموا في قول الزوج: أنت علي حرام. ولم يسبق نص في حكمه على الجملة، فألحقوه بالظهار والإيلاء والطلاق، على اختلاف المذاهب فيه. والأدلة -التي أقمناها على القول بالقياس- لا تقتضي ما ذكره. الشرط الخامس: أن لا يكون الفرع منصوصًا عليه معلوم الحكم بالنص، فإنه إذا كان منصوصًا [عليه]: فإن عدى إليه حكم على خلافه: كان ذلك ردًا للنص بالقياس، وهو باطل. وإن عدى إليه حكم على وفقه: كان ذلك عبثًا، ورجع حاصله إلى قياس المنصوص على المنصوص؛ كقياس البر على الشعير، والدراهم على الدنانير في باب الربا؛ ولم يكن أحدهما بأن يجعل أصلًا [والآخر فرعًا] بأولى من

نقيضه. خيال وتنبيه: فإن قال قائل: الرقبة منصوص عليها في كفارة الظهار، وكفارة القتل. واستعمال النصين من غير قياس ممكن. فلم قستم أحدهما على الآخر؟ وكذلك تكلمتم في المحدود في القذف بالقياس: في رد شهادته [بقذفه] تعدية من حد الزنا، وأنه حد كبيرة فلا يوجب الرد. والرد منصوص عليه. وكذلك الإطعام من غير قيد التمليك: منصوص عليه؛ فعديتم التمليك [إليه] من الكسوة والزكاة. وكذلك قستم القتل العمد على الخطأ: في إيجاب الدية؛ وكل واحد منهما منصوص [عليه]. وقستم المسلم المقتول في دار الحرب قبل الهجرة، على المقتول بعد الهجرة. وكل واحد منصوص عليه، إلى أمثال لذلك كثيرة. قلنا: ظن المخالف أنا في هذه المسائل تعرضنا لحكم النص وغيرناه. وهيهات: فلم نتعرض للنص فيما هو نص فيه، بل تعرضنا له فيما هو عام فيه. وذلك جائز في الأصل والفرع جميعًا. أما طرف الأصل، فما سبق في مسائل الإيماء [في الركن الأول من الكتاب]. وأما طرف الفرع، فنتخذ التحرير في الكفارة مثالًا، ونقول: قوله سبحانه وتعالى: «فتحرير

رقبة»، ليس نصًا في أن الإيمان لا يشرط، ولكنه يشعر به: بعموم الصيغة؛ ونحن غيرناه بالقياس، وحملنا الرقبة المطلقة على الرقبة المسلمة: بطريق التخصيص؛ كما حملوا الكافر المطلق في حديث «قتل المسلم بالذمي» على الكافر الحربي. وحملنا السارق المطلق على السارق للنصاب. وحملوا ذوي القربى -في آية الغنائم- على الفقراء منهم: بطريق التخصيص؛ وذلك غير ممتنع. فإن قيل: الإيمان زيادة في وصف الواجب؛ والزيادة في الوصف كالزيادة في القدر. فكما امتنع [في إطعام ستين مسكينًا، وصوم] ستين -زيادة في القدر المنصوص بالقياس، فكذلك لا تجوز الزيادة في الوصف. قلنا: لو ورد الإطعام مطلقًا في موضع، ومقيدًا بالعدد في موضع -فيجوز أن يجعل المطلق مقيدًا بذلك العدد: إذا فهمنا العلة في التبليغ

إلى ذلك المبلغ. فأما إذا نص على قدرين متفاوتين متعددين في المحلين، فلا نقيس أحدهما على الآخر: لأن التقدير نص، فلا تطلق أربعون لإرادة الستين، ويجوز أن تطلق الرقبة ويراد المؤمنة على الخصوص، اكتفاء بالتنبيه على أصل الإيجاب، وإعراضًا عن التفصيل، واكتفاء بما جرى من التعرض له في غير ذلك الموضع بالوقوف على علته. فقد يقول الفقيه في مساق كلامه: الزنا يثبت بأربعة شهود، ولا يتعرض في الحال للعدالة، وهو يريد الشهود العدول: إذ لم تكن الصفات [من] مقصود كلامه، بل غرضه التنبيه على العدد، فيقتصر عليه، فلا يتعلق بعمومه: حتى [لا] ينسب إلى مخالفة الشرع. ولكن يقال: إذا عرفت الشهادة مقيدة بالعدالة شرعًا في مواضع، فإطلاق الفقيه [اسم] الشهادة محتمل للمقيد بذلك القيد. فكذلك مطلق الرقبة في هذا الموضع: [محتمل للمقيد] بقيد

الإيمان المعلوم وجوبه في الشرع. فإذا احتمل هذا: لم يكن نصًا، فيجوز أن يقدم القياس عليه. [و] هذا هو الجواب عن سائر الأمثلة. فإنا إنما نثبت [86 - أ] ما سكت النص عنه-: كالإيمان مثلًا- فلم يتعرض [لنفيه، ولا لإثباته]، بل ظاهر الكلام مشعر بالاكتفاء دونه [ومحتمل للإيجاز] والاقتصار على الأصل، دون الاعتناء بالتفصيل. فلم يكن إثباته بالقياس تعرضًا بتغيير ما هو نص فيه؛ [بل هو تعرض لتخصيص ما هو فيه عام] وهو بين واضح. هذا [نهاية] ما أردنا أن نذكره في الأركان الخمسة من القياس؛ مقتصرين على المقصد الذي أعرب عنه لقب الكتاب، ووافين بما التزمناه: من «شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل». فما عدا هذه الأركان، كالبعيد عن هذا المقصد المطلوب [من الكتاب]،

[والله الموفق للصواب].